الأهداء:
إلى كل الذين رحلوا عنا من غير وداع، ضحايا أبرياء.
تهضتُ لرؤيته متوجها نحوي، مددت ُ له يدي أصافحه و قد أنتابني شعور من الغبطة. علت ْ سحنة حزن كظيم ملامح وجهه الذي بدا لي و قد تغضن أكثر من ذي قبل. جاءني صوته هاشا و مرحبا بفرح مفاجئ. ظل واقفا يتطلع في ّ وكأني به يتفحص ملامحي بعد غياب قسري. جلسنا من دون أن يقول شيئا. قلتُ متسائلا بنبرة ود.
– أراك َ بعد غياب، أكنت َ مسافرا؟
– معتكفا.
وجدته ما يزال يتحدث بكلمات و عبارات مشفرة.
– أين؟
– في رحاب صمت يسكن دخليتي منذ سنين.
– و علام هذا الإعتكاف يا صاحبي؟
– و لـِم َ لا اعتكف يا صاحبي؟ فالدنيا ليست للفرجة.
– و ليست للإنزواء.
– و الإنزواء يعني عندي التأمل و ليس الإنكفاء.
– اجل، هذا شيء حسن، و لكن الحياة ينبغي ان تـُعاش.
– و ينبغي ألا تنتفي منها العاطفة و الفن و الجمال و إلا هي يباب.
صمت َ قليلا ثم أنساب صوته هادئا :
– كثيرا ما أعود إلى دخيلة نفسي متأملا و محاولا أن أواءم بين الحياة و الآراء، فكل شيء في عالم الحياة، بالنسبة لي، غامض و مضطرب، في حين أجد كل شيء في عالم الآراء واضحا بيد أن الآراء ليست
جميعها ذات قيمة واحدة على حد وصف سارتر.
– لكنها تبقى هي أرآء يؤمن بها المرء و ينشغل بها ما دام حيا، و عليه أن يجـِدَ كثيرا ليجعلها سبيلا إلى السمو و الكمال في هذه الحياة.
– يا صاحبي، بوسع المرء ان يحيا في عالم أقل كمالا و لكن عليه أن يجعل هذا العالم عالما أكثرعدلا و أكثر سلاما و أكثر حرية، و ينبغي أن نتذكر أن الحياة ليست نشاطا آليا فحسب.
صمت َ و راح يحدق في السماء، مسرحا البصر في المدى العاري المترامي في الأفق البعيد، و همس و كأني به يناجي شخصا آخر :
– أريد أن أحيا حياة عادية أليفة، تكون بحق جديرة ليس بالأحترام فقط بل بالأعجاب أيضا. قرأت ُ ذات مرة قصيدة لشاعر صيني قديم أسمه (لاو- تزي) عاش قبل ألفي عام يقول فيها :
” لقد غـُطت ْ الأرض بجثث الأبرياء بغية الوصول إلى النصر.
لا يوجد جمال حتى في النصر،
و ذلك الذي نسميه جميلا
هو من أولئك الذين يجدون السرور في المذابح.
و الذي يجد السرور في المذابح،
لن ينجح في طموحه الهادف إلى السيطرة على العالم.
أن تأوهات حزينة رافقت، و لا بد، الجماعات المذبوحة،
لذك ينبغي ان يـُحتفل بالنصر، حسب الطقوس الجنائزية. “(*)
– و هكذا يا صاحبي لا أريد أن (اقف منحنيا أمام أمجاد ملطخة بدماء الأبرياء) من الجنود و النساء و الأطفال، أني أمقت ُ كل ذلك مقتا شديدا. أتدري ماذا قال غاندي عن لعبة الشطرنج ” أني لم أكن أرغب بتعلم الشطرنج، لسبب بسيط هو أني لا أريد أن اقتل جيشي و جندي لكي يحيا الملك.” أي نبل يوازي هذا النبل؟ لقد أشتد بي الألم و أنا أرى إقتتال الناس في بلدي. كم تمنيت ُ لو ان لي فرصة للتسوية مع العالم الذي كثيرا ما أجده في خصومة معي، أنى’ لي أن أحيا مع أولئك الذين أغتصبوا أحلامي كما تـُغتصب العذارى و داسوا بلا رحمة على مرابع طفولتي و صباي و رجولتي كما داسوا على سنابل القمح في حقول أهلي؟ أني أجد الآن يا صاحبي أن جهود الفنانين و المبدعين الآخرين و نتاجاتهم التي قضوا سنين أعمارهم في إنجازها (تساوي رصاصة طائشة من قاتل مجهول) و قد يكون مأجورا، غير أني على الرغم من كل هذا الأذى و القهر،لا أزال أومن تماما أن ليس بوسع كف أن تحجب قرص الشمس،كما قالوا، لذا يا صاحبي، ستبقى أعمال الفنان و المبدع عصية على القهر.
– أجل يا صاحبي، أنك محق تماما فيما ذهبت إليه، غير أني أود أن أكرر ما قاله سارتر (ليست الفضائل و العيوب موزعة توزيعا عادلا.) علينا أن نقف بوجه مـَن ْ يريد لنا الهوان و الخنوع، علينا الصمود ليكون وجودنا صرخة يردد صدها إرادة الحياة فينا.
– لقد أصبت َ، كثيرا ما أجدني أردد في خلوتي تساؤلا : كم هم الذين واجهوا الموت بكبرياء؟ ليس الأنبياء و الأولياء والقديسيون وحدهم الذين فعلوا ذلك فقط بل الناس العادييون الذين يجوبون الأرض حفاة وأشباه عراة ،وكم هم أولئك و كم هم هؤلاء؟ لقد قدر الله سبحانه الموت على الأنسان بيد أنه لم يفوض أحدأ بقتل عباده. للأسف الشديد أن يكون قدر الحياة منوط بالقتلة و السفاحين.
لاذ بالصمت و السرحان ثانية، ثم أشعل سجارة أخرى و راح يمتصها بنهم. ألتفت إليّ و قال :
– أحس أن أحزاني أكبر كثيرا من جراحاتي ،كيف تكون الدموع أكبر كثيرا من العيون الباكية؟ و كيف تكون الآلام أكبر كثيرا من القلوب المتوجعة؟ و كيف تكون الأحلام أكبر كثيرا ً من الخيال؟ في صدري تعتلج عوالج كبيرة فتقض مضجعي ليلا وتهصر أحاسيسي نهارا، فكيف أحيا؟ أنها تستحوذ على كل خاطري، أحس بها رياحا يسكن عويلها أعماقي. يمتلكني تقززاً كبيراً من فحش الرغبات و قذارة الطموحات و شناعة الأفعال لدى كثير من الناس الذين أعرفهم دعاة دين ومحترفي سياسة و دعاة مبادئ زورا ومحتالين وأكلة السحت الحرام. غير أني لا أريد لنفسي أن تتخلى عن تعطشها للطهر والعفاف، أريدها أن تسمو فوق كل عهرهم وسفالتهم و كذبهم، و مأساتي يا صاحبي، أن لا مناص لي إلا أن أحيا في عالمهم، فما انأ بغجري مسكون بالترحال و بالحياة في خيمة يطويها أنى’ يشاء،. أنا أبن مدينة تغور جذورها في الماضي البعيد. كم هي مضنية الآن رغبتي في أن أعيش بوئام مع الذين هم من حولي؟ لا أريد لعواطفي أن تكون مثل رياح تعصف أشجارا عارية الغصون. مع الأيام أجد خوالجي و قد تلونت بأحاسيس شتى. لا أريد ان تكون لي أفكار العوام، كم أتمنى الآن، يا صاحبي أن أحيا في وفاق مع العالم كله، بيد أني لا أريد أن أكون إمرئاً بذهن يعاني الأنشطار و الأضطراب.
تأملته بصمت محاولا أن أستشف ما يجول في خاطره ثم خاطبته مواسيا :
– أراك َ ترهق روحك التي تعيش في عالم الأحلام بعذابات مخاضات موجعة لتكون أنسانا مبدعا خلاقا و معطاء و ليس بأنسان عادي يشكل رقما بين الأحياء، أنك أنسان رهيف الحس و ذواق، بيد أنك كثير التأفف من كل ما تجده مبتذلا و مجافيا للذوق عندهم.
تطلع لي مليا من خلال غيمة خفيفة من دخان سيكارته وقال :
– هناك مـَن ْ يحسبني سعيدا بمنجزي الأدبي، بيد أني أجد سعادتي بتعلقي بالحياة و دفئها، في أعتقادي أن هذا وحده ما يمنح العمل الفني الحياة وعلى الفنان أن يعانق ذلك الدفء،أن السعادة عندي أحساس بأنجاز واجب وطني وأنساني.
ثم لاذ بالصمت مطرق الرأس محدقا في الأرض وكأنه يراها توا، بعد برهة صمت، أنساب صوته برزانة :
– الفنان أنسان آخر بطبائع غير مألوفة، أنه ليس بأنسان بليد، يسير في قطيع من غير أن يمتلك هوية تجعله متميزا ً، علي ّ أن أمتلك هوية تعبر عن خصوصيتي، أنك تعلم جيدا كم هي معاناة الفنان عند الخلق والأبداع وقد يصيبه الأعياء في مرحلة ما، غير أنه يأبى أن يتوقف. أني أومن أن هذا هو قدر الفنان المبدع، قد يعيب الناس عليه نزعته إلى عدم المألوفية التي يجدونها في ملبسه و تصرفاته وغرابتها و قد يتهموه بأنه ” مبتل بعوار ” وأنه مصاب بنوع من الجنون لأنه لا يحذو حذوهم، وهذا ما لا أستطيع عليه صبرا. أتدري يا صاحبي كم تمضني شدة الضنى حين أتصور أن ليس لي نصيب في العطاء في بلدي؟ (لفته نوبة صمت مفاجئة، ثم واصل حديثه بنبرة أكثر شجنا) كم أتمنى أن أجد نفسي وحيدا تحت رذاذ شلال من الفرح، ان أحزاني نوارس بأجنحة بيض، تحوم محلقة في خاطري و في صميم وجداني، لقد أدركت ُ الآن أن لحظات السعادة هي اللحظات الأقصر عمرا ً (بتسم) لقد أصاب الحقيقة مـَن ْ قال (لا ينبغي أن ْ تكون ضريبة على السعادة.)
