جمال الدين علي - رسائل لم تصل إلى وجهتها.. قصة قصيرة

في محطة سير القطار المتجه من جنوب فرنسا لجبهة القتال الشرقية; توقف القطار المعبأ بالجنود والآت القتل. الرجال على الرصيف يهتفون. والنساء ينثرن صلواتهن ودموعهن مع حبات الأرز وزهور الفل. والجنود من النوافذ يلوحون بقباتعهم بيد; وبأصابع اليد الأخرى يرفعون علامة النصر. وأسلحتهم قلادة قتل تتدلى على أعناقهم. برهة و انطلقت الصافرة. نفث القطار دخانا كثيفا دون اكتراث بالحشد وتهادى مبتعدا من الرصيف. الجندي الأسمر لم يشارك بكل ذلك. ظل مكفّن بداخل بزته العسكرية يرقب المشهد بعيني مومياء.
(هيا شاركنا المرح لا تكن خجولا). قال جندي مشاغب.
عند آخر منحنى لخط سير القطار. ذلك الذي يسبق النفق الجبلي مباشرة. مد الجندي الأسمر عنقه من النافذة; وقعت عينه- الفتاة الريفية الفاتنة واقفة أمام خرافها كطيف تنتظر مرور القطار لتعبر هي وخرافها بسلام. دبت فيه الروح; رفع قبعته ولوح بها. رفعت الفتاة كفها اليمنى بحذر وحركت أصابعها حركة خفيفة كانت منسجمة مع حركة القطار الهادئة. قذف الجندي نكهة قبلة في الهواء. ابتسمت; وغطت شفتيها بكفها; فتبخر الخفر من بين أصابعها المرتعشة. تهادى القطار غير مكترث لما يحدث بداخله واختفى بداخل النفق. خرافها لم تبد أي اهتمام عبرت أمامها; وانتشرت في المرعى المعشب. وصل الجندي إلى جبهة القتال في جزر اليابان مجروحا بسهام عينيها التي اصابته في موضع الشك واليقين. عادت هي إلى كوخها بوسط الغابة. حفيف القبلة المباغتة تحول إلى ريح عاصفة; اقتلعت قلبها من جذورة و طوحت به في سهل الهواجس. حلّقت بخيالها في سماء طيفه المحتجب بدخان القطار والمختفي بجوف النفق الجبلي طيلة الليالي التي أعقبت رحيله. تاه في جبهة القتال وهام بالصحراء والغابة والجبال. بعد عناء شديد; وصل إلى البحر . شاهد قارورة زجاجية طافية على السطح. وكانت تتماوج مع الموج في فاصل لرقصة الحياة والموت; كطيف الفتاة الذي لا يبارح خياله. فكرّ أن يراسلها. سحب القارورة وجلس على الشط. من جيب سترته أخرج دفتر صغير وقلم. أسند سلاحه إلى كتفه وظهره إلى حافة صخرة وكتب.
- إلى فتاتي الريفية راعية الخراف. سهم عينيك أدمى فؤادي. وجسدي كله بات مضرجا بلون العشق الأحمر. كيف كانت نكهة القبلة؟. بالتأكيد لن أسألك عن طعمها لأنني تذوقته في أصابعي المرتعشة. أعلم أنك فتاة ريفية محافظة من جنوب فرنسا; لذا لا أنتظر منك ردا.
في ذات اللحظة كانت هي جالسة بالشط المقابل من العالم تفكر في ارسال رسالة. فكّرت بالريح. هي أسرع. قالت مبتسمة.
(الريح هي التي أوصلت لي نكهة القبلة المباغتة وحفيفها. نعم الريح أسرع وأضمن). وقفت تجاه الريح وهمست.
- حفيف القبلة المباغتة كان معبرا. لا كان ريحا عاصفة عصفت بقلبي; فانطلق السهم من عيني غصبا عني أو بارادتي لست أدري فلقد كان الموقف برمته مربكا. أما النكهة والطعم فدعهما حتى تعود ساعتها يمكنك الحكم. أنا أعلم أنك فتي ملون; وقد تجد بعض الحرج في الدخول في علاقة من أي نوع مع فتاة ريفية بيضاء; لذا لا أنتظر منك رد .
