تسرب صوتها في أذنه ندياً كأغنية رقيقا كصوت فيروز
– أستاذ تجي اليوم الأحد؟ فتساءل مازحا
– من هي تجي يوم الأحد؟
بدت مستغربه فلم تستوعب ما يقول فقالت مؤكدة
– أنت!
– أنا أجيء وليس تجي فالتاء للتأنيث كما تعلمين.
فضحكت وهي تقول :
– أجي يوم الأحد؟
وبقي مستفزاً:
– تعالي في أي يوم يعجبك وألف أهلا وسهلا
فأغرقت في الضحك كطفل يكركر كان يحب ضحكتها وطلب منها يومأ أن تسجلها له.
عادت تقول :
– أستاذ… لا تمازحني عندي امتحان بالبيانو والكمان يوم الاثنين أرجوك تعال يوم الأحد.
فأجابها كالمبتهل: يا مرتجي يا احد متى يهل الأحد
كما يقول نزار القباني
ضحكت وهي تقول : غدا الأحد وأنا بانتظارك كما تقول أم كلثوم.
دفعته الذكريات المتزاحمة سنين إلى الوراء وفي المحاضرة الأولى حين ضمتهما غرفة المكتبة أحس وهو ينظر إليها للمرة الأولى كمن تنثر إمامه مجموعة من اللؤلؤ والياقوت والفيروز فيحار أيها يختار وعندما تكلمت تساءل أهي تتكلم أم تعزف؟
كان دائما ينظر إليها من فوق كمن يتفرج على بستان ورد وهو في نافذة بطابق علوي.
ولم يغير موقعة. بقي بستان الورد مزهرا وبقي هو في طابقه العلوي.
وفي درسه ودرسها الأول علمها كيف تمسك بقوس الكمان بيدها اليمنى وكيف تضع جزء الكمان المسمى (جن) (Chin) بمعنى (حنك) تحت حنكها وتسنده إلى يسار الرقبة أعلى الصدر ملامسا للكتف الأيسر ويدها اليسرى على أوتاره. وقفت إمامه مستعدة للعزف وثوبها يلامس ركبتيه وضعت الكمان تحت الحنك ملامسا كتفها الأيسر. لاحظ ارتباكها فطلب منها ان تتشجع وان تحرك ذراعها اليمنى من الأعلى عند الكتف وان تكون ذراعها وساعدها يشكلان زاوية.
امسك بإطراف أصابعه كوع ساعدها الأيمن ودفعة برفق الى الإمام وسحبه الى الخلف على الأوتار وهي كالحالمة وأصابع يسراها تداعب الأوتار… واحد.. ثلاثة.. واحد والعزف الأول لمستجد يحتاج تشجيعا ثم سألته وحمره تعلو وجنتيها :
– ااعجبتك؟
– جدا
– وكم تعطيني من الدرجات؟
– الدرجات كلها إمامك فاختاري.
وجاء الأحد : ولا يدري لماذا وهو يقترب من سور حديقتهم يتذكر دائما قارئة فنجان نزار قباني وهي تحذر :
من يدنو من سور حديقتها
من يدخل غرفتها
من حاول فك ضفائرها
مفقود…… مفقود
سارت إمامه إلى غرفة المكتبة يتقدمه عطرها وشعرها الغجري المنثور.طالعه في صــــدر المكتبة جهاز بيانو وإلة كمان معلقة على الحائط وارفف كُتب تزين الجدران. وجد نفسه في جو الكتب والموسيقى الذي يعشقه. الكتب لها عبق خاص لا تختطئه حاسة من يهواها. إذن في هذا المكان تجلس ساحرة العينين لتعزف. سألها مرة عن حركة تماثيل القرود الموضوعة فوق البيانو فقرد يضع يديه على عينيه وأخر على أذنيه والثالث على فمه
فأجابت :
أن المعنى لاارى….. لا اسمع……. لااتكلم
فقال : هذا يخص القردة إما أنا فأرى الجمال إمامي واسمع الصوت الموسيقي وأتكلم عن إعجابي.
جلست إلى يمينه وبينهما طاولة ابنوسية مستديرة يبدو الفن الهندي على سطحها وجوانبها من الأفيال المحفورة عليها يقود الفيل الكبير القطيع يتبعه فيل اصغر ثم اصغر ويتكرر النقش ملتفا حول الطاولة مستديرا حول حافة سطحها.