صمت قليلا و شرع يدخن سيكارة أخرى ثم قال :
– طال بي التجوال في الطرقات شبه الخالية من الناس، لذا وجدت ُ متسعا من الوقت يا صاحبي لأستمتع بوداعة الشمس الغاربة و هي تلملم بقايا النهار و ترحل به إلى ما وراء الأفق و تتيه نظراتي في الفضاء و في ضوء المغيب الخافت الذي شرع يسدل العتمة على المرئيات في الكون، أحب لون السماء و لون النجوم، عندها أجد في ذلك حريتي وأدرك أن الأبتعاد عنها أشد انواع العبودية إيلاما.
توقف عن الكلام و سرح بصره مرة أخرى في الأفق البعيد لائذا بالصمت من جديد و فجأة جاءني صوته كبوح شجي :
– ثمة أشياء غير مرئية أجدها تدحض قناعاتي غير الراسخة في أعماقي و تضج في راسي توجسا ً تتسع مدياته في دخيلتي، فأحاول النأي عنها، بيد أني أجدها ضيقا يشتد مع الأيام. مـَن ْ يشرح لي هذا الظلامة الغريبة التي تسكن دخيلتي !! لـِمَ تسكنني كل هذه الأشياء الرهيبة التي تأخذ بخناقي عند التفكير بها؟ و كثيرا ما أستفيق من وهدة يأسي وأدرك بعد حين أن عالمنا مثل الذي سبقه، عالم (تتقاسمه الملائكة و الشياطين) وأجد الأطمئنان فيه صعبا. أتدري ما يقال عن الفرق بين الولي الصالح و اللص؟
– بلى،الأول رجل صالح و تقي و ورع و منزه من كل نقيصة و رذيلة و محب للخير، اما الثاني فهو النقيض منه.
– أتدري كيف يفكر كل منهما عند مجابهة الخطر النازل به؟
– هناك من ْ يقول أن الأول يستسلم للموت سريعا قدرا فيشرع يتلو مع نفسه أدعيتة،أما الثاني، اللص، فأنه يشرع بالتفكير بألف وسيلة طوقا للنجاة و الخلاص من الموت.
– لذا لا أريد أن أكون وليا صالحا و لا أن أكون لصا و هذه هي يا صاحبي محنتي كفنان مدرك لطبيعة ما يجري في بلده و لأهله. هناك من يغتصب حق الأنسان البسيط و المغلوب على أمره في الحياة.لقد ولى زمن معجزات الأولياء، و على الإنسان العادي أن يخلق لنفسه ما يشبه المعجزات، إننا بحاجة لمن يمنحنا الأحساس بالقدرة على العطاء من غير معجزة و أن ينأى بنا عن حالة الخواء الصعب التي نعيشها بعد ما جرى ويجري لنا و فينا، أني أجد ثم َ نهم حيواني شديد الخراب يسكن الكثيرين و يجعلهم أعجاز نخل خاوية.
صمت َ هيهنة ثم عاود حديثه بما يشيه البوح :
– أني أجدها مصيبة كبيرة في هذا الزمن، أن يعيش الأنسان بكل حواسه، فتحاضره، فيتلقى الصدمات من كل جانب وفي كل الأوقات، لذا ستكون المصيبة أكثر هونا عليه لو أنه يعيش بحاسة واحدة !
أبتسم بسخرية ويأس:
أدركت ُ ما كان يعتمر في أعماقه من لواجع وأنكسارات على الرغم من همته العالية. ليس بوسعي أن أنحي عليه باللآئمة لما هو فيه، فلقد عرفته شديد الأيمان بالعدل والمساواة والسلم ومحبة الناس ومترفعا عن المنافع الشخصية، أنه صاحب فكر فلسفي وليس فكراسياسيا أو عقيدة دينية منغلقة أو مذهبية متعصبة، كان ممتلا ً ذكاء و قدرة وهذا ما يجعله سريع التأذي وكثير التألم .
لزمت ُ الصمت ورحت ُ أصغي إليه وهو يتحدث من غير أن ينظر لي، أدركت ُ أن حزنه ليس حزن جسد،بل أنه حزن يسكن نفسه ومصدره العقل، قد يعاني المفكر من نوبات ألألم الفكري، وكذلك الأديب و الفنان، بل كل من يكون له نصيب من الوعي، جاءني صوته يسف عبر طبقات من الأسى في أعماقه :
– تحسبني يا صاحبي أنظر إلى الأمور من زاوية مؤسية، أني أدرك أنه ينبغي أن يكون الكاتب شاهدا على الحقيقة، شاهدا صادقا.
قاطعته و كانت هذه أول مرة قاطعه محاولا النأي به بعيدا عن الشعور باليأس :
– علينا النظر الى الجانب المشرق من الحياة، أن نتجمل بالأمل في حياة أفضل وبهاء وسعادة.
– ولكن الأمل، يا صاحبي، لا يمكن أن يضاهي الحياة نفسها، لأنها لا يمكن أن تختزل بشيء واحد، و لكن، أخبرني كيف يكون شكل الحياة بعد أن تزول منها العدالة؟ أليس من المؤسف جدا أنه ليس هناك قانون من قوانين العالم يعاقب المرء على بربريته؟ حتى قوانين مجرمي الحرب غير مجدية، أنها أنتقائية، تحاسب المنهزمين وكأنهم وحدهم المجرمون.
– بيد أنه من الخير دائما أن يحتفظ الأنسان بأمل مهما أشتد العذاب ومهما عم الخراب والدمار، أنني أختلف معك، أنني أرى أن الأمل مضاهي للحياة، إن ْ لم يكن هو الحياة نفسها، علينا التحرر من ربق الشعور بالخذلان ومن النظر المستريب للأمور.
تطلعت ُ إليه متأملا ً سرحانه و أدركت ُ أن الألم الذي أخذ يهصر قلبه الرهيف، ما هو إلا هبة وجع لاذعة و هبة لاذعة لأشواق دفينة و حسرات ترقد في أعماقه منذ زمن بعيد.أنه ألم يجعله يتجول الآن في غياهب ليل بهيم يشق سكينته ووهدته عواء ريح باردة جدا تهب عليه من وراء ظلمة الليل لتـئـد تأمله ولتملأ قلبه بقلق، قد يكون وليد أمل يشده إلى الزمن الآتي. أتذكر ما قاله لي ذات يوم أن الجراح وحدها لها ذاكرة قوية، بيد أن الحزن و الفرح لا ذاكرة لهما، وهذه هي خلائق الدينا.نهض مودعا من دون ان يلقي عليّ نظرة و سار وئيد الخطى، مطرق الرأس، تثقل كاهله الهموم الكثار. أدركت ُ الآن ما هو فيه من ألم وخيبة، فبعد سني عمره ما يزال حاله اليوم كما كان بالأمس و كأن العمر قد مر به من غير ان يعي همه و ألمه، فهذه احلامه حزينة ملئية بالحسرات و الخيبة،جاعلة أيامه رتيبة بلهاء و بليدة، لقد أكتسى وجهه سحنة كئيبة، و بدا لي أنه في متاهة تتسع في دخيلته نوعا من الرهبة المبهمة التي تتكاثف شيئا فشيئا و تصبح ستارة غير مرئية من غبش ضبابي فتحول بينه و بين تأمل الأشياء من حوله و الأستبصار بها.لقد عبث الحزن كثيرا بملامحه و لم يكن يوما من الأيام طليق الهموم و المتاعب، فكم طاش سهمه فترك فيه غصة الفشل و الخيبة و الخسران؟ وكان كل ما يصبو إليه أن يضفي الزمن على حياته فرص عطاء اكثر و أن لا يزيده أحمالا أخرى من الضنى والعذاب فيتحطم قلبه الواجف، كثيراما كنت ُ أراه يجلس وحيدا يتأمل دخيلته المفعمة بالغم و التحسر، لم أره و لو لمرة واحدة فرحا باسم الثغر.
مرت بنا الأيام ولم أره أو أسمع عنه شيئا، أنقطعت عني أخباره مما بعث فيّ قلقا وأشتدت وطأته مع الأيام. طال بي ّ الأنتظار من دون جديد عنه، سألت ُ عنه أصحابنا الذين حسبتهم قد يعرفون عنه ما يهدئ نوبات قلقي التي راحت تستفحل بمرور الأيام. زرت ُ مكان عمله و فوجئت ُ أنه غائب منذ أيام و أنهم لا يعرفون سر تغيبه و هو المعروف عنه إلتزامه.ضجت ْ في رأسي الظنون و أخذتني بعيدا.
ذات صباح وجدتني قاصدا أهله يحدو بي ّ أمل و رجاء بأن أجده سليما معافى أو قد يكون مسافرا و سوف يعود، لم يخطر لي أنه قد هاجر كغيره، فأنا أعرف رأيه بالذين هاجروا و يهاجرون، أنه يرفض هذا بتصميم أكيد و إرادة واعية.
فوجئت ُ بالوجوم الذي يسكن داره التي كانت تضج بصبيته الأربعة الذين تقاربت أعمارهم. طرقت ُ الباب وجلا كمن ْ يخشى إيقاظ شيء يخشاه و يتطير منه. تسارعت نبضات قلبي الواجف و أتسعت خشيتي حين تأخر الرد و أطلت من رأسي الظنون. بعدها أطل علي ّ وجه صبية لا يعطيها العمر أكثر من عشرسنوات، و قد أكتسبت ملامح وجهها البريْ سحنة إنكسار و حزن كظيم. تطلعت ْ في ّ بعينين لا يزال الحلم يتألق فيهما أملا و رجاء رغم حزنهما الشفيف، كلمتني من خلال ذلك الحزن الذي تسلل إلى نبرات صوتها الرقيق محاولا ً الوصول إلي ّ عبر طبقات الأسى غير المرئية في دخيلتها و سألتني :
– ها، عمو ماذا تريد؟
– أريد بابا، أنا صديقه، أني لم أره منذ ايام و جئتُ…
قاطعتني نهنهتها ثم نشيجها الذي لم تفلح بكتمانه فغلب على نبرات صوتها.
