حسني إبراهيم عبد العظيم - الجسد الأنثوي بين المعتقد الشعبي والمعتقد الديني.. رؤية أنثروبولوجية

ثمة تصورات عديدة عن الجسد الأنثوي في المعتقد الشــعبي العربي – وفي معظم المجتمعات التقليدية – أحد هذه التصورات وأوسعها انتشارا هو الاعتقاد بأن الجسـد الأنثوي جسد مدنس، بعيد عن عالم القداسة والطهر والسمو.


لا بد أن نقرر مبدئيا – اتفاقا مع الباحث الأنثروبولوجي المغربي المتميز رحال بو بريك في دراسته القيمة التي حملت عنوان الجسد الأنثوي والمقدس المنشورة في المجلة العربية لعلم الاجتماع – أن القداسة والدناسة لا جنس لهما، ولكن بمراجعة النصوص الدينية يختلف الأمر، إذ نجد أنفسنا أمام نصوص وتمثلات تجعل المرأة في حالة دونية بسبب عدم طهارتها أو فتنتها الجسدية، فهي دائمة التأرجح بين حالة الطاهر Pure والنجس Impure على عكس الرجل.وهذان المفهومان أساسيان في المنظومة الدينية وعالم القداسة. كما أن المرأة تظل مصدر الفتنة الشيطانية من منظور المعتقدات الدينية السائدة.

وقد أوضحت الدراسات الأنثروبولوجية المتنوعة أن الذكور في ثقافات كثيرة يعتقدون أنهم روحياً أعلى مقاماً ومنزلة من الإناث، وأن الإناث كائنات خطرة ونجسه وضعيفة، وأنهن غير جديرات بالثقة، ونتيجة لذلك تظل الأنثى خاضعة ومستعبدة، وتقبل غالباً المبررات التي يسوغها الذكور للمحافظة على ذلك الوضع.
والحقيقة أن تلك النظرة للمرأة ككيان دنس ترتبط ارتباطاً مباشراً بالظواهر العضوية التي تكابدها كالحمل والولادة والحيض والنفاس، وقد لاحظت الأنثروبولوجية «ماري دوجلاس» Mary Douglas بعد فحصها لثقافات مختلفة أن الحيض يوحي بالموت والدنس والخوف: الخوف خصوصاً مما يمثله الحيض من توقف الخصوبة أو انتهائها، من هنا تأتي ضرورة أن تبتعد الحائض عن كل ما يمثل التكاثر أو الاختمار.


إن جسد المرأة هو الأكثر خضوعا لمسألة الطهارة، مقارنة بالرجل، إذ أن تكوينها البيولوجي يجعلها في حالات تدنيس يدعوها إلى التطهر كي تصبح جديرة بممارسة طقوسها الدينية، وتعتبر المرأة مدنسة مؤقتا نظرا إلى الدم الذي يسيل منها: دم الحيض، ودم الاستحاضة ودم النفاس، وهذه كلها مخصوصة بالمرأة.
وقد حثت المعتقدات الشعبيةعلى تجنب أماكن الدم، وسواء أكان الدم آدميا أو حيوانيا، فهو مصدر لقوى غيبية شريرة، ويعتبر الدم الآدمي ذا حمولة رمزية أسطورية أكثر من غيره، فالدم قرين بالحياة والموت، ورؤيته لاتدع أحدا في موقف الحياد، وتعكس الأساطير والتمثلات حول الدم في الثقافات الإنسانية كلها قيمة هذا الدم الرمزية الخطيرة، فنلاحظ أن الدم حين يتعلق الأمر بالرجل فهو مرتبط بالشرف والقرابة الأبوية والتضحية وعقد العهود، أما حين يتم الحديث عن دم النساء فإنه يحيل مباشرة إلى عالم الدنس.

