عذبة هي الأنغام التي نصغي إليها، غير أن التي لا نسمعها تفوقها عذوبة :أيضًا، نصب مصائد للعصافير، أنشد دائمًا، ليس للأذن المرهفة الحس، لكن الأكثر إغواء، أن ترنِّم للفكر تراتيل صامتة.
(Keats ,Ode a l urne grecque.trad ;E. de Clermont-Tonnerre)
هناك موسيقيون يؤلفون على الصفحة البيضاء، في ظل السكون والصمت. الأعين الكبيرة مفتوحة، تخلق بنظرة ممتدة في الفراغ، نوعًا من الصمت المرئي، نظرة صامتة تمسح العالم، لكي تعمل على إسكات أصواته، إنهم يكتبون الموسيقى. شفاههم لا تتحرك. إيقاع الدم ذاته قد جف طبله، الحياة تترقب، فالإيقاع آت. يصغون إذن إلى ما يبدعونه عبر الفعل الذي يبدع. لا ينتمون أبدًا إلى عالم الأصداء أو الرنين، يسمعون النقط السوداء، ثم العلامات الموسيقية، والنوتات، تسقط، ترتجف، تنزلق، تقفز على صفحة الموسيقى. بالنسبة لهم، السولفيج قيثارة مجردة، رنان قبل ذلك. يتمتعون هنا، على الصفحة البيضاء، بتعدد الأصوات الواعي. في الاصغاء الواقعي، يمكن أن تضيع أصوات، تخفت، وتختنق، قد يحدث الانصهار بكيفية سيئة. لكن مبدع الموسيقى المكتوبة، له عشرة آذان ويد واحدة. يد مطبقة على قلم، لضم عالم الإيقاع، عشرة آذان، وانتباهات، ومواقيت، قصد مطِّ وتنظيم فيض السمفونيات.
هناك أيضًا شعراء صامتون، يلازمون الصمت، شعراء يعملون أولاً على إعادة السكينة إلى عالم صاخب جدًّا، وكل القسوة الرعدة. يسمعون كذلك، ما يكتبونه، في الوقت ذاته الذي يكتبون فيه، من خلال المقياس البطيء للغة مكتوبة. لا يستنسخون القصيدة، بل يؤلفونها. بينما آخرون "يعزفون" مباشرة ما أبدعوه على الصفحة البيضاء! آخرون "ينشدون" بواسطة الميغافون تعابير الأبهة. هؤلاء، يتذوقون إيقاع الصفحة الأدبية حيث الفكر يتكلم، والكلام يفكر. يدركون قبل تقطيع الشعر، والاستماع، يقينية الإيقاع المكتوب، وبأن الريشة تتوقف من تلقاء ذاتها أمام تعاقب صوتين، رافضة التجانسات الصوتية غير المجدية، يتوخون أفكارًا أكثر من تكرار أصوات. كم هو عذب أن تكتب كذلك، بتحريك كل أعماق الأفكار المتأمِلة! كيف يمكننا الإحساس بالتخلص من أزمنة سخيفة، ترشح، يغمرها ملح البارود! بفضل بطء القصيدة المكتوبة، تعثر الأفعال على تفاصيل حركيتها الأصلية. حيث يعود لكل فعل، ليس فقط زمن تعبيره، بل الزمن الصحيح لحركته. فالأفعال التي تدور ثم الأخرى التي تبعث بك، لا يخلطان أبدًا حركتهما. وحينما تأتي صفة كي تزهر جوهرها، تخول لنا القصيدة المكتوبة، الصورة الأدبية، إمكانية أن نعيش على مهل زمن الازهرار ذاك.
إذن، القصيدة هي حقًّا الظاهرة الأولى للصمت. تترك حيًّا، بين طيات الصور، الصمت المنتبه. تؤسس الشعر ضمن الزمن الصامت، حيث لا شيء يطرق، يضغط أو يأمر. زمن مستعد لكل الروحيات، إنه زمن حريتنا. كم هو بئيس الوقت الجاري، لقاء الأزمنة التي تبدعها القصائد! قصيدة: هي موضوع زماني جميل ينشئ مقياسه الخاص. وقد حلم بودلير بهذه التعددية، المتعلقة بالنماذج الزمانية (كتاب قصائد نثرية مقتضبة، تقديم)، قائلاً: «من منا في لم يحلم، خلال أيام طموحه، بمعجزة نثر شعري، موسيقى، بلا إيقاع ولا قافية، لين جدًّا، وغير مترابط كفاية، لكي يتكيف مع الحركات الغنائية للنفس، وتموجات التأمل الشارد، وكذا قفزات الوعي؟». هل تنبغي الإشارة أنه في ثلاثة سطور، حدد بودلير تقريبًا مختلف التجليات الأساسية للديناميكية العروضية مع استمراريتها، وتموجاتها ثم نبراتها المباغتة؟ لكن خاصة مع تعدد أصواتها، تتجاوز القصيدة المكتوبة كل إنشاد. حينما نكتب، ونتأمل، ينبعث تعدد الأصوات، كصدى لخاتمة. باستمرار، للقصيدة الحقيقية، طبقات متعددة. يمتد الفكر تارة فوق، وتارة أخرى، تحت الصوت الرخيم. ثلاث مخططات، على الأقل ظاهرة، بخصوص القياس المتعدد، الذي عليه إيجاد توافق الكلمات، الرموز ثم الأفكار. إن الإصغاء لا يمكِّن أبدًا من الحلم بالصور في العمق. لقد اعتقدت دائمًا بأن قارئًا متواضعًا يتذوق على نحو أفضل القصائد بإعادة كتابتها بدل إنشادها. الريشة في اليد، بالتالي سنمتلك بعض الحظ كي نمسح الامتياز الجائر للصوتي، ثم نتعلم في المقابل، أن نعيش ثانية أكثر عمليات التكامل اتساعًا، تلك المتعلقة بالحلم والدلالة، تاركين للحلم الوقت، كي يجد علامته، ويرسم بهدوء دلالته.