ظهر على وجه التلميذة الجالسة إلى يمينه شيء من الخوف والوجوم وهي تقول :
– أستاذ.. يوم الأربعاء انفجرت قنبلة ونحن نخرج من المعهد فأخذنا نتراكض مفزوعين لا ندري أيمينا نهرب ام شمالا. سمعت من يقول أنها قنبلة صوتية. أصيبت بعض الطالبات بتمزق في طبلات أذانهن فكيف سيدرسن الموسيقى؟
قال مبتسما ومشجعا :
– ورجعتن الى المعهد يوم الخميس لمواصلة دراسة الموسيقى هذا هو التحدي. انتن بطلات كبيرات رغم أنكن صغيرات وستبقى أصابعكن تداعب الأوتار, فلو تقطعت فستعقدنها من جديد. هذا هو عشق الفن الذي يسري في شرايينكن مثل النبض وسيرفض ويقاوم كل قنبلة صوتية كانت او متفجرة. سأحكي لك نموذجا من غرائب ما نعيش. دعيت لسماع موسيقي في صالة صغيرة. كانت الصالة منزوية أشبة ما تكون (وكر حزبي) يخاف من فيه ان يسمع احد في الخارج ما يقولون او يستخبر عما يفعلون. اتخذ نفر من الموسيقيين هذه الصالة مكانا يتدربون فية سرا على الآلات الموسيقية وليس على الأسلحة المدمرة. كانوا يخفون فيه آلاتهم الموسيقية ويتسللون الى المكان ويخرجون واحدا اثراً واحداً تاركين مسافة زمنية بينهم لان أي موسيقي لا يستطيع ان يمشي في الطريق حاملا آلته الموسيقية دون ان يتعرض الى استهزاء او ضرب او قتل. فالى أي مدى بلغ الخوف؟ وكيف يستطيع العازف في موجة الفزع هذه ان يركز تفكيره في النوطة إمامه وكيف ينقل ما يقرأ الى اصابعة وأوتاره؟ وكيف سيتمتع المستمع بما يسمع ودوي الانفجارات يعلو على صوت الموسيقى؟ توجد في التاريخ ردات حضارية وانتكاسات كما يحصل لجسم الإنسان من انتكاسات صحية فعليه ان يصبر ويقاوم المرض ويتجرع الدواء المر حتى يتعافى. هذه رده حضارية إذن أن يخاف عازف من تحريك وتر بينما كان السومريون قبل ألاف السنين يتخذون من القيثارة شعارا وألان دعينا من هذا ولنتكلم في موضوع امتحانكم قلت انه امتحان في العزف على البيانو والكمان وهل مطلوب ان تطبقوا مقاما معينا على الكمان؟
– نعم مقام الكورد
– ولكن اسمعيني أولا معزوفة (هابي برث دي) على البيانو قامت من مكانها وجلست الى البيانو ومدت أصابعها إلى المفاتيح. راى تعثرها وباشارة من يديه توقفت عن العزف فطلب منها ان تركز على 5.5.6.5.1.7 وليس 4.5.5 واصلت العزف ركز عينيه على أصابعها ليرى صحة انتقالاتها على المفاتيح وانساب النغم منضبطا وهو يردد الأغنية (هابي برث دي) صفق لها بعد ان أكملت ثم قال :
– سأتركك قبل ان تليل كما يقول المصريون لان ليلنا أصبح موحشا وبالأصح ليس عندنا ليل فأين الليل وأين من كان يغني يا لليل ياعين؟ الفن هو ليل كما يقو الممثل (عزيز خيون). ففي الليل تصفو النفوس وتهدأ بعد إرهاق النهار. في الليل تستطيع ان تعزف وتسمع وتمثل وتشاهد وتسمر وتغني فأين هذا الليل منا؟ ليلنا تجوبه الأشباح لتخنق من يتجول ويحاول ان يفرح. ليلنا ليل الطناطل التي كانوا يخوفوننا بها ونحن صغار وان الطنطل يتصيد الأطفال الذين يجوبون الأزقة ليلا فيخنقهم ويمتص دمائهم , تصوري إنني بالأمس وفي الساعة الواحدة ظهرا ذهبت لمشاهدة مسرحية. وفي الربع الأول منها دوى انفجار وأعقبته اطلاقات كثيفة فترك المتفرجون القاعة مهرولين قافزين فوق المقاعد والكراسي ترافقهم كموسيقى تصويرية أصوات أرجلهم تقلب الكراسي وتتدافع في الممرات وعلى السلالم وعند الأبواب. وبعيدا عن المسرح كان الناس يتفرجون على هؤلاء (البطرانين) الذين جاءوا لمشاهدة المسرحية. فهل نحن بطرانون حقا؟ ام هي محاولة للتمسك بالحياة الطبيعية ومواصلتها ودفع عجلة الحضارة رغم ما وضع فيها من عصي؟ أم هو صراع مع التخلف؟ ام هـــــو تحمل للأذى ومكابرة وتحــدي؟ وتبقى مكابرا يا جمل ! كما يقول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد عن حكاية الجمل الذي أنغرز في ظهره مخيط طويل إلا انه ظل متحملا. حاملا الأثقال دون ان يتوقف ولو لكي يئن فعنده هدف يجب إن يصل إليه ويضع الأحمال في مكانها.هل نحن امة خسائر كما تقول الروائية أحلام مستغانمى رغم لافتات النصر المعلقة على ساحاتنا وشوارعنا. عندما تنظر إلى الأشلاء الممزقة تحت ركام الحجارة وعلى الأرصفة حيث تختفي كل المعالم , تتساءل من القاتل ومن الضحية؟ فالكل يخاف الكل معادلة يحتاج الجواب عليها الى من يصرخ (وجدتها) كما صرخ ارخميدس وهو يخرج من الحمام عاريا الى الشارع. لاحت خلف نافذة المكتبة حديقة تنتهي حافاتها عند النهر ونخيلات تسبح ظلالها في صفحة الماء وترقص سعفاتها في هذا الجو الخريفي. كانت حبال الجسر المعلق تبدو من بعيد معلقة كالأمل شاهقة محلقة ثم تقترب بانحناءة رشيقة نحو مهد الجسر كام تنحني لتحمل طفلها نظر إمامه وقال :
– أخشى ان تتقطع حبال الجسر فهي حبال مدينتنا وشرايينها ويا ويلنا ان انقطعت , حينها سينفصل الشاطئان ولن يكون هناك من يمسك بهما. مدينتنا ليس لها عنوان ثابت او اسم واحد إنما الأذى واحد فقد تنفجر قنبلة في سوق بمدينة (كراجي) فيجيبها تفجيرٌ أخر في وجوه وأجساد طالبات وهن يخرجن من بوابة (جامعة بغداد) وقد يتردد الصوت في محطة قطار(بالجزائر) أو ينبعث غاز سام في مترو (بطوكيو) أو تتمزق مدرسة بأطفالها وكراريسهم في لا ادري أين !!