إن عدم إحاضة المرأة في موعدها الشهري يعد إيذانا بالخصوبة والحياة عبر الحمل بمولود جديد بالنسبة إلى المرأة المتزوجة، بينما يكون الأمر عكس ذلك في الحالة الأخرى، إذ أن استمرار حيضها يعني أن الدم السائل عقيم، وهو دليل على فشل عملية الإخصاب الطبيعية؛ لأنه دم لم يحمل ، فهو لذلك يعتبر دما فاسدا. وعلى المجتمع أن يعمل على إبعاد المرأة – التي يؤشر دم حيضها على أنه دم فاسد ومدنس – عن ممارسة حياتها العادية، بالاختفاء عن الأنظار وانتظار طهارتها، إذ يجب سجنها في مكان بعيد وإبعادها عن الجماعة كي لا تدنسها، ولا تعود إلى ممارسة نشاطها إلا بعد أن تصبح كائنا اجتماعيا من جديد، وكانت المجتمعات التقليدية وبعض الحضارات القديمة تبعد المرأة الحائض عن الناس بإرغامها على العيش في أكواخ ومناطق معزولة تسمى (ديار الحائضات) تجنبا للاختلاط بالآخرين، كي لا تدنسهم أو تجلب لهم الشر، لأن دمها بحسب اعتقادهم، يحمل أرواحا شريرة، كما أنها تصبح جسدا باردا ذا طباع تنعكس سلبا على صحة جسدها وصحة الآخرين.

ففي قبائل «الفوري» Fore التي تقطن هضاب غينيا الجديدة يتم عزل النساء في فترة الحيض في أكواخ صغيرة خاصة، وتتولى نسوة أخريات إحضار الطعام لهن؛ وذلك اعتقاداً منهم أن زيارة المرأة الحائض لحدائقهم سوف يجلب الآفات للمحاصيل، كذلك لا ينبغي عليها أثناء فترة العزل تلك أن تعد طعاماً لزوجها، حيث يعتقد أن تناول الطعام الذي تلمسه يؤدي إلى إصابته بالوهن والضعف وأمراض الشيخوخة، إن عملية العزل تلك – كما يقرر هاريس Harris- دليل على الوضع «نصف الوحشي» للمرأة الناتج عن الوظائف الطبيعية لجسدها.

وفي دراسة لإيفون فردييه Yvon verdier حول التقاليد التي بقيت حية في قرية «مينو» الصغيرة بمنطقة «بورجوني» الفرنسية، قدمت فيها تحليلاً للفسيولوجيا الرمزية للمرأة، ولاسيما أثناء دورتها الشهرية، فخلال هذه الأيام القليلة لا تنزل المرأة إلى القبو الذي تخزن فيه المؤن الغذائية للأسرة كاللحم المملح والمخللات والنبيذ .. الخ، وذلك لأنها ستفسد الأطعمة التي تمسها بطريقة لا يمكن معالجتها، ولنفس الأسباب لا يذبح الخنزير مطلقاً أثناء الفترات التي تكون فيها المرأة بتلك الحالة. إن التأثير المتلف للدم الذي ينزف منها يمتد أيضاً للمهام التي تقوم بها عادة في المنزل، فقد أعلنت امرأة لفيردييه: «أنه من المستحيل صنع الحلويات والكريمات، كما لا يمكن للمرأة أن تصنع المايونيز أو تركب البياضات النظيفة، فهذه المهام لن تستقيم».

إن ثمة صلات رمزية وثيقة تنسج بين جسد المرأة وبيئتها، وتؤثر على العمليات الطبيعية أو على أعمالها المعتادة، كما لو كان للجسد الحائض القدرة على الانتشار خارج حدوده، لكي يغير أيضاً ترتيب أمور الحياة: «خلال دورتها – تلاحظ فيردييه- أن المرأة لكونها غير خصبة، فإنها تعطل كل عملية تحوّل تستدعي الاخصاب»
وقد كشف العديد من الدراسات الأنثروبولوجية في المجتمعات العربية أن الجسد الأنثوي – وفقاً للمعتقد الشعبي- هو جسد مدنس Profane وترتبط تلك الدناسة بدخول الأنثى مرحلة النضج والبلوغ، وما يرتبط بذلك من ظواهر عضوية متعلقة بالدم كالحيض والنفاس. أما الجسد الأنثوي قبل تلك المرحلة -الطفولة- وبعدها- وهو ما يعرف بسن اليأس- فهو جسد طاهر نقي برئ. فكأن الدناسة مرتبطة بدم الحيض والنفاس، فالمعتقد الشعبي لا يرى ذلك عرضاً طبيعياً، وإنما يراه مصدراً للنجاسة.

