لم يعد سواه من القطع البيضاء على رقعة الشطرنج بجوار الملك الأبيض، كان ساكناً طوال اللعبة يتابع بهدوء تحركات قطع الشطرنج البيضاء والسوداء.. تابع في البداية بضجر حركات القطع المختلفة على الرقعة المربعة. ثم أخذ يركز اهتمامه على القطع البيضاء التي تحمل نفس لونه. تابع الوزير الأبيض الذي سقط بفخ نصبته له القطع السوداء، والذي من بعده تهاوت القلاع البيضاء، ثم نفق الحصان الأبيض الجميل، وتم أسر الفيل قبل أن يتم نقله إلى خارج اللوحة، وفي حركة عشوائية مات من تبقّى من الجنود السبعة مع الفيل الآخر، وهو الآن وحيد مع الملك الأبيض يواجه قطع الشطرنج السوداء.
نظر بهدوء إلى الرقعة الممتدة حتى نهاية الطاولة.. وتفحص المربعات السوداء والبيضاء والقطع التي تقف عليها ببطء وعناية. كان هناك على بعد أربع خطوات حصان أسود جامح يستعد ليسحقه تحت حوافره، وفي الناحية اليمنى فيل أسود يشحذ نابيه بهدوء، فالمعركة شبه منتهية.. والوزير الأسود من بعيد يراقب تحركات الملك الأبيض بانتظار الخطوة الأخيرة، ويكاد لا يحس بالبيدق الأبيض المجاور للملك، والقلعة السوداء تسيطر على الصف الذي يسبق موقع الحصان منتظرة أدنى حركة من البيدق، وملكه الأبيض يقف مرتبكاً وهو يشعر أنها لحظاته الأخيرة.
الخطة التي ارتسمت معالمها في البداية للقطع البيضاء كانت واضحة وقوية. تحرك قوي على الجهة اليمنى عن طريق الفيل الأيسر والحصان وثلاثة من البيادق، ثم فتح ثغرة في المنتصف ليتقدم الوزير وتلحق به إحدى القلاع ليسيطر على الصف الرابع من اللوحة ويقدّم الدعم للقطع البيضاء في الجهة اليمنى.. وبعد ازدياد الضغط على الجانب الأيمن عن طريق الفيل الآخر، وأثناء انشغال الخصم بصدّ الهجوم، يتوغل الحصان الآخر من الجهة اليسرى بدعم من القلعة الثانية، ليكمل حلقة الكماشة على القطع السوداء، فيسهل بذلك اصطياد الملك الأسود.
في أول ربع ساعة كان الفيل الأبيض قد احتلّ موقعاً هاماً، مهّد للحصان الأبيض ليستقر في النقطة البيضاء القريبة من القلعة السوداء. وشيئاً فشيئا المنتصف بدأ ينفتح مع توجيه الخصم لقواته إلى الجهة اليمنى.. الوزير الأبيض تقدم ولحقت به القلعة البيضاء، والحصيلة ثلاثة جنود وحصان وقلعة فقدهم الخصم، الذي تراجع أكثر للدفاع مع وصول الفيل الأبيض إلى نقطة سوداء، على بعد عدة نقاط من الملك في الجهة اليمنى، وبجواره وقف الحصان ليغلق الجهة اليمنى تماماً على الخصم.
وبهدوء تسلل الحصان الأبيض إلى الجهة اليسرى بادئاً الهجوم النهائي. لكن القطع البيضاء اختفت من فوق اللوحة تدريجياً ولم يتبق سواه والملك.
التفاف الوزير الأسود من المنتصف، والتحام الفيل الأسود مع الحصان الأبيض، كان بداية النهاية. فقد كان الهجوم مباغتاً وغير متوقع، فالوزير الأسود كان شبه محاصر في نقطة يحتاج فيها إلى تحريك عدد من القطع ليتحرك بحرية. لكن بيدقاً أبيض واحداً تقدم خطوة للأمام فتح الطريق للفيل الأسود الذي اندفع باتجاه الحصان الأبيض في الجهة اليسرى، وفتح ثغرة ليتقدم الوزير الأسود للمنتصف ليحاصر القطع البيضاء المتقدمة، والوزير الأبيض الذي تخلى عن موقعه -وهو يحاول إنقاذ الحصان وباقي أجزاء الخطة- سقط بفخ في النقطة السوداء آخر الصف الثالث.. وانهارت القطع البيضاء بعد أن قُطع عليها طريق العودة.
أخذ البيدق نفساً عميقاً، ومد يده بخنجره القصير للأمام بتحدٍ واضح، فاللعبة لم تنته بعد وعليهم أولاً تجاوزه قبل كل شيء.
نظر إلى الحصان الأسود المتربص به، وابتسم بسخرية وهو يراه يرفع قائمتيه الأماميتين:
«لا شك أنهم يعتقدون أنني فريسة سهلة».
حركة خفيفة حدثت خلفه قطعت عليه خواطره وجعلته يلتفت بسرعة. كان الملك على وشك التحرك نحو نقطة الموت. فتراجع البيدق حتى لامست قدماه قدمي الملك، ومع دفء قدمي البيدق تناسى الملك الخطوة الانتحارية، وتقدم عوضاً عنها خطوة للأمام حتى صار بجانبه ليحس أكثر بدفء البيدق الأخير.