– أخفتني يا أستاذي.. دعنا نسمع شيئا من الموسيقى
– أتدرين كم هو عظيم وكم عنده من التحدي من يخرج من بين الركام ليعزف على كمانه المحطم؟!
– إذن اسمع من كمانك المحطم
– سأطبق لك مقام (الكورد) من مقطع على الكمان لأحمد الحفناوي من لحن لعبد الوهاب وأغنية لام كلثوم اسمها : أغدا ألقاك يا خوف فؤادي من غد
– اتخاف من الغد؟
– كل عاشق يخاف من الغد لأنه يمثل المجهول الذي يتخفى ويتربص فيه غراب اسود اسمه الفراق يخطف احد الحبيبين بعيدا عن الأخر.
– وهل أنت عاشق؟
– أنا عاشق من أقدم عاصمة للحب
– وأين هي هذه العاصمة؟
– في أي مكان تكونين فيه.
– مرحبا بك في عاصمة الحب.
سحب القوس بينما كانت أصابع يسراه تنتقل على نغم الكــــورد. تركت البيانو
وجلست إلى الطاولة كانت تتمنى ان يعزف ويعزف حتى تنام. وضعت رأسها على
الطاولة بينما تناثر شعرها على خدها ورقبتها وصدرها والطاولة.نظرت إليه بعينين ناعستين. كم تعجبني أناقته ! كيف يجيد التنسيق بين ربطة عنقه ومنديل الصدر ولون ألبدله؟ حتى ساعة يده تتلائم مع ما يرتدي فساعة ذهبية وأخرى بيضاء والثالثة سوداء.كثير من الرجال يتأنقون إلا إن أناقة الأستاذ لها طعم خاص وصورة منقوشة في أعماقي. لم اجلس مع احد بهذا القرب كما اجلس معه وأتكلم. بيني وبينه شبر أو شبرين. ينصت الي عندما احكي له كل اموري ومشاكلي كما ينصت طفل لمعلمته. فإذا تكلم اشعر بأنني صغيرة … صغيرة يمسك بيدها ويأخذها إلى أي مكان يريد. اكشف له عن كل مافي داخلي حتى عن الشباب الذين يعاكسوني في الطريق الى ألمدرسه ومنها او على الهاتف. فيطمئنني وتتطاير المشاكل كورقة ممزقة. وهو أول رجل افتح له صدري وأبوح له بكل ما اعتبره سرا. شكوت له كثيرا وبكيت إمامه كثيرا قال لي مرة ودموعي تنهمر (لاتنثري حبات اللؤلؤ هكذا). كلماته تتسرب الى أعماقي صافية رقراقة فترويني وتخفف عني وتضمد جراحي وتزيدني شوقا وعطشا واحتراما.
اشعر وأنا أمامه كورقة بيضاء يكتب عليها ما يريد. أحس كأنه يجردني من ثيابي دون ان تمتد يده نحوي. وعندما انتهى من العزف نظر الى عينيها الناعستين وسأل :
– أفهمت العزف؟
– فهمت العزف…. ولكني لم أفهمك
رفع إصبعه في وجهها قائلا :
– المهم إن تفهمي العزف. ولكن يبدو أني أعجبتك أثناءه.
– أنت تعجبني إثناء العزف وقبل العزف وبعد العزف
فتبسم ضاحكا من قولها. سحب من الأرفف شريطا مسجلا لعفيفة اسكندر. نظر إلى ما مكتوب على غلافه
– اسمعي أغنية عفيفة اسكندر :
يا عاقد الحاجبين على الجبين اللجين
إن كنت تقصد قتلي قتلتني مرتين
سألته وهي تاخد الشريط : ما معنى عاقد الحاجبين؟
نظر في وجهها وهو يقول انظري في المرآة إلى حاجبيك تعرفين معنى عاقد الحاجبين.
قالت بدلال وعيناها في عينيه
– متى قتلتك مرتين؟
– أنا معك مقتول مرات ومرات
قالت مستغربة بابتسامة خجول
– لم افهم كيف؟
قال موضحا وهو يشير بإصبعه حيث يتكلم :
– حاجباك وانفك المرسوم بعناية فائقة والسحر المذيب يتقطر من عينيك وشعرك المنثور كلها أسلحة موجهة نحوي ولكني أعود أليك دائما كما عدت أنت إلى معهد الموسيقى بعد الانفجار.
– أستاذ… لك عندي هدية
– أنت وهديتك تضمكما الأعين.
– هذا منديل صدر طرزت عليه الحرف الأول من اسمك
– أنت مطرزة على جدران قلبي وسأتلمس على المنديل أناملك وهي تطرز. سأضعه في جيب الصدر ولن أضع مكان منديلك منديلا أخر.