واستناداً إلى ذلك، فإن ممارسة المرأة – أثناء فترة الحيض- لأنشطة معينة، وفق المعتقد الشعبي، تؤدي إلى فسادها، ولذلك لا ينبغي للمرأة الحائض أن تمارس تلك الأنشطة، بل يجب أن تعزل تماماً عن فضاءات تلك الأنشطة:
فلا يجب على المرأة أن تقترب من صناعة المربى – مثلا – لأنها ستسبب عدم تخمرها؛ لأن وجودها يستدعي مخلوقات «جنية» -شيطانية- تفسد إتمام العملية، كما عليها ألا تجلس في الحديقة أو حتى تمر عليها؛ لأنها ستعرض المزروعات للتلف والتدمير، إنها ستفسد كل الخضروات والفواكه التي تمر بها، وتترك الحديقة خاوية على عروشها،ولا ينبغي للمرأة أن تجلب المياه من البئر؛ لأن المياه سوف تجف، أو على الأقل ستفسد حيث يمتلئ البئر الديدان.

كما تمنع المرأة من حلب البقرة أو غيرها من الحيوانات؛ لأنها قد تسبب انقطاع اللبن من البقرة، ولا يجب أن تصنع القشـــدة؛ لأنها ستمنع تخترها (اختمارها وتحولها إلى زبدة)،ويجب ألا تحضر لحظة ختان الصبي، ولا ينبغي لها أن تنظر إلى مكان الختان، لأنها تضاعف آلام الصبي، وتؤخر شفاء مكان الختان،كما لا ينبغي لها أن تقترب من شعر البنات الصغيرات ، فلا تغسله، ولا تقوم بتمشيطه وتضفيره، لأنها ستؤذي الشعر وتتسبب في تساقطه، ولا يجب على المرأة أيضا أن تستخدم الحناء في شعرها أو في يديها أو قدميها، لأن الحـــناء في المعتقد الشعبي رمز للطهارة والنقاء، في حين أن جســد المرأة في تلك الفترة «نجس».

إن القراءة المتعمقة لمجموعة «المحرمات» السابقة تكشف عن وجود أفكار راسخة في الوعي الشعبي تدور حول دناسة الجسد الأنثوي، وامتداد تأثيره إلى ما يحيط به، حيث يفسد كل ما يلامسه، وله القدرة على تغيير طبائع الأشياء.
والحقيقة أن تلك الصورة النمطية للجسد الأنثوي – كجسد نجس- لا تقتصر على المجتمعات العربية بطبيعة الحال، وإنما تنتشر في كل الثقافات التقليدية، بل إنها كانت سائدة في المجتمعات الغربية حتى القرن الثامن عشر، وبدايات القرن التاسع عشر، حيث ساد اعتقاد بأن النساء يشكلن خطراً وتهديداً للرجال في فترات الحيض.
الملاحظ إذن أن اعتبار دم الحيض ودم النفاس من المدنسات هو ظاهرة كونية،بغض النظرعن تنوع المجتمعات واختلاف المعتقدات الدينية السائدة فيها،وقد حاول الباحثون في السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا تفسير تلك الأفكار المتعلقة بنجاسة الجسد الأنثوي، والبحث عن مصادرها، وكشف معظم الدراسات أن هذه الأفكار ترتد في جانب كبير منها إلى تعاليم «تـوراتـيـة» تعود بدورها إلى «ميثولوجيا» وأفكار بعض الحضارات القديمة التي عاصرها بنو إسرائيل.

يعتقد «تيرنر» (Turner 1997: 104) أن بعض الإشكاليات المعاصرة للجسد تمثل ميراثاً للخطاب اليهودي المسيحي المتعلق بالجسد، فالمعروف أن «اللاهوت البولسي» Pauline Theology (نسبة إلى بولس الرسول) قد جعل الجسد الإنساني – وخاصة الأنثوي- رمزاً للخطيئة والشر والضعف مما أدى إلى سقوط آدم وخروجه من الجنة.