كيف يمكن بالتالي، نسيان الفعل الدال للصورة الشعرية. العلامة هنا ليست استعادة، وذكرى، أو السمة المتعذر محوها بخصوص ماض بعيد. لكي تكون جديرة بلقب صورة أدبية، يحتاج الوضع إلى استحقاق أصلي. فالصورة الأدبية، معنى لحالة ناشئة، الكلمة - الكلمة القديمة- تأتي لتكتسي دلالة جديدة. لكن هذا لا يكفي أيضًا: يلزم الصورة الأدبية الاغتناء بحُلُمية جديدة. الدلالة على شيء آخر، ثم الحث على الحلم بكيفية مختلفة، تلك بمثابة المهمة المزدوجة للصورة الأدبية. القصيدة، لا تعبر عن شيء غريب عنها. حتى بالنسبة لنوع من الديداكتيكية الشاعرية الخالصة، التي تتجلى مع القصيدة، فإنها لا تبرز الوظيفة الحقيقية للشعر. لا توجد قصيدة سابقة عن عمل الفعل الشعري، مثلما لا تقوم حقيقة قبلية عن الصورة الأدبية، ولا تأتي الأخيرة لتكسو صورة عارية، ولا إعطاء الكلام لصورة خرساء. الخيال، يتكلم فينا، تتكلم أحلامنا وأفكارنا. يرغب كل نشاط إنساني، في التكلم. وحينما يعي الكلام بذاته، يسعى النشاط الإنساني حينئذ إلى الكتابة، بمعنى تنظيم الأحلام والأفكار. يبتهج الخيال بالصورة الأدبية. إذن، ليس الأدب بديلاً عن أي نشاط آخر. بل، يتمم رغبة إنسانية ويجسد انبثاقًا للخيال.
تذيع الصورة الأدبية رنات، يجب تسميتها برنات مكتوبة، وفق نموذج بالكاد مجازيًّا. نوع من الأذن المجردة، قادرة على تناول أصوات مضمرة، تستيقظ ونحن نكتب، كما تفرض الشرائع التي تحدد الأجناس الأدبية. ومن خلال لغة مكتوبة بعشق، سيتهيأ نوع من الإصغاء المتطلع، دون أي سلبية. تقدمت طبيعة المنصت المذعن، عن تلك الأخرى المتعلقة بمجرد الاستماع. الريشة تغني! إذا استسغنا هذا المفهوم عن طبيعة الاستماع، سنتلمس كل قيمة التأملات الشاردة ليعقوب بوهمه(2) Boehme: «لكن، كيف تفعل إذن حاسة السمع قصد الإصغاء إلى ما يرن ويتحرك؟ هل نقول بأنه يتأتى من صوت الشيء الخارجي كما يرن؟ لا، هذا يجب أن يكون شيئًا يحتجز الصوت، ويكون شنيعًا معه، مميزًا الصوت الذي عزف أو غنى». خطوة أخرى ثم يصغي الكائن الكاتب لفعل كتب، الفعل الذي جُعل للأفراد.
بالنسبة لمن يعرف التأمل الشارد المكتوب، سيدرك مع فيض القلم، كيف يحيا الواقع القصي جدًّا! ما استحضرناه سابقًا لنقوله أزيح بسرعة كبيرة، من طرف الذي أخذناه على حين غرة لكي نكتبه، فنشعر حقًّا أن اللغة المكتوبة تنشئ عالمها الخاص. عالم جمل، يتموضع بترتيب على الصفحة البيضاء، في إطار ترابط للجمل، تحوي غالبًا قوانين جد متعددة، لكنها تحرس دائمًا القوانين الكبرى للخيالي. الثورات التي تغير العوالم المكتوبة تتم لحساب عوالم حية أكثر وأقل تصنعًا، لكن دون محو بالمطلق لوظائف العوالم المتخيلة. تشكل دائمًا البيانات الأكثر ثورية، تأسيسات أدبية جديدة. تغير لنا العالم، لكنها تأوينا دائمًا في عالم متخيل.
