أستيقظ باكرا جدا، هذا الصباح. وأنا بعد في السرير، أسترجع وقائع حلم.
خلال فترة المراهقة وبدايات الشباب، كنت أكتب يوميات، أبدأها في أحيان عديدة بتدوين حلم. لم يكن ذلك بسبب اكتشافي للفرويدية، ولا بتأثير من السوريالية أوما شابه. وقد يعود إلى "عادة" قديمة. ففي زمن الصبا، كثيرا ما كنتُ أجدني مرغما، نوعا ما، على تذكّر ما رأيت أثناء الليل من أحلام. مرغما؟ تقريبا. ذلك أنّي كنت قد رويتُ لقريبة لنا عجوز كانت تقيم معنا، حلما رأيتُ فيه "نصرانيا" يطرق باب بيتنا، ثم يدخل مبتهجا، قائلا إنه أمضى سنوات في طريقه إلينا... وقد وصفْتُ لها "الرومي"، وأضفتُ أنها سرّت كثيرا لرؤيته. كنت، وقتها، في العاشرة من عمري، تقريبا.
لم أستغرب كثيرا حين نطّت الخالة شامة من جلستها، في تحدّ عجيب للشيخوخة ووهن العظم، فقد اعتدتُ منها المفاجآت. فتحتْ ذراعيها بحركة تنمّ عن مزيج من مسرّة مكتومة، مؤجّلة، وتفجّع صريح، مقيم. قالت: "إنه بوزيد... إنه هو... وعمّا قريب سأراه".
بوزيد هو ابنها البكر. كان إذّاك قد أمضى في ألمانيا (الغربية، في تلك الأيام) أكثر من عشر سنين، أو أنه كان اختفى، بحسب تعبير الخالة شامة، في بلاد الروم، "ما عْرفْناه حيّ اُولا ميّتْ". لم يعجّل بوزيد في الحضور، لكن الخالة شامة لم تزدد إلا ثقة بتفسيرها لحلمي ذاك، بل إنها أصبحت تردّد في كلّ مناسبة، وتشيع بين زوّارنا، أقاربَ وسواهم، بأن أحلامي أكثر من مجرّد أحلام، وأنها، لا بد،ّ متحققة، وأني، بالتالي، لست "عاديا" تماما، بل لا شك في أني على تواصل، دون دراية مني، مع عالم الجنّ. تسبّب لي كلامها بقلق حقيقي وقتها. كانت لا تنفك تسألني، قبل انصرافي إلى المدرسة، عن مشاهداتي الليلية. ثمّ، فجأة، ظهر بوزيد. إلا أنه عاد إلى "الاختفاء" من دون إبطاء.
الآن، يبدأ يوم من حياتي باستذكار تفاصيل حلم. فقد رأيتُ في ما يرى النائم، أني أشرب نبيذا رفقة م. م، وأنها تتحدث إليَّ عن إنغريد برغمان التي سرعان ما تمرّ جنب طاولتنا. وقد جعلتني المفارقة التي تنطوي عليها هذه الحكاية أضحك من الأعماق. فعلاقتي بـ م. م. تعود إلى أواخر السبعينات. كنت وقتها متمرّدا، حالما، أقرأ إدغار ألان ﭙو وجاك كيرواك وتريستان تزارا وتروتسكي وأضرابهم. وكانت هي متديّنة، "متصوفة" على طريقتها، وكنا نلتقي في بيت أحد أعمامي. المهم أني سمعت إنغريد برغمان تكرّر على مسامعها أن أركان الحياة خمسة: الحبّ، الشعر، الصداقة، الأسفار، النبيذ. قديما، كنت قلت لها ذلك ولم تشأ أن تصدّقني.
كبرت م. م. وكبر أبناؤها، ولم تنفصم في ما بيننا علاقات الودّ.
بقيت أركان الحياة عندي هي هي، وإن فقدَ الركن الخامس من أهميته، بعدما عانيت من أمراض. بل إن الركن الرابع، أيضا، كثيرا ما بقي نظريا بالنسبة إليّ. فأنا الآن، مثلا، لم أغادر سلا - الرباط منذ أزيد من خمسة أشهر، رغم أني لا أشتغل بوظيفة تفرض عليَّ البقاء طوال هذا الوقت المديد في هذا الفضاء بعينه.