– بابا مفقود و لا نعرف عنه شيئا، ذهب إلى عمله و لم يعد.
– قلت ُ مندهشا بصوت عال : ماذا تقولين؟ كيف و متى؟
– منذ أيام.
– أين أمك ِ؟ أريد أن أعرف المزيد عنه.
– أنها حزينة وقد مرضت ْ.-
جاءني من الداخل صوت أنثوي قد شفه الحزن يسأل الصبية. بعدها أطل علي ّ وجه كئيب لا يزال رونق الشباب يتألق في قسماته التي شفها حزن وقلق و إنكسار و لم تفلح طرحتها بلونها الغامق في أخفاء أي منهما. رفعت ْ إليّ عينيها اللتين مضهما ذلك الحزن والسهر و القلق المبهم.جاءني صوتها كسيرا يسألني :
– أخي من أنت و ما ذا تريد؟
– أني صديق زوجكِ، فقلقد طال عليّ غيابه فشغلني ذلك كثيرا. أحقا ما تقوله صبيتك ِأنه لم يعد منذ أيام؟
– أجل، يا أخي، لم يعد من عمله يوم خرج، و ما من أحد يعرف عنه شيئا، أني خائفة عليه،سألنا في المشافي ومراكز الشرطة فما من أحد يعرف عنه شيئا. ربما قد خـُطف أو قـُتل غدرا أو أنه سجين في مكان ما، لكنه وأنت تعرفه، رجل مسالم وديع ومحب للخير، أنه فنان رهيف الحس ورقيق المشاعر وحسن الطوية ومحب للناس كلهم فلا يحمل ضغينة لأحد، لقد أتسعت ْ دائرة حزنه في الآونة الأخيرة وهو يشهد ما يجري للبلد الذي يهم عشقا ً به بعد أن ملك عليه كل وجده،بل كل شيء وخاصة فنه، كنت أراه يحاول الخروج من ذلك الحزن وهو يتسلق أسواره بحبال كلمات إبداعه التي يجود بها قلمه. لقد صاغ آلامه و آلم الناس الذين يعشقهم بكلمات عالية الصوت، صرخات ضد محاولات أغتصاب إرادة الحياة فينا، كنت ُأرفق به فأناشده الرأفة بحاله وبنا غير أنه كان يرد أنه ليس بوسعه التنازل عن الحياة، هبة الله لنا.
لاذت ْ بالصمت قليلا ثم أنبرت متساءلة بخوف:
– أ تراه عائدا حيا ً لنا بعد الذي حل به؟
– يا أخت، أتمنى له السلامة والعودة السريعة لكم وليفرج الله عنه كربته ويخرجه منها. أني أسألك الآن إذا كان هناك علي ّ ما أفلعه من أجلكم؟
– أدعو الله أن يكتب له السلامة والعودة إلى صبيته آمنا ً وأن ينجيه من كل مكروه.
قفلت ُ عائدا مخذولا ً يملؤني قلق و تطير، متذكرا ً ما كان يحدثني به طويلا ًعما كان يدور بخلده و يعتمر في صدره من هم وكرب و توجس. كنت أجده مضيض ود أبدي للوطن الذي يجده مثخنا ً بالجراح من كل لون، الود الأبدي للناس فيه و خاصة الأبرياء من الفقراء والعاديين الذين لا يملكون في وطنهم الثري غير حرمانهم ومعاناتاهم و خيباتهم ،الذين كان يصفهم بعباد الله المخلصين و الذين ينحرهم يوميا ً الأرهاب و صراعات السياسين الذين لا يحسنون غير الحفاظ على ما أكتسبوه من عز و جاه ونعيم وليتمتعوا لوحدهم بخيرات البلد كلها.
وجدتني سائراً في طريق حملتني إلى رحابته، قدماي من دون وعي و قاصدا ً مقهى كنا كثيري التردد عليه معا، أنتبذت ُ مقعدا ً منزويا ُ في طرف المقهى، جلست ُ و كأني أستعيده في جلستي. لذت ُ بالصمت مستعيداً أيضا طقسا ً من طقوس خلوته هو، كان يجلس معي صامتا ً و كأنه ناسك يتبتل في صومعته، و هذا ما كان يغريني في جلسته و كثيراً ما أجده يـُحمـّل نظراته أسرار صمته، فتأتني ذبذبات مشفرة، و كنت ُ أجلس مستأنساً بتلك الوداعة، قال لي ذات مرة و هو يسرح بصره بعيدا ُ كعادته حين تستحوذ على فكره هواجسه :
– كم كان يحلو لي صوت أمي وهي تغني لأخي الرضيع وهي تهدهده وهو في حضنها، كان الشجن ينساب من ثنايا ذلك الصوت وأسال الآن نفسي من أين لأمي تلك الحلاوة في صوتها؟ هل من جمالها أم من طيبتها أم من وداعتها؟ كم مسكينة هي أمي ! حينها تأخذني موجة أسى’ و تصطخب في رأسي تساولات كبيرة، من ْ منا، أنا أم هي، المحروم الذي ذبحت ْ عواطفة و أحلامه بصمت على مذابح الحرمان؟ كنت أعجب كثيرا من صمتها وتجلدها و صبرها، فما رأيتها يوما شاكية ما هي فيه، و غالبا ما كنت أجدني في حيرة من مواجهتها المتاعب و الحرمان بصمت، حيث كانت تلوذ بالصمت و كأنها مسكونة به،و كنت أتطلع إليها بأندهاش، بيد أني يا صاحبي، أني الآن احمل لها نوعا من الرثاء و أحينا ً أجدني معاتبا ً لها لأنها أورثتني صمتها و وداعتها، و بودي الآن أن أعرف ما كان يجول بخاطرها، أ كانت تصطخب في رأسها أفكار و تساؤلات مثل ما تصطخب في رأسي الآن؟ ربما قد أورثتني أيضا ً هذا، أنني أتذكرها الآن بأغتباط، فعلى الرغم من فقر حالنا و قسوة ظروفنا، كانت تبدو أنيقة في ثوبها البسيط الذي أعادت خياطته أكثر من مرة، أنيقة في ملامح وجهها الدقيقة و ملاحته و لون عينيها و نظراتها السارحة دائما ً. كانت تجلس في الشمس أيام الشتاء الصافية و هي تمشط شعرها و تترك ضفائرها طليقة على كتفيها النحيلين، أنني الآن ارثي لحالها لأنها لم تطلق العنان لذلك الشعر الجميل ليسافر في كل الدينا كما يقول نزار قباني. أدرك الآن أن الحياء و الخفر سلبا من أمي أنثوتها و زهو شبابها. أنني الآن أسال نفسي : أكان لأمي أحلام الصبايا التي تثقل عواطفها و التي ظلت حبيسة الحياء والخفر؟ مسكينة هي أمي و كذلك الأخريات من أمثالها، يبدو أنهن كن يجهلن سبب تعاستهن. أجد أن القدر قد أساء كثيرا ً لهن حيث لم ينصفهن فأصبحن جزء من الحشد البشري الذي يعيش الحرمان و غصاته، أتدري ما يجول في خاطري و أنا اسير في المتنزه و تحت أقدامي أوراق شجر صفراء، لماذا تسقط هذه الأوراق في الخريف، هل أنقضى عمرها فيه كما يقال؟ و لكن لماذا تسقط في الخريف دون غيره؟ و تحزنني فكرة ان الإنسان الفقير يعيش كل عمره خريفا و تتساقط أوراقه بلا توقف إلى أن يستحيل إلى شجرة بأغصان عارية، تتساقط أحلامه في الحياة المنعمة. ألا ترى أنها قسمة ضيزى؟
مرت ْ بيّ الأيام دون أن أسمع عنه ما يبعث فيّ الطمأنينة و ما يخفف من وطأة حمى التوجس التي أخذت ْ تتزايد كل يوم، فتمتلك كل وجدي و خواطري.كان عليّ أن أقصد أهله عسى أن أجد عندهم خبرا ً يبعث فيّ الرحاء، و أن يفتح فجوة في جدار التوجس ليدخل منها الأمل بعودته سالماً. أقتربت من الدار التي يلفها الوجوم، فبعث في قلبي قلقاً قاسيا ً فتطيرتُ منه و ضجتْ في رأسي الظنون. طرقت ُ الباب بلهفة يشوبها كثير من الوجل وسرعان ما أطل وجه الصبية التي أنبرى صوتها الرقيق متلهفا لخبر ما.
– أهلا ً عمو، هل عرفت َ شيئا ً عن أبي؟ هل سمعت َ خبرا ً عنه؟
– لا شيء جديد يا أبنتي.
– أسيبقى أبي مفقوداً و مجهول المصير؟ أن أمي طريحة الفراش و لا تقوى على النهوض، أتظن يا عمو أنه لا يزال حيا ً و أنه سيعود إلينا حتى و لو بعد حين؟
أجهشت ْ بالبكاء بصوت عال. شعرت ُ بدوار و ثم َ غبش ضبابي بيني و بين هذه الصبية. أسندت ُ ظهري إلى الجدار القريب.
– خير عمو، أأنت مريض؟ أدخل لتسترح، لقد شحب لونك و علت ْ الصفرة وجهك، تعال و استرح قليلا ً.