من جهة أخرى، حتى مع صور أدبية منعزلة، نحس بحركة هذه الوظائف الكونية للأدب. تكفي أحيانًا صورة أدبية، كي تنقلنا من عالم إلى آخر، فتتجلى الصورة الأدبية بمثابة الوظيفة الأكثر تجددًا للغة. لغة، تتطور بصورها، أكثر من مجهودها السيمانطقي. في إطار تأمل خيميائي، سمع يعقوب بوهمه "صوت العناصر" بعد انفجارها، عندما دمر الانفجار "جهنم الضارية" و"اقتحم باب الظلمات". كذلك، فالصورة الأدبية متفجر. تعمل فجأة على تشظية الجمل الجاهزة، كما تهشم الأمثال التي تتدحرج من عصر إلى آخر، وتسمعنا المواد بعد انفجارها، حينما تركت جهنم من جذرها، فاقتحمت باب الظلمات، وغيرت مادتها. باختصار، تضع الصورة الأدبية الكلمات في حركة، كما تردها إلى وظيفتها الخيالية.
بصدد الفعل المنطوق، الفعل الذي نكتبه في ظل الامتياز الكبير لاستحضار أصداء مجردة حيث تنعكس الأفكار والأحلام. يأخذ منا الكلام المعلن كثيرًا من القوة، كما يقتضي حضورًا أكثر مما ينبغي. لا يترك لنا السيادة الكلية على بطئنا. هناك صور أدبية، تهتدي بنا نحو تأملات لا نهائية، صامتة. فندرك لحظتها، امتزاجًا عميقًا للصمت داخل الصورة ذاتها. وإذا توخينا دراسة ذلك، فلا يجب أن نجعل منه مجرد جدلية خطية بين الوقفات والصيحات، خلال الإنشاد. بل من الضروري استيعاب أن مبدأ الصمت في القصيدة، يجسد فكرًا مضمرًا ومتواريًا. فما إن يفطن فكر إلى الاختفاء تحت صور ترصد قارئًا في الظل، حتى تخمد أصوات الضوضاء، ثم تبدأ القراءة المتمهلة والحالمة. تنمو جيولوجية الصمت، حين البحث عن فكر مختبئ تحت الترسبات التعبيرية. سيكشف لنا عمل ريلكه Rilke مجموعة نماذج بخصوص هذا الصمت العميق نصيًّا، حيث يلزم الشاعر القارئ كي يرهف السمع إلى الفكر، بعيدًا عن الأصوات المُدركة، وكذا الهمس القديم للأفعال الماضية. فقط حينما يتم هذا الصمت نفهم النَّفَس التعبيري الغريب، وكذا الوثوب الحيوي لاعتراف:
لا، لاشيء تحبه، أيها الفتى، حتى
وإن أرغم صوتك فمك – لكن تعلّم
نسيان انتفاضة صيحتك. أمر عابر.
أنشد حقًّا، آه! إنه نَفَس آخر.
نَفَس حول لا شيء. تحليق إلى الله. ريح(3).
هكذا، فنصيحة الوصول إلى الصمت تم التعبير عنها بإرادة الصيرورة الهوائية، بالقطع مع مادة جد عينية، أو إلزام ثراء المواد، بتساميات، تحررات وكذا حركيات. تصبح بأحلام الهواء كل الصور عالية، حرة، متحركة.
أن لا تُفهم أجمل الصور الأدبية دفعة واحدة، وتتبدى رويدًا رويدًا في الآن نفسه داخل صيرورة حقيقية للخيال، وعبر إثراء للدلالات، فذلك برهان على إمكانية تبلور خاتمة تحدد الصورة الأدبية كوظيفة سيكولوجية نوعية جدًّا، ينبغي لنا التركيز عليها قليلاً.
إن الصورة الأدبية، حين تناولها من خلال إرادتها لتشغيل التعبير، ستشكل حقيقة فيزيائية ذات بروز نوعي، وبشكل أدق البروز السيكولوجي. للأخير مستويات عدة. الصورة الأدبية، تتوطد أو ترتفع. تعثر ثانية على عمق حيث توحي بارتفاع، تصعد أو تنحدر بين السماء والأرض. إنها متعددة الأصوات لأنها متعددة المعاني. وإذا انقسمت المعاني كثيرًا، ربما سقطت في "لعبة الكلمات"، أما إذا بقيت ضمن معنى واحد، فقد ينتهي بها إلى الديداكتيكية. بالتالي الشاعر الحقيقي، من يتجنب الخطرين، يراهن ثم يعلِّم. فالفعل بالنسبة إليه، يتأمل ثم يرتد، ويشرع الزمان في الانتظار. القصيدة الحقيقية توقظ رغبة غير قابلة للكبح، كي تُقرأ ثانية، فيحدث عندنا الانطباع بأن القراءة الثانية، ستقول عنها أكثر من نظيرتها الأولى، وإنها أيضًا– مع الاختلاف الكبير عن قراءة تعقلية – تعد أكثر تؤدة من الأولى، إنها متأمِلة. لا ننتهي أبدًا في إطارها من الحلم بالقصيدة، ولا قطعا التوقف عن التفكير فيها. أحيانًا يأتي مقطع شعري كبير، يغمره حزن أو فكر ما، يجعل القارئ يهمس– القارئ المنعزل-: لم تتم قراءته قبل هذا اليوم.