لاحظ يدها الممدودة فوق الطاولة كأرنب ناعم غاف يغريك إن تمد يدك فتربت عليه كانت أصابعها المنحوتة بدقة. شديدة البياض وعلى مفاصل الأصابع تظليل اسمر كما يظلل الفنان لوحته بالقلم الرصاص بعد ان ينتهي منها قال لها :
– اعطني كفك اقرأ خطوطها.
– تقرا الكف؟
– واقرأ الممحي أيضا.
ركزت عيناها في عينيه. كان يبدو خبيرا في نظراته. كثير التجربة. كانت تتمنى ان تضع يدها بين يديه في يوم من الأيام. كانت عندما تنظر إلى أصابع يسراه تداعب أوتار الكمان تتمنى لو ان أصابعها صارت أوتارا تحت أصابعه. وكم تمنت ان تغفو على كتفه كما يغفو الكمان. تركت له يدها لتنام كالعصفور بين يديه. احتضن كفها بكفه يقلبها شعرت أنها ترتجف من اصبع قدمها حتى شعرها الغجري. راح ينظر الى خطوط راحتها ويمرر أصابعه فوقها وهي راضية بما يفعل منتبهة كتلميذه صغيرة تصدق ما يقول.
– خط السعادة طويل ومتوازي مع خط النجاح
مرر إصبعا على باطن كفها وهو يقول بجدية قارىء الكف وعيناه تخترقان عينيها :
– الانتفاخات الموجودة أعلى باطن كفك وأسفل أصابعك تدل على حظك العالي.
قالت لنفسها : إن حظي ان أكون بين ذراعيك. متى تلثم شفتاك أي زاوية من جسدي؟ متى تتغلغل أصابعك في شعري فتزيده بعثرة وتمردا؟ هل أنت متكبر أم مكابر أم متردد أم ممثل أمام صغيرة مثلي؟
وكأنه أحس بما يجول في خاطرها فرفع كفها الى شفتيه 0 ياللسعاده المرتعشة !! ستكتب في مفكرتها انه في هذا اليوم وهذا التاريخ وهذه الساعة قبل باطن كفها 0 وأغمضت عينيها لتضم في بحرهما لؤلؤ ما يحدث ثم بعد إن تأكدت إن ألصوره قد انطبعت فى أعمق أعماقها 0 فتحت جفنيها الغضين كأجنحة فراشة نحوه وهو يمرر اصبعة على خط العمر المقوس من أسفل الكف صاعدا نحو إصبع ألسبابه تحت خط النجاح 0ظل صامتا وكأنه بعيد تماما عنها وهو يتفرس بخط العمر ثم وهو يبتسم قال :
– ستعيشين تسعين سنة وثمانية اشهر وسبعة ايام وست ساعات وخمس دقائق وأربع ثواني…..
فتضحك قائلة ويدها بين يديه :
– لا… مستحيل ان خط العمر ينكسر هنا.. انظر جيدا
– ان كنت مخطئا فعاتبيني بعد ذالك.
فجأة تردد في المدينة انفجار هائل طغى على كل شيء ثم تساقطت قذائف. شعر من كان بعيدا كأن شيئا ثقيلا وكبيرا قد هوي فدك الأرض دكا. وان شيئا قد انخسف وحل بعده صمت وفراغ كالذي يحدث عندما تسقط إمامك نخلة طويلة او شجرة ضخمة فيعقبها الصمت والفراغ والذهول. ثم بعد قليل والغبار يتصاعد وصرخات تسمع. تعالت أبواق سيارات الإسعاف وعويل سيارات الشرطة.لاح في الأفق دخان اسود , والناس تتراكض هنا وهناك والفزع يعلو الوجوه سُمِعَ من يقول (سقط صاروخ على السوق و هاونات على البيوت) , أصوات متراكضة تتساءل عن الذي حدث وكيف حدث وأين حدث؟ يذكرون أسماء من يعرفونهم في المحلة…. ((أنهدم بيت أم زهراء……قد نجدهم إحياء……. بيت أبو جورج احترق…..أسرعوا بالماء..لعل سامي خارج البيت. أخشى إن يكون بيت أبو حارث اندفنوا تحت الكونكريت))وفي مكان ما وبين صراخ الناس وتجمهرهم وطلبات الاستغاثة كان نفر يكتفون بالتفرج والعويل و نفر يتسارعون بهمة وتضحية لرفع الأنقاض وسحْب من تحتها وما تحتها…. يسحبون ويولولون…غطاء طاولة مصبوغ بدم طري. رجل كرسي. بيانو منخسف على مفاتيحه. أوتار كمان متقطعة. كتب منكفئة على وجهها ممزقة الأوراق قال قائل والناس تبحث عن إحياء.((اخترق الهاون نافذة هذا البيت)) ويستمر البحث ورفع الحجارة ومحاولة سحب السقوف الكونكريتية التي انطبقت على ما تحتها والكل يولول. بدت من بين الحجارة قدم ملونة إلاضافر منديل مطرز علية حرف زجاج متناثر وحجارة في كل مكان كان الناس يتجمعون قرب المأساة وشهقات الفزع والعويل تتردد وتتصاعد والبيوت تتحول إلى أكوام من الحجارة وتلال وغبار…….أزاحوا جزا من جدار فبان ما تحته.. كانت كفها بكفه وإصبعه على خط العمر..
