علاء حليحل - وَيْنُن هالّليِّيكِة وَيْن؟

بعد تشجيع وترحيب من بعض الصديقات والأصدقاء، قمتُ قبل قليل بفتح صفحة خاصّة بي في الفيسبوك. مش بروفايل، بل صفحة، page. الفرق واضح، ويعرفه حتى مُتمرّسي الفيسبوك الجُدد من أمثالي. لكلّ ضارب طبل بروفايل، أمّا “البيدج” فللمتميزين تميّزًا.

ثم فجأةً، بدأت أشعر بأنني أديب هامّ مع صفحة. فجأة تجرّأتُ للمرة الأولى في حياتي الزوجية، فقلتُ لأم الدشة الجالسة قبالتي على الكنبة بنبرة هامّة: جوعان. هكذا. ببساطة. بعفوية. لم أتدرّب عليها، لم أتصل بأمّي لتشجّعني، لم أطلب من حماي أن يأتي لشرب القهوة الليلة كي يكون حاضرًا على الحدث التاريخيّ. قلت لها: جوعان، لكنها لم ترفع رأسها حتى عن اللابتوب. قلتُ في سرّي: مسكينة، تعبانة، عم تشتغل على التماس. وكأيّ متمرس في الفيسبوك أردت اللجوء إلى الستاتوس وكتابة “جوعان” في ستاتوس الصفحة، علّ أحدًا من الستة الذين صرخوا “لايك” حتى الآن يبادر إلى خطوة ما حقيقية من أجل الكاتب الهامّ والجهبذ الذي صار عنده صفحة في الفيسبوك. ولكن الرفيقة مريم نبّهتني بأنّ عليّ أن أحافظ على الصفحة مهنية وغير شخصية، وهكذا بلعت جوعي وغضبي وبدأت أحملق في الشاشة وأنتظر اللايكات.

“قل لي كم لايكًا لديك أقل لك من أنت”- هذه هي النتيجة التي توصلت إليها بعد مضي 47 دقيقة كاملة على فتح الصفحة التاريخية لشخصي الكريم. وصل عدد “اللّيّيكة” إلى ثمانية. ثمانية لَيِّيكة في 47 دقيقة، المعدل: لايك في كل 5.875 دقائق. هل هذا جيد؟ أذهب إلى غوغل وأتكتك في سطر البحث: “like average in facebook”. لا شيء يُذكر. المشكلة أنّ شركة “فيسبوك” لا تملك موقعًا على الشبكة. أقصد موقعًا مثل باقي البشر: صورة رئيسية، كبّاسات للسيرة الذاتية والصور والنصوص وغيرها. لديهم بروفايل في فيسبوك!

أقوم إلى المطبخ، أبحث عن علبة سَردين. أعود إلى اللابتوب وأنا أمضغ سردينة بالزيت محشوة بين شطيرتي خبز. يا إلهي! أصبحوا 10 ليِّيكة! واحدة أعرفها وأخرى لا أميّز اسمها. هل عليّ التأهيل والترحيب بكلّ منضم(ة) جديد(ة)؟ هل هناك أصول وإتيكيت للصفحات؟ أسأل أم الدشة، فأنتبه إلى أنها قامت للنوم وأنا أتكتك وحدي في الصالة، فأشعر بألفة مع الليّيكة العشرة الجُدد الذين تحوّلوا في لحظة إلى عائلتي المُوسَّعة. أهمّ لأكتب ستاتوس مثيرًا للمشاعر، إلا أنّ سبابة مريم المرفوعة في وجهي تمنعني من ذلك. يجب أن تكون الصفحة مهنية، لا شخصية. أشعل سيجارة. أعمل ريفرش… ما زالوا عشرة. مرت دقيقتان منذ انضمام الليّيكتين الأخيرتين. كمان ريفرش. عشرة. ريفرش. عشرة. ريفرش. أحد عشر ليّيكًا. يا للسعادة. أحد عشر لايكًا على المشهد الفيسبوكيّ. بدأت أشعر بدغدغة في أصابع يديّ لا شكّ أنها تشبه دغدغات الأدباء الكبار عندما يسري الإلهام في عروقهم، فقرّرت على الفور البدء بكتابة قصة قصيرة غير مسبوقة عن… عن ماذا؟ يجب أن أجد موضوعًا يليق بالأحد عشر.. لحظة، 16 لايكًا بالتمام والكمال. لم تمرّ أكثر من ساعة للآن. 16 لايكًا في 58 دقيقة. المعدل الآن: 3.625. ما هذا؟ لقد تدنّى المعدّل. يجب أن أكتب قصة بشكل عاجل تزلزل أركان الفيسبوك. لكن كتابة قصة بسرعة أمر شبه مستحيل. سأكتب “قصيدة” إذًا. بأسلوب الهايكو. بضع سطور تبدو مترابطة مع أنها ليست كذلك، وتبدو بسيطة عبقرية مع أنها ضحلة.