ونتيجة لذلك يقرر «تيرنر» في موضع آخر (Turner 1992: 19) إن ميراث التعاليم الجنسية المستمد من المسيحية الكلاسيكية ينظر إلى أجساد النساء باعتبارها مصدراً للنجاسة، وبالتالي فقد أصبح «ضبط» الجسد الأنثوي Regulation جزءاً مهماً في تدريب رجال الدين في الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى.ولقد ذهبت المعتقدات المسيحية في الغرب إلى حد اعتبار أن دم الحيض يجلب الشر، ويقضي على المحاصيل الزراعية، ويجفف ينابيع الماء، وارتبط كذلك في هذه المعتقدات باستعماله في السحر والشعوذة. وهي كلها معتقدات عملت الكنيسة المسيحية منذ العصور الوسطى على نشرها وتكريسها وتبريرها دينيا، وهو بطبيعة الحال ما كان له انعكاس على وضعية المرأة باعتبارها كائنا ناقصا.

ويعتبر المؤرخ الفرنسي ميشيليه Michelet الذي عاش في القرن التاسع عشر أن الديانتين المسيحية واليهودية كانتا السبب الرئيسي في جعل المرأة كائنا سيئا، فهي الساحرة والمشعوذة وحاملة اللعنة الأبدية، وهي كلها نتائج لـ (الخطيئة الأولى) التي حملتها الكنيسة لحواء.

لقد أدان العهد القديم المرأة أبشع إدانة، فقد حملها المسئولية كاملة عن تلك الخطيئة وعاقبها على ذلك أشد العقاب، جاء على لسان الرب في سـفر التكوين – الإصحـاح الثالث:(وقال للمرأة تكثيرا أكثر ألامك،بالوجع تلدين أولادا،إلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليكي).

كانت تلك أول إشارة إلى حادثة الولادة باعتبارها عقابا للمرأة، وكانت اخر إشارة أيضا، فقد تفادت الأناجيل ذكرها كلية، ومدح القرآن المرأة من أجل ذلك، واعتبر الولادة من النعم التي أنعم الله بها على البشر، ومن الواضح أن التوراة قد أدانت المرأة بصورة نهائية، وقررت عقابها على المعصية الأولى بأن تكون (تابعة) للرجل، وقد تمثل ذلك العقاب في النهاية عندما بدأت التوراة تحدد فرائض الزواج وفرائض الاغتسال على اليهود، فأشارت إلى المرأة باعتبارها أكثر نجاسة من الرجل، وحددت طهارتها على نحو متشدد.

يرتبط دم الحيض إذن بخطيئة المرأة – الخطيئة الأولى – التي أصابها على إثرها عقاب إلهي، والخطيئة نجاسة لابد من التطهر منها بالتوبة، وكان الحيض عقابا إلهيا على خطيئة المرأة، ستظل تحمله بحسب المنظور المسيحي إلى الأبد ، فالحيض لعنة ستظل تنتقل من إمرأة إلى أخرى، فستنقله الأم إلى إبنتها، والإبنة ستنقله لذريتها من النساء، لقد أخطأ آدم لكن حواء كانت السباقة إلى الخطأ، وهي التي دفعته إليه،وهي بذلك تتحمل مسئولية الخطيئة الأولى بالدرجة الأولى.

إن القراءة المتأنية لبعض نصوص العهـــد القديم تكشف عن ارتباط وثيق بين النجاسة ودم الحيض باعتبار أن الحيض يمثل عقابا إلهيا للمرأة على خطيئتها الأولى، لنقرأ: «كلم الرب موسى قائلاً إذا أحبلت المرأة وولدت ذكراً تكون نجسة سبعة أيام» «وإن ولدت أنثى تكون نجسة أسبوعين كما في طمثها، ثم تقيم ستة وستين يوماً في دم تطهيرها» (العهد القديم، سفر اللاوبين، الإصحاح الثاني عشر) وفي موضع آخر يقول: «إذا كانت المرأة حائضاً فسبعة أيام تكون نجسة في طمثها، وكل من مسها يكون نجساً إلى المساء، وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجساً، وكل ما تجلس عليه يكون نجساً، وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجساً إلى المساء، وكل من مس متاعاً تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم ويكون نجساً إلى المساء»( سفر اللاوبين، الإصحاح الثاني عشر…وأنظر كذلك الإصحاح الخامس عشر من نفس السفر).

