علي حسين - غواية القراءة.. كيف خرج البيان الشيوعي من معطف دستويفيسكي ؟ (9)

إن القراءة توفر للعقل مواد المعرفة، ولكن التفكير هو الذي سيجعل ما نقرؤه خاصاً بنا.

جون لوك



كنت أجلس في زاوية من المقهى منهمكاً في قراءة كتاب صغير أحمر اللون انطبعت عليه صورتان تخطيطيتان واحدة لكارل ماركس والثانية لرفيقه فريدريك أنجلز، لم اكن أعرف أن بعض رواد المقهى كانوا ينظرون اليّ بارتياب، الى أن وصل أحد الاصدقاء الذي ما إن رأى غلاف الكتاب حتى أطلق تعليقه المعتاد:"هل تريد أن تثبت إنك شيوعي؟". في ذلك الوقت كنت أعتقد إنني اذا أردت أن أصبح قارئا جيدأ يجب أن اقرأ الكتب الماركسية، ولأن مختارات ماركس وأنجلس كانت كبيرة الحجم وبأجزاء متعددةى، لم أجد أفضل من"البيان الشيوعي"بنسخته النحيلة ذات الصفحات القليلة،. قبل قراءة البيان الشيوعي انتهيت من كتاب هؤلاء علموني لسلامة موسى. وبدا سلامة موسى وكأنه الكنز الذي عثرت عليه، وكتابه أشبه برحلة يقوم بها المؤلف متقصياً لحياة وأعمال عددٍ من الشخصيات. كان هذا أول عهدي بكتاب من هذا النوع، لم أسمع بأسماء الذين يروي سلامة موسى حكاياتهم، لكن الكتاب استولى على عقلي، ورغم أن المؤلف يبدأ كتابه بنصيحة الشاعر الالماني غوته"كن رجلاً ولاتتبع خطواتي، إلا أنني قررت أن أتتبع خطوات الذين حدثني عنهم سلامة موسى، وكان واحداً منهم الروائي الروسي مكسيم غوركي الذي شغفت به منذ أن قرأت روايته"الاصدقاء الثلاثة". كان غوركي يرى إن الفقر يسحق الانسان، لكننا نستطيع أن ننتصر عليه بالعلم والاشتراكية، وفي كتابه"كيف تعلمت الكتابة"يخبرنا غوركي إنه حاول أن يجعل من البيان الشيوعي رواية، تحدثنا عن الثورة والمقاومة وأن الثائرين يجب ألا ييأسوا.
كانت ولادة سلامة موسى عام 1887، في بيت لموظف كبير يتقاضى نهاية كل شهر سبعة جنيهات. الطفل الذي رحل والده قبل عامين، لايتذكر شيئاً من هذا اليوم الذي اطلقت عليه والدته"يوماً أسود"، هكذا يخبرنا في كتابه"تربية سلامة موسى"، ولاينسى أن يؤكد أنه كان طفلاً منعزلاً، فقد كانت أمه تخاف عليه، فألبسته ملابس البنات اتقاءً للحسد، ومنعته من الخروج الى الشارع حتى نشأ على ما قال"محباً للوحدة والانطواء".
في مقدمة كتابه"أحلام الفلاسفة"يكتب سلامة موسى تعريفاً لحياته:"كنت ذلك الصبي الذي أرادت والدته أن تشكّله مثل عجينة طريّة".
في تربية سلامة موسى التي أسماها سيرة ذاتية يقسم حياته مثل فصول الكتاب الى قسمين أساسيين، الأول بعنوان"تربيتي الأدبية"والثاني"تربيتي العلمية". ويفسر لنا في السيرة، كيف إنه ربّى نفسه ثقافياً:"عندما أرجع الى البذور الأولى والجذور التي نشأت ونبعت منها ثقافتي الحاضرة، أجد أنها تكاد جميعها تعود الى الفترة الواقعة بين 1907 و1911 حين كنت في لندن، ففي تلك الفترة كانت طائفة من المذاهب والنظريات في الأدب والعلم"تتجرثم"وقد كان من حظي أن أدركت الجراثيم الاولى لهذه الحركات".
ظل طوال حياته يتمنى أن يعيش مئة عام، يموت ومن حوله الكتب، مثلما كانت نهاية الجاحظ، لم تجتمع لكاتب عربي غيره قوة التأثير والتنوع في الكتابة، أصبحت كتبه مَعلماً من معالم المكتبة العربية، وتفشت أفكاره حتى اعتقد أدباء ذلك العصر إن هذا الرجل المتوسط القامة سيسحب البساط من تحت أقدامهم، ما دفع الكثير منهم أن يخصص جزءاً من وقته للرد على"هرطقات"سلامة موسى.