حسنًا، سأكتب… ممممم… “الرجل يجلس وحيدًا/ يكتب وحدته/ وحدته تكتبه”. جميل. ضحلة وسطحية بما يكفي لحصد أكبر عدد من اللايكات، مع أنها تبدو عميقة وفلسفية. استمناء جميل وجذاب. يجب أن تكون “القصائد” في الفيسبوك خفيفة وضحلة كي يفهمها أكبر عدد ممكن من الليّيكة. يجب البحث عن القاسم المشترك الأدنى. 20 لايكًا. المعدل الآن: 62 دقيقة/ 20 = 3.1 ليّيك في الدقيقة. المعدل ينخفض. كي يمكن رفعه؟ يجب حلّ المسألة رياضيًا. أصنع ساندويتشة أخرى من السردين برغم “الحَرَقة” التي سببتها السندويشة الأولى في معدتي. إذا صار المعدل… لحظة لحظة، هل حسبتها بشكل صحيح؟ كيف يمكن أن ينخفض المعدل مع زيادة اللايكات بوتيرة أكبر من زيادة الدقائق؟ حسنًا، 4 وحدات في الرياضيات بعلامة 98 يجب أن تعينني هنا. عشرون لايكًا في 62 دقيقة. المعدل 3.1 في الدقيقة. ثمانية ليّيكة في 47 دقيقة هذا يعني: 47/8 = 5.875. ممممم. ربما بالعكس؟.. 20/62= 0.3255 و8/47 = 0.17021. إذًا فوتيرة المعدل في ارتفاع حسب هذه الحسبة. سأتبنى هذه الحسبة فهي تبعث على الاطمئنان أكثر.

أقرأ “القصيدة” ثانية. من المفضل أن يكون فيها رمز ما لمحمود درويش، شاعر الفيسبوك بلا منازع. خبز أمي أو ما شابه. القطعان الجاهلة تحبّ أن تقتبسه دليلا على ثقافتها، مع أنها لا تكاد تفقه شيئًا من شعره المتين. أعود إلى القصيدة وأغيّرها: “الرجل يجلس وحيدًا/ يكتب خبز أمّه/ خبز أمّه يكتبه”. تمامًا! هكذا أفضل. وربما سأغيّر البيت الأخير هكذا: “الرجل يجلس وحيدًا/ يكتب خبز أمّه/ الزعتر يكتبه”. يا إلهي كم أنا عبقريّ. هذه ستحصد مئات اللايكات بلا شك. ويمكنني أن أضيف المزيد من الشاعرية على “القصيدة”: “الشاعر يجلس وحيدًا/ يكتب خبز أمّه/ الزعتر يكتبه”. تقدّم خطير لا شكّ. هكذا سأمتطي شهرة درويش بذكاء فاحش: فلست ناسخًا عنه بالتأكيد مع أنني استبحتُ عرضه وطوله. لا يهمّ، من سيميّز هذه الدقائق من قطيع الليّيكة؟