الصورة الأدبية، ومن خلال الاشتغال الداخلي لقيمها الشعرية، تظهر لنا بأن تشكل شيئان متماثلان، يعد نشاطًا لسانيًّا طبيعيًّا وخصبًا. حتى إذا لم تظهر لغة عالمة كي تمسك بالمعنى الجديد، فإن حساسية لسانية تبين بامتياز حقيقة ازدواجيات المعنى. هذه الثنائيات، والثلاثيات على مستوى المعنى، تتبادل فيما بينها ضمن "التطابقات". ثنائي، ثلاثي ثم رباعي، تتأسس بشكل أفضل إذا استطعنا تأكيد وتمديد الانطباعات باتباع تأملات الخيال المادي الشاردة حول اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة عناصر متخيلة.
لكن، لنقدم مثالاً عن صورة أدبية، نحس معها بنشاط ثالوث شعري. سنجد ذلك، عَرَضًا عبر انعطافة قصة لـ"إدغار بو(4) Edgar Poe". التي مثلت تحديدًا بالنسبة لنا، إحدى مناسبات التوقف عن القراءة، والانزياح نحو لانهائية الحلم بها.
يحلم إدغار بو، من خلال حكايته المعنونة بإنسان الحشود: L’homme des foules، مع حلول الليل، أمام جمهور هائج لمدينة كبيرة. وبقدر توغل الليل، يصبح الحشد أكثر إجرامًا. حينما يعود الطيبون إلى أوكارهم، يعمل الليل على سحب: «كل صنف دنيء من جحره» شيئًا فشيئًا، يحصل شر اليوم المنقضي، مع ازدياد سواده، على طابع شر روحي. غاز الاستضاءة، الموقد الدنس، يلقي: «على كل شيء نورًا متلألأ ومضطربًا». ثم، دون أي تحضير، تفرض نفسها التغيرات المتعددة لهذه الصورة الفضولية التي نستدعي إليها انتباه القارئ: «كل شيء ساده السواد، لكن مضيئًا مثل شجر الأبنوس الذي قارنا به أسلوب فلورانس تيرتولين Tertullien».
إذا توخينا، أن نعيش مع قصائد أخرى لإدغار بو، صورة الأبنوس المعشوقة، لنتذكر أنها تمثل بالنسبة إليه الماء المالنخولي- الثقيل والأسود- وسنحس بحركية أول تغير مادي، لما يصير الغسق، الذي كان هوائيًّا إلى غاية اللحظة، مادة ليلية، كثيفة ولامعة، تثير تحت إضاءة الغاز انعكاسات سيئة. وبالكاد تتشكل هذه الأحلام الأولى، تكون الصورة اتسعت قبل ذلك: يتذكر الحالم أسلوب فلورانس تيرتوليان، على شاكلة تكهن معتم. ها هو إذن الثالوث: الليل، الأبنوس، الأسلوب. وفي إطار تبعثر أكبر عمق واتساعًا، يكتئب الهواء من الماء، ربما كذلك أن خشبًا معدنيًّا ثم صوتًا مكتوبًا وحادًا، يبدل موضعه بكيفية وازنة، فتتفاقم مثل سواد يتكهن، دلالة الشر والخطأ، ثم الندم..
كم من التأملات الشاردة في سطرين! وكم هي تغيرات المواد المتخيلة! ألا يوحي خيال القارئ بعد إقامة متمهلة بين طيات عالم التأملات الشاردة الذي أتينا على إرسائه له، بحركية خالصة للصور؟ بالتالي، هل لا زالت ممكنة، تلك المختصرات الفظة. نعم، ليل ما، أسود مثل أسلوب شرس، ثم ليل آخر، أسود ولزج مثل أنشودة حزينة. للصور أسلوب. والصور الكونية هي أساليب أدبية. الأدب عالم مشروع. صوره أولية. إنها صور الحلم المتكلم، الذي يعيش في أوج السكون الليلي، بين الصمت والهمس –حياة متخيلة- الحياة الحقيقية! تنتعش حول صورة أدبية محضة. فبالنسبة للصورة الأدبية يجب أن نقول مع ميلوز
ص74 (La confession de Lemuel) O.de Miloz
لكنها أشياء هنا
حيث الاسم لا صوت ولا صمت.
كم هو جائر النقد الأدبي، الذي لا يرى في اللغة سوى تصلبًا للتجربة الباطنية! بالعكس، دائمًا اللغة عند مقدمة فكرنا تقريبًا، شيئًا ما أكثر غليانًا من عشقنا، إنها الوظيفة الجميلة للتهور الإنساني، والتفاخر المقوي لطاقة الإرادة، وما يبالغ في القوة. لقد أشرنا في مناسبات عديدة خلال هذه الدراسة إلى الطبيعة الديناميكية للخيال المفرط، حيث بدونها لا يمكن للحياة التطور. عمومًا، تأخذ الحياة أكثر مما ينبغي، لكي تحصل على الكافي. مثلما يلزم الخيال أن يأخذ بشكل مفرط حتى يكون للفكر ما يكفي. وينبغي للإرادة أن تتخيل جدًّا، لكي تحقق ما يكفي.
الهوامش:
(1) - هذا النص مأخوذ من كتاب:
Gaston Bachelard : L’Air et les songes, essai sur l’imagination du mouvement, 11 réimpressions. Libraire José Corti, page 281- 288.
(2) - بوهمه، سبق ذكره، I، 322.