وحرمت التوراة على المرأة دخول المعبد أثناء فترة النفاس، فالإثم طبقا للتوراة يظل دنسا بصورة عامة حتى أيام الكفارة، وفترة النفاس الطويلة تظل فترة غير طاهرة رغم انقطاع الدم كلية، فالأمر لا يقاس بما يحدث داخل الجسد نفسه، وإنما بما يحدده النص الديني تبعا لقرار الإدانة، وذلك يعني أن المرأة مسئولة عن الخطيئة الأولى، وأن عقابها تحدد في نقطتين:
الأولى أنه قد حكم عليها بـ(واجب الولادة) ثم اعتبر ذلك الواجب نفسه نجاسة يجب التطهر منها حسب نوع المولود.
الثانية أن تظل محكومة من جانب الرجل، وتحدد التوراة الرجل بالزوج أو الأب أو ولي الأمر. وقد تحدد خضوع المرأة لسلطان الرجل بطريقة مشددة، وقد نصت التوراة على أن المرأة لايحق لها حتى أن (تأخذ على نفسها نذرا) إلا إذا وافق الرجل المسئول عنها.

من الواضح أن اعتبار المرأة كائنا غير طاهر ليس محددا بدم الحيض والنفاس فقط، بل مرتبط أيضا بجنس المولود، فباب التحريم في اليهودية لم يتوقف عند منع المرأة من دخول أماكن العبادة وتدنيسها كل ما لمسته، بل تعداه إلى وضع شروط تختلف مدة النجاسة فيها باختلاف جنس المولود، فإذا كان المولود ذكرا فالمرأة تعتبر غير طاهرة لمدة أربعين يوما وإذا كان أنثى تعتبر المرأة غير طاهرة لمدة ثمانين يوما، فالأنثى تدنس أكثر من الذكر، وهو ما يعني ضمنيا أيضا كونها نجسة، حتى وهي تخرج إلى العالم. وعموما يعتبر الحيض في التصورين اليهودي والمسيحي أصل الخطيئة ومصدرا لكل قوى الشر، وكل اقتراب من الحائض هو تدنيس للذات والمرأة حتى وهي تمنح الحياة، فلأنها مدنسة فهي تدنس من يقترب منها من البشر، وتدنس الأشياء التي تلمسها.

ومن الجدير بالذكر في هذا الإطار أن كل الأفكار المتعلقة بنجاسة المرأة في الفكر الإسلامي قد تسربت إليه من نصوص العهد القديم، ولا أساس لها في الإسلام. فالقرآن الكريم – وهو النص المهيمن في الفكر الإسلامي – لم يقر مطلقاً فكرة نجاسة المرأة، ويصف الحيض بأنه «أذى» أي مسألة عضوية بها بعض الأضرار المادية لأن المرأة قد تكون عرضة في تلك الفترة لبعض الميكروبات، أما الجسد الإنساني بصفة عامة – سواء أكان ذكراً أم أنثى – فهو وفق التصور القرآني جسد طاهر نقي، لأن به نفحة من روح الله تعالى، فقد ورد في الذكر الحكيم «وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين» سورة ص: الآيتان 71- 72، وجاء في سورة الحجر “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ”الآيتان (28 – 29).

وانطلاقا من ذلك التصور القرآني للحيض كعملية عضوية طبيعية – لا علاقة لها بالطهر والنجاسة- فإن كل ما ينسب للنبي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام من تهوين من شأن المرأة ، أو وصفها بما لايليق كفكرة النجاسة التي نحن بصددها، هو محض افتراء لا أساس له، لأن النبي لا يأتي بشئ يعارض القرآن الكريم.

وتأسيسا على ذلك يجب إثبات تميز الإسلام عن الديانات السماوية الأخرى فيما يتعلق بقضية الحمل والولادة والحيض، فقد قرر القرآن أن قيام المرأة بمهمة الحمل يوجب طاعتها على باقي أفراد الأسرة، ووصف الحمل نفسه بأنه مهمة نبيلة لتجدد الحياة قي طريق أكثر صلاحا. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ثم قرر النص القرآني أن فترة الحيض ليست نجاسة، ولكنها أذى، وتلك نقطة فاصلة، فالأذى يحدث في الجسد، أما النجاسة فتحدث في الروح والجسد معا. وقد قال القرآن (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) فالأمر باعتزال النساء يشمل التحذير من الأذى الجسدي الذي تسببه المادة المفرزة، وهو أذى يصيب المرأة والرجل على السواء، دون أية إشارة خاصة إلى حالة النجاسة التي تعتبرها التوراة سببا في وجوب التطهر.