أقرأ “القصيدة” بتمعّن ثم أفحص عدد اللايكات: 22 لايكًا. يجب أن أتوقف عن حساب ارتفاع المعدل فهذا أمر ناتف للأعصاب والحواجب (مرة أخيرة وفقط: 22/67 = 0.328358). وفي لحظة مشرقة يخطر في بالي أنّ تقليد نزار قباني والسرقة من وحيه (يسمونه “تناصّ” تخفيفًا لوجع الشعور بالذنب) أفضل بكثير وأسلم وأغزر لايكيًّا. نزار يا نزار كيف نسيتك كل هذه السنين وأنت معلم الغزل الأول وطريقي إلى اللايكات السهلة؟ لديّ دواوينه كلها في مكان ما في المكتبة. أدور باحثًا عن دواوينه (الصغيرة القطع، المزركشة) في فوضى المكتبة الأزليّة ولكنني لا أعثر عليها. أملّ من البحث. أستنفر ذاكرتي: “حبك يا عميقة العينين/ تطرف/ تصوف/ عبادة./ حبك مثل الموت والولادة/ صعب أن يُعاد مرتين.” حسنًا، يجب أن أكتب هايكو شبيهًا ولكن من دون سرقة بادية للعيان. مثلا: “الشاعر يناجي عميقة العينين/ تصوّفه عبادة/ وحزنه لا يُعاد كالموت والولادة.” جميل. أغلب الظنّ أن قطيع الليّيكة لا يعرف النص الأصليّ. يجب أن أقرّر أيّ “قصيدة” أنشر. ربما عليّ نشرهما الاثنتيْن، واحدة الليلة وأخرى غدًا صباحًا. بدلاً من “صباح الخير” المبتذلة سأنشر “القصيدة” عن الشاعر عميق العينيْن. أبحث عن سيجارة. أتذكّر أنّ العلبة فرغت قبل ساعتيْن. رئتاي تحكّانني. أخرج ماشيًا إلى البقالة. الساعة نحو الحادية عشرة ليلا وأسرع الخطى قبل أن تغلق أبوابها. أشعر بندم سحيق لأنني لم أنزل الآپ الخاصة بالفيسبوك على جهازي النقال (مبدأ!!). وكيف يمكنني أن أزيد لايكات صفحتي الفتيّة بالمبادئ؟ لا توجد مبادئ في اللايكات. اللايكات تبيح المحظورات. سأنزل الآپ فور عودتي للبيت.

يبتسم البائع حين أطلب علبتيْ سجائر “غولواز”. أسأله: عندك فيسبوك؟ يجيب بالنفي. أفقد أيّ اهتمام ببشريته التافهة. يجب أن أحصر اهتماماتي ونفاقي في أصحاب حسابات الفيسبوك. الجيل الجديد، أيها الجيل الجميل، مستقبل البلد، كلكم ليّيكة، أنتم أزهار المدائن، أحبكم لو تعرفون كم! (جملة جيدة لستاتوس). نعم، سأكتب رواية للفتيان. هناك شحّ مزمن في أدب الفتيان وهذه فرصة ذهبية. سأحظى بلايكات وشيرات لم يحلم بها أكبر مُقلّدي درويش وقباني ومستغانمي قاطبةً.

أضع سيجارة في فمي وقبل أن أشعلها أعمل ريفرش. 32 لايكًا. هلّلويا! أتفحص أسماء الليلكة. غالبيتهم الساحقة من معارفي. أشعر بخطر الاستنفاد. يجب أن أخترق الدوائر الضيّقة التي أعيش فيها. لماذا اخترت العيش في فقاعة الثقافة؟ أليس من الأجدر أن أعيش في فقاعة الأراجيل والهشك بشك والفضائيات؟ أتندّم أشدّ الندم على سني الوحدة والعزلة والقراءة والكتابة. سأبدأ غدًا تغييرًا جذريًا في حياتي. لا بدّ من ذلك. سأنزل من العصر إلى قهوة العودة وأسحب الأنفاس حتى الليل. لن أقرأ كتابًا أو جريدة أو أنشغل باللابتوب كما أفعل دائمًا، بل سأترصّد كل مجموعات الشباب اللييكة التي تأتي لشدّ الأنفاس وسأناوشهم/ن. نعم، أملنا في الجيل الجديد (ستاتوس آخر محتمل).