آخر أسفاري كان إلى مدينة قريبة نسبيا: مراكش.
يومها، استيقظتُ باكرا جدا، أيضا، وغادرت البيت الذي كنت أقطنه إذّاك متوجّها إلى محطة القطار القريبة. كان السكون هو المسيطر على الفضاء المحيط بي، رغم الهدير الخافت، الآتي من بعيد، لمحرّكات السيارات. السكون والبرد والشوارع المبلّلة بما تساقط عليها ليلا من رذاذ. فجأة تعالى نباح كلاب من زقاق جانبي، وبدا أنها تقترب مني، ثم ظهر حارس ليلي، وأمرها بالصمت والهدوء.
ترك مرأى الكلاب الثلاثة في نفسي أثره. فظهورها في ذلك الوقت بالضبط أحيا لديّ ذكرى خاصة، تعود إلى حوالى عشرين عاماً خلت. كنت، وقتها، مقيما في احدى بلدات الجنوب المغربي، حيث التقيت، بالصدفة، في ليلة باردة، شخصا سمّيته بيني وبين نفسي - و لا أزال - "صديقي الشاعر"، وكنت تعرّفت إليه قبل بضع سنوات. دعوته إلى بيتي، وبعدها بيومين، قرّرنا أن نسافر، هو إلى الصويرة، وأنا إلى آسفي. كان "صديقي الشاعر" أصيل الانتماء إلى الجنوب المغربي، متقنا للأمازيغية، وكانت معرفته بتلك المناطق – الجنوب - وبما يتعلق بأهلها قوية، دقيقة، تحيط بأشدّ التفاصيل خفاء.
في اليوم الموالي، استيقظنا بعد الفجر بقليل، ومضينا في اتجاه محطة الحافلات.
رغم برودة الجو، فضّلنا المشي، وما هي إلا خطوات معدودة حتى فوجئنا بحشد غفير من الكلاب الرافعة عقائرها بنباح شديد العدوانية، تتوجّه نحونا بنية هجومية واضحة. هل كان عددها ثلاثين؟ أربعين؟ سبعين؟ لا أدري سوى أنها كانت كثيرة، كثيرة. بدا لي أن تطور الأمور سيكون نحو الأسوأ. فاجأني "صديقي الشاعر" بأن تقدّم أمامي وأقعى، ورفع يمناه وبدأ يحرّك أصابعها، فتوقّف زحف الكلاب، وتقدّم واحد منها نحونا، فيما وقف رفاقه في صمت تام. توقف الكلب صاحب المبادرة، بدوره، إذ دنا من رفيقي، وربّت هذا الأخير ظهره ووشوش في أذنه (الأمر الذي جعلني أكاد أضحك). استدار سيد عشيرته بجسده، وحذا حذوه رفاقه، وابتعد عنّا الحشد، ودلف مرصوصَ الصفّ إلى زقاق جانبي. كان صديقي قد قال، باسما، بمجرد ما انتهى من الوشوشة للرئيس: "إنه زعيم الجماعة. لقد تحدّثتُ إليه. إنه الآن صديقنا"...
بعد لحظة الانغماس في حلم مضى والتداعيات الناجمة عنه، يحلّ وقت تناول الدواء الضروري لمقاومة السكّري، ثم الاستمرار في كتابة هذه السطور والإنصات قليلا لديزي غيلسبي.
وها أزفت لحظة الخروج. أقوم بالرحلة المعهودة إلى الرباط ( يبعد عنها بيتي بكيلومترات قليلة). المدينة موحشة. الناس صائمون، شاحبون، متعبون. المقاهي مغلقة. الحانات هامدة. أدخل مكتبة دار الأمان المتخصصة في الكتاب العربي. أبحث عن كتب محدّدة، حديثة الظهور. لا أجدها. لم تصل بعد من لبنان أو من كولونيا. أغادر المكتبة. أشتري صحيفتين. يتضح لي أن لا ضرورة لقراءتهما. أتسكّع قليلا. أكتشف أن الوقت قد تقدّم. أقرّر العودة إلى البيت، فزوجتي صائمة، ولا تحبّذ أن تفطر وحيدة.
