رغد السهيل - اغتيال حقيبة..

يفور المكان بالحضور والغياب، وجوه ملونة من كل صوب وفج، تتقدم، تبتعد، تمر، وتخطف، خفافا حينا وثقالا حينا، تتحرك حقائب بمختلف الأحجام والأشكال، ميم الاتجاهات سيد المشهد، متعاكسة متوازية متضادة متواصلة، متقاطعة، متسارعة متباطئة، وتهتز البوصلة، تتذبذب، لا تثبت، كراقص ديسكو بحلقة سيرك، لا يحدده اتجاه، تنبعث من الزوايا رائحة نتنة، يرتجف الحديد بحرارة الثلج في محطة القطار، كلاب يرافقون أصحابهم، وأصحاب يرافقون كلابهم، وكلاب أخرى تنبح بلا رفيق أو صاحب، استوحش هو دربه، صديقه الذي خالطه بنفسه، وملك عقله وقلبه، استشهد وترك ولدا صغيرا اسمه موقف صادق، مات أبوه صادق، تطشرت، تفحمت، تناثرت، تطايرت أشلاؤه في انفجار عبوة ناسفة، عبوة ناسفة أمام باب بيته، فأصبح الصغير موقف يتيما، يستجدي في الطرقات وليس من يتوقف عنده، تألم هو على مصير الصغير، حاول تبني موقف وانتشاله من اليتم، طاردته شرطة الأخلاق الوطنية، ومنعته من احتضان الصغير، لأن موقف دخل مملكة الأيتام العراقية، أيتام يستجدون في الطرقات، يقدمون ما يجمعون للدولة لحلحلة الوضع الاقتصادي، وأيّ تجاوز على موقف ومهنته الجديدة تجاوز على حقوق الدولة، وإصراره على تبني الصغير موقف يعد مخالفة قانونية!

فتح الحقيبة التي أخفاها عنده صاحبه صادق، وجد فيها أوراقا ووثائق تدين الكثيرين، وجد رسائل تهديد لصادق، اكتشف الحقيقة كاملة في الحقيبة، صادق رفض الابتزاز والخضوع، كافأه رؤساؤه في العمل بعبوة كانت ناسفة!

قرر ألاّ يصمت على حكاية صاحبه، لا بد من كشف الحقيقة كاملة، ما إن بدأ الكلام حتى طاردوه هو هذه المرة، فبعد اغتيال صادق بدأت مطاردة صاحب صادق، حتى فر من بغداد مصطحبا معه الحقيبة، حقيبة الأوراق والوثائق، وتنقّل بين الأنهار والبحار، حتى وصل إلى محطة القطار في باريس.

عبرت أمامه خمس قطط تتدلى في أعناقها قلائد، قلادة في عنق كل قطة، ترتبط جميع القلائد بسلسلة فضية في نهايتها ميدالية، تمسك بالميدالية سيدة بنفسجية الشعر، بنفسجية الثياب والحذاء والخاتم والأساور والقرطين، وطلاء الأظافر أيضا، لعلها سيدة ليل البنفسج، فردد في نفسه أغنية ياس خضر: آه يا ليل البنفسج.. وتذكر فجأة قول جاره أبي الطيب له قبل الرحيل “شر البلاد لا صديق فيه” لكنه هنا في باريس، باريس الجمال والأعاجيب، باريس ماري انطوانيت، ما زالت أنفاسها تتصاعد في كل مكان، أنفاسها عالقة في الهواء، باريس سيدة تتجمل بالكثير من المساحيق، بألوان قديمة ومستحدثة لم تخطر على قلب فنان، ترتدي ليل نهار أفخم الثياب، وتضع على جسدها أفخم الإكسسوارات وأغلاها، لا تعرف سوى الإفراط بالأشياء، باريس الحسناء المتغطرسة تجيد كل اللغات وترفض الحديث إلا بالفرنسية، يفكر كيف يبدأ من هنا؟ فهي أيضا باريس روبسبير!

يحدث نفسه وهو القادم الغريب: ها أنا أقبلت، افتحوا لي الأبواب، وأغلقوها بعدي، ضحك على نفسه، ضج بالضحك الهستيري، امتلأ بالضحك، فاض منه، استرسل فيه، واصل الضحك، ضحكة غريب يرغب بسماع الصدى، صمت بعدها، حرك جسده في مكانه وترنح، ترنح دونما إيقاع، ترنح دونما خمر، والمحطة تهتز بارتجاف سكك الحديد… يحتار أيدخل أم يبتعد؟ كل القطارات لها اتجاه، وهو من دون اتجاه، ما زال ينفخ سيجارة تلو أخرى، تتداخل، تتعانق، تختلط، تتكاثر الدوائر، وبمنتهى الحرية ثم تتلاشى في الهواء، كأنه لم يكن، أرعبته الفكرة!