وفكرة التطهر ذاتها فكرة فاصلة أخرى بين النصين المقدسين، فبينما ترتبط الطهارة في التوراة بالزمن( سبعة أيام فيما أكثر) وبالاغتسال (الذي يشمل الجسد والملابس) وبتقديم القرابين( حمامتين على الأقل) تظل تلك الفكرة في القرآن شيئا بالغ التجرد والسمو، لا يرتبط بالزمن ولا بالاغتسال ولا بالقرابين، بل يخضع لشيئ واحد جوهري في القرآن كله، وهو النية في التطهر، وقد تمثل ذلك في فكرة (التيمم) التي انفرد بها القرآن دون سائر النصوص المقدسة، فالغسل بالماء واجب حيثما كان ذلك ممكنا، ولكن التطهر لايرتبط بالغسل وحده لأن تجرده يقع فوق نطاق مادة الماء، ولذا فقد جاء في القرآن: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فمن الواضح أن التيمم مجرد تجسيد للنية ذاتها، وأن المرأة لم تستثن لأي سبب يختص بطبيعتها كإمرأة، بينما حددت التوراة فرائض التطهر بالنسبة لها على هذا الأساس وحده. إن النص القرآني يعامل المرأة – فيما يختص بمسألة التطهير – باعتبار وظيفتها الإنسانية، فيما يعاملها العهد القديم باعتبار أنها مخلوق ذو حاجة أكثر للتطهر.

ويجب إثبات تميز الإسلام كذلك عن الديانات السماوية الأخرى فيما يتعلق بأحكام الحيض، وهو ما ظهر بإلحاح منذ بداية سن الأحكام الدينية الإسلامية في المدينة – وهي المعروفة بوجود قبائل اليهود فيها – وكانت أحكامهم شديدة الصرامة على الحائض على النحو الذي بيناه منذ قليل، وهناك حديث نبوي يبين كيف خفف النبي صلى الله عليه وسلم من أحكام اليهود على الحائض، ( فاليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اصنعوا كل شيئ إلا النكاح) فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه).

فالحائض في الإسلام لا تعزل ولا يمارس علها حصار مثل ما هو سائد لدى اليهود، فهي ليست كائنا يجب عدم لمسه والابتعاد عنه وإبعاده، فهي ليست نجاسة تنجس كل من حولها. ففي الإسلام يجوز للحائض أن تغسل رأس زوجها ورجليه، وأن يتكئ في حجرها، بل إن العلاقة الجنسية ليست محرمة بالكلية، فالإسلام يحرم فقط الجماع في الفرج في هذه الفترة.ومع أن الإسلام يمنع الحائض من بعض الطقوس الدينية كالصلاة والصيام والطواف، إلا أن مجال المنع أضيق بكثير جدا مما تمليه نصوص العهد القديم.

لقد ذكرت في مكان سابق من هذا البحث أن معظم الدراسات كشفت عن أن الأفكارالمتعلقة بدونية المرأة ونجاستها ترتد في جانب كبير منها إلى تعاليم «تـوراتـيـة» تعود بدورها إلى «الميثولوجيا» الموجودة في بعض الحضارات القديمة التي عاصرها بنو إسرائيل.

فنلاحظ أن الديانات الفارسية – الزرادشتية والمانوية والمزدكية – رغم أنها لم تلق بتهمة الخطيئة الأولى على المرأة، ألا أنها اعتبرتها كائنا غير مقدس، عليها أن تربط عصابة على فمها وأنفها كي لا تدنس أنفاسها النار المقدسة، ثم تحولت عصابة الأنف والفم في المجتمعات الفارسية إلى جلباب تلبسه المرأة من رأسها إلى قدميها، لكنه كان خاصا بالحرائر وعليـة القوم، ولا يجوز للإماء ونساء العوام ارتداؤه. أما الديانات الهندية – الفيدية والبراهمية والبوذية – فقـد اعتقدت أن المبدع الإلهي حين خلق المرأة خلقها من قصاصات وجذاذات المواد الصلبة التي زادت لديه بعد عملية خلق الرجل.وأوجبت على الزوجة أن تخدم سيدها (زوجها) كما لو كان إلها، وحرمت المرأة من دراسة كتب الحكمة والفلسفة والدين، فقد ورد في نصوصهم: (إذا درست المرأة كتاب الفيدا( وهوكتاب مقدس لديهم) كان هذا علامة الفساد في المملكة.