أسحب نفسًا من السيجارة ولكنني أنتبه إلى أنني لم أشعلها. الساعة الواحدة قبل الفجر وعدد اللييكة صار 46 ليّيكًا. يجب أن أرحّب لهم، عيب. يجب التفكير في ستاتوس جماهيري/ شعبوي/ نفاقيّ لا ذكاء فيه أو عمق أو أيّ معلومات ثقافية يمكن أن تشكل تهديدًا على قطيع اللييكة. مممم… “أهلا وسهلا في صفحتي”. جيد. ليست بحاجة لمهارات قراءة خاصة، أو لمعلومات عامة أو لأيّ نوع من الوعي السياسيّ. أكتب الستاتوس وقبل أن أضغط على النشر أتردّد قليلا. الشخص القديم في داخلي يصرخ هلعًا. يجب أن أقتله، أن أعزله على الأقل. أصبّ كأسًا كبيرة من العرق وأضغط أنشر. وهكذا يصبح انتظار اللايكات مزودوجًا: لايكات للصفحة ولايكات للستاتوس. وفي أقلّ من دقيقة أحصد 6 لايكات على الستاتوس. كم جميل أنّ الناس متفضية أشغال لهذه الدرجة. أهمّ بكتابة هذه الفكرة في التعقيب على الستاتوس لكن الإنسان الجديد فيّ يمنعني. لا تُشعر اللييكة بالنفور والاستعلاء. بدلا من هذه الفكرة ذات المضمون أكتب تعقيبًا يليق بهذه الساعة الذابلة. أكتب: “مساء الخير للجميع”. بعد دقيقتين أحصد 3 لايكات جديدة للصفحة و5 للستاتوس ولايكيْن للتعقيب. أشعر بأنني أديب نادر وشهير. لم يتفاعل أحد معي من قبل بهذا النشاط. أنهي كأس العرق والسيجارة الخامسة وأقرّر النوم. نعم، سأنام لأستيقظ والفضول يقتلني. سأقوم إلى مفاجأة جديدة في حياتي، إلى إثارة لم أشعر بها من قبل.

أعدّ اللايكات في الفراش كي أغفو بسرعة: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة… تقفز اللايكات الصوفية فوق جدار المزرعة الخشبية بفرح وأستسلم للخدر الشعبيّ كلية. في الصباح أتقلب في الفراش بمتعة خالصة وأهيئ نفسي لمعرفة عدد اللايكات على الصفحة والستاتوس والتعقيب. لا بدّ أنها وصلت العشرات الآن. أنفض اللحاف عني وأقعد دفعة في الفراش وأنظر إلى المرآة قبالتي. هكذا يكون مولد أديب شهير. أتغاضى عن شكلي المتجعلك بأثر النوم، وأردّد كأيّ شاعر أو أديب معاصر معروف يرى سحنته البهيّة في المرآة: بيغ لايك!

ملاحظات لا بدّ منها:

1) كُتبت هذه المادة بغالبيتها في تموز 2011، ومن وقتها وصل عدد اللايكات لصفحتي في فيسبوك أكثر من 2000 لايك. يمكنكم أن تستنتجوا ما شئتم من الاستنتاجات- فاللييكة دائمًا على حق.

2) تقع هذه المادة ضحيّة المفارقة الذاتية والتناقض الحتميّ بين نبذها الخفيّ لثقافة اللايكات ورغبتها بحصد أكبر عدد منها من أجل “توصيل الرسالة”.

3) “أحبكم لو تعرفون كم”.

4) إذا لم تنفع كلّ هذه الحيل فسألجأ إلى أقدم الحيل وأضمنها: “هل يُعقل أن تمرّ على ستاتوس يصلي على الرسول الكريم ولا تضغط لايك؟”

5) إذا أتتك مذمّتي من ليِّيكٍ فهي الشهادة لي بأنني كاملُ. وإذا أتاني لايكٌ منه فهي الشهادة بأنه كاملُ.

6) “تصبحون على خير” / “صباح الخير”.



* (نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 21 نيسان 2014)


** نقلا عن
وَيْنُن هالّليِّيكِة وَيْن؟ | علاء حليحل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...