في رسالته الثانية والتي كانت بعد سنتين. كتب الجندي بيأس.
- أنا الآن فقدت الأمل في العودة للديار بعد أن توقفت الحرب وعاد جميع الجنود إلى ديارهم. صنعت كوخا بوسط الغابة وهي توفر لي الغذاء. البحر ظل كريما معي أمدني بالكثير. ولكن كل ذلك لا يعادل رحابة صدره و وقبوله حمل رسائلي إليك و بلا مقابل. كان واضحا معي منذ البداية. قال لي لا أضمن لك وصولها إليها يد بيد; ولكني سوف أبقيها طافية على السطح أبد الدهر. وهذا كرم كبير منه. لن تجدي ساعي بريد يحمل رسائلك على ظهره يلف ويدور بها الدهر كله. ها. نعود لما كنا بصدده. في غير هذا الوضع كان يمكن أن تعلق رقبتي على حبل يتدلى من فرع يابس لشجرة تقف متطفلة بقارعة الطريق. هناك بجنوب فرنسا حيث كان يعمل أجدادي في حقول القمح وبساتين العنب. بالمناسبة هل ما زالت نساء نيس وكان هن الأقدر على صناعة النبيذ الفرنسي المعتّق. أشعر بمفاصلي تتجمد من البرد. أحلم باحتساء كأس نبيذ معتق من يديك في ليلة رأس السنة; ونحن نجلس بقرب المدفأة الجدارية. نرقب من النافذة كرات الثلج وكأنها نتف من ريش الملائكة قادمة من السماء. كان هدفي من القتال الدفاع عن شرف فرنسا لأحصل على هويتي. قد يكون لوني أسود ولكني نشأت وترعرعت بفرنسا ولا أعرف غيرها موطنا. أتساءل الآن بعد كل تلك السنوات. لم يتوجب عليّ الدفاع عن شرف فرنسا لأحصل على هوية؟.
يبدو أن بعض الأمور تحتاج للشرح. ولكنني فهمت اللعبة. منذ اليوم سأغير عقيدتي القتالية. نعم. سادافع عن شرفك أنت وحسب. قد تظل رسالتي هذه سابحة مع التيار لذا لن أقلق كثيرا اذا لم يصلن منك رد.
- الريح اليوم هوجاء لا أضمن أنها سوف تنقل رسالتي إليك بوضوح. لقد مضت عشرون عاما وأنا أناجي الريح. بالليل وعند الشروق مع نسمات الصباح; وأحلم بك تأتي تجرجر أسمالك بالنصر الكاذب. النبيذ الأحمر ما يزال في قنانيه مذ خبأته بالأسطبل من عين أمي وأبي. هما الآن بالسماء; فقد رحلا عن الوجود. ما عادت أقدامي تقدر على اللف والدوران خلف الخراف فأطلقت سراحها في الغابة ولكنها تأبى الرحيل. المسكينة تعودت عليّ الفتني والفتها. أعلم أن ليس لك سرج ولا حصان في تلك الحرب اللعينة. وأنك تقاتل من أجل شرف فتيات فرنسا ضد نذالة الألمان. وكوني فتاة فرنسية ريفية بيضاء من جنوب فرنسا; فهذا وحده كاف بالنسبة لي للارتباط بفتى مغامر مثلك. كن مطمئن لن ينصب أحد المشانق لعنق أحد. ان كانت هذه الريح الهوجاء صادقة سوف تخبرك بذلك فعد إلى الديار تجدني في ذات المكان. عند انحناءة خط سكة القطار الذي يسبق النفق الجبلي.
في بحر اليابان الملقب بالشيطان; و بعد مرور خمسة وسبعون عاما عثر بحارة على مجموعة من القوارير طافية على السطح. ولم يعثر حتى الآن على رسائل الفتاة الريفية البيضاء من جنوب فرنسا.