(3) - قصيدة، ترجمة، بيتز ص226.
(4) - إدغار بو: حكايات تاريخية عجيبة، ترجمة بودلير، ص58.
(Keats ,Ode a l urne grecque.trad ;E. de Clermont-Tonnerre)
هناك موسيقيون يؤلفون على الصفحة البيضاء، في ظل السكون والصمت. الأعين الكبيرة مفتوحة، تخلق بنظرة ممتدة في الفراغ، نوعًا من الصمت المرئي، نظرة صامتة تمسح العالم، لكي تعمل على إسكات أصواته، إنهم يكتبون الموسيقى. شفاههم لا تتحرك. إيقاع الدم ذاته قد جف طبله، الحياة تترقب، فالإيقاع آت. يصغون إذن إلى ما يبدعونه عبر الفعل الذي يبدع. لا ينتمون أبدًا إلى عالم الأصداء أو الرنين، يسمعون النقط السوداء، ثم العلامات الموسيقية، والنوتات، تسقط، ترتجف، تنزلق، تقفز على صفحة الموسيقى. بالنسبة لهم، السولفيج قيثارة مجردة، رنان قبل ذلك. يتمتعون هنا، على الصفحة البيضاء، بتعدد الأصوات الواعي. في الاصغاء الواقعي، يمكن أن تضيع أصوات، تخفت، وتختنق، قد يحدث الانصهار بكيفية سيئة. لكن مبدع الموسيقى المكتوبة، له عشرة آذان ويد واحدة. يد مطبقة على قلم، لضم عالم الإيقاع، عشرة آذان، وانتباهات، ومواقيت، قصد مطِّ وتنظيم فيض السمفونيات.
هناك أيضًا شعراء صامتون، يلازمون الصمت، شعراء يعملون أولاً على إعادة السكينة إلى عالم صاخب جدًّا، وكل القسوة الرعدة. يسمعون كذلك، ما يكتبونه، في الوقت ذاته الذي يكتبون فيه، من خلال المقياس البطيء للغة مكتوبة. لا يستنسخون القصيدة، بل يؤلفونها. بينما آخرون "يعزفون" مباشرة ما أبدعوه على الصفحة البيضاء! آخرون "ينشدون" بواسطة الميغافون تعابير الأبهة. هؤلاء، يتذوقون إيقاع الصفحة الأدبية حيث الفكر يتكلم، والكلام يفكر. يدركون قبل تقطيع الشعر، والاستماع، يقينية الإيقاع المكتوب، وبأن الريشة تتوقف من تلقاء ذاتها أمام تعاقب صوتين، رافضة التجانسات الصوتية غير المجدية، يتوخون أفكارًا أكثر من تكرار أصوات. كم هو عذب أن تكتب كذلك، بتحريك كل أعماق الأفكار المتأمِلة! كيف يمكننا الإحساس بالتخلص من أزمنة سخيفة، ترشح، يغمرها ملح البارود! بفضل بطء القصيدة المكتوبة، تعثر الأفعال على تفاصيل حركيتها الأصلية. حيث يعود لكل فعل، ليس فقط زمن تعبيره، بل الزمن الصحيح لحركته. فالأفعال التي تدور ثم الأخرى التي تبعث بك، لا يخلطان أبدًا حركتهما. وحينما تأتي صفة كي تزهر جوهرها، تخول لنا القصيدة المكتوبة، الصورة الأدبية، إمكانية أن نعيش على مهل زمن الازهرار ذاك.
إذن، القصيدة هي حقًّا الظاهرة الأولى للصمت. تترك حيًّا، بين طيات الصور، الصمت المنتبه. تؤسس الشعر ضمن الزمن الصامت، حيث لا شيء يطرق، يضغط أو يأمر. زمن مستعد لكل الروحيات، إنه زمن حريتنا. كم هو بئيس الوقت الجاري، لقاء الأزمنة التي تبدعها القصائد! قصيدة: هي موضوع زماني جميل ينشئ مقياسه الخاص. وقد حلم بودلير بهذه التعددية، المتعلقة بالنماذج الزمانية (كتاب قصائد نثرية مقتضبة، تقديم)، قائلاً: «من منا في لم يحلم، خلال أيام طموحه، بمعجزة نثر شعري، موسيقى، بلا إيقاع ولا قافية، لين جدًّا، وغير مترابط كفاية، لكي يتكيف مع الحركات الغنائية للنفس، وتموجات التأمل الشارد، وكذا قفزات الوعي؟». هل تنبغي الإشارة أنه في ثلاثة سطور، حدد بودلير تقريبًا مختلف التجليات الأساسية للديناميكية العروضية مع استمراريتها، وتموجاتها ثم نبراتها المباغتة؟ لكن خاصة مع تعدد أصواتها، تتجاوز القصيدة المكتوبة كل إنشاد. حينما نكتب، ونتأمل، ينبعث تعدد الأصوات، كصدى لخاتمة. باستمرار، للقصيدة الحقيقية، طبقات متعددة. يمتد الفكر تارة فوق، وتارة أخرى، تحت الصوت الرخيم. ثلاث مخططات، على الأقل ظاهرة، بخصوص القياس المتعدد، الذي عليه إيجاد توافق الكلمات، الرموز ثم الأفكار. إن الإصغاء لا يمكِّن أبدًا من الحلم بالصور في العمق. لقد اعتقدت دائمًا بأن قارئًا متواضعًا يتذوق على نحو أفضل القصائد بإعادة كتابتها بدل إنشادها. الريشة في اليد، بالتالي سنمتلك بعض الحظ كي نمسح الامتياز الجائر للصوتي، ثم نتعلم في المقابل، أن نعيش ثانية أكثر عمليات التكامل اتساعًا، تلك المتعلقة بالحلم والدلالة، تاركين للحلم الوقت، كي يجد علامته، ويرسم بهدوء دلالته.