الحريرة وما يلازمها. في الوقت نفسه، مشاهدة شريط روزالي – مصادفة - حيث يبدو إيڤ مونتان متيّما ومتوتّرا. باربارا، كم كانت تمطر على بريست في ذاك النهار. القصيدة لپريڤير والغناء لمونتان. كم هي رومنطيقية من دون ميوعة، هذه القصيدة. في سنّ معيّنة، كانت تعجبني كثيرا. لكن مونتان، كما هو أمامي الآن، عاشق ومتوتّر. روزالي تحبه ، لكن يحدث أن تتركه، لأنها تحبّ صديقا له أيضا. وفجأة تقرّر الاختفاء.
أشعر بالتعب. أراجع قسما من ترجمتي لقصيدة "غثيان أسود". إنها "معلّقة" الشاعر الذي سمّيته صديقي (محمد خير الدين). ثم أمضي إلى السرير، وأفتح كتابا لألان جوفروا: "انفتاح الكينونة" (منشورات "لاديفيرانس"). كنت قرأتُ هذا الكتاب من قبل. أتذكّر أني ارتحت، وقتها، لاكتشاف فكرتي عن شعر رامبو معبّرا عنها، وقبل عقود، من طرف جوفروا نفسه.
ففي الفصل النثري المنشور ضمن هذا الكتاب الذي يتضمّن عددا من مجموعات الشاعر، وهو عبارة عن مقاربة للشعر الفرنسي حُرّرت عام 1955، تحت عنوان "الإحاطة بما لا يُحاط به"، يقول جوفروا ما مفاده إن العمل الأساسي لرامبو هو "فصل في الجحيم"، وإن أغلب قصائد رامبو المشكّلة من أبيات لا ترقى إلى مستوى عمله الفذّ المذكور. أقرأ بضع قصائد لجوفروا. عليَّ أن أنهي النص الذي أكتب. هذا النص.
كنت، في ما مضى، أحفظ عن ظهر قلب مقاطع طويلة من "فصل في الجحيم". أول ترجمة عربية لهذه القصيدة اطلعتُ عليها هي التي أنجز الفنان التشكيلي والكاتب رمسيس يونان، وقد أعجبت بها كثيرا، ولا أزال أنتظر وصول ترجمة الشاعر والمترجم كاظم جهاد، في صيغتها الأخيرة، إلى المغرب.
ضاع منّي كتاب يونان، ولم تحتفظ ذاكرتي منه إلا بجمل قليلة، وببعض ما ورد في مقدمة مراد وهبة، وبصورة غائمة عن بعض رسوم بشار المرافقة لنصوص رامبو المعرّبة، التي نُشرت بعد وفاة رمسيس يونان بسنين طويلة.
أتذكّر الآن أني كنت سأزور مرسم بشّار في باريس قبل بضع سنوات، فقد دعاني صديقي الشاعر نوري الجرّاح لمرافقته إلى مرسم هذا الفنّان. كنت، وقتها، التقيت نوري قبل يومين فحسب، في معهد العالم العربي، وسرعان ما اكتشفت أن صداقة حقيقية تجمع بيننا. ويا للأسف، لم يكن في إمكاني تلبية الدعوة في تلك الصبيحة.
أخرج لشراء سجائر والقيام بجولة ليلية. ثم أقوم بجولة أخرى، على الإنترنيت، هذه المرّة. أقرأ لشعراء عرب، وأسرّ بالجدد الذين أكتشف. قرأت قصيدة للشاعرة العراقية سهام جبار عنوانها "أقول hi"، أعجبتني حقا، وتساءلت: ترى كيف يعيش ويكتب شاعر أو شاعرة في عراق اليوم، وفي بغداد تحديدا؟
يبدو أن الثانية عشرة ليلا تقترب. يتصل بي صديق، هاتفيا، ويؤكد لي وفاة الزيتوني. كنت على علم بالأمر قبل الاتصال. لا شك أن الزيتوني شخص لا يُنسى. لكني لن أتحدث عنه الآن. فقد "حكيتُ" بما فيه الكفاية، وآن لهذا اليوم من حياتي أن ينتهي...