قبل نشر البيان الشيوعي بمئة عام، نشر جان جاك روسو كتابه"أصل التفاوت بين البشر"، وهو واحد من أهم الكتب الفكرية التي صدرت خلال عصر التنوير، نشر روسو كتابه عام 1754، وفيه يطرح سؤالاً طالما شغل المفكرين من قبل، وهو كيف خُلِق التفاوت الطبقي بين البشر وكيف أدى هذا التفاوت إلى إلغاء الحرية وانتشار الفقر وسيطرة طبقة صغيرة على الثروات؟.
وفي أصل التفاوت بين البشر يصوغ لنا فكرته هذه من خلال حكاية بسيطة يقول فيها إن:"أول إنسان سيج قطعة من الأرض وقال: هذه أرضي، ثم وجد أناساً بسطاء صدقوا حكايته هذه واعتبروه المؤسس الأول للتجمع المدني. كم من الجرائم والحروب وسفك الدماء، وكم من التعاسات والأهوال كان يمكن للجنس البشري أن يتجنبها، لو أن شخصاً ما اقتلع ذلك السياج الأول، أو ردم تلك القناة الفاصلة، وصاح برفاقه من البشر: لا تستمعوا إلى هذا المحتال. إنكم تحكمون على أنفسكم بالضياع إذا نسيتم أن ثمار هذه الارض من حق الجميع وأن الارض ليست ملكاً لأحد"، من خلال هذه الحكاية يريد روسو أن يؤكد إن كل الشرور والمآسي والمظالم التي عاشها البشر، كان بسبب التفاوت الطبقي بينهم. ومن أجل حلّ هذه المعضلة يرى روسو أن تعود البشرية الى النمط الاجتماعي الذي كان يعيش فيه الإنسان البدائي، قبل أن يقرر الإنسان أن يمتلك ارضاً خاصة به، ليتكون المجتمع، ويبدأ الناس التحضير لنظام الملكية الخاصة والتسابق للحصول على الثروات، بكل الوسائل المتاحة، بما فيها تلك الوسائل الشريرة، إذ إن البشر يكتشفون في خضم ذلك ضرورة أن يحسّنوا أوضاعهم على حساب البشر الآخرين. من هنا، تفرض نفسها لعبة السيطرة والتفاوت بين الغني والفقير، القوي والضعيف، ويصبح الجميع أشبه بذئاب ضارية، البعض يفترس لكي يحصل على المزيد، والبعض الآخر لكي يحافظ على ما لديه. أما المجتمع المدني الحقيقي الأول فيتأسس حينما يتمكن القوي المنتصر من إقناع الآخرين بأن عليهم أن يتكاتفوا معاً، تحت قيادته، للحفاظ على كينونتهم ضد الآخر الغريب المستعد لافتراسهم، وهكذا هنا مع تكون الطبقات، تتكون مشاعر العصبية وكراهية الآخر، وتندلع الصراعات والحروب.
في تشرين الأول من عام 1847 وقبل ظهور البيان الشيوعي بأشهر كتب ماركس مقالاً تحت عنوان"النقد الواعظ"، أشاد فيه بأفكار جان جاك روسو حول التفاوت بين الطبقات، بعدها يلقي خطاباً أمام مجموعة من العمال سينشر فيما بعد تحت عنوان"العمل المأجور ورأس المال"، يرسم فيه كارل ماركس للمرة الاولى الخطوط الكبرى لنظريته الاقتصادية، والتي شكلت فيما بعد الأساس الذي بنيت عليه افكاره السياسية، ويسلط في هذه المقالة الضوء على الطريقة التي يستحوذ بها الرأسماليون على القيمة التي يخلقها العمال، بعدم اعطائهم ما يتكلفون لإعادة الإنتاج، وليس لما ينتجونه"فليست الأجرة اذا نصيب العامل من السلعة التي ينتجها. بل الأجرة هي الجزء الموجود قبل السلعة والذي يشتري به الرأسمالي كمية معينة من قوة العمل المنتجة، ذلك إن قوة العمل هي سلعة يبيعها مالكها الأجير لرأس المال. يبيعها لكي يعيش".