كيف يمكن بالتالي، نسيان الفعل الدال للصورة الشعرية. العلامة هنا ليست استعادة، وذكرى، أو السمة المتعذر محوها بخصوص ماض بعيد. لكي تكون جديرة بلقب صورة أدبية، يحتاج الوضع إلى استحقاق أصلي. فالصورة الأدبية، معنى لحالة ناشئة، الكلمة - الكلمة القديمة- تأتي لتكتسي دلالة جديدة. لكن هذا لا يكفي أيضًا: يلزم الصورة الأدبية الاغتناء بحُلُمية جديدة. الدلالة على شيء آخر، ثم الحث على الحلم بكيفية مختلفة، تلك بمثابة المهمة المزدوجة للصورة الأدبية. القصيدة، لا تعبر عن شيء غريب عنها. حتى بالنسبة لنوع من الديداكتيكية الشاعرية الخالصة، التي تتجلى مع القصيدة، فإنها لا تبرز الوظيفة الحقيقية للشعر. لا توجد قصيدة سابقة عن عمل الفعل الشعري، مثلما لا تقوم حقيقة قبلية عن الصورة الأدبية، ولا تأتي الأخيرة لتكسو صورة عارية، ولا إعطاء الكلام لصورة خرساء. الخيال، يتكلم فينا، تتكلم أحلامنا وأفكارنا. يرغب كل نشاط إنساني، في التكلم. وحينما يعي الكلام بذاته، يسعى النشاط الإنساني حينئذ إلى الكتابة، بمعنى تنظيم الأحلام والأفكار. يبتهج الخيال بالصورة الأدبية. إذن، ليس الأدب بديلاً عن أي نشاط آخر. بل، يتمم رغبة إنسانية ويجسد انبثاقًا للخيال.
تذيع الصورة الأدبية رنات، يجب تسميتها برنات مكتوبة، وفق نموذج بالكاد مجازيًّا. نوع من الأذن المجردة، قادرة على تناول أصوات مضمرة، تستيقظ ونحن نكتب، كما تفرض الشرائع التي تحدد الأجناس الأدبية. ومن خلال لغة مكتوبة بعشق، سيتهيأ نوع من الإصغاء المتطلع، دون أي سلبية. تقدمت طبيعة المنصت المذعن، عن تلك الأخرى المتعلقة بمجرد الاستماع. الريشة تغني! إذا استسغنا هذا المفهوم عن طبيعة الاستماع، سنتلمس كل قيمة التأملات الشاردة ليعقوب بوهمه(2) Boehme: «لكن، كيف تفعل إذن حاسة السمع قصد الإصغاء إلى ما يرن ويتحرك؟ هل نقول بأنه يتأتى من صوت الشيء الخارجي كما يرن؟ لا، هذا يجب أن يكون شيئًا يحتجز الصوت، ويكون شنيعًا معه، مميزًا الصوت الذي عزف أو غنى». خطوة أخرى ثم يصغي الكائن الكاتب لفعل كتب، الفعل الذي جُعل للأفراد.
بالنسبة لمن يعرف التأمل الشارد المكتوب، سيدرك مع فيض القلم، كيف يحيا الواقع القصي جدًّا! ما استحضرناه سابقًا لنقوله أزيح بسرعة كبيرة، من طرف الذي أخذناه على حين غرة لكي نكتبه، فنشعر حقًّا أن اللغة المكتوبة تنشئ عالمها الخاص. عالم جمل، يتموضع بترتيب على الصفحة البيضاء، في إطار ترابط للجمل، تحوي غالبًا قوانين جد متعددة، لكنها تحرس دائمًا القوانين الكبرى للخيالي. الثورات التي تغير العوالم المكتوبة تتم لحساب عوالم حية أكثر وأقل تصنعًا، لكن دون محو بالمطلق لوظائف العوالم المتخيلة. تشكل دائمًا البيانات الأكثر ثورية، تأسيسات أدبية جديدة. تغير لنا العالم، لكنها تأوينا دائمًا في عالم متخيل.
من جهة أخرى، حتى مع صور أدبية منعزلة، نحس بحركة هذه الوظائف الكونية للأدب. تكفي أحيانًا صورة أدبية، كي تنقلنا من عالم إلى آخر، فتتجلى الصورة الأدبية بمثابة الوظيفة الأكثر تجددًا للغة. لغة، تتطور بصورها، أكثر من مجهودها السيمانطقي. في إطار تأمل خيميائي، سمع يعقوب بوهمه "صوت العناصر" بعد انفجارها، عندما دمر الانفجار "جهنم الضارية" و"اقتحم باب الظلمات". كذلك، فالصورة الأدبية متفجر. تعمل فجأة على تشظية الجمل الجاهزة، كما تهشم الأمثال التي تتدحرج من عصر إلى آخر، وتسمعنا المواد بعد انفجارها، حينما تركت جهنم من جذرها، فاقتحمت باب الظلمات، وغيرت مادتها. باختصار، تضع الصورة الأدبية الكلمات في حركة، كما تردها إلى وظيفتها الخيالية.