– أستاذ تجي اليوم الأحد؟ فتساءل مازحا
– من هي تجي يوم الأحد؟
بدت مستغربه فلم تستوعب ما يقول فقالت مؤكدة
– أنت!
– أنا أجيء وليس تجي فالتاء للتأنيث كما تعلمين.
فضحكت وهي تقول :
– أجي يوم الأحد؟
وبقي مستفزاً:
– تعالي في أي يوم يعجبك وألف أهلا وسهلا
فأغرقت في الضحك كطفل يكركر كان يحب ضحكتها وطلب منها يومأ أن تسجلها له.
عادت تقول :
– أستاذ… لا تمازحني عندي امتحان بالبيانو والكمان يوم الاثنين أرجوك تعال يوم الأحد.
فأجابها كالمبتهل: يا مرتجي يا احد متى يهل الأحد
كما يقول نزار القباني
ضحكت وهي تقول : غدا الأحد وأنا بانتظارك كما تقول أم كلثوم.
دفعته الذكريات المتزاحمة سنين إلى الوراء وفي المحاضرة الأولى حين ضمتهما غرفة المكتبة أحس وهو ينظر إليها للمرة الأولى كمن تنثر إمامه مجموعة من اللؤلؤ والياقوت والفيروز فيحار أيها يختار وعندما تكلمت تساءل أهي تتكلم أم تعزف؟
كان دائما ينظر إليها من فوق كمن يتفرج على بستان ورد وهو في نافذة بطابق علوي.
ولم يغير موقعة. بقي بستان الورد مزهرا وبقي هو في طابقه العلوي.
وفي درسه ودرسها الأول علمها كيف تمسك بقوس الكمان بيدها اليمنى وكيف تضع جزء الكمان المسمى (جن) (Chin) بمعنى (حنك) تحت حنكها وتسنده إلى يسار الرقبة أعلى الصدر ملامسا للكتف الأيسر ويدها اليسرى على أوتاره. وقفت إمامه مستعدة للعزف وثوبها يلامس ركبتيه وضعت الكمان تحت الحنك ملامسا كتفها الأيسر. لاحظ ارتباكها فطلب منها ان تتشجع وان تحرك ذراعها اليمنى من الأعلى عند الكتف وان تكون ذراعها وساعدها يشكلان زاوية.
امسك بإطراف أصابعه كوع ساعدها الأيمن ودفعة برفق الى الإمام وسحبه الى الخلف على الأوتار وهي كالحالمة وأصابع يسراها تداعب الأوتار… واحد.. ثلاثة.. واحد والعزف الأول لمستجد يحتاج تشجيعا ثم سألته وحمره تعلو وجنتيها :
– ااعجبتك؟
– جدا
– وكم تعطيني من الدرجات؟
– الدرجات كلها إمامك فاختاري.
وجاء الأحد : ولا يدري لماذا وهو يقترب من سور حديقتهم يتذكر دائما قارئة فنجان نزار قباني وهي تحذر :
من يدنو من سور حديقتها
من يدخل غرفتها
من حاول فك ضفائرها
مفقود…… مفقود
سارت إمامه إلى غرفة المكتبة يتقدمه عطرها وشعرها الغجري المنثور.طالعه في صــــدر المكتبة جهاز بيانو وإلة كمان معلقة على الحائط وارفف كُتب تزين الجدران. وجد نفسه في جو الكتب والموسيقى الذي يعشقه. الكتب لها عبق خاص لا تختطئه حاسة من يهواها. إذن في هذا المكان تجلس ساحرة العينين لتعزف. سألها مرة عن حركة تماثيل القرود الموضوعة فوق البيانو فقرد يضع يديه على عينيه وأخر على أذنيه والثالث على فمه
فأجابت :
أن المعنى لاارى….. لا اسمع……. لااتكلم
فقال : هذا يخص القردة إما أنا فأرى الجمال إمامي واسمع الصوت الموسيقي وأتكلم عن إعجابي.
جلست إلى يمينه وبينهما طاولة ابنوسية مستديرة يبدو الفن الهندي على سطحها وجوانبها من الأفيال المحفورة عليها يقود الفيل الكبير القطيع يتبعه فيل اصغر ثم اصغر ويتكرر النقش ملتفا حول الطاولة مستديرا حول حافة سطحها.