يشكل البيان الشيوعي الذي صدر بداية عام 1848، تطوراً جديداً في فكر ماركس وزميله انجلز، فهما يقدمان لنا من خلاله تصورا أكثر كمالاً للنظرية المادية، يكون فيه صراع الطبقات المحرك الرئيسي للتاريخ، وتكون الطبقة العاملة القوة الخلاقة الزاحفة لمجتمع جديد. إنها بداية الاشتراكية العلمية، وهو الإنتقال الى حيز العمل السياسي. يستهل البيان بهذا التصور للمجتمع البشري:"عن تاريخ كل مجتمع، حتى أيامنا هذه، لم يكن سوى تاريخ صراع الطبقات"، ونجد البيان الشيوعي يقدم تصوراً للمجتمع البدائي كما كتب عنه جان جاك روسو في"تفاوت الطبقات بين البشر"حيث نقرأ هذه العبارة:"كان المجتمع البدائي يسمح لكل فرد بان يظل حراً لتنفيذ العمل الضروري للمحافظة على بقائه".
*******
في موضع من كتاب ما، هناك جملة تنتظرنا كي تعطي معنى للوجود.

ثربانتس

قبل نشر البيان الشيوعي كان فريدريك إنجلز قد كتب عن معاناة العمال في بريطانيا، حيث آمن آنذاك بان الأغنياء كانوا كذلك، ليس لأنهم تحلوا بالبراعة أو النشاط أو المثابرة، ولكن لأنهم كانوا ماكرين وخبثاء. وبان الفقراء كانوا كذلك لأنهم كسالى أو سكارى او حمقى، ولكن لأن سادتهم عصبوا عيونهم واستغلوهم.:"إن البرجوازي الأنكليزي لا يبالي مطلقاً إذا كان عماله يتضورون جوعاً أم لا، طالما انه يحقق أرباحاً."
قبل نشر البيان الشيوعي بثلاث سنوات، وبالتحديد في منتصف ليلة من ليالي شهر أيار عام 1845، ذهب شابان ليطرقا باب كاتب مبتدئ كان قد أرسل اليهما أولى كتاباته، ليقولا له عبارة واحدة"أنت اديب عبقري". الشاب الذي تم الإحتفال بعبقريته بهذه الطريقة الغريبة والدرامية كان اسمه فيدور ديستويفيسكي، وأما زائراه فهما الناقد الشهير بيلينسكي وزميله جريجوروفتش.كانا قد أنهيا قبل ساعة قراءة مخطوطة رواية"الفقراء"
يعرض لنا دستويفيسكي في الفقراء بؤس موظف حكومي يذكرنا بالموظفين الذين قدمهم لنا نيقولاي غوغول في قصصه ورواياته، حتى أن بيلينسكي وهو يغادر شقة دستويفسكي البائسة يلتفت اليه وهو يقول:"لاتنسى إنك غوغول روسي جديد". لقد كانت رواية الفقراء مستوحاة من رواية غوغول المعطف، فقد كان ذلك الإنسان البسيط الساكن في مدينة سان بطرسبورغ، المسكين الذي يسخر منه زملاؤه، ويعاني من الحرمان والفقر، يخضع ويستسلم لكل شيء، هو صورة أخرى من بطل غوغول"اكاكي اكييفيتش"، الموظف البسيط الذي يتمكن بعد فترة من الحرمان والفاقة، أن يشتري المعطف الذي كان قد حلم به طويلاً. وذات يوم، ومن دون مقدمات، يُسرق المعطف منه، فيقع أكاكي مريضاً، ثم يموت غماً وحزناً على معطفه الحبيب.
يكتب دستوفيسكي عن روايته الفقراء، بأنها قصة بسيطة، مطابقة للواقع اليومي وبطلها ليس رجلاً عظيماً، أو شخصية تاريخية. والرواية كتبت على شكل رسائل بين"دييفوشكين"رجل قروي مجهول، تقدمت به السن، ساذج وبائس، طيب القلب ومتسامح لدرجة استعداده أن يقدم حياته ضحية من أجل إنسان لايعرفه، و"فرنكا"الأمراة الشابة التي تسكن في غرفة مقابل غرفته، تمت اليه بقرابة بعيدة لكنها ترفض أستقباله بغرفتها، ولاتريد أن تزوره خوفاً من أقاويل السكان، ولذلك لم يكن أمامها إلا الرسائل يتبادلانها لشرح أحوالهم.
