محمد صبري - الحكم على الشعر وأساليب النقد والتحليل

كتب (أستاذ جليل) في الأسبوع الفائت يقول: (للدكتور محمد صبري) أن يرى في مقالته. . . أن نونية أبي تمام في رثاء ولده قد فاتت رائيته في محمد بن حميد الطوسي التي يقول فيها:

فتى كان عذب الروح لا من غضاضة ... ولكن كبراً أن يقال به كبر

(وللأستاذ عبد الرحمن شكري أن يستعجب في إحدى مقالاته كيف أن حبيباً - وهو في الرثاء ما هو - لم يجد في النونية إجادة ابن الرومي في الدالية التي رثى بها ولده. غير أن تلك القصيدة فائقة كانت أو مقاربة ليست لأبي تمام وإن جاءت في ديوانه المطبوع، وفي المخطوط في دار الكتب. . .)

ودليل حضرة الكاتب على أن النونية ليست لأبي تمام هو (أن أبا بكر الصولي روى القصيدة بتمامها في (كتاب الأوراق) لأبي محمد القاسم بن يوسف، وروى بعادها (دالية للقاسم في رثاء ابنه محمد وبنين آخرين له تجانسها كل المجانسة) والصولي مشغوف بحبيب، وهو الرواية العظيم. . . وما حدثتنا (أخبار أبي تمام) ولا المؤلفات التي كتبت سيرة حبيب أن له ابناً، كنيته أبو على. . . ولا أن له ابناً اسمه محمد ولا نعرف لحبيب ولداً إلا (تماما) كان هنا محمد بن طاهر حين وليَ خراسان الخ)

قد يكون الصولي راوية عظيما في عصره؛ ولكن كتبه في اعتقادي ينقصها التحقيق العلمي وكلها حلقات من روى فلان عن فلان، وحدثنا. . . هذا من ناحية الرواية؛ أما ناحية الأدب فيه فلا أظنها كاملة من حيث الذوق والصقل، ولذلك فإن كتبه وكتب غيره لم تستوعب أخبار أبي تمام ولم تدقق فيها. وإننا لا نعرف إلا القليل من حياة حبيب ومعاصريه بل من حياة العصر العباسي نفسه، فالطبري وابن الأثير والمسعودي يكررون نفس الروايات، والنساخ يمسخون أسماء الأعلام، فترى الاسم الواحد يختلف باختلاف المؤلف والناسخ. ومن الصعب أن نهتدي إلى تاريخ قصيدة أو إلى تاريخ موت وزير كبير رثاه الشاعر بقصيدة معروفة. بل إن البحتري تكلم عن حوادث حربية هامة لا تتفق مع رواية تواريخنا الكبرى إذا ذكرت فيها. . . بينما تذكر الحوادث التافهة بإسهاب وفي غضونه السقيم. . .

ولو دقق حضرة الأستاذ الفاضل النظر لتبين له أن الصولي لم يكن من المدققين لأنه روى دالية للقاسم (في رثاء ابنه محمد وبنين آخرين) ولتبين له أن هذه القصيدة الدالية لا تجانس النونية كل المجانسة!

روى الصولي في كلامه عن شعر القاسم (وقال يرثي أولاده) فلم يذكر لنا أسماء أولئك البنين، بل إن المتأمل في القصيدة يرى عجباً، يرى أن البنين، إذا كان هناك بنون، هم محمد ومحمد ومحمد!

هلك البنون محمد ومحمد ومحمد

واستأثرت بهم المني ... ة والمنية موعد

وبعد أن استطرد الشاعر إلى ذكر الأحبة والقرناء الذين يطويهم الموت في أبيات معدودات عاد إلى رثاء ابنه محمد الذي يكنى بأبي علي:

أسفاً عليك أبا عل ... ي والمنايا رُصَّد

أسفاً عليك أبا عل ... ي يوم ضمك ملحد

كالبدر فارقه النحو ... س وقارنته الأسعد

والقسم الأكبر والأخير من القصيدة لم يذكر فيه الشاعر إلا ابنه محمداً، وظاهر أنه كان ابنه الوحيد:

هل لي على الحزن الطوي ... ل سوى (لبابة) مسعد

ثكلى بواحدها فلي ... س لها عليه تجلد

أُلباب إن الصبر أب ... قى للإله وأرشد

والواقع أنه لا تجانس بين هذه الدالية وبين نونية أبي تمام؛ فالدالية قصيدة فقيه زاهد، والنونية قصيدة شاعر. والواقع أنه لم يكن هناك بنون بل ابن واحد هو أبو علي محمد، والقاسم حين يقول في بدء القصيدة:

هلك البنون محمد ومحمد ومحمد

فإنما أراد التهويل من شأن مصابه بطريقة أقل ما يقال فيها إنها لا تدل على (شاعرية) كبيرة والواقع أن أبا تمام كان له ابن اسمه محمد وكان للشاعر اخوة؛ وقد رثى الجميع بأربعة أبيات من الشعر الذي تتجلى فيه شخصيته:

فلا يشمت الأعداء بالموت إننا ... سنخلى لهم عن عرصة الموت موردا

ولا يحسبُنَّ الموت عاراً فإننا ... رأينا المنايا لم يدعن (محمدا)

ولا يحسب الأعداء أن مصيبتي ... أكلت لهم مني لساناً ولا يدا

تتابع في عام بُنَيَّ واخوتي ... فأصبحت إن لم يخلف الله مفردا

ففي نونيته يقول أبو تمام:

بني يا واحد البنينا ... غادرتني مفرداً حزينا

وفي هذه الأبيات يقول: (فأصبحت إن لم يخلف الله مفرداً)

وقد أخلف الله عليه فرزقه (تماما) الذي ورد ذكره في تهنئة محمد بن طاهر عند ولايته خراسان، فمعلوم أن أبا تمام ولد سنة 192 هـ ومات سنة 231. ويمكننا أن نفرض أنه تزوج في سن العشرين تقريباً أي في سنة 212 أو 215 وأن ابنه محمداً مات صغيراً قبل العاشرة أو حواليها أي في سنة 222 أو 225، وفي هذه السنة عينها مات اخوته (تتابع في عام بني وأخوتي)

وإني أكرر أن نونية أبي تمام من رائع الشعر. وإني أدع جانباً الأبيات التي ذكرتها من قبل والتي صور فيها ابنه وهو على فراش الموت، وأجتزئ هنا بذكر أربعة أبيات أخرى من آخر القصيدة تطل من أسلوبها وكلماتها روح حبيب:

تصرف الدهر بي صروفا ... وعاد لي شأنه شؤونا

وحز في اللحم بل براه ... واجتث من طلحتي فنونا

أصاب مني صميم قلبي ... وخفت أن يقطع الوتينا

فالمرء رهن بحالتيه ... فشدةً مرة ولينا

ولم يرو الصولي البيت الثاني

وقد نظم أبو تمام الأبيات الدالية التي رثى بها اخوته وابنه محمداً بعد النونية، ويظهر أنه عند نظمها كانت امرأته (تحمل) تماما. . . الذي مات عنه صغيراً، وقد ولى محمد بن طاهر خراسان في سنة 248 فتكون سن تمام وقت تهنئته ابن طاهر 25 سنة تقريباً، ولا أظن تماما روى عن أبيه شيئاً، لأنه لم يكن يتجاوز الثامنة أو التاسعة عند موته

ولعل فقدان حلقات كثيرة في حياة الشعراء وعدم وجود ملكة التمحيص والتحقيق هما اللذان دفعا الصولي إلى نسبة نونية أبي تمام إلى القاسم لاشتراك ابنيهما في الاسم والكنية

ولنعد الآن إلى الأبيات التي صور فيها الطائي ابنه وهو صريع الموت والداء:

آخر عهدي به صريعاً ... للموت بالداء مستكينا

إذا شكا غصة وكربا ... لأحط أو راجع الأنينا

يدير في رجعه لسانا ... يمنعه الموت أن يبينا

يشخص طوراً بناظريه ... وتارة يطبق الجفونا

ثم قضى نحبه فأمسى ... في جدث للثرى دفينا

وقد جاء في الديوان بعد ذكر القصيدة النونية ما يأتي:

وقال في أخ له وحضر وفاته

لله مقلته والموت يكسرها ... كأن أجفانه سكرى من الوسن

يرد أنفاسه كرهاً وتعطفها ... يد المنية عطف الريح للغصُن

فملكة التصوير واحدة في القطعتين؛ وملكة التصوير هذه لا تجدها إلا عند فحول الجاهليين والإسلاميين، وهي خاتم الجلال العتيق الذي يزين ملامح الشعر العربي وميسم الحسن والروعة والجمال.

د. محمد صبري



مجلة الرسالة - العدد 565
بتاريخ: 01 - 05 - 1944

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...