ظهر على وجه التلميذة الجالسة إلى يمينه شيء من الخوف والوجوم وهي تقول :
– أستاذ.. يوم الأربعاء انفجرت قنبلة ونحن نخرج من المعهد فأخذنا نتراكض مفزوعين لا ندري أيمينا نهرب ام شمالا. سمعت من يقول أنها قنبلة صوتية. أصيبت بعض الطالبات بتمزق في طبلات أذانهن فكيف سيدرسن الموسيقى؟
قال مبتسما ومشجعا :
– ورجعتن الى المعهد يوم الخميس لمواصلة دراسة الموسيقى هذا هو التحدي. انتن بطلات كبيرات رغم أنكن صغيرات وستبقى أصابعكن تداعب الأوتار, فلو تقطعت فستعقدنها من جديد. هذا هو عشق الفن الذي يسري في شرايينكن مثل النبض وسيرفض ويقاوم كل قنبلة صوتية كانت او متفجرة. سأحكي لك نموذجا من غرائب ما نعيش. دعيت لسماع موسيقي في صالة صغيرة. كانت الصالة منزوية أشبة ما تكون (وكر حزبي) يخاف من فيه ان يسمع احد في الخارج ما يقولون او يستخبر عما يفعلون. اتخذ نفر من الموسيقيين هذه الصالة مكانا يتدربون فية سرا على الآلات الموسيقية وليس على الأسلحة المدمرة. كانوا يخفون فيه آلاتهم الموسيقية ويتسللون الى المكان ويخرجون واحدا اثراً واحداً تاركين مسافة زمنية بينهم لان أي موسيقي لا يستطيع ان يمشي في الطريق حاملا آلته الموسيقية دون ان يتعرض الى استهزاء او ضرب او قتل. فالى أي مدى بلغ الخوف؟ وكيف يستطيع العازف في موجة الفزع هذه ان يركز تفكيره في النوطة إمامه وكيف ينقل ما يقرأ الى اصابعة وأوتاره؟ وكيف سيتمتع المستمع بما يسمع ودوي الانفجارات يعلو على صوت الموسيقى؟ توجد في التاريخ ردات حضارية وانتكاسات كما يحصل لجسم الإنسان من انتكاسات صحية فعليه ان يصبر ويقاوم المرض ويتجرع الدواء المر حتى يتعافى. هذه رده حضارية إذن أن يخاف عازف من تحريك وتر بينما كان السومريون قبل ألاف السنين يتخذون من القيثارة شعارا وألان دعينا من هذا ولنتكلم في موضوع امتحانكم قلت انه امتحان في العزف على البيانو والكمان وهل مطلوب ان تطبقوا مقاما معينا على الكمان؟
– نعم مقام الكورد
– ولكن اسمعيني أولا معزوفة (هابي برث دي) على البيانو قامت من مكانها وجلست الى البيانو ومدت أصابعها إلى المفاتيح. راى تعثرها وباشارة من يديه توقفت عن العزف فطلب منها ان تركز على 5.5.6.5.1.7 وليس 4.5.5 واصلت العزف ركز عينيه على أصابعها ليرى صحة انتقالاتها على المفاتيح وانساب النغم منضبطا وهو يردد الأغنية (هابي برث دي) صفق لها بعد ان أكملت ثم قال :
– سأتركك قبل ان تليل كما يقول المصريون لان ليلنا أصبح موحشا وبالأصح ليس عندنا ليل فأين الليل وأين من كان يغني يا لليل ياعين؟ الفن هو ليل كما يقو الممثل (عزيز خيون). ففي الليل تصفو النفوس وتهدأ بعد إرهاق النهار. في الليل تستطيع ان تعزف وتسمع وتمثل وتشاهد وتسمر وتغني فأين هذا الليل منا؟ ليلنا تجوبه الأشباح لتخنق من يتجول ويحاول ان يفرح. ليلنا ليل الطناطل التي كانوا يخوفوننا بها ونحن صغار وان الطنطل يتصيد الأطفال الذين يجوبون الأزقة ليلا فيخنقهم ويمتص دمائهم , تصوري إنني بالأمس وفي الساعة الواحدة ظهرا ذهبت لمشاهدة مسرحية. وفي الربع الأول منها دوى انفجار وأعقبته اطلاقات كثيفة فترك المتفرجون القاعة مهرولين قافزين فوق المقاعد والكراسي ترافقهم كموسيقى تصويرية أصوات أرجلهم تقلب الكراسي وتتدافع في الممرات وعلى السلالم وعند الأبواب. وبعيدا عن المسرح كان الناس يتفرجون على هؤلاء (البطرانين) الذين جاءوا لمشاهدة المسرحية. فهل نحن بطرانون حقا؟ ام هي محاولة للتمسك بالحياة الطبيعية ومواصلتها ودفع عجلة الحضارة رغم ما وضع فيها من عصي؟ أم هو صراع مع التخلف؟ ام هـــــو تحمل للأذى ومكابرة وتحــدي؟ وتبقى مكابرا يا جمل ! كما يقول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد عن حكاية الجمل الذي أنغرز في ظهره مخيط طويل إلا انه ظل متحملا. حاملا الأثقال دون ان يتوقف ولو لكي يئن فعنده هدف يجب إن يصل إليه ويضع الأحمال في مكانها.هل نحن امة خسائر كما تقول الروائية أحلام مستغانمى رغم لافتات النصر المعلقة على ساحاتنا وشوارعنا. عندما تنظر إلى الأشلاء الممزقة تحت ركام الحجارة وعلى الأرصفة حيث تختفي كل المعالم , تتساءل من القاتل ومن الضحية؟ فالكل يخاف الكل معادلة يحتاج الجواب عليها الى من يصرخ (وجدتها) كما صرخ ارخميدس وهو يخرج من الحمام عاريا الى الشارع. لاحت خلف نافذة المكتبة حديقة تنتهي حافاتها عند النهر ونخيلات تسبح ظلالها في صفحة الماء وترقص سعفاتها في هذا الجو الخريفي. كانت حبال الجسر المعلق تبدو من بعيد معلقة كالأمل شاهقة محلقة ثم تقترب بانحناءة رشيقة نحو مهد الجسر كام تنحني لتحمل طفلها نظر إمامه وقال :
– أخشى ان تتقطع حبال الجسر فهي حبال مدينتنا وشرايينها ويا ويلنا ان انقطعت , حينها سينفصل الشاطئان ولن يكون هناك من يمسك بهما. مدينتنا ليس لها عنوان ثابت او اسم واحد إنما الأذى واحد فقد تنفجر قنبلة في سوق بمدينة (كراجي) فيجيبها تفجيرٌ أخر في وجوه وأجساد طالبات وهن يخرجن من بوابة (جامعة بغداد) وقد يتردد الصوت في محطة قطار(بالجزائر) أو ينبعث غاز سام في مترو (بطوكيو) أو تتمزق مدرسة بأطفالها وكراريسهم في لا ادري أين !!