في محطة سير القطار المتجه من جنوب فرنسا لجبهة القتال الشرقية; توقف القطار المعبأ بالجنود والآت القتل. الرجال على الرصيف يهتفون. والنساء ينثرن صلواتهن ودموعهن مع حبات الأرز وزهور الفل. والجنود من النوافذ يلوحون بقباتعهم بيد; وبأصابع اليد الأخرى يرفعون علامة النصر. وأسلحتهم قلادة قتل تتدلى على أعناقهم. برهة و انطلقت الصافرة. نفث القطار دخانا كثيفا دون اكتراث بالحشد وتهادى مبتعدا من الرصيف. الجندي الأسمر لم يشارك بكل ذلك. ظل مكفّن بداخل بزته العسكرية يرقب المشهد بعيني مومياء.
(هيا شاركنا المرح لا تكن خجولا). قال جندي مشاغب.
عند آخر منحنى لخط سير القطار. ذلك الذي يسبق النفق الجبلي مباشرة. مد الجندي الأسمر عنقه من النافذة; وقعت عينه- الفتاة الريفية الفاتنة واقفة أمام خرافها كطيف تنتظر مرور القطار لتعبر هي وخرافها بسلام. دبت فيه الروح; رفع قبعته ولوح بها. رفعت الفتاة كفها اليمنى بحذر وحركت أصابعها حركة خفيفة كانت منسجمة مع حركة القطار الهادئة. قذف الجندي نكهة قبلة في الهواء. ابتسمت; وغطت شفتيها بكفها; فتبخر الخفر من بين أصابعها المرتعشة. تهادى القطار غير مكترث لما يحدث بداخله واختفى بداخل النفق. خرافها لم تبد أي اهتمام عبرت أمامها; وانتشرت في المرعى المعشب. وصل الجندي إلى جبهة القتال في جزر اليابان مجروحا بسهام عينيها التي اصابته في موضع الشك واليقين. عادت هي إلى كوخها بوسط الغابة. حفيف القبلة المباغتة تحول إلى ريح عاصفة; اقتلعت قلبها من جذورة و طوحت به في سهل الهواجس. حلّقت بخيالها في سماء طيفه المحتجب بدخان القطار والمختفي بجوف النفق الجبلي طيلة الليالي التي أعقبت رحيله. تاه في جبهة القتال وهام بالصحراء والغابة والجبال. بعد عناء شديد; وصل إلى البحر . شاهد قارورة زجاجية طافية على السطح. وكانت تتماوج مع الموج في فاصل لرقصة الحياة والموت; كطيف الفتاة الذي لا يبارح خياله. فكرّ أن يراسلها. سحب القارورة وجلس على الشط. من جيب سترته أخرج دفتر صغير وقلم. أسند سلاحه إلى كتفه وظهره إلى حافة صخرة وكتب.
- إلى فتاتي الريفية راعية الخراف. سهم عينيك أدمى فؤادي. وجسدي كله بات مضرجا بلون العشق الأحمر. كيف كانت نكهة القبلة؟. بالتأكيد لن أسألك عن طعمها لأنني تذوقته في أصابعي المرتعشة. أعلم أنك فتاة ريفية محافظة من جنوب فرنسا; لذا لا أنتظر منك ردا.
في ذات اللحظة كانت هي جالسة بالشط المقابل من العالم تفكر في ارسال رسالة. فكّرت بالريح. هي أسرع. قالت مبتسمة.
(الريح هي التي أوصلت لي نكهة القبلة المباغتة وحفيفها. نعم الريح أسرع وأضمن). وقفت تجاه الريح وهمست.
- حفيف القبلة المباغتة كان معبرا. لا كان ريحا عاصفة عصفت بقلبي; فانطلق السهم من عيني غصبا عني أو بارادتي لست أدري فلقد كان الموقف برمته مربكا. أما النكهة والطعم فدعهما حتى تعود ساعتها يمكنك الحكم. أنا أعلم أنك فتي ملون; وقد تجد بعض الحرج في الدخول في علاقة من أي نوع مع فتاة ريفية بيضاء; لذا لا أنتظر منك رد .