هي بائسة وهو بائس أيضاً، لكنه يحاول أن يغمرها بعطف أبوي، ومن جهتها تحاول مساعدة صديقها العجوز على التعلم وإكتساب المعرفة، وهي تتحدث في رسائلها عن معاناتها وعن آلامها وعن"طفولتها التي أمضتها بالقناعة والخضوع، وموت حبيبها المفاجئ". كانت هذه الرسائل تشكل وليمة روحية بالنسبة لدييفوشكين، فهو لم يعد وحيداً، بل يعيش مع شخص آخر ومن أجل هذا الشخص. وهو يعمل ويشتغل ويحرم نفسه من أشياء كثيرة لكي يشتري زهوراً وهدايا لصديقته الشابة، لكن البؤس يترصده، فالجيران يظنون إنه يقيم معها علاقة مشبوهة، ولهذا تقرر"فارنكا"أن تتزوج، ويشعر أن فراغاً كبيراً سيحدث في حياته لتنتهي الرواية بهذه الصرخة:"ليس من الممكن أن تكون هذه الرسالة هي الأخيرة، كيف يمكن أن تتوقف مراسلتنا إذن هكذا، فجأة؟ كلا سأكتب لك، وأنت ستكتبين لي أيضاً.. يافارنكا إن إسلوبي في الكتابة يتحسن، آه ياعزيزيتي ماذا أقول عن الاسلوب، يامحبوبتي الغالية، ياعزيزتي ماتوتشكا".
في عام 1902 ينشر مكسيم غوركي مسرحيته الشهيرة"الحضيض"ويكتب في رسالة الى صديقه انطوان تشيخوف، انه يحاول أن يقلد فقراء دستويفيسكي حيث يصف لنا بشكل مبهر البؤس الذي يعيشه المواطن الفقير، فاحداث المسرحية تدور وسط بيئة المعدمين والبائسين والمشردين الذين بالكاد يجدون قوت يومهم، أو مكاناً يؤويهم، ومع ذلك نراهم يتمسكون بالعيش وبحب الحياة. والأحداث هنا تدور حول المرابي العجوز كوستيليف الذي حول قبواً في بنايته إلى مهجع ليلي يقيم فيه المشرّدون. ومن بين هؤلاء النزلاء يطالعنا الشاب فاشكا الذي يبدو ذكياً، ونجده يمارس دور فاسيليسا، زوجة المرابي، لكنه في الحقيقة يحب اختها ناتاشا. فاسيليسا لا تكف عن محاولة إقناع فاشكا بقتل العجوز إكراماً لحبه لها. وفي النهاية يقدم فاشكا على الجريمة ويقتل المرابي، ولكن ليس طمعا في الزوجة، إنما لكي يحمي ناتاشا من اضطهاد كوستيليف. وفي المسرحية هناك العجوز لوقا الذي نكتشف أنه شريد وقديس في الوقت ذاته. والذي يذكرنا بالأب زوسيما في الأخوة كارامازوف لدستويفيسكي، إنسان يعامل الناس جميعاً كأنهم أطفال، ويتمكن دائماً من الحصول على ثقتهم فيصبح أباً حقيقياً لهم، معطياً إياهم أملاً دائماً وحباً للحياة مفعماً. ولكن بعد مقتل المرابي يختفي لوقا تماماً وتختفي معه كل ضروب الأمل والسكينة، وتموت الأحلام الكبيرة التي كان يبثها في عقول ونفوس سكان القبو.
يكتب غوركي عن ذكرياته مع تولستوي، انه كان يستمد من أديب روسيا الكبير، معنى أن يكون الفقراء هم من يصنعون الموارد المالية للمجتمع.
في العام 1855 يكتب الشاعر الأميركي والت وايتمان في مقدمة ديوانه الشهير أوراق العشب:"إن عظمة المرحلة الحالية التي نعيش فيها، ليست في المشاريع ولا في الصالوات الفخمة ولا الكنائس ولا حتى في الصحف أو الاختراعات، ولكن العظمة نجدها في الناس العاديين بإحساسهم بانفسهم كاشخاص لم يجربوا أبداً شعور الوقوف في حضرة من يعلونهم منزلة، الأهمية الرهيبة لتغيير الحياة إن هناك رئيساً يرفع قبعته لهم وليسوا هم من يرفعون قبعاتهم خوفاً".
********
من هو الشيوعي؟ يحدد ماركس وإنجلز في بيانهما الشيوعي، معنى أن
يكون الانسان شيوعياً:"لايعني أن يكون له رأي مختار من بين سائر الأراء، وفقا لمصادفات التفضيل والإنتقاء والمناسبات ولا هو كذلك صفة موروثة أصيلة عند بعض الأفراد يكونون شيوعيين، كما يكون الإنسان أشقر أو أسمر، وهذا لايعني أيضاً أن يكون لدى الإنسان عزم على مداواة جميع الآلام البشرية بعاطفة توصي لتعميم الحب على البشر، أو بنزعة انسانية طوباوية او حلم كريم، أو باللجوء الى انقلاب فجائي شامل يطرأ على الاوضاع. أن يكون الإنسان شيوعياً معناه من الناحية الجوهرية، اتخاذ موقف علمي من قضايا المجتمع.".