دخلت ُ الدار بخطى مضطربة و شعرت بجسمي ثقيلا ًفأرتمت ُعلى أول كرسي في غرفة الجلوس وثمة ضجة كبيرة تتردد في رأسي. بعد أن أفقتُ، رأيتُ الأشياء و الصبية من حولي أطيافاً بلا ملامح وبالوان الطيف التي أخذت تتداخل مع بعضها لتشكل أشياء ليس بوسعي إدراكها أول وهلة، أفقت ُ على أصوات الصبية وأخوانها وأخواتها الصغار من حولي و هم تحت سلطان قلق مبهم. رأيتُ أحدهم يحمل قدح الماء و هو يقدمه لي قائلا ً :
– أشرب عمو،ثم أغسل وجهك، أنك متعب جدا.
سكبتُ قليلا من الماء في كفي ورحتُ أمسح به وجهي مرات. أدركت ُأنني زدتُ هؤلاء الصبيـّة هما ً آخر، نظرتْ الي ّ الصبية بعينين يتعلق في أهدابها الحزن و تتسرب من خلالهما نظرة بائسة منداة بدموع و كانت نبرات صوتها واهية و رقيقة محملة بأسى يسكن أعماقها الطرية و يلون سمات طفولتها.
أمضينا الأيام منتظرين عسى أن يـُقرع باب بيته و أن يـُفتح عن وجه من يحمل بشرى عودته سالما ً معافى و لكن تعاقبت تلك الأيام من غير قارع باب و لا حامل بشرى. جالت في خاطري صورة ملامح وجهه و قد عـلت محياه أمارات أبتسام واهن. كنت ُ أجد فيه نوعا من جمال الطمأنينة و الدعة و السلام و الأيمان الذي أعتمر به قلبه منذ طفولته، يوم كان يصحب أمه لزيارة قبور الأئمة الأطهار والأولياء الصالحين و تعلم منها، من دون وعي، تبتلها وخشوعها و هي تقف بجوار أولئك الذين تسميهم رجال الله، ومن يومها و قلبه يفيض سلاما ومحبة وإيمانا، وتعلم أن (قلوب الناس لا تعيش الطمأنينة بقوانين المادة في الحياة بل بقوة الأيمان) وقد أرهقته مطاليب الحياة الكثيرة تماما، غير أنه لم يبد ِ لي شاكيا أو متذمرا، حتى أني كنت أقول له مازحا ً ” هل أمتهنت َ الصمت يا صاحبي؟ ” فيرد بأبتسام واهن فقط، و أحيانا كنت أرى على وجهه النحيل تقطيبة تنذر بشيء غير سار. كما كنت ُ أرى شعرا ابيض في ذوائبه، أنها علامة شيب مبكر وأعود ممازحا له “روحي خطية، يا حيف إجاها الشيب، روحي خطية.” و يرد عليّ بهزة رأس و أبتسام واهن أيضا.
عصر يوم بعد أيام من زيارتي لأهله، رن هاتفي و كانت صبيته تطلب مني زيارتهم على الفور. لملمتُ ما بقي في نفسي من أمل و رجاء و ذهبت إليهم. دخلت ُ الدار و جلست في غرفة الضيوف منتطرا ً أن أسمع خبـرا ً رجوت ُ الله أن يكون خيرا ً، وتلونت عندي الأماني بلون الأمل بعد لون الخوف و التطير.
أطلت ْ علي ّ زوجته بجسدها الذي بدا لي يومها ينؤ تحت أحمال غير مرئية و على رأسها طرحتها بلونها الغامق و في فمها كلمات مقتضبة. خطت ْ خطواتها و كأنها ناقهة من مرض ألم َ بها من فترة طويلة ثم تهالكت على أريكة قريبة، وجلس صبيتها يحيطون بها. نظرت ُ إليها فوجدتُ مساحة الحزن قد أتسعت في قسمات وجهها، و حين تحدثتْ إليّ، أحسستُ ان الحزن لا يزال يلون نبرات صوتها وأن الخوف يحيل كلماتها القليلة إلى إبتهال و هي تكابد غصة كبيرة و قد عيل صبرها فلم تعد قادرة على الأحتمال، و هذه الأيام تمر بها و هي نهب للظنون، ظنون وليدة الخوف و التطير من قادم الأيام.قالت :
– أتصل بنا أحدهم قائلا أن زوجي بخير و يسلم علينا، و لكنه قال أنهم يريدون منا فدية، مبلغا من المال، ملايين الدنانير، لكي يطلقوا سراحه و حددوا الموعد بأيام معدودات لا غير و قد حذرونا من الأتصال بالشرطة أو دوائر الأمن. أننا لا نملك شيئا ً غير هذه الدار البسيطة. أريد بيعها لأفتديه بها، ليس عندي من بديل آخر، لقد قررت أن أبيع الدار، فليست هي أغلى منه، أنه زوجي و أب أولادي، غير أن أجراءات البيع قد تأخذ وقتا و أستلام المبلغ قد يتأخر و كذلك تسليم المبلغ لهم قد يتجاوز المدة التي حددوها لنا، ساعدنا، كيف أتدبر الأمر؟ لعل عندك فكرة أو رأيا يفيدنا؟
– انت ِ تعلمين أن حالي مثل حالكم، قد أسأل أصحابنا المساعدة بيد أنهم غير قادرين أو أنهم عاجزون أصلا، أفعلي ما تجيدنه أكثر جدوى و أسرع وصولا لأفتدائه، أن عودته سالما هي الضمان لكم، أنه المستقبل.
ردت بصوت منكسر يحاول أن يتشبث ببقايا أمل.
– سأحاول أن أقترض المبلغ لحين بيع الدار و أستلام المبلغ.
– نعم َ الرأي، توكلي على الله.
– و نعم بالله.
– سأحول مع بقية أصحابنا أن نفعل شيئا ً قدر المستطاع.
خرجتُ مودعا ً و مثقلا ً بهموم عاجز ليس بوسعه أن يفعل شيئاً، كنت ُ حزين النفس و منقبض الصدر. أمضيت ُ ليلتي تلك مسهد الجفن و لم أنمْ لبرهة واحدة حيث جفاني النوم بعد ما أستبد بيّ قلق قاس و أنشغال كبير، فأمضيتُ تلك الليلة فريسة أرق لم ألفه من ذي قبل.
سكني توجس شديد الوطأة، فأحال سكينتي إلى نوع من منغصات راحت تنتابني بشكل دائم و تبعث فيّ شعورا ً من الوهن و ربما الخذلان، فكيف أقف عجزا أمام محنة صديق عزيز مثله، محنة زوجته و صبيته؟ أنه الآن مركون في مكان ما و قد شـدد عليه الخناق أو أنه يـُعذب، يا ترى كيف هي حاله وهم يحيطون به و هو الرجل الوديع المسالم و الرهيف الحس و الذي عاش حياته وهو ينأى عن أذية الآخرين؟ أتراه الآن مستسلما ً لهم أو مشتبكا ً معهم؟ ما الذي يفعله الآن في غياهب إخفائه و هو الذي لم يدع الكتاب يفارقه للحظة واحدة !لك الله يا صاحبي، كيف تتعامل معهم؟
ذات مساء جاءت البشرى و جاء معها الفرح يحملهما رنين هاتفي، صوت زوجته مستبشرة لتخبرني بأنهم تدبروا الملبغ و أنهم مستعدون لتسليمه حسب الموعود. كبرت في نفسي الطمأنينة و زال عنها توجسها و تطيرها و انتعش فيها الأمل و أصبح أنتظارهم شاغلنا، كنت أرى صبيته و قد أمتلأت قلوبهم بالفرح و تحولوا إلى طيور حب زاهية االألوان تخفق أجنحتها بفرح غامر و أخذوا يشيعون في البيت حيوية و كأنهم أعادوا له الحياة بعد أيام من التوجس و القلق و الخوف المستطير.
في اليوم الموعود، جاءوا بسيارة من غير لوحة أرقام و هو جالس بين أشخاص ملثمين. كانوا قد طلبوا مسبقا أن تقوم صبيته الكبرى، زهراء، دون غيرها بتسليم المبلغ و حذروا من مغبة إخبار أحد، لا قريب أو صديق و لا رجل أمن أو شرطة و إلا قتلوه شر قتلة. أمتثلت عائلته لكل ذلك حفاظا ً عليه و ضمانا ً لسلامته. رأته صبيته بينهم و قد أبتسم لها طالبا منها أعطاءهم المبلغ و أخبرها أنه عائد لهم بعد قليل.
مرت لحظات ثم سويعات من غير أن يعود و لم يعد، بعد يوم و بعد آخر، فعادت الظنون تضج في رؤوس أهله و صحبه، و وجفت فيهم القلوب و تواني قدوم الأمل في عودته و تضاءل الفرح و بهت ألقه و عاد الوجع يسكنهم من جديد و هو اِشد إيلاماً. أتسعت مديات اليأس و اقفرت دنياهم،لا طارق باب و لا حامل بشرى. مع الأيام كلتْ القلوب و غرقت النفوس في سدف التوجس و التطير، و عظمت المصيبة و كبرت الظنون و أستحالت إلى شكوك قاسية الوطأة. تعايش أهله مع الخيبة كما تعايشوا مع وجع خطفه و غيابه، أشتدت عليهم وطأة الخيبة بعد أن أتسعت مديات اليأس في القلوب الواجفة و أستحالت إلى أطلال و خرائب تعيش فيها غربان ناعقة منذرة بكارثة و شر مستطير. مع الأيام، اضناهم البحث الخائب و عادوا يقاسون وجع الفقدان و الخسران من جديد.
عصر يوم شديد القيظ و قد أشتدت على الناس مآسي فقدان الأحبة، جاءني صديق بخبر الفجيعة، و يا هول ما جاء به، لقد عثروا على جثته مرمية على كومة قمامة، أجل على كومة قمامة قرب مكب للنفايات، في أحد الشوارع مع جثث أخرى وقد أخترقت رصاصات رأسه وصدره.
(*) أُخذتْ أبيات قصيدة الشاعر الصيني (لاو- تزي) من رواية ” الساعة الخامسة و العشرون ” للروائي الروماني ” كونستانتان حيورجيو ” ترجمة (فئز كم نقش. ص 447).