أما الحضارة المصرية القديمة فيجب إثبات تميزها عن الحضارات الأخرى فيما يتعلق بوضع المرأة ومكانتها،فقد كانت لها منزلة خاصة رفيعة في المجتمع، تختلف عن منزلتها في باقي المجتمعات القديمة، فكانت تملك وترث، وتنزل إلى الأسواق لتمارس التجارة، ولم يكن غريبا والحالة هكذا أن نجد في النقوش التاريخية أسماء كثيرة لنساء مثل كليوباترا ونفرتيتي وحتشبسوت، وأن نجد رمسيس الثالث يتباهى بالمرأة في مملكته (فهي تذهب حيث تشاء مكشوفة الأذنين فلا يتعرض لها أحد) كما لم يكن غريبا أن يعلق ماكس ميللر على ذلك قائلا:(ليس ثمة شعب قديم أو حديث رفع منزلة المرأة مثلما رفعها سكان وادي النيل).

لقد أذهلت المرأة المصرية القديمة المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت لنشاطها ومشاركتها الرجل في جميع مناحي الحياة: في البيت والتجارة والزراعة والأسواق والسياسة، حتى أنها وصلت إلى أعلى المناصب السياسية عندما حكمت البلاد بمفردها أو مع زوجها. ويقول ديدور الصقلي : (إنها كانت تنال من السلطة والتكريم أكثر مما ينال الملك، ويرجع ذلك إلى الذكرى المجيدة التي خلفتها في مصر الإلهة إيزيس) وكانت الزوجة جليلة القدر حتى أن زوجها لا يكاد يصور مع الآثار إلا مع زوجته، بل كان أغلى قسم عند إخناتون أن يقسم بنفرتيتي زوجته، التي لم تنجب له سوى البنات، ومع ذلك رفض الزواج بأخرى لينجب الولد، ولم يكن ذلك قاصرا على الملوك الفراعنة أو الطبقة العليا في المجتمع، بل كان كذلك في جميع الطبقات: (كانت النساء يحضرن الحفلات العامة مع أزواجهن، وهذا مظهر لم يعهده العالم القديم، ولا الشرق الحديث، فالمصري كانت امرأته بجانبه أينما وجد، ولم يكن من الأدب المرعي الفصل بين الزوجين، فالزوج المصري وزوجته يجتازان الحياة واليد في اليد، كما نرى في الصور المنقوشـة على القبــور).

ونلفت الانتباه في هذا الصدد إلى أن ثمة مصدر مؤثر أسهم بقوة في تهميش دور المرأة وانتقاص مكانتها وقيمتها، هذا المصدر هو (المعلم الأول) أرسطو، فقد زعم أرسطو أن المرأة من الرجل كالعبد من السيد، وكالبربري من اليوناني، والمرأة رجل ناقص، تركت واقفة على درجة دنيا من سلم التطور، والذكر متفوق بالطبيعة، والمرأة دونه بالطبيعة، الرجل حاكم والمرأة محكومة، وهذا المبدأ ينطبق على جميع الجنس البشري، إن المرأة ضعيفة الإرادة، وبذلك فهي عاجزة عن الاستقلال في المرتبة والخلق، وأفضل مكان لها هو حياة بيتية هادئة، تكون لها السيادة المنزلية بينما يحكمها الرجل في شئونها الخارجية، يجب ألا تتساوى النساء مع الرجال كما في جمهورية أفلاطون، ولا بد من زيادة الفوارق بينهما. لاشئ أشد جاذبية من الاختلاف، ليست شجاعة المرأة متماثلة مع شجاعة الرجل، كما افترض سقراط، شجاعة الرجل في القيادة وشجاعة المرأة في الطاعة،أو كما يقول الشاعر صمت المرأة مجد لها.

ولا يكتفي أرسطو بهذا القدر من الانتقاص من المرأة، بل يضيف إليها عدم قدرتها على ممارسة الفضائل الأخلاقية المختلفة على نحو ما يفعل الرجل، وعدم قدرتها على شغل أي منصب اجتماعي أو ثقافي، أو حتى قيادة المنزل، إن مهمتها تقتصر فقط على الإنجاب، بل إنها مسئولة مسئولية كاملة عن إنجاب الأنثى، والرجل هو المسئول عن انجاب الذكور، وهي فكرة كانت وربما ما زالت شائعة جدا في مجتمعنا العربي.