في النسخة التي صدرت بعد وفاة ماركس يضيف إنجلز ملاحظة لقراء البيان تتعلق بأهمية دراسة المادية التاريخية لفهم البيان الشيوعي:"إن الفكرة الرئيسية التي تهيمن على البيان الشيوعي، هي أن الانتاج الاقتصادي والبناء الاجتماعي الناتج عنه، يكونان حتماً، وفي كل عصر قاعدة التاريخ السياسي والفكري لهذا العصر، إن التاريخ كان وسيظل تاريخ الصراع بين الطبقات".
أصبح البيان الشيوعي فيما بعد أول وثيقة منهجية للشيوعية العلمية، وقد لخص فيه ماركس وإنجلز، مجمل المعارف الإجتماعية والإقتصادية والتجارب العلمية، ولم تبلغ النسخ التي طبعت في الطبعة الاولى من هذا الكراس الصغير سوى بضع مئات تنقلت من يد الى أخرى.
يكتب لينين إن البيان الشيوعي كان أول عرض كامل للمادية التاريخية، وأول نص تظهر فيه الطبقة العاملة كطبقة مجردة جذرياً من الأوهام.
في اللحظة التي صدر فيها البيان الشيوعي، كان هناك في باريس سياسي ومفكر فرنسي"ألكسيس دو توكفيل"، يعلن إن البؤس الشعبي يمكن أن يعيد فكرة الثورة من جديد الى المجتمع.
كان دو توكفيل يستعد لنشر كتابه"النظام القديم والثورة"، والذي سيركز فيه على أن الديموقراطية تعزل الإنسان وتهبط بمستواه الخلقي، حائلة بينه وبين أن يتحمل مسؤولياته كافة. ومن هنا يتعين إضفاء طابع لامركزي على السلطة، وتحرير الصحافة وبقية المؤسسات والمشاريع الى الحد الأقصى، وجعل القضاء مستقلاً كل الإستقلال عن الحكومة، وبعد أيام تندلع الثورة في فرنسا، والتي سميت بربيع الثورات الأوروبية، في ذلك الوقت كان البيان الشيوعي يطبع في لندن، وجاهزاً للنشر بالألمانية حيث تنشر الكراسة دون ذكر لأسماء المؤلفين، فقد نسب البيان الى عصبة الشيوعيين، في شباط من نفس العام يسافر ماركس الى باريس وهناك يلقي محاضرة يعرض فيها تاريخ الثقافة الانسانية باعتباره تاريخاً للايديولوجية، وللديانات والفلسفات والنظم القانونية المقنعة التي أظهرت نفسها على إنها حقائق كلية أو أزلية لسائر البشر، ويرى ماركس في محاضرته تلك إن جميع الافكار والقيم التاريخية الرئيسية تعمل على حماية المصالح الطبقية والدفاع عنها، وتحرص على إخفاء حقيقة الممارسات الظالمة وغير الانسانية من قبل المجتمع المدني بحق الطبقات التي تتعرض للاستغلال.
وسرعان ما يتحوّل البيان الشيوعي الى منهج للفلسفة الماركسية التي اصبحت الاتجاه الفكري الأبرز في القرن العشرين، حيث أمتد تأثيرها الى كافة العناصر السياسية فضلاً عن الثقافية كالروايات والافلام ووسائل الاعلام، والهيئات والمؤسسات الاجتماعية.. انها الثورة الشيوعية التي يصفها ماركس وانجلز في البيان الشيوعي:"الثورة الشيوعية هي القطيعة الأكثر جذرية عن علاقات الملكية المتوارثة".
يكتب مكسيم غوركي:"يجب ألا أتعب من تكرار القول بأن ما أكتبه استنبطته من قراءاتي لأعمال دستويفسكي وشغفي بالبيان الشيوعي لماركس وانجلز، وكنت ولا أزال اعتقد ان جميع ما كتب عن معنى الفقر، والذل الذي يعيشه الفقراء، والمهانة التي يتعرضون لها، والأمل الذي يشع في عيونهم، خرج من معطف أنسان بسيط ومريض نذر نفسه لخير البشرية.. انه دستويفيسكي".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...