أتعبه الهروب، أنهكه الطريق، والحقيبة الصغيرة متهرئة، خفيفة وثقيلة، فليس فيها إلا صورة واحدة، وحزمة أوراق ووثائق، تنام الأوراق في الحقيبة، وتنام فيها حكاية صاحبه صادق، حيث الإصرار والترصد على تحويل موقف ليتيم، أقسم أن يصون الحقيبة، صرخ، انتفض، ثار، هذه الوثائق خطيرة، ستتزلزل الأرض لو كشفتها، دلائل وإثباتات ستقلب الطاولة، لاحقوه قتلوا عائلته فردا فردا، حتى هرب في ليلة قمرها مهاجر، تنقل بين البحار، أفلس فهو في القافلة أمين، لم يبق له في الحقيبة سوى ورق، ستشرق شمس العدالة، سيحرقهم شعاعها، سيتحدث في الإعلام الدولي، سيفضحهم، سيثأر لصادق ويعود يتبنى موقفا، قرّب الحقيبة من صدره، احتضنها، دفع ثمنا باهظا حتى يصل هنا، إلى سيدة الدلال باريس، ما زال يشعر بالخوف، لازمه الخوف طويلا، كمرض مزمن اعتاد عليه، أين يتوجه؟ وكيف سيتحرك؟ لا أحد هنا وكلهم هنا. العالم مخيف، تطارده رائحة المؤامرة، المؤامرة أكبر منه، وهو وحيد، لكنه لن يصمت، غامر وقطع المنافي البعيدة، يحيطه رمادُ سيجارةٍ، برد قارص في العظام ولا مدفأة للروح، والعالم يضيق، يتكور، يتقلص، يخنقه، أين يذهبُ؟ محضَ تراب في المجرات، وهو نقطة في مجرة التبان، صدى صوته الداخلي: أيها المغرور المعتوه، من ذا الذي تقاومه، وأنت محض رأس دبوس!

حقيبته رحيل يتوالد، وطن يتجول، يتنقّل، يتمزق بين المحطات. كم من محطة وقف ببابها ولم يدخل، فالوطن كابوس، كابوس في حلم، وهَم عند الاستيقاظ، شعر بالنعاس، لم ينم منذ ليال، يحلم اللحظة في النوم، قليلا من النوم، هنا باريس عالم حر، أمان من الاغتيال، سينام ساعة واحدة، ثم يفكر كيف يبدأ بالانتقام، أشرقت عيناه بومضة الأمل، دخل المحطة، جمع جسده في الزاوية، مدد جسده فوق الأرض، ثم تكوّر، كجنين في رحم أمه، وتوسد الحقيبة، أغمض عينيه، شعر ثقل دمائه في العروق، استرخى، لا أحد هنا، لن يصل له أحد، كرر هذا لنفسه وهو يبتسم، والملاحقة تدور كالدخان، سيرتاح ضميره ويعود لموقف المسكين، سيكشف القذارة الخسيسة، سيقول الإعلام كثيرا عنه وعن الأوراق، سيكون سيد الإعلام، بطلاً في الإعلام، من هنا، سيبدأ الحرب ضد الفساد، وتهدأ روح صادق!

أسرار الحقائب المتهرئة سر وجع الرجال، تحرك شبح بحرية، عبر خلفه القارات، طارده من محطة لمحطة أقبل اقترب، دنا، تهيأ، رفع ذراعه اليمين، في كفه كاتم للأمل، كاتم للسر، كاتم للإعلام، كاتم للحقيقة، سدد، رمى، وانطلقت الكاتمة، أصابت الهدف، الهدف قلب طفلة تغفو في الحقيبة، احترقت صورة الطفلة الصغيرة، تناثرت الأوراق، وقالوا في أخبار منتصف النهار: اغتيال لاجئ عراقي في محطة قطار باريس، ولم يذكر أحد شيئا عن الحقيبة أو الأوراق أو الطفلة النائمة، فالحكاية أشبه بركلة قدم لكنها قاتلة!

كاتبة من العراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...