ويعتقد أرسطو أن من الطبيعي أن يأمر الزوج، وأن تطيع الزوجة (لأن جنس الذكر أصلح للرئاسة من جنس الأنثى، ومن ثم فتسلط الرجال على النساء مسألة طبيعية جدا) ويرجع أرسطو أسباب هذا التسلط إلى الفارق في القدرة العقلية بين الرجل والمرأة، وسيطرة الجانب العاقل من النفس على الجانب غير العاقل عند الرجل، ويرجع كذلك لأسباب بيولوجية، كسلبية المرأة باعتبارها الهيولي، وإيجابية الرجل بوصفه الصورة، ومن الأسباب كذلك الفارق في السن، لأن أرسطو كان يساير التقاليد اليونانية في أثينا التي تجعل الفتاة تتزوج من رجل في ضغف سنها، فلا يكون بينهما تقارب في السن أو في المستوى العقلي. والغريب أن أرسطو كان يرى أن ذلك التفاوت في عمر الزوجين، يرجع لأسباب بيولوجية،فسن الزواج ليس أمرا يخضع لأمزجة الناس وأهوائهم، بل هو أمر تقرره الطبيعة، فإذا كانت الطبيعة قد حددت سن السبعين كحد أقصى لقدرة الرجل على الإنجاب، وحددت سن الخمسين كحد أقصى عند المرأة، فإنه ينبغي علينا أن نرجع لهذا الأصل، ونحافظ على هذه النسبة نفسها في تحديد أفضل سن للزواج، أي لابد أ يكون الفارق بين سن الرجل وسن المرأة عند الزواج عشرين سنة كما حددته الطبيعة.

أن خطورة أرسطو تكمن في أنه نظَّر ووضع الأساس الفلسفي لامتهان المرأة واحتقارها، فقد بذل جهده ليضع نظرية فلسفية عن المرأة يستمد دعامتها الأساسية من الميتافيزيقا، ثم راح يطبقها في مجال البيولوجيا أولا، والأخلاق والسياسة بعد ذلك، ليثبت فلسفيا صحة الوضع المتدني للمرأة الذي وضعتها فيه العادات والتقاليد اليونانية.
وكلنا يعرف مدى التأثير الذي تركه أرسطو على الفكر الإنساني، فقد ظل مهيمنا على ذلك الفكر قرابة عشرين قرنا، بل أن الكنيسة الكاثوليكية اعتبرت أن كل من يخالف أفكار أرسطو يعد مهرطقا، ولذلك فقد اضطهدت كل العلماء والمفكرين الذين جاءوا بأفكار مخالفة لأرسطو كما حدث مع كوبر نيكوس وجاليليو وغيرهما.

الخلاصة من كل ما سبق أن فكرة نجاسة الجسد الأنثوي قد تم تأسيسها استنادا على أفكار توراتية قديمة مستمدة من ميثولوجيا بعض الحضارات القديمة، وتم تأصيلها فلسفيا على يدي فيلسوف اليونان الأكبر أرسطو، ثم تسربت الفكرة للوعي الشعبي الذي تأثر بالموروث التوراتي تأثرا كبيرا. وقد أسهم اعتماد المسيحية للعهد القديم كنص مقدس ملزم، واعتماد الكنيسة فكر أرسطو بصورة لا تقبل النقد إلى زيادة انتشار الأفكار المرتبطة بنجاسة المرأة ودونيتها، وبالتالي تدني وضعيتها الاجتماعية في معظم المجتمعات.

واتضح من هذا البحث الموجز أيضا تميز وضع المرأة في المجتمع المصري القديم، وكذلك تميز التصور الإسلامي للمرأة النابع من نفي القرآن كلية فكرة – أو بالأحرى تهمة – النجاسة عن المرأة، في حين ألصق العهد القديم النجاسة بالمرأة وكأنه جزء من بنيتها العضوية والنفسية، وهو ما أسهم في النهاية في إقصاء المرأة وتهميشها في كافة الفضاءات الاجتماعية.



المصدر:http://www.mahapress.com/?p=2325

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...