إلى كل الذين رحلوا عنا من غير وداع، ضحايا أبرياء.
تهضتُ لرؤيته متوجها نحوي، مددت ُ له يدي أصافحه و قد أنتابني شعور من الغبطة. علت ْ سحنة حزن كظيم ملامح وجهه الذي بدا لي و قد تغضن أكثر من ذي قبل. جاءني صوته هاشا و مرحبا بفرح مفاجئ. ظل واقفا يتطلع في ّ وكأني به يتفحص ملامحي بعد غياب قسري. جلسنا من دون أن يقول شيئا. قلتُ متسائلا بنبرة ود.
– أراك َ بعد غياب، أكنت َ مسافرا؟
– معتكفا.
وجدته ما يزال يتحدث بكلمات و عبارات مشفرة.
– أين؟
– في رحاب صمت يسكن دخليتي منذ سنين.
– و علام هذا الإعتكاف يا صاحبي؟
– و لـِم َ لا اعتكف يا صاحبي؟ فالدنيا ليست للفرجة.
– و ليست للإنزواء.
– و الإنزواء يعني عندي التأمل و ليس الإنكفاء.
– اجل، هذا شيء حسن، و لكن الحياة ينبغي ان تـُعاش.
– و ينبغي ألا تنتفي منها العاطفة و الفن و الجمال و إلا هي يباب.
صمت َ قليلا ثم أنساب صوته هادئا :
– كثيرا ما أعود إلى دخيلة نفسي متأملا و محاولا أن أواءم بين الحياة و الآراء، فكل شيء في عالم الحياة، بالنسبة لي، غامض و مضطرب، في حين أجد كل شيء في عالم الآراء واضحا بيد أن الآراء ليست
جميعها ذات قيمة واحدة على حد وصف سارتر.
– لكنها تبقى هي أرآء يؤمن بها المرء و ينشغل بها ما دام حيا، و عليه أن يجـِدَ كثيرا ليجعلها سبيلا إلى السمو و الكمال في هذه الحياة.
– يا صاحبي، بوسع المرء ان يحيا في عالم أقل كمالا و لكن عليه أن يجعل هذا العالم عالما أكثرعدلا و أكثر سلاما و أكثر حرية، و ينبغي أن نتذكر أن الحياة ليست نشاطا آليا فحسب.
صمت َ و راح يحدق في السماء، مسرحا البصر في المدى العاري المترامي في الأفق البعيد، و همس و كأني به يناجي شخصا آخر :
– أريد أن أحيا حياة عادية أليفة، تكون بحق جديرة ليس بالأحترام فقط بل بالأعجاب أيضا. قرأت ُ ذات مرة قصيدة لشاعر صيني قديم أسمه (لاو- تزي) عاش قبل ألفي عام يقول فيها :
” لقد غـُطت ْ الأرض بجثث الأبرياء بغية الوصول إلى النصر.
لا يوجد جمال حتى في النصر،
و ذلك الذي نسميه جميلا
هو من أولئك الذين يجدون السرور في المذابح.
و الذي يجد السرور في المذابح،
لن ينجح في طموحه الهادف إلى السيطرة على العالم.
أن تأوهات حزينة رافقت، و لا بد، الجماعات المذبوحة،
لذك ينبغي ان يـُحتفل بالنصر، حسب الطقوس الجنائزية. “(*)
– و هكذا يا صاحبي لا أريد أن (اقف منحنيا أمام أمجاد ملطخة بدماء الأبرياء) من الجنود و النساء و الأطفال، أني أمقت ُ كل ذلك مقتا شديدا. أتدري ماذا قال غاندي عن لعبة الشطرنج ” أني لم أكن أرغب بتعلم الشطرنج، لسبب بسيط هو أني لا أريد أن اقتل جيشي و جندي لكي يحيا الملك.” أي نبل يوازي هذا النبل؟ لقد أشتد بي الألم و أنا أرى إقتتال الناس في بلدي. كم تمنيت ُ لو ان لي فرصة للتسوية مع العالم الذي كثيرا ما أجده في خصومة معي، أنى’ لي أن أحيا مع أولئك الذين أغتصبوا أحلامي كما تـُغتصب العذارى و داسوا بلا رحمة على مرابع طفولتي و صباي و رجولتي كما داسوا على سنابل القمح في حقول أهلي؟ أني أجد الآن يا صاحبي أن جهود الفنانين و المبدعين الآخرين و نتاجاتهم التي قضوا سنين أعمارهم في إنجازها (تساوي رصاصة طائشة من قاتل مجهول) و قد يكون مأجورا، غير أني على الرغم من كل هذا الأذى و القهر،لا أزال أومن تماما أن ليس بوسع كف أن تحجب قرص الشمس،كما قالوا، لذا يا صاحبي، ستبقى أعمال الفنان و المبدع عصية على القهر.
– أجل يا صاحبي، أنك محق تماما فيما ذهبت إليه، غير أني أود أن أكرر ما قاله سارتر (ليست الفضائل و العيوب موزعة توزيعا عادلا.) علينا أن نقف بوجه مـَن ْ يريد لنا الهوان و الخنوع، علينا الصمود ليكون وجودنا صرخة يردد صدها إرادة الحياة فينا.
– لقد أصبت َ، كثيرا ما أجدني أردد في خلوتي تساؤلا : كم هم الذين واجهوا الموت بكبرياء؟ ليس الأنبياء و الأولياء والقديسيون وحدهم الذين فعلوا ذلك فقط بل الناس العادييون الذين يجوبون الأرض حفاة وأشباه عراة ،وكم هم أولئك و كم هم هؤلاء؟ لقد قدر الله سبحانه الموت على الأنسان بيد أنه لم يفوض أحدأ بقتل عباده. للأسف الشديد أن يكون قدر الحياة منوط بالقتلة و السفاحين.
لاذ بالصمت و السرحان ثانية، ثم أشعل سجارة أخرى و راح يمتصها بنهم. ألتفت إليّ و قال :
– أحس أن أحزاني أكبر كثيرا من جراحاتي ،كيف تكون الدموع أكبر كثيرا من العيون الباكية؟ و كيف تكون الآلام أكبر كثيرا من القلوب المتوجعة؟ و كيف تكون الأحلام أكبر كثيرا ً من الخيال؟ في صدري تعتلج عوالج كبيرة فتقض مضجعي ليلا وتهصر أحاسيسي نهارا، فكيف أحيا؟ أنها تستحوذ على كل خاطري، أحس بها رياحا يسكن عويلها أعماقي. يمتلكني تقززاً كبيراً من فحش الرغبات و قذارة الطموحات و شناعة الأفعال لدى كثير من الناس الذين أعرفهم دعاة دين ومحترفي سياسة و دعاة مبادئ زورا ومحتالين وأكلة السحت الحرام. غير أني لا أريد لنفسي أن تتخلى عن تعطشها للطهر والعفاف، أريدها أن تسمو فوق كل عهرهم وسفالتهم و كذبهم، و مأساتي يا صاحبي، أن لا مناص لي إلا أن أحيا في عالمهم، فما انأ بغجري مسكون بالترحال و بالحياة في خيمة يطويها أنى’ يشاء،. أنا أبن مدينة تغور جذورها في الماضي البعيد. كم هي مضنية الآن رغبتي في أن أعيش بوئام مع الذين هم من حولي؟ لا أريد لعواطفي أن تكون مثل رياح تعصف أشجارا عارية الغصون. مع الأيام أجد خوالجي و قد تلونت بأحاسيس شتى. لا أريد ان تكون لي أفكار العوام، كم أتمنى الآن، يا صاحبي أن أحيا في وفاق مع العالم كله، بيد أني لا أريد أن أكون إمرئاً بذهن يعاني الأنشطار و الأضطراب.
تأملته بصمت محاولا أن أستشف ما يجول في خاطره ثم خاطبته مواسيا :
– أراك َ ترهق روحك التي تعيش في عالم الأحلام بعذابات مخاضات موجعة لتكون أنسانا مبدعا خلاقا و معطاء و ليس بأنسان عادي يشكل رقما بين الأحياء، أنك أنسان رهيف الحس و ذواق، بيد أنك كثير التأفف من كل ما تجده مبتذلا و مجافيا للذوق عندهم.
تطلع لي مليا من خلال غيمة خفيفة من دخان سيكارته وقال :
– هناك مـَن ْ يحسبني سعيدا بمنجزي الأدبي، بيد أني أجد سعادتي بتعلقي بالحياة و دفئها، في أعتقادي أن هذا وحده ما يمنح العمل الفني الحياة وعلى الفنان أن يعانق ذلك الدفء،أن السعادة عندي أحساس بأنجاز واجب وطني وأنساني.
ثم لاذ بالصمت مطرق الرأس محدقا في الأرض وكأنه يراها توا، بعد برهة صمت، أنساب صوته برزانة :
– الفنان أنسان آخر بطبائع غير مألوفة، أنه ليس بأنسان بليد، يسير في قطيع من غير أن يمتلك هوية تجعله متميزا ً، علي ّ أن أمتلك هوية تعبر عن خصوصيتي، أنك تعلم جيدا كم هي معاناة الفنان عند الخلق والأبداع وقد يصيبه الأعياء في مرحلة ما، غير أنه يأبى أن يتوقف. أني أومن أن هذا هو قدر الفنان المبدع، قد يعيب الناس عليه نزعته إلى عدم المألوفية التي يجدونها في ملبسه و تصرفاته وغرابتها و قد يتهموه بأنه ” مبتل بعوار ” وأنه مصاب بنوع من الجنون لأنه لا يحذو حذوهم، وهذا ما لا أستطيع عليه صبرا. أتدري يا صاحبي كم تمضني شدة الضنى حين أتصور أن ليس لي نصيب في العطاء في بلدي؟ (لفته نوبة صمت مفاجئة، ثم واصل حديثه بنبرة أكثر شجنا) كم أتمنى أن أجد نفسي وحيدا تحت رذاذ شلال من الفرح، ان أحزاني نوارس بأجنحة بيض، تحوم محلقة في خاطري و في صميم وجداني، لقد أدركت ُ الآن أن لحظات السعادة هي اللحظات الأقصر عمرا ً (بتسم) لقد أصاب الحقيقة مـَن ْ قال (لا ينبغي أن ْ تكون ضريبة على السعادة.)