عندما تم صنع البيدق كان الهدف أن يكون عبارة عن لعبة متطورة بحد ذاته، بحيث تم تصميمه كمقاتل حربي وزوّد بعدد من التقنيات المتقدمة، وكذلك بثلاثة أنواع من الخناجر، ومسدس داخل جيب سري في قاعته، بالإضافة إلى منظومة متكاملة من الدوائر المنطقية التي تجعله يتصرف وفق الظروف التي يواجهها.
تحرك الوزير الأسود بعدما أدرك أن اللحظة قد حانت. تصبب العرق من الملك عندما لمح المشنقة بيد الوزير وهي لا تحتاج لتطبق على عنقه سوى أن يرميها باتجاهه. عاد الملك خطوة للوراء باحثاً عن طريق للهروب. بينما لمعت عينا البيدق فقد حانت اللحظة لتنفيذ خطته.. فهو قد درس الأمر جيداً، فمع تحرك الوزير الأسود سيقفز خطوتين للأمام ويغمد الخنجر في صدر الوزير، ثم يميل للخلف ويخرج المسدس، ويطلق طلقتين في رأس الحصان، ثم قفزة أخرى وطلقة على الملك الأسود الذي يختفي في الزاوية وتنتهي المعركة.
كان هناك خياران أمام البيدق. الأول خطة الاقتحام، والآخر تشغيل محركات طيرانه الداخلية وأخذ الملك والهروب من فوق اللوحة إلى نقطة آمنة، ثم تجميع القوات والهجوم من جديد. كان الخيار الأول صعباً. لكن الخيار الثاني لا يتفق مع القوانين التي لاحظها البيدق طوال اللعبة. فمع بداية المعركة كانت حركة قطع الشطرنج غريبة وعجيبة بالنسبة إلى جندي محترف مثله، لكنّه سرعان ما أدرك أن هناك قواعد وقوانين مرتبطة بهذه المعركة.
لذلك وقف بهدوء يراقب ويدرس الحركات المختلفة. وقبل سقوط القلعة البيضاء الثانية كان ما يزال يعتبر نفسه خارج المعركة، وبعد سحق الفيل بدأ بتشغيل برنامج الطوارئ ودراسة الوضع.. ومع سقوط الجندي الأبيض السابع كانت خطة الاقتحام جاهزة للتنفيذ. ومع حركة الوزير الأسود الأخيرة -باتجاه الملك الأبيض- حان وقت التنفيذ.
فجأة دفع الملك الأبيض البيدق خطوة للأمام ليكسب خطوة قبل النهاية. ولم تفارق الدهشة البيدق وهو يسقط تحت أقدام الحصان الأسود، وازداد لعاب الوزير الأسود مع أصوات عظام البيدق وهي تتحطم.
سمير عبدالفتاح
نظر بهدوء إلى الرقعة الممتدة حتى نهاية الطاولة.. وتفحص المربعات السوداء والبيضاء والقطع التي تقف عليها ببطء وعناية. كان هناك على بعد أربع خطوات حصان أسود جامح يستعد ليسحقه تحت حوافره، وفي الناحية اليمنى فيل أسود يشحذ نابيه بهدوء، فالمعركة شبه منتهية.. والوزير الأسود من بعيد يراقب تحركات الملك الأبيض بانتظار الخطوة الأخيرة، ويكاد لا يحس بالبيدق الأبيض المجاور للملك، والقلعة السوداء تسيطر على الصف الذي يسبق موقع الحصان منتظرة أدنى حركة من البيدق، وملكه الأبيض يقف مرتبكاً وهو يشعر أنها لحظاته الأخيرة.
الخطة التي ارتسمت معالمها في البداية للقطع البيضاء كانت واضحة وقوية. تحرك قوي على الجهة اليمنى عن طريق الفيل الأيسر والحصان وثلاثة من البيادق، ثم فتح ثغرة في المنتصف ليتقدم الوزير وتلحق به إحدى القلاع ليسيطر على الصف الرابع من اللوحة ويقدّم الدعم للقطع البيضاء في الجهة اليمنى.. وبعد ازدياد الضغط على الجانب الأيمن عن طريق الفيل الآخر، وأثناء انشغال الخصم بصدّ الهجوم، يتوغل الحصان الآخر من الجهة اليسرى بدعم من القلعة الثانية، ليكمل حلقة الكماشة على القطع السوداء، فيسهل بذلك اصطياد الملك الأسود.
في أول ربع ساعة كان الفيل الأبيض قد احتلّ موقعاً هاماً، مهّد للحصان الأبيض ليستقر في النقطة البيضاء القريبة من القلعة السوداء. وشيئاً فشيئا المنتصف بدأ ينفتح مع توجيه الخصم لقواته إلى الجهة اليمنى.. الوزير الأبيض تقدم ولحقت به القلعة البيضاء، والحصيلة ثلاثة جنود وحصان وقلعة فقدهم الخصم، الذي تراجع أكثر للدفاع مع وصول الفيل الأبيض إلى نقطة سوداء، على بعد عدة نقاط من الملك في الجهة اليمنى، وبجواره وقف الحصان ليغلق الجهة اليمنى تماماً على الخصم.