– أخفتني يا أستاذي.. دعنا نسمع شيئا من الموسيقى
– أتدرين كم هو عظيم وكم عنده من التحدي من يخرج من بين الركام ليعزف على كمانه المحطم؟!
– إذن اسمع من كمانك المحطم
– سأطبق لك مقام (الكورد) من مقطع على الكمان لأحمد الحفناوي من لحن لعبد الوهاب وأغنية لام كلثوم اسمها : أغدا ألقاك يا خوف فؤادي من غد
– اتخاف من الغد؟
– كل عاشق يخاف من الغد لأنه يمثل المجهول الذي يتخفى ويتربص فيه غراب اسود اسمه الفراق يخطف احد الحبيبين بعيدا عن الأخر.
– وهل أنت عاشق؟
– أنا عاشق من أقدم عاصمة للحب
– وأين هي هذه العاصمة؟
– في أي مكان تكونين فيه.
– مرحبا بك في عاصمة الحب.
سحب القوس بينما كانت أصابع يسراه تنتقل على نغم الكــــورد. تركت البيانو
وجلست إلى الطاولة كانت تتمنى ان يعزف ويعزف حتى تنام. وضعت رأسها على
الطاولة بينما تناثر شعرها على خدها ورقبتها وصدرها والطاولة.نظرت إليه بعينين ناعستين. كم تعجبني أناقته ! كيف يجيد التنسيق بين ربطة عنقه ومنديل الصدر ولون ألبدله؟ حتى ساعة يده تتلائم مع ما يرتدي فساعة ذهبية وأخرى بيضاء والثالثة سوداء.كثير من الرجال يتأنقون إلا إن أناقة الأستاذ لها طعم خاص وصورة منقوشة في أعماقي. لم اجلس مع احد بهذا القرب كما اجلس معه وأتكلم. بيني وبينه شبر أو شبرين. ينصت الي عندما احكي له كل اموري ومشاكلي كما ينصت طفل لمعلمته. فإذا تكلم اشعر بأنني صغيرة … صغيرة يمسك بيدها ويأخذها إلى أي مكان يريد. اكشف له عن كل مافي داخلي حتى عن الشباب الذين يعاكسوني في الطريق الى ألمدرسه ومنها او على الهاتف. فيطمئنني وتتطاير المشاكل كورقة ممزقة. وهو أول رجل افتح له صدري وأبوح له بكل ما اعتبره سرا. شكوت له كثيرا وبكيت إمامه كثيرا قال لي مرة ودموعي تنهمر (لاتنثري حبات اللؤلؤ هكذا). كلماته تتسرب الى أعماقي صافية رقراقة فترويني وتخفف عني وتضمد جراحي وتزيدني شوقا وعطشا واحتراما.
اشعر وأنا أمامه كورقة بيضاء يكتب عليها ما يريد. أحس كأنه يجردني من ثيابي دون ان تمتد يده نحوي. وعندما انتهى من العزف نظر الى عينيها الناعستين وسأل :
– أفهمت العزف؟
– فهمت العزف…. ولكني لم أفهمك
رفع إصبعه في وجهها قائلا :
– المهم إن تفهمي العزف. ولكن يبدو أني أعجبتك أثناءه.
– أنت تعجبني إثناء العزف وقبل العزف وبعد العزف
فتبسم ضاحكا من قولها. سحب من الأرفف شريطا مسجلا لعفيفة اسكندر. نظر إلى ما مكتوب على غلافه
– اسمعي أغنية عفيفة اسكندر :
يا عاقد الحاجبين على الجبين اللجين
إن كنت تقصد قتلي قتلتني مرتين
سألته وهي تاخد الشريط : ما معنى عاقد الحاجبين؟
نظر في وجهها وهو يقول انظري في المرآة إلى حاجبيك تعرفين معنى عاقد الحاجبين.
قالت بدلال وعيناها في عينيه
– متى قتلتك مرتين؟
– أنا معك مقتول مرات ومرات
قالت مستغربة بابتسامة خجول
– لم افهم كيف؟
قال موضحا وهو يشير بإصبعه حيث يتكلم :
– حاجباك وانفك المرسوم بعناية فائقة والسحر المذيب يتقطر من عينيك وشعرك المنثور كلها أسلحة موجهة نحوي ولكني أعود أليك دائما كما عدت أنت إلى معهد الموسيقى بعد الانفجار.
– أستاذ… لك عندي هدية
– أنت وهديتك تضمكما الأعين.
– هذا منديل صدر طرزت عليه الحرف الأول من اسمك
– أنت مطرزة على جدران قلبي وسأتلمس على المنديل أناملك وهي تطرز. سأضعه في جيب الصدر ولن أضع مكان منديلك منديلا أخر.