صمت قليلا و شرع يدخن سيكارة أخرى ثم قال :
– طال بي التجوال في الطرقات شبه الخالية من الناس، لذا وجدت ُ متسعا من الوقت يا صاحبي لأستمتع بوداعة الشمس الغاربة و هي تلملم بقايا النهار و ترحل به إلى ما وراء الأفق و تتيه نظراتي في الفضاء و في ضوء المغيب الخافت الذي شرع يسدل العتمة على المرئيات في الكون، أحب لون السماء و لون النجوم، عندها أجد في ذلك حريتي وأدرك أن الأبتعاد عنها أشد انواع العبودية إيلاما.
توقف عن الكلام و سرح بصره مرة أخرى في الأفق البعيد لائذا بالصمت من جديد و فجأة جاءني صوته كبوح شجي :
– ثمة أشياء غير مرئية أجدها تدحض قناعاتي غير الراسخة في أعماقي و تضج في راسي توجسا ً تتسع مدياته في دخيلتي، فأحاول النأي عنها، بيد أني أجدها ضيقا يشتد مع الأيام. مـَن ْ يشرح لي هذا الظلامة الغريبة التي تسكن دخيلتي !! لـِمَ تسكنني كل هذه الأشياء الرهيبة التي تأخذ بخناقي عند التفكير بها؟ و كثيرا ما أستفيق من وهدة يأسي وأدرك بعد حين أن عالمنا مثل الذي سبقه، عالم (تتقاسمه الملائكة و الشياطين) وأجد الأطمئنان فيه صعبا. أتدري ما يقال عن الفرق بين الولي الصالح و اللص؟
– بلى،الأول رجل صالح و تقي و ورع و منزه من كل نقيصة و رذيلة و محب للخير، اما الثاني فهو النقيض منه.
– أتدري كيف يفكر كل منهما عند مجابهة الخطر النازل به؟
– هناك من ْ يقول أن الأول يستسلم للموت سريعا قدرا فيشرع يتلو مع نفسه أدعيتة،أما الثاني، اللص، فأنه يشرع بالتفكير بألف وسيلة طوقا للنجاة و الخلاص من الموت.
– لذا لا أريد أن أكون وليا صالحا و لا أن أكون لصا و هذه هي يا صاحبي محنتي كفنان مدرك لطبيعة ما يجري في بلده و لأهله. هناك من يغتصب حق الأنسان البسيط و المغلوب على أمره في الحياة.لقد ولى زمن معجزات الأولياء، و على الإنسان العادي أن يخلق لنفسه ما يشبه المعجزات، إننا بحاجة لمن يمنحنا الأحساس بالقدرة على العطاء من غير معجزة و أن ينأى بنا عن حالة الخواء الصعب التي نعيشها بعد ما جرى ويجري لنا و فينا، أني أجد ثم َ نهم حيواني شديد الخراب يسكن الكثيرين و يجعلهم أعجاز نخل خاوية.
صمت َ هيهنة ثم عاود حديثه بما يشيه البوح :
– أني أجدها مصيبة كبيرة في هذا الزمن، أن يعيش الأنسان بكل حواسه، فتحاضره، فيتلقى الصدمات من كل جانب وفي كل الأوقات، لذا ستكون المصيبة أكثر هونا عليه لو أنه يعيش بحاسة واحدة !
أبتسم بسخرية ويأس:
أدركت ُ ما كان يعتمر في أعماقه من لواجع وأنكسارات على الرغم من همته العالية. ليس بوسعي أن أنحي عليه باللآئمة لما هو فيه، فلقد عرفته شديد الأيمان بالعدل والمساواة والسلم ومحبة الناس ومترفعا عن المنافع الشخصية، أنه صاحب فكر فلسفي وليس فكراسياسيا أو عقيدة دينية منغلقة أو مذهبية متعصبة، كان ممتلا ً ذكاء و قدرة وهذا ما يجعله سريع التأذي وكثير التألم .
لزمت ُ الصمت ورحت ُ أصغي إليه وهو يتحدث من غير أن ينظر لي، أدركت ُ أن حزنه ليس حزن جسد،بل أنه حزن يسكن نفسه ومصدره العقل، قد يعاني المفكر من نوبات ألألم الفكري، وكذلك الأديب و الفنان، بل كل من يكون له نصيب من الوعي، جاءني صوته يسف عبر طبقات من الأسى في أعماقه :
– تحسبني يا صاحبي أنظر إلى الأمور من زاوية مؤسية، أني أدرك أنه ينبغي أن يكون الكاتب شاهدا على الحقيقة، شاهدا صادقا.
قاطعته و كانت هذه أول مرة قاطعه محاولا النأي به بعيدا عن الشعور باليأس :
– علينا النظر الى الجانب المشرق من الحياة، أن نتجمل بالأمل في حياة أفضل وبهاء وسعادة.
– ولكن الأمل، يا صاحبي، لا يمكن أن يضاهي الحياة نفسها، لأنها لا يمكن أن تختزل بشيء واحد، و لكن، أخبرني كيف يكون شكل الحياة بعد أن تزول منها العدالة؟ أليس من المؤسف جدا أنه ليس هناك قانون من قوانين العالم يعاقب المرء على بربريته؟ حتى قوانين مجرمي الحرب غير مجدية، أنها أنتقائية، تحاسب المنهزمين وكأنهم وحدهم المجرمون.
– بيد أنه من الخير دائما أن يحتفظ الأنسان بأمل مهما أشتد العذاب ومهما عم الخراب والدمار، أنني أختلف معك، أنني أرى أن الأمل مضاهي للحياة، إن ْ لم يكن هو الحياة نفسها، علينا التحرر من ربق الشعور بالخذلان ومن النظر المستريب للأمور.
تطلعت ُ إليه متأملا ً سرحانه و أدركت ُ أن الألم الذي أخذ يهصر قلبه الرهيف، ما هو إلا هبة وجع لاذعة و هبة لاذعة لأشواق دفينة و حسرات ترقد في أعماقه منذ زمن بعيد.أنه ألم يجعله يتجول الآن في غياهب ليل بهيم يشق سكينته ووهدته عواء ريح باردة جدا تهب عليه من وراء ظلمة الليل لتـئـد تأمله ولتملأ قلبه بقلق، قد يكون وليد أمل يشده إلى الزمن الآتي. أتذكر ما قاله لي ذات يوم أن الجراح وحدها لها ذاكرة قوية، بيد أن الحزن و الفرح لا ذاكرة لهما، وهذه هي خلائق الدينا.نهض مودعا من دون ان يلقي عليّ نظرة و سار وئيد الخطى، مطرق الرأس، تثقل كاهله الهموم الكثار. أدركت ُ الآن ما هو فيه من ألم وخيبة، فبعد سني عمره ما يزال حاله اليوم كما كان بالأمس و كأن العمر قد مر به من غير ان يعي همه و ألمه، فهذه احلامه حزينة ملئية بالحسرات و الخيبة،جاعلة أيامه رتيبة بلهاء و بليدة، لقد أكتسى وجهه سحنة كئيبة، و بدا لي أنه في متاهة تتسع في دخيلته نوعا من الرهبة المبهمة التي تتكاثف شيئا فشيئا و تصبح ستارة غير مرئية من غبش ضبابي فتحول بينه و بين تأمل الأشياء من حوله و الأستبصار بها.لقد عبث الحزن كثيرا بملامحه و لم يكن يوما من الأيام طليق الهموم و المتاعب، فكم طاش سهمه فترك فيه غصة الفشل و الخيبة و الخسران؟ وكان كل ما يصبو إليه أن يضفي الزمن على حياته فرص عطاء اكثر و أن لا يزيده أحمالا أخرى من الضنى والعذاب فيتحطم قلبه الواجف، كثيراما كنت ُ أراه يجلس وحيدا يتأمل دخيلته المفعمة بالغم و التحسر، لم أره و لو لمرة واحدة فرحا باسم الثغر.
مرت بنا الأيام ولم أره أو أسمع عنه شيئا، أنقطعت عني أخباره مما بعث فيّ قلقا وأشتدت وطأته مع الأيام. طال بي ّ الأنتظار من دون جديد عنه، سألت ُ عنه أصحابنا الذين حسبتهم قد يعرفون عنه ما يهدئ نوبات قلقي التي راحت تستفحل بمرور الأيام. زرت ُ مكان عمله و فوجئت ُ أنه غائب منذ أيام و أنهم لا يعرفون سر تغيبه و هو المعروف عنه إلتزامه.ضجت ْ في رأسي الظنون و أخذتني بعيدا.
ذات صباح وجدتني قاصدا أهله يحدو بي ّ أمل و رجاء بأن أجده سليما معافى أو قد يكون مسافرا و سوف يعود، لم يخطر لي أنه قد هاجر كغيره، فأنا أعرف رأيه بالذين هاجروا و يهاجرون، أنه يرفض هذا بتصميم أكيد و إرادة واعية.
فوجئت ُ بالوجوم الذي يسكن داره التي كانت تضج بصبيته الأربعة الذين تقاربت أعمارهم. طرقت ُ الباب وجلا كمن ْ يخشى إيقاظ شيء يخشاه و يتطير منه. تسارعت نبضات قلبي الواجف و أتسعت خشيتي حين تأخر الرد و أطلت من رأسي الظنون. بعدها أطل علي ّ وجه صبية لا يعطيها العمر أكثر من عشرسنوات، و قد أكتسبت ملامح وجهها البريْ سحنة إنكسار و حزن كظيم. تطلعت ْ في ّ بعينين لا يزال الحلم يتألق فيهما أملا و رجاء رغم حزنهما الشفيف، كلمتني من خلال ذلك الحزن الذي تسلل إلى نبرات صوتها الرقيق محاولا ً الوصول إلي ّ عبر طبقات الأسى غير المرئية في دخيلتها و سألتني :
– ها، عمو ماذا تريد؟
– أريد بابا، أنا صديقه، أني لم أره منذ ايام و جئتُ…
قاطعتني نهنهتها ثم نشيجها الذي لم تفلح بكتمانه فغلب على نبرات صوتها.