وبهدوء تسلل الحصان الأبيض إلى الجهة اليسرى بادئاً الهجوم النهائي. لكن القطع البيضاء اختفت من فوق اللوحة تدريجياً ولم يتبق سواه والملك.
التفاف الوزير الأسود من المنتصف، والتحام الفيل الأسود مع الحصان الأبيض، كان بداية النهاية. فقد كان الهجوم مباغتاً وغير متوقع، فالوزير الأسود كان شبه محاصر في نقطة يحتاج فيها إلى تحريك عدد من القطع ليتحرك بحرية. لكن بيدقاً أبيض واحداً تقدم خطوة للأمام فتح الطريق للفيل الأسود الذي اندفع باتجاه الحصان الأبيض في الجهة اليسرى، وفتح ثغرة ليتقدم الوزير الأسود للمنتصف ليحاصر القطع البيضاء المتقدمة، والوزير الأبيض الذي تخلى عن موقعه -وهو يحاول إنقاذ الحصان وباقي أجزاء الخطة- سقط بفخ في النقطة السوداء آخر الصف الثالث.. وانهارت القطع البيضاء بعد أن قُطع عليها طريق العودة.
أخذ البيدق نفساً عميقاً، ومد يده بخنجره القصير للأمام بتحدٍ واضح، فاللعبة لم تنته بعد وعليهم أولاً تجاوزه قبل كل شيء.
نظر إلى الحصان الأسود المتربص به، وابتسم بسخرية وهو يراه يرفع قائمتيه الأماميتين:
«لا شك أنهم يعتقدون أنني فريسة سهلة».
حركة خفيفة حدثت خلفه قطعت عليه خواطره وجعلته يلتفت بسرعة. كان الملك على وشك التحرك نحو نقطة الموت. فتراجع البيدق حتى لامست قدماه قدمي الملك، ومع دفء قدمي البيدق تناسى الملك الخطوة الانتحارية، وتقدم عوضاً عنها خطوة للأمام حتى صار بجانبه ليحس أكثر بدفء البيدق الأخير.
عندما تم صنع البيدق كان الهدف أن يكون عبارة عن لعبة متطورة بحد ذاته، بحيث تم تصميمه كمقاتل حربي وزوّد بعدد من التقنيات المتقدمة، وكذلك بثلاثة أنواع من الخناجر، ومسدس داخل جيب سري في قاعته، بالإضافة إلى منظومة متكاملة من الدوائر المنطقية التي تجعله يتصرف وفق الظروف التي يواجهها.
تحرك الوزير الأسود بعدما أدرك أن اللحظة قد حانت. تصبب العرق من الملك عندما لمح المشنقة بيد الوزير وهي لا تحتاج لتطبق على عنقه سوى أن يرميها باتجاهه. عاد الملك خطوة للوراء باحثاً عن طريق للهروب. بينما لمعت عينا البيدق فقد حانت اللحظة لتنفيذ خطته.. فهو قد درس الأمر جيداً، فمع تحرك الوزير الأسود سيقفز خطوتين للأمام ويغمد الخنجر في صدر الوزير، ثم يميل للخلف ويخرج المسدس، ويطلق طلقتين في رأس الحصان، ثم قفزة أخرى وطلقة على الملك الأسود الذي يختفي في الزاوية وتنتهي المعركة.
كان هناك خياران أمام البيدق. الأول خطة الاقتحام، والآخر تشغيل محركات طيرانه الداخلية وأخذ الملك والهروب من فوق اللوحة إلى نقطة آمنة، ثم تجميع القوات والهجوم من جديد. كان الخيار الأول صعباً. لكن الخيار الثاني لا يتفق مع القوانين التي لاحظها البيدق طوال اللعبة. فمع بداية المعركة كانت حركة قطع الشطرنج غريبة وعجيبة بالنسبة إلى جندي محترف مثله، لكنّه سرعان ما أدرك أن هناك قواعد وقوانين مرتبطة بهذه المعركة.
لذلك وقف بهدوء يراقب ويدرس الحركات المختلفة. وقبل سقوط القلعة البيضاء الثانية كان ما يزال يعتبر نفسه خارج المعركة، وبعد سحق الفيل بدأ بتشغيل برنامج الطوارئ ودراسة الوضع.. ومع سقوط الجندي الأبيض السابع كانت خطة الاقتحام جاهزة للتنفيذ. ومع حركة الوزير الأسود الأخيرة -باتجاه الملك الأبيض- حان وقت التنفيذ.
فجأة دفع الملك الأبيض البيدق خطوة للأمام ليكسب خطوة قبل النهاية. ولم تفارق الدهشة البيدق وهو يسقط تحت أقدام الحصان الأسود، وازداد لعاب الوزير الأسود مع أصوات عظام البيدق وهي تتحطم.
سمير عبدالفتاح