المؤتمر الذي دعا إليه المعهد الالماني للبحوث الشرقية، بالاشتراك مع معهد غوته في بيروت حول الترجمة، وترجمة الشعر على وجه الخصوص، كان مناسبة مهمة لطرح تساؤلات شتى حول معنى الترجمة وطرائقها ودورها الاساسي في تفاعل الثقافات وتحقيق التواصل بين الشعوب. وقد شارك في المؤتمر الذي انعقد لثلاثة أيام متواصلة ستة شعراء بينهم ثلاثة يكتبون بالالمانية هم الما راكوزا وميشائيل روس وعادل فرشولي السوري الأصل، وثلاثة من العرب هم بول شاوول وجرجس شكري وكاتب هذه السطور، إضافة الى فؤاد رفقة الذي سلط الضوء على تجربته الشخصية في ترجمة الشعر الالماني من خلال أعلامه الكبار مثل هلدرلن ورلكه وهيرمن هسه.
تخللت المؤتمر الذي قدم فيه المشاركون اوراقاً متعددة ومتمايزة حول فهمهم لعملية الترجمة من لغة الى لغة قراءات بالعربية والالمانية لبعض قصائد الشعراء المشاركين.
لست هنا لأتوقف عند تفاصيل المؤتمر ووقائعه بقدر ما أريد التوقف عند ورقة الشاعر الالماني ميشائيل روس التي اعتبر فيها أن العلاقة الفارقة للشعر عند أي شعب من الشعوب تتمثل في ما اطلق عليه بالانجليزية كلمة Irony التي تعبر وفق رأيه عن شخصية الأمة وهويتها العصية على الترجمة.
أما المعنى العجمي للكلمة الانجليزية فهو يعني السخرية أو التهكم أو الهزء وفقاً للموقف أو الحالة أو طريقة التناول والاستخدام. وقد يتصل معنى الكلمة من بعض وجوهه بالثورية التي تعني عند العرب الكلام المبطن الذي يمكن حمله على وجهين أو معنيين: معنى ظاهري ومعنى باطني أو داخلي. وقد اعتبر روس ان لكل أمة طريقتها في السخرية من العالم والبشر والاحداث وطريقتها المماثلة في تبطين الكلام الذي يتراوح بين التورية والتلميح والنكتة الساخرة والطريفة التي كثيراً ما تثير الضحك، لكنها تتخذه قناعاً لإخفاء دموعها المستترة. كما تحدث الشاعر الالماني عن التجربة المثيرة التي اختبرها لدى إقامته في الصين، حيث تبين له ان للكلمة الواحدة عند الصينيين عشرات المعاني المتباينة والتي لا يتم اكتمالها إلا وفقاً لنبرة الصوت أو ملامح الوجه أو حركة الجسد وان هذه الميزة تجعل من الشعر الصيني عصياً على الترجمة الى ابعد الحدود.
هذه الأفكار التي طرحها ميشال روس للنقاش وتداول الآراء اتاحت لي بعد ذلك أن أتفحص النماذج المتنوعة لشعرنا العربي الذي يغيب عن معظمه هذا النوع من الكتابة ليحل محلها نوع آخر هو الهجاء الذي يعني بالانجليزية Satire، والذي اعتبره العرب “احد الضروب الرئيسية للقول الشعري، إضافة بالطبع الى المديح والرثاء والغزل والوصف والفخر، لكن الفارق بين النوعين لن يكون في مصلحة الهجاء الذي هو شكل من أشكال العنف اللفظي والذي يذهب مباشرة الى معناه ليصبح اقرب الى الشتيمة والتحقير وقتل الآخر منه الى الطرافة والمخاتلة والالماح الذكي للتورية أو لرديفتها الأخرى.
قد تكون النبرة المتجهمة للشعر العربي متأتية عن قسوة الواقع وظروف الحياة الصعبة في عالم الصحراء المشرع على الموت والوحشة والتيه، إلا أن الأمر ينسحب على الشعر الجاهلي والاسلامي بوجه خاص ولا ينسحب على العصر العباسي الذي بلغت الحضارة فيه ذروتها، كما أدت الفوارق الكبيرة بين طبقات المجتمع وشرائحه الى الاستعانة بالسخرية والتهكم والايماء الذكي للرد على ما يجري. هكذا أمكننا ان نحصل على نصوص طريفة ومتهكمة وغنية بالمفارقات. وفي الشعر كما في النثر عرف الأدب العربي نماذج مهمة من الأدب الساخر والمشبع بالتورية، كما في كليلة ودمنة لابن المقفع أو في ادبيات الجاحظ المختلفة أو في مقامات الهمذاني والحريري أو في أشعار أبي نواس وابن الرومي، رغم ان سوداوية هذا الأخير كانت تدفعه أحياناً الى استبدال السخرية بالهجاء المقذع.
تكاد في شعرنا ونثرنا الحديثين نفتقر لسوء الحظ الى هذه الطريقة الذكية والمفتوحة على التأويل في مقاربة الكتابة والعالم، فباستثناء بعض كتابات المازني ومارون عبود في النثر وبعض قصائد بلند الحيدري وابراهيم طوقان والياس لحود وحسن عبدالله لا نكاد نجد أثراً يذكر لهذا النوع من الكتابة في ادبنا المعاصر. والطريف في الأمر أن الكثير من الشعراء والأدباء الذين يتمتعون في حياتهم اليومية وجلساتهم الخاصة بحسّ النكتة والطرافة اللماحة يعودون ما أن يجلسوا الى الكتابة للرصانة والتجهم والجدية المفرطة. كأنهم بذلك “يترجمون” أنفسهم إلى لغة أخرى ويحرمون الكتابة العربية من أحد أجمل تجلياتهم الأسلوبية واكثرها صلة بمعنى الإبداع.