– بابا مفقود و لا نعرف عنه شيئا، ذهب إلى عمله و لم يعد.
– قلت ُ مندهشا بصوت عال : ماذا تقولين؟ كيف و متى؟
– منذ أيام.
– أين أمك ِ؟ أريد أن أعرف المزيد عنه.
– أنها حزينة وقد مرضت ْ.-
جاءني من الداخل صوت أنثوي قد شفه الحزن يسأل الصبية. بعدها أطل علي ّ وجه كئيب لا يزال رونق الشباب يتألق في قسماته التي شفها حزن وقلق و إنكسار و لم تفلح طرحتها بلونها الغامق في أخفاء أي منهما. رفعت ْ إليّ عينيها اللتين مضهما ذلك الحزن والسهر و القلق المبهم.جاءني صوتها كسيرا يسألني :
– أخي من أنت و ما ذا تريد؟
– أني صديق زوجكِ، فقلقد طال عليّ غيابه فشغلني ذلك كثيرا. أحقا ما تقوله صبيتك ِأنه لم يعد منذ أيام؟
– أجل، يا أخي، لم يعد من عمله يوم خرج، و ما من أحد يعرف عنه شيئا، أني خائفة عليه،سألنا في المشافي ومراكز الشرطة فما من أحد يعرف عنه شيئا. ربما قد خـُطف أو قـُتل غدرا أو أنه سجين في مكان ما، لكنه وأنت تعرفه، رجل مسالم وديع ومحب للخير، أنه فنان رهيف الحس ورقيق المشاعر وحسن الطوية ومحب للناس كلهم فلا يحمل ضغينة لأحد، لقد أتسعت ْ دائرة حزنه في الآونة الأخيرة وهو يشهد ما يجري للبلد الذي يهم عشقا ً به بعد أن ملك عليه كل وجده،بل كل شيء وخاصة فنه، كنت أراه يحاول الخروج من ذلك الحزن وهو يتسلق أسواره بحبال كلمات إبداعه التي يجود بها قلمه. لقد صاغ آلامه و آلم الناس الذين يعشقهم بكلمات عالية الصوت، صرخات ضد محاولات أغتصاب إرادة الحياة فينا، كنت ُأرفق به فأناشده الرأفة بحاله وبنا غير أنه كان يرد أنه ليس بوسعه التنازل عن الحياة، هبة الله لنا.
لاذت ْ بالصمت قليلا ثم أنبرت متساءلة بخوف:
– أ تراه عائدا حيا ً لنا بعد الذي حل به؟
– يا أخت، أتمنى له السلامة والعودة السريعة لكم وليفرج الله عنه كربته ويخرجه منها. أني أسألك الآن إذا كان هناك علي ّ ما أفلعه من أجلكم؟
– أدعو الله أن يكتب له السلامة والعودة إلى صبيته آمنا ً وأن ينجيه من كل مكروه.
قفلت ُ عائدا مخذولا ً يملؤني قلق و تطير، متذكرا ً ما كان يحدثني به طويلا ًعما كان يدور بخلده و يعتمر في صدره من هم وكرب و توجس. كنت أجده مضيض ود أبدي للوطن الذي يجده مثخنا ً بالجراح من كل لون، الود الأبدي للناس فيه و خاصة الأبرياء من الفقراء والعاديين الذين لا يملكون في وطنهم الثري غير حرمانهم ومعاناتاهم و خيباتهم ،الذين كان يصفهم بعباد الله المخلصين و الذين ينحرهم يوميا ً الأرهاب و صراعات السياسين الذين لا يحسنون غير الحفاظ على ما أكتسبوه من عز و جاه ونعيم وليتمتعوا لوحدهم بخيرات البلد كلها.
وجدتني سائراً في طريق حملتني إلى رحابته، قدماي من دون وعي و قاصدا ً مقهى كنا كثيري التردد عليه معا، أنتبذت ُ مقعدا ً منزويا ُ في طرف المقهى، جلست ُ و كأني أستعيده في جلستي. لذت ُ بالصمت مستعيداً أيضا طقسا ً من طقوس خلوته هو، كان يجلس معي صامتا ً و كأنه ناسك يتبتل في صومعته، و هذا ما كان يغريني في جلسته و كثيراً ما أجده يـُحمـّل نظراته أسرار صمته، فتأتني ذبذبات مشفرة، و كنت ُ أجلس مستأنساً بتلك الوداعة، قال لي ذات مرة و هو يسرح بصره بعيدا ُ كعادته حين تستحوذ على فكره هواجسه :
– كم كان يحلو لي صوت أمي وهي تغني لأخي الرضيع وهي تهدهده وهو في حضنها، كان الشجن ينساب من ثنايا ذلك الصوت وأسال الآن نفسي من أين لأمي تلك الحلاوة في صوتها؟ هل من جمالها أم من طيبتها أم من وداعتها؟ كم مسكينة هي أمي ! حينها تأخذني موجة أسى’ و تصطخب في رأسي تساولات كبيرة، من ْ منا، أنا أم هي، المحروم الذي ذبحت ْ عواطفة و أحلامه بصمت على مذابح الحرمان؟ كنت أعجب كثيرا من صمتها وتجلدها و صبرها، فما رأيتها يوما شاكية ما هي فيه، و غالبا ما كنت أجدني في حيرة من مواجهتها المتاعب و الحرمان بصمت، حيث كانت تلوذ بالصمت و كأنها مسكونة به،و كنت أتطلع إليها بأندهاش، بيد أني يا صاحبي، أني الآن احمل لها نوعا من الرثاء و أحينا ً أجدني معاتبا ً لها لأنها أورثتني صمتها و وداعتها، و بودي الآن أن أعرف ما كان يجول بخاطرها، أ كانت تصطخب في رأسها أفكار و تساؤلات مثل ما تصطخب في رأسي الآن؟ ربما قد أورثتني أيضا ً هذا، أنني أتذكرها الآن بأغتباط، فعلى الرغم من فقر حالنا و قسوة ظروفنا، كانت تبدو أنيقة في ثوبها البسيط الذي أعادت خياطته أكثر من مرة، أنيقة في ملامح وجهها الدقيقة و ملاحته و لون عينيها و نظراتها السارحة دائما ً. كانت تجلس في الشمس أيام الشتاء الصافية و هي تمشط شعرها و تترك ضفائرها طليقة على كتفيها النحيلين، أنني الآن ارثي لحالها لأنها لم تطلق العنان لذلك الشعر الجميل ليسافر في كل الدينا كما يقول نزار قباني. أدرك الآن أن الحياء و الخفر سلبا من أمي أنثوتها و زهو شبابها. أنني الآن أسال نفسي : أكان لأمي أحلام الصبايا التي تثقل عواطفها و التي ظلت حبيسة الحياء والخفر؟ مسكينة هي أمي و كذلك الأخريات من أمثالها، يبدو أنهن كن يجهلن سبب تعاستهن. أجد أن القدر قد أساء كثيرا ً لهن حيث لم ينصفهن فأصبحن جزء من الحشد البشري الذي يعيش الحرمان و غصاته، أتدري ما يجول في خاطري و أنا اسير في المتنزه و تحت أقدامي أوراق شجر صفراء، لماذا تسقط هذه الأوراق في الخريف، هل أنقضى عمرها فيه كما يقال؟ و لكن لماذا تسقط في الخريف دون غيره؟ و تحزنني فكرة ان الإنسان الفقير يعيش كل عمره خريفا و تتساقط أوراقه بلا توقف إلى أن يستحيل إلى شجرة بأغصان عارية، تتساقط أحلامه في الحياة المنعمة. ألا ترى أنها قسمة ضيزى؟
مرت ْ بيّ الأيام دون أن أسمع عنه ما يبعث فيّ الطمأنينة و ما يخفف من وطأة حمى التوجس التي أخذت ْ تتزايد كل يوم، فتمتلك كل وجدي و خواطري.كان عليّ أن أقصد أهله عسى أن أجد عندهم خبرا ً يبعث فيّ الرحاء، و أن يفتح فجوة في جدار التوجس ليدخل منها الأمل بعودته سالماً. أقتربت من الدار التي يلفها الوجوم، فبعث في قلبي قلقاً قاسيا ً فتطيرتُ منه و ضجتْ في رأسي الظنون. طرقت ُ الباب بلهفة يشوبها كثير من الوجل وسرعان ما أطل وجه الصبية التي أنبرى صوتها الرقيق متلهفا لخبر ما.
– أهلا ً عمو، هل عرفت َ شيئا ً عن أبي؟ هل سمعت َ خبرا ً عنه؟
– لا شيء جديد يا أبنتي.
– أسيبقى أبي مفقوداً و مجهول المصير؟ أن أمي طريحة الفراش و لا تقوى على النهوض، أتظن يا عمو أنه لا يزال حيا ً و أنه سيعود إلينا حتى و لو بعد حين؟
أجهشت ْ بالبكاء بصوت عال. شعرت ُ بدوار و ثم َ غبش ضبابي بيني و بين هذه الصبية. أسندت ُ ظهري إلى الجدار القريب.
– خير عمو، أأنت مريض؟ أدخل لتسترح، لقد شحب لونك و علت ْ الصفرة وجهك، تعال و استرح قليلا ً.