في رسالته الثانية والتي كانت بعد سنتين. كتب الجندي بيأس.
- أنا الآن فقدت الأمل في العودة للديار بعد أن توقفت الحرب وعاد جميع الجنود إلى ديارهم. صنعت كوخا بوسط الغابة وهي توفر لي الغذاء. البحر ظل كريما معي أمدني بالكثير. ولكن كل ذلك لا يعادل رحابة صدره و وقبوله حمل رسائلي إليك و بلا مقابل. كان واضحا معي منذ البداية. قال لي لا أضمن لك وصولها إليها يد بيد; ولكني سوف أبقيها طافية على السطح أبد الدهر. وهذا كرم كبير منه. لن تجدي ساعي بريد يحمل رسائلك على ظهره يلف ويدور بها الدهر كله. ها. نعود لما كنا بصدده. في غير هذا الوضع كان يمكن أن تعلق رقبتي على حبل يتدلى من فرع يابس لشجرة تقف متطفلة بقارعة الطريق. هناك بجنوب فرنسا حيث كان يعمل أجدادي في حقول القمح وبساتين العنب. بالمناسبة هل ما زالت نساء نيس وكان هن الأقدر على صناعة النبيذ الفرنسي المعتّق. أشعر بمفاصلي تتجمد من البرد. أحلم باحتساء كأس نبيذ معتق من يديك في ليلة رأس السنة; ونحن نجلس بقرب المدفأة الجدارية. نرقب من النافذة كرات الثلج وكأنها نتف من ريش الملائكة قادمة من السماء. كان هدفي من القتال الدفاع عن شرف فرنسا لأحصل على هويتي. قد يكون لوني أسود ولكني نشأت وترعرعت بفرنسا ولا أعرف غيرها موطنا. أتساءل الآن بعد كل تلك السنوات. لم يتوجب عليّ الدفاع عن شرف فرنسا لأحصل على هوية؟.
يبدو أن بعض الأمور تحتاج للشرح. ولكنني فهمت اللعبة. منذ اليوم سأغير عقيدتي القتالية. نعم. سادافع عن شرفك أنت وحسب. قد تظل رسالتي هذه سابحة مع التيار لذا لن أقلق كثيرا اذا لم يصلن منك رد.
- الريح اليوم هوجاء لا أضمن أنها سوف تنقل رسالتي إليك بوضوح. لقد مضت عشرون عاما وأنا أناجي الريح. بالليل وعند الشروق مع نسمات الصباح; وأحلم بك تأتي تجرجر أسمالك بالنصر الكاذب. النبيذ الأحمر ما يزال في قنانيه مذ خبأته بالأسطبل من عين أمي وأبي. هما الآن بالسماء; فقد رحلا عن الوجود. ما عادت أقدامي تقدر على اللف والدوران خلف الخراف فأطلقت سراحها في الغابة ولكنها تأبى الرحيل. المسكينة تعودت عليّ الفتني والفتها. أعلم أن ليس لك سرج ولا حصان في تلك الحرب اللعينة. وأنك تقاتل من أجل شرف فتيات فرنسا ضد نذالة الألمان. وكوني فتاة فرنسية ريفية بيضاء من جنوب فرنسا; فهذا وحده كاف بالنسبة لي للارتباط بفتى مغامر مثلك. كن مطمئن لن ينصب أحد المشانق لعنق أحد. ان كانت هذه الريح الهوجاء صادقة سوف تخبرك بذلك فعد إلى الديار تجدني في ذات المكان. عند انحناءة خط سكة القطار الذي يسبق النفق الجبلي.
في بحر اليابان الملقب بالشيطان; و بعد مرور خمسة وسبعون عاما عثر بحارة على مجموعة من القوارير طافية على السطح. ولم يعثر حتى الآن على رسائل الفتاة الريفية البيضاء من جنوب فرنسا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...