بصدد الفعل المنطوق، الفعل الذي نكتبه في ظل الامتياز الكبير لاستحضار أصداء مجردة حيث تنعكس الأفكار والأحلام. يأخذ منا الكلام المعلن كثيرًا من القوة، كما يقتضي حضورًا أكثر مما ينبغي. لا يترك لنا السيادة الكلية على بطئنا. هناك صور أدبية، تهتدي بنا نحو تأملات لا نهائية، صامتة. فندرك لحظتها، امتزاجًا عميقًا للصمت داخل الصورة ذاتها. وإذا توخينا دراسة ذلك، فلا يجب أن نجعل منه مجرد جدلية خطية بين الوقفات والصيحات، خلال الإنشاد. بل من الضروري استيعاب أن مبدأ الصمت في القصيدة، يجسد فكرًا مضمرًا ومتواريًا. فما إن يفطن فكر إلى الاختفاء تحت صور ترصد قارئًا في الظل، حتى تخمد أصوات الضوضاء، ثم تبدأ القراءة المتمهلة والحالمة. تنمو جيولوجية الصمت، حين البحث عن فكر مختبئ تحت الترسبات التعبيرية. سيكشف لنا عمل ريلكه Rilke مجموعة نماذج بخصوص هذا الصمت العميق نصيًّا، حيث يلزم الشاعر القارئ كي يرهف السمع إلى الفكر، بعيدًا عن الأصوات المُدركة، وكذا الهمس القديم للأفعال الماضية. فقط حينما يتم هذا الصمت نفهم النَّفَس التعبيري الغريب، وكذا الوثوب الحيوي لاعتراف:
لا، لاشيء تحبه، أيها الفتى، حتى
وإن أرغم صوتك فمك – لكن تعلّم
نسيان انتفاضة صيحتك. أمر عابر.
أنشد حقًّا، آه! إنه نَفَس آخر.
نَفَس حول لا شيء. تحليق إلى الله. ريح(3).
هكذا، فنصيحة الوصول إلى الصمت تم التعبير عنها بإرادة الصيرورة الهوائية، بالقطع مع مادة جد عينية، أو إلزام ثراء المواد، بتساميات، تحررات وكذا حركيات. تصبح بأحلام الهواء كل الصور عالية، حرة، متحركة.
أن لا تُفهم أجمل الصور الأدبية دفعة واحدة، وتتبدى رويدًا رويدًا في الآن نفسه داخل صيرورة حقيقية للخيال، وعبر إثراء للدلالات، فذلك برهان على إمكانية تبلور خاتمة تحدد الصورة الأدبية كوظيفة سيكولوجية نوعية جدًّا، ينبغي لنا التركيز عليها قليلاً.
إن الصورة الأدبية، حين تناولها من خلال إرادتها لتشغيل التعبير، ستشكل حقيقة فيزيائية ذات بروز نوعي، وبشكل أدق البروز السيكولوجي. للأخير مستويات عدة. الصورة الأدبية، تتوطد أو ترتفع. تعثر ثانية على عمق حيث توحي بارتفاع، تصعد أو تنحدر بين السماء والأرض. إنها متعددة الأصوات لأنها متعددة المعاني. وإذا انقسمت المعاني كثيرًا، ربما سقطت في "لعبة الكلمات"، أما إذا بقيت ضمن معنى واحد، فقد ينتهي بها إلى الديداكتيكية. بالتالي الشاعر الحقيقي، من يتجنب الخطرين، يراهن ثم يعلِّم. فالفعل بالنسبة إليه، يتأمل ثم يرتد، ويشرع الزمان في الانتظار. القصيدة الحقيقية توقظ رغبة غير قابلة للكبح، كي تُقرأ ثانية، فيحدث عندنا الانطباع بأن القراءة الثانية، ستقول عنها أكثر من نظيرتها الأولى، وإنها أيضًا– مع الاختلاف الكبير عن قراءة تعقلية – تعد أكثر تؤدة من الأولى، إنها متأمِلة. لا ننتهي أبدًا في إطارها من الحلم بالقصيدة، ولا قطعا التوقف عن التفكير فيها. أحيانًا يأتي مقطع شعري كبير، يغمره حزن أو فكر ما، يجعل القارئ يهمس– القارئ المنعزل-: لم تتم قراءته قبل هذا اليوم.
الصورة الأدبية، ومن خلال الاشتغال الداخلي لقيمها الشعرية، تظهر لنا بأن تشكل شيئان متماثلان، يعد نشاطًا لسانيًّا طبيعيًّا وخصبًا. حتى إذا لم تظهر لغة عالمة كي تمسك بالمعنى الجديد، فإن حساسية لسانية تبين بامتياز حقيقة ازدواجيات المعنى. هذه الثنائيات، والثلاثيات على مستوى المعنى، تتبادل فيما بينها ضمن "التطابقات". ثنائي، ثلاثي ثم رباعي، تتأسس بشكل أفضل إذا استطعنا تأكيد وتمديد الانطباعات باتباع تأملات الخيال المادي الشاردة حول اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة عناصر متخيلة.