* عن جهة الشعر
خلال فترة المراهقة وبدايات الشباب، كنت أكتب يوميات، أبدأها في أحيان عديدة بتدوين حلم. لم يكن ذلك بسبب اكتشافي للفرويدية، ولا بتأثير من السوريالية أوما شابه. وقد يعود إلى "عادة" قديمة. ففي زمن الصبا، كثيرا ما كنتُ أجدني مرغما، نوعا ما، على تذكّر ما رأيت أثناء الليل من أحلام. مرغما؟ تقريبا. ذلك أنّي كنت قد رويتُ لقريبة لنا عجوز كانت تقيم معنا، حلما رأيتُ فيه "نصرانيا" يطرق باب بيتنا، ثم يدخل مبتهجا، قائلا إنه أمضى سنوات في طريقه إلينا... وقد وصفْتُ لها "الرومي"، وأضفتُ أنها سرّت كثيرا لرؤيته. كنت، وقتها، في العاشرة من عمري، تقريبا.
لم أستغرب كثيرا حين نطّت الخالة شامة من جلستها، في تحدّ عجيب للشيخوخة ووهن العظم، فقد اعتدتُ منها المفاجآت. فتحتْ ذراعيها بحركة تنمّ عن مزيج من مسرّة مكتومة، مؤجّلة، وتفجّع صريح، مقيم. قالت: "إنه بوزيد... إنه هو... وعمّا قريب سأراه".
بوزيد هو ابنها البكر. كان إذّاك قد أمضى في ألمانيا (الغربية، في تلك الأيام) أكثر من عشر سنين، أو أنه كان اختفى، بحسب تعبير الخالة شامة، في بلاد الروم، "ما عْرفْناه حيّ اُولا ميّتْ". لم يعجّل بوزيد في الحضور، لكن الخالة شامة لم تزدد إلا ثقة بتفسيرها لحلمي ذاك، بل إنها أصبحت تردّد في كلّ مناسبة، وتشيع بين زوّارنا، أقاربَ وسواهم، بأن أحلامي أكثر من مجرّد أحلام، وأنها، لا بد،ّ متحققة، وأني، بالتالي، لست "عاديا" تماما، بل لا شك في أني على تواصل، دون دراية مني، مع عالم الجنّ. تسبّب لي كلامها بقلق حقيقي وقتها. كانت لا تنفك تسألني، قبل انصرافي إلى المدرسة، عن مشاهداتي الليلية. ثمّ، فجأة، ظهر بوزيد. إلا أنه عاد إلى "الاختفاء" من دون إبطاء.
الآن، يبدأ يوم من حياتي باستذكار تفاصيل حلم. فقد رأيتُ في ما يرى النائم، أني أشرب نبيذا رفقة م. م، وأنها تتحدث إليَّ عن إنغريد برغمان التي سرعان ما تمرّ جنب طاولتنا. وقد جعلتني المفارقة التي تنطوي عليها هذه الحكاية أضحك من الأعماق. فعلاقتي بـ م. م. تعود إلى أواخر السبعينات. كنت وقتها متمرّدا، حالما، أقرأ إدغار ألان ﭙو وجاك كيرواك وتريستان تزارا وتروتسكي وأضرابهم. وكانت هي متديّنة، "متصوفة" على طريقتها، وكنا نلتقي في بيت أحد أعمامي. المهم أني سمعت إنغريد برغمان تكرّر على مسامعها أن أركان الحياة خمسة: الحبّ، الشعر، الصداقة، الأسفار، النبيذ. قديما، كنت قلت لها ذلك ولم تشأ أن تصدّقني.
كبرت م. م. وكبر أبناؤها، ولم تنفصم في ما بيننا علاقات الودّ.
بقيت أركان الحياة عندي هي هي، وإن فقدَ الركن الخامس من أهميته، بعدما عانيت من أمراض. بل إن الركن الرابع، أيضا، كثيرا ما بقي نظريا بالنسبة إليّ. فأنا الآن، مثلا، لم أغادر سلا - الرباط منذ أزيد من خمسة أشهر، رغم أني لا أشتغل بوظيفة تفرض عليَّ البقاء طوال هذا الوقت المديد في هذا الفضاء بعينه.