دخلت ُ الدار بخطى مضطربة و شعرت بجسمي ثقيلا ًفأرتمت ُعلى أول كرسي في غرفة الجلوس وثمة ضجة كبيرة تتردد في رأسي. بعد أن أفقتُ، رأيتُ الأشياء و الصبية من حولي أطيافاً بلا ملامح وبالوان الطيف التي أخذت تتداخل مع بعضها لتشكل أشياء ليس بوسعي إدراكها أول وهلة، أفقت ُ على أصوات الصبية وأخوانها وأخواتها الصغار من حولي و هم تحت سلطان قلق مبهم. رأيتُ أحدهم يحمل قدح الماء و هو يقدمه لي قائلا ً :
– أشرب عمو،ثم أغسل وجهك، أنك متعب جدا.
سكبتُ قليلا من الماء في كفي ورحتُ أمسح به وجهي مرات. أدركت ُأنني زدتُ هؤلاء الصبيـّة هما ً آخر، نظرتْ الي ّ الصبية بعينين يتعلق في أهدابها الحزن و تتسرب من خلالهما نظرة بائسة منداة بدموع و كانت نبرات صوتها واهية و رقيقة محملة بأسى يسكن أعماقها الطرية و يلون سمات طفولتها.
أمضينا الأيام منتظرين عسى أن يـُقرع باب بيته و أن يـُفتح عن وجه من يحمل بشرى عودته سالما ً معافى و لكن تعاقبت تلك الأيام من غير قارع باب و لا حامل بشرى. جالت في خاطري صورة ملامح وجهه و قد عـلت محياه أمارات أبتسام واهن. كنت ُ أجد فيه نوعا من جمال الطمأنينة و الدعة و السلام و الأيمان الذي أعتمر به قلبه منذ طفولته، يوم كان يصحب أمه لزيارة قبور الأئمة الأطهار والأولياء الصالحين و تعلم منها، من دون وعي، تبتلها وخشوعها و هي تقف بجوار أولئك الذين تسميهم رجال الله، ومن يومها و قلبه يفيض سلاما ومحبة وإيمانا، وتعلم أن (قلوب الناس لا تعيش الطمأنينة بقوانين المادة في الحياة بل بقوة الأيمان) وقد أرهقته مطاليب الحياة الكثيرة تماما، غير أنه لم يبد ِ لي شاكيا أو متذمرا، حتى أني كنت أقول له مازحا ً ” هل أمتهنت َ الصمت يا صاحبي؟ ” فيرد بأبتسام واهن فقط، و أحيانا كنت أرى على وجهه النحيل تقطيبة تنذر بشيء غير سار. كما كنت ُ أرى شعرا ابيض في ذوائبه، أنها علامة شيب مبكر وأعود ممازحا له “روحي خطية، يا حيف إجاها الشيب، روحي خطية.” و يرد عليّ بهزة رأس و أبتسام واهن أيضا.
عصر يوم بعد أيام من زيارتي لأهله، رن هاتفي و كانت صبيته تطلب مني زيارتهم على الفور. لملمتُ ما بقي في نفسي من أمل و رجاء و ذهبت إليهم. دخلت ُ الدار و جلست في غرفة الضيوف منتطرا ً أن أسمع خبـرا ً رجوت ُ الله أن يكون خيرا ً، وتلونت عندي الأماني بلون الأمل بعد لون الخوف و التطير.
أطلت ْ علي ّ زوجته بجسدها الذي بدا لي يومها ينؤ تحت أحمال غير مرئية و على رأسها طرحتها بلونها الغامق و في فمها كلمات مقتضبة. خطت ْ خطواتها و كأنها ناقهة من مرض ألم َ بها من فترة طويلة ثم تهالكت على أريكة قريبة، وجلس صبيتها يحيطون بها. نظرت ُ إليها فوجدتُ مساحة الحزن قد أتسعت في قسمات وجهها، و حين تحدثتْ إليّ، أحسستُ ان الحزن لا يزال يلون نبرات صوتها وأن الخوف يحيل كلماتها القليلة إلى إبتهال و هي تكابد غصة كبيرة و قد عيل صبرها فلم تعد قادرة على الأحتمال، و هذه الأيام تمر بها و هي نهب للظنون، ظنون وليدة الخوف و التطير من قادم الأيام.قالت :
– أتصل بنا أحدهم قائلا أن زوجي بخير و يسلم علينا، و لكنه قال أنهم يريدون منا فدية، مبلغا من المال، ملايين الدنانير، لكي يطلقوا سراحه و حددوا الموعد بأيام معدودات لا غير و قد حذرونا من الأتصال بالشرطة أو دوائر الأمن. أننا لا نملك شيئا ً غير هذه الدار البسيطة. أريد بيعها لأفتديه بها، ليس عندي من بديل آخر، لقد قررت أن أبيع الدار، فليست هي أغلى منه، أنه زوجي و أب أولادي، غير أن أجراءات البيع قد تأخذ وقتا و أستلام المبلغ قد يتأخر و كذلك تسليم المبلغ لهم قد يتجاوز المدة التي حددوها لنا، ساعدنا، كيف أتدبر الأمر؟ لعل عندك فكرة أو رأيا يفيدنا؟
– انت ِ تعلمين أن حالي مثل حالكم، قد أسأل أصحابنا المساعدة بيد أنهم غير قادرين أو أنهم عاجزون أصلا، أفعلي ما تجيدنه أكثر جدوى و أسرع وصولا لأفتدائه، أن عودته سالما هي الضمان لكم، أنه المستقبل.
ردت بصوت منكسر يحاول أن يتشبث ببقايا أمل.
– سأحاول أن أقترض المبلغ لحين بيع الدار و أستلام المبلغ.
– نعم َ الرأي، توكلي على الله.
– و نعم بالله.
– سأحول مع بقية أصحابنا أن نفعل شيئا ً قدر المستطاع.
خرجتُ مودعا ً و مثقلا ً بهموم عاجز ليس بوسعه أن يفعل شيئاً، كنت ُ حزين النفس و منقبض الصدر. أمضيت ُ ليلتي تلك مسهد الجفن و لم أنمْ لبرهة واحدة حيث جفاني النوم بعد ما أستبد بيّ قلق قاس و أنشغال كبير، فأمضيتُ تلك الليلة فريسة أرق لم ألفه من ذي قبل.
سكني توجس شديد الوطأة، فأحال سكينتي إلى نوع من منغصات راحت تنتابني بشكل دائم و تبعث فيّ شعورا ً من الوهن و ربما الخذلان، فكيف أقف عجزا أمام محنة صديق عزيز مثله، محنة زوجته و صبيته؟ أنه الآن مركون في مكان ما و قد شـدد عليه الخناق أو أنه يـُعذب، يا ترى كيف هي حاله وهم يحيطون به و هو الرجل الوديع المسالم و الرهيف الحس و الذي عاش حياته وهو ينأى عن أذية الآخرين؟ أتراه الآن مستسلما ً لهم أو مشتبكا ً معهم؟ ما الذي يفعله الآن في غياهب إخفائه و هو الذي لم يدع الكتاب يفارقه للحظة واحدة !لك الله يا صاحبي، كيف تتعامل معهم؟
ذات مساء جاءت البشرى و جاء معها الفرح يحملهما رنين هاتفي، صوت زوجته مستبشرة لتخبرني بأنهم تدبروا الملبغ و أنهم مستعدون لتسليمه حسب الموعود. كبرت في نفسي الطمأنينة و زال عنها توجسها و تطيرها و انتعش فيها الأمل و أصبح أنتظارهم شاغلنا، كنت أرى صبيته و قد أمتلأت قلوبهم بالفرح و تحولوا إلى طيور حب زاهية االألوان تخفق أجنحتها بفرح غامر و أخذوا يشيعون في البيت حيوية و كأنهم أعادوا له الحياة بعد أيام من التوجس و القلق و الخوف المستطير.
في اليوم الموعود، جاءوا بسيارة من غير لوحة أرقام و هو جالس بين أشخاص ملثمين. كانوا قد طلبوا مسبقا أن تقوم صبيته الكبرى، زهراء، دون غيرها بتسليم المبلغ و حذروا من مغبة إخبار أحد، لا قريب أو صديق و لا رجل أمن أو شرطة و إلا قتلوه شر قتلة. أمتثلت عائلته لكل ذلك حفاظا ً عليه و ضمانا ً لسلامته. رأته صبيته بينهم و قد أبتسم لها طالبا منها أعطاءهم المبلغ و أخبرها أنه عائد لهم بعد قليل.
مرت لحظات ثم سويعات من غير أن يعود و لم يعد، بعد يوم و بعد آخر، فعادت الظنون تضج في رؤوس أهله و صحبه، و وجفت فيهم القلوب و تواني قدوم الأمل في عودته و تضاءل الفرح و بهت ألقه و عاد الوجع يسكنهم من جديد و هو اِشد إيلاماً. أتسعت مديات اليأس و اقفرت دنياهم،لا طارق باب و لا حامل بشرى. مع الأيام كلتْ القلوب و غرقت النفوس في سدف التوجس و التطير، و عظمت المصيبة و كبرت الظنون و أستحالت إلى شكوك قاسية الوطأة. تعايش أهله مع الخيبة كما تعايشوا مع وجع خطفه و غيابه، أشتدت عليهم وطأة الخيبة بعد أن أتسعت مديات اليأس في القلوب الواجفة و أستحالت إلى أطلال و خرائب تعيش فيها غربان ناعقة منذرة بكارثة و شر مستطير. مع الأيام، اضناهم البحث الخائب و عادوا يقاسون وجع الفقدان و الخسران من جديد.
عصر يوم شديد القيظ و قد أشتدت على الناس مآسي فقدان الأحبة، جاءني صديق بخبر الفجيعة، و يا هول ما جاء به، لقد عثروا على جثته مرمية على كومة قمامة، أجل على كومة قمامة قرب مكب للنفايات، في أحد الشوارع مع جثث أخرى وقد أخترقت رصاصات رأسه وصدره.
(*) أُخذتْ أبيات قصيدة الشاعر الصيني (لاو- تزي) من رواية ” الساعة الخامسة و العشرون ” للروائي الروماني ” كونستانتان حيورجيو ” ترجمة (فئز كم نقش. ص 447).