لاحظ يدها الممدودة فوق الطاولة كأرنب ناعم غاف يغريك إن تمد يدك فتربت عليه كانت أصابعها المنحوتة بدقة. شديدة البياض وعلى مفاصل الأصابع تظليل اسمر كما يظلل الفنان لوحته بالقلم الرصاص بعد ان ينتهي منها قال لها :
– اعطني كفك اقرأ خطوطها.
– تقرا الكف؟
– واقرأ الممحي أيضا.
ركزت عيناها في عينيه. كان يبدو خبيرا في نظراته. كثير التجربة. كانت تتمنى ان تضع يدها بين يديه في يوم من الأيام. كانت عندما تنظر إلى أصابع يسراه تداعب أوتار الكمان تتمنى لو ان أصابعها صارت أوتارا تحت أصابعه. وكم تمنت ان تغفو على كتفه كما يغفو الكمان. تركت له يدها لتنام كالعصفور بين يديه. احتضن كفها بكفه يقلبها شعرت أنها ترتجف من اصبع قدمها حتى شعرها الغجري. راح ينظر الى خطوط راحتها ويمرر أصابعه فوقها وهي راضية بما يفعل منتبهة كتلميذه صغيرة تصدق ما يقول.
– خط السعادة طويل ومتوازي مع خط النجاح
مرر إصبعا على باطن كفها وهو يقول بجدية قارىء الكف وعيناه تخترقان عينيها :
– الانتفاخات الموجودة أعلى باطن كفك وأسفل أصابعك تدل على حظك العالي.
قالت لنفسها : إن حظي ان أكون بين ذراعيك. متى تلثم شفتاك أي زاوية من جسدي؟ متى تتغلغل أصابعك في شعري فتزيده بعثرة وتمردا؟ هل أنت متكبر أم مكابر أم متردد أم ممثل أمام صغيرة مثلي؟
وكأنه أحس بما يجول في خاطرها فرفع كفها الى شفتيه 0 ياللسعاده المرتعشة !! ستكتب في مفكرتها انه في هذا اليوم وهذا التاريخ وهذه الساعة قبل باطن كفها 0 وأغمضت عينيها لتضم في بحرهما لؤلؤ ما يحدث ثم بعد إن تأكدت إن ألصوره قد انطبعت فى أعمق أعماقها 0 فتحت جفنيها الغضين كأجنحة فراشة نحوه وهو يمرر اصبعة على خط العمر المقوس من أسفل الكف صاعدا نحو إصبع ألسبابه تحت خط النجاح 0ظل صامتا وكأنه بعيد تماما عنها وهو يتفرس بخط العمر ثم وهو يبتسم قال :
– ستعيشين تسعين سنة وثمانية اشهر وسبعة ايام وست ساعات وخمس دقائق وأربع ثواني…..
فتضحك قائلة ويدها بين يديه :
– لا… مستحيل ان خط العمر ينكسر هنا.. انظر جيدا
– ان كنت مخطئا فعاتبيني بعد ذالك.
فجأة تردد في المدينة انفجار هائل طغى على كل شيء ثم تساقطت قذائف. شعر من كان بعيدا كأن شيئا ثقيلا وكبيرا قد هوي فدك الأرض دكا. وان شيئا قد انخسف وحل بعده صمت وفراغ كالذي يحدث عندما تسقط إمامك نخلة طويلة او شجرة ضخمة فيعقبها الصمت والفراغ والذهول. ثم بعد قليل والغبار يتصاعد وصرخات تسمع. تعالت أبواق سيارات الإسعاف وعويل سيارات الشرطة.لاح في الأفق دخان اسود , والناس تتراكض هنا وهناك والفزع يعلو الوجوه سُمِعَ من يقول (سقط صاروخ على السوق و هاونات على البيوت) , أصوات متراكضة تتساءل عن الذي حدث وكيف حدث وأين حدث؟ يذكرون أسماء من يعرفونهم في المحلة…. ((أنهدم بيت أم زهراء……قد نجدهم إحياء……. بيت أبو جورج احترق…..أسرعوا بالماء..لعل سامي خارج البيت. أخشى إن يكون بيت أبو حارث اندفنوا تحت الكونكريت))وفي مكان ما وبين صراخ الناس وتجمهرهم وطلبات الاستغاثة كان نفر يكتفون بالتفرج والعويل و نفر يتسارعون بهمة وتضحية لرفع الأنقاض وسحْب من تحتها وما تحتها…. يسحبون ويولولون…غطاء طاولة مصبوغ بدم طري. رجل كرسي. بيانو منخسف على مفاتيحه. أوتار كمان متقطعة. كتب منكفئة على وجهها ممزقة الأوراق قال قائل والناس تبحث عن إحياء.((اخترق الهاون نافذة هذا البيت)) ويستمر البحث ورفع الحجارة ومحاولة سحب السقوف الكونكريتية التي انطبقت على ما تحتها والكل يولول. بدت من بين الحجارة قدم ملونة إلاضافر منديل مطرز علية حرف زجاج متناثر وحجارة في كل مكان كان الناس يتجمعون قرب المأساة وشهقات الفزع والعويل تتردد وتتصاعد والبيوت تتحول إلى أكوام من الحجارة وتلال وغبار…….أزاحوا جزا من جدار فبان ما تحته.. كانت كفها بكفه وإصبعه على خط العمر..