آخر أسفاري كان إلى مدينة قريبة نسبيا: مراكش.
يومها، استيقظتُ باكرا جدا، أيضا، وغادرت البيت الذي كنت أقطنه إذّاك متوجّها إلى محطة القطار القريبة. كان السكون هو المسيطر على الفضاء المحيط بي، رغم الهدير الخافت، الآتي من بعيد، لمحرّكات السيارات. السكون والبرد والشوارع المبلّلة بما تساقط عليها ليلا من رذاذ. فجأة تعالى نباح كلاب من زقاق جانبي، وبدا أنها تقترب مني، ثم ظهر حارس ليلي، وأمرها بالصمت والهدوء.
ترك مرأى الكلاب الثلاثة في نفسي أثره. فظهورها في ذلك الوقت بالضبط أحيا لديّ ذكرى خاصة، تعود إلى حوالى عشرين عاماً خلت. كنت، وقتها، مقيما في احدى بلدات الجنوب المغربي، حيث التقيت، بالصدفة، في ليلة باردة، شخصا سمّيته بيني وبين نفسي - و لا أزال - "صديقي الشاعر"، وكنت تعرّفت إليه قبل بضع سنوات. دعوته إلى بيتي، وبعدها بيومين، قرّرنا أن نسافر، هو إلى الصويرة، وأنا إلى آسفي. كان "صديقي الشاعر" أصيل الانتماء إلى الجنوب المغربي، متقنا للأمازيغية، وكانت معرفته بتلك المناطق – الجنوب - وبما يتعلق بأهلها قوية، دقيقة، تحيط بأشدّ التفاصيل خفاء.
في اليوم الموالي، استيقظنا بعد الفجر بقليل، ومضينا في اتجاه محطة الحافلات.
رغم برودة الجو، فضّلنا المشي، وما هي إلا خطوات معدودة حتى فوجئنا بحشد غفير من الكلاب الرافعة عقائرها بنباح شديد العدوانية، تتوجّه نحونا بنية هجومية واضحة. هل كان عددها ثلاثين؟ أربعين؟ سبعين؟ لا أدري سوى أنها كانت كثيرة، كثيرة. بدا لي أن تطور الأمور سيكون نحو الأسوأ. فاجأني "صديقي الشاعر" بأن تقدّم أمامي وأقعى، ورفع يمناه وبدأ يحرّك أصابعها، فتوقّف زحف الكلاب، وتقدّم واحد منها نحونا، فيما وقف رفاقه في صمت تام. توقف الكلب صاحب المبادرة، بدوره، إذ دنا من رفيقي، وربّت هذا الأخير ظهره ووشوش في أذنه (الأمر الذي جعلني أكاد أضحك). استدار سيد عشيرته بجسده، وحذا حذوه رفاقه، وابتعد عنّا الحشد، ودلف مرصوصَ الصفّ إلى زقاق جانبي. كان صديقي قد قال، باسما، بمجرد ما انتهى من الوشوشة للرئيس: "إنه زعيم الجماعة. لقد تحدّثتُ إليه. إنه الآن صديقنا"...
بعد لحظة الانغماس في حلم مضى والتداعيات الناجمة عنه، يحلّ وقت تناول الدواء الضروري لمقاومة السكّري، ثم الاستمرار في كتابة هذه السطور والإنصات قليلا لديزي غيلسبي.
وها أزفت لحظة الخروج. أقوم بالرحلة المعهودة إلى الرباط ( يبعد عنها بيتي بكيلومترات قليلة). المدينة موحشة. الناس صائمون، شاحبون، متعبون. المقاهي مغلقة. الحانات هامدة. أدخل مكتبة دار الأمان المتخصصة في الكتاب العربي. أبحث عن كتب محدّدة، حديثة الظهور. لا أجدها. لم تصل بعد من لبنان أو من كولونيا. أغادر المكتبة. أشتري صحيفتين. يتضح لي أن لا ضرورة لقراءتهما. أتسكّع قليلا. أكتشف أن الوقت قد تقدّم. أقرّر العودة إلى البيت، فزوجتي صائمة، ولا تحبّذ أن تفطر وحيدة.