لكن، لنقدم مثالاً عن صورة أدبية، نحس معها بنشاط ثالوث شعري. سنجد ذلك، عَرَضًا عبر انعطافة قصة لـ"إدغار بو(4) Edgar Poe". التي مثلت تحديدًا بالنسبة لنا، إحدى مناسبات التوقف عن القراءة، والانزياح نحو لانهائية الحلم بها.
يحلم إدغار بو، من خلال حكايته المعنونة بإنسان الحشود: L’homme des foules، مع حلول الليل، أمام جمهور هائج لمدينة كبيرة. وبقدر توغل الليل، يصبح الحشد أكثر إجرامًا. حينما يعود الطيبون إلى أوكارهم، يعمل الليل على سحب: «كل صنف دنيء من جحره» شيئًا فشيئًا، يحصل شر اليوم المنقضي، مع ازدياد سواده، على طابع شر روحي. غاز الاستضاءة، الموقد الدنس، يلقي: «على كل شيء نورًا متلألأ ومضطربًا». ثم، دون أي تحضير، تفرض نفسها التغيرات المتعددة لهذه الصورة الفضولية التي نستدعي إليها انتباه القارئ: «كل شيء ساده السواد، لكن مضيئًا مثل شجر الأبنوس الذي قارنا به أسلوب فلورانس تيرتولين Tertullien».
إذا توخينا، أن نعيش مع قصائد أخرى لإدغار بو، صورة الأبنوس المعشوقة، لنتذكر أنها تمثل بالنسبة إليه الماء المالنخولي- الثقيل والأسود- وسنحس بحركية أول تغير مادي، لما يصير الغسق، الذي كان هوائيًّا إلى غاية اللحظة، مادة ليلية، كثيفة ولامعة، تثير تحت إضاءة الغاز انعكاسات سيئة. وبالكاد تتشكل هذه الأحلام الأولى، تكون الصورة اتسعت قبل ذلك: يتذكر الحالم أسلوب فلورانس تيرتوليان، على شاكلة تكهن معتم. ها هو إذن الثالوث: الليل، الأبنوس، الأسلوب. وفي إطار تبعثر أكبر عمق واتساعًا، يكتئب الهواء من الماء، ربما كذلك أن خشبًا معدنيًّا ثم صوتًا مكتوبًا وحادًا، يبدل موضعه بكيفية وازنة، فتتفاقم مثل سواد يتكهن، دلالة الشر والخطأ، ثم الندم..
كم من التأملات الشاردة في سطرين! وكم هي تغيرات المواد المتخيلة! ألا يوحي خيال القارئ بعد إقامة متمهلة بين طيات عالم التأملات الشاردة الذي أتينا على إرسائه له، بحركية خالصة للصور؟ بالتالي، هل لا زالت ممكنة، تلك المختصرات الفظة. نعم، ليل ما، أسود مثل أسلوب شرس، ثم ليل آخر، أسود ولزج مثل أنشودة حزينة. للصور أسلوب. والصور الكونية هي أساليب أدبية. الأدب عالم مشروع. صوره أولية. إنها صور الحلم المتكلم، الذي يعيش في أوج السكون الليلي، بين الصمت والهمس –حياة متخيلة- الحياة الحقيقية! تنتعش حول صورة أدبية محضة. فبالنسبة للصورة الأدبية يجب أن نقول مع ميلوز
ص74 (La confession de Lemuel) O.de Miloz
لكنها أشياء هنا
حيث الاسم لا صوت ولا صمت.
كم هو جائر النقد الأدبي، الذي لا يرى في اللغة سوى تصلبًا للتجربة الباطنية! بالعكس، دائمًا اللغة عند مقدمة فكرنا تقريبًا، شيئًا ما أكثر غليانًا من عشقنا، إنها الوظيفة الجميلة للتهور الإنساني، والتفاخر المقوي لطاقة الإرادة، وما يبالغ في القوة. لقد أشرنا في مناسبات عديدة خلال هذه الدراسة إلى الطبيعة الديناميكية للخيال المفرط، حيث بدونها لا يمكن للحياة التطور. عمومًا، تأخذ الحياة أكثر مما ينبغي، لكي تحصل على الكافي. مثلما يلزم الخيال أن يأخذ بشكل مفرط حتى يكون للفكر ما يكفي. وينبغي للإرادة أن تتخيل جدًّا، لكي تحقق ما يكفي.
الهوامش:
(1) - هذا النص مأخوذ من كتاب:
Gaston Bachelard : L’Air et les songes, essai sur l’imagination du mouvement, 11 réimpressions. Libraire José Corti, page 281- 288.
(2) - بوهمه، سبق ذكره، I، 322.
(3) - قصيدة، ترجمة، بيتز ص226.
(4) - إدغار بو: حكايات تاريخية عجيبة، ترجمة بودلير، ص58.