تخللت المؤتمر الذي قدم فيه المشاركون اوراقاً متعددة ومتمايزة حول فهمهم لعملية الترجمة من لغة الى لغة قراءات بالعربية والالمانية لبعض قصائد الشعراء المشاركين.
لست هنا لأتوقف عند تفاصيل المؤتمر ووقائعه بقدر ما أريد التوقف عند ورقة الشاعر الالماني ميشائيل روس التي اعتبر فيها أن العلاقة الفارقة للشعر عند أي شعب من الشعوب تتمثل في ما اطلق عليه بالانجليزية كلمة Irony التي تعبر وفق رأيه عن شخصية الأمة وهويتها العصية على الترجمة.
أما المعنى العجمي للكلمة الانجليزية فهو يعني السخرية أو التهكم أو الهزء وفقاً للموقف أو الحالة أو طريقة التناول والاستخدام. وقد يتصل معنى الكلمة من بعض وجوهه بالثورية التي تعني عند العرب الكلام المبطن الذي يمكن حمله على وجهين أو معنيين: معنى ظاهري ومعنى باطني أو داخلي. وقد اعتبر روس ان لكل أمة طريقتها في السخرية من العالم والبشر والاحداث وطريقتها المماثلة في تبطين الكلام الذي يتراوح بين التورية والتلميح والنكتة الساخرة والطريفة التي كثيراً ما تثير الضحك، لكنها تتخذه قناعاً لإخفاء دموعها المستترة. كما تحدث الشاعر الالماني عن التجربة المثيرة التي اختبرها لدى إقامته في الصين، حيث تبين له ان للكلمة الواحدة عند الصينيين عشرات المعاني المتباينة والتي لا يتم اكتمالها إلا وفقاً لنبرة الصوت أو ملامح الوجه أو حركة الجسد وان هذه الميزة تجعل من الشعر الصيني عصياً على الترجمة الى ابعد الحدود.
هذه الأفكار التي طرحها ميشال روس للنقاش وتداول الآراء اتاحت لي بعد ذلك أن أتفحص النماذج المتنوعة لشعرنا العربي الذي يغيب عن معظمه هذا النوع من الكتابة ليحل محلها نوع آخر هو الهجاء الذي يعني بالانجليزية Satire، والذي اعتبره العرب “احد الضروب الرئيسية للقول الشعري، إضافة بالطبع الى المديح والرثاء والغزل والوصف والفخر، لكن الفارق بين النوعين لن يكون في مصلحة الهجاء الذي هو شكل من أشكال العنف اللفظي والذي يذهب مباشرة الى معناه ليصبح اقرب الى الشتيمة والتحقير وقتل الآخر منه الى الطرافة والمخاتلة والالماح الذكي للتورية أو لرديفتها الأخرى.
قد تكون النبرة المتجهمة للشعر العربي متأتية عن قسوة الواقع وظروف الحياة الصعبة في عالم الصحراء المشرع على الموت والوحشة والتيه، إلا أن الأمر ينسحب على الشعر الجاهلي والاسلامي بوجه خاص ولا ينسحب على العصر العباسي الذي بلغت الحضارة فيه ذروتها، كما أدت الفوارق الكبيرة بين طبقات المجتمع وشرائحه الى الاستعانة بالسخرية والتهكم والايماء الذكي للرد على ما يجري. هكذا أمكننا ان نحصل على نصوص طريفة ومتهكمة وغنية بالمفارقات. وفي الشعر كما في النثر عرف الأدب العربي نماذج مهمة من الأدب الساخر والمشبع بالتورية، كما في كليلة ودمنة لابن المقفع أو في ادبيات الجاحظ المختلفة أو في مقامات الهمذاني والحريري أو في أشعار أبي نواس وابن الرومي، رغم ان سوداوية هذا الأخير كانت تدفعه أحياناً الى استبدال السخرية بالهجاء المقذع.
تكاد في شعرنا ونثرنا الحديثين نفتقر لسوء الحظ الى هذه الطريقة الذكية والمفتوحة على التأويل في مقاربة الكتابة والعالم، فباستثناء بعض كتابات المازني ومارون عبود في النثر وبعض قصائد بلند الحيدري وابراهيم طوقان والياس لحود وحسن عبدالله لا نكاد نجد أثراً يذكر لهذا النوع من الكتابة في ادبنا المعاصر. والطريف في الأمر أن الكثير من الشعراء والأدباء الذين يتمتعون في حياتهم اليومية وجلساتهم الخاصة بحسّ النكتة والطرافة اللماحة يعودون ما أن يجلسوا الى الكتابة للرصانة والتجهم والجدية المفرطة. كأنهم بذلك “يترجمون” أنفسهم إلى لغة أخرى ويحرمون الكتابة العربية من أحد أجمل تجلياتهم الأسلوبية واكثرها صلة بمعنى الإبداع.