الحريرة وما يلازمها. في الوقت نفسه، مشاهدة شريط روزالي – مصادفة - حيث يبدو إيڤ مونتان متيّما ومتوتّرا. باربارا، كم كانت تمطر على بريست في ذاك النهار. القصيدة لپريڤير والغناء لمونتان. كم هي رومنطيقية من دون ميوعة، هذه القصيدة. في سنّ معيّنة، كانت تعجبني كثيرا. لكن مونتان، كما هو أمامي الآن، عاشق ومتوتّر. روزالي تحبه ، لكن يحدث أن تتركه، لأنها تحبّ صديقا له أيضا. وفجأة تقرّر الاختفاء.
أشعر بالتعب. أراجع قسما من ترجمتي لقصيدة "غثيان أسود". إنها "معلّقة" الشاعر الذي سمّيته صديقي (محمد خير الدين). ثم أمضي إلى السرير، وأفتح كتابا لألان جوفروا: "انفتاح الكينونة" (منشورات "لاديفيرانس"). كنت قرأتُ هذا الكتاب من قبل. أتذكّر أني ارتحت، وقتها، لاكتشاف فكرتي عن شعر رامبو معبّرا عنها، وقبل عقود، من طرف جوفروا نفسه.
ففي الفصل النثري المنشور ضمن هذا الكتاب الذي يتضمّن عددا من مجموعات الشاعر، وهو عبارة عن مقاربة للشعر الفرنسي حُرّرت عام 1955، تحت عنوان "الإحاطة بما لا يُحاط به"، يقول جوفروا ما مفاده إن العمل الأساسي لرامبو هو "فصل في الجحيم"، وإن أغلب قصائد رامبو المشكّلة من أبيات لا ترقى إلى مستوى عمله الفذّ المذكور. أقرأ بضع قصائد لجوفروا. عليَّ أن أنهي النص الذي أكتب. هذا النص.
كنت، في ما مضى، أحفظ عن ظهر قلب مقاطع طويلة من "فصل في الجحيم". أول ترجمة عربية لهذه القصيدة اطلعتُ عليها هي التي أنجز الفنان التشكيلي والكاتب رمسيس يونان، وقد أعجبت بها كثيرا، ولا أزال أنتظر وصول ترجمة الشاعر والمترجم كاظم جهاد، في صيغتها الأخيرة، إلى المغرب.
ضاع منّي كتاب يونان، ولم تحتفظ ذاكرتي منه إلا بجمل قليلة، وببعض ما ورد في مقدمة مراد وهبة، وبصورة غائمة عن بعض رسوم بشار المرافقة لنصوص رامبو المعرّبة، التي نُشرت بعد وفاة رمسيس يونان بسنين طويلة.
أتذكّر الآن أني كنت سأزور مرسم بشّار في باريس قبل بضع سنوات، فقد دعاني صديقي الشاعر نوري الجرّاح لمرافقته إلى مرسم هذا الفنّان. كنت، وقتها، التقيت نوري قبل يومين فحسب، في معهد العالم العربي، وسرعان ما اكتشفت أن صداقة حقيقية تجمع بيننا. ويا للأسف، لم يكن في إمكاني تلبية الدعوة في تلك الصبيحة.
أخرج لشراء سجائر والقيام بجولة ليلية. ثم أقوم بجولة أخرى، على الإنترنيت، هذه المرّة. أقرأ لشعراء عرب، وأسرّ بالجدد الذين أكتشف. قرأت قصيدة للشاعرة العراقية سهام جبار عنوانها "أقول hi"، أعجبتني حقا، وتساءلت: ترى كيف يعيش ويكتب شاعر أو شاعرة في عراق اليوم، وفي بغداد تحديدا؟
يبدو أن الثانية عشرة ليلا تقترب. يتصل بي صديق، هاتفيا، ويؤكد لي وفاة الزيتوني. كنت على علم بالأمر قبل الاتصال. لا شك أن الزيتوني شخص لا يُنسى. لكني لن أتحدث عنه الآن. فقد "حكيتُ" بما فيه الكفاية، وآن لهذا اليوم من حياتي أن ينتهي...
* عن جهة الشعر