نهار حسب الله - قبر فوق السحاب قصة قصيرة

عشتُ حياة كمن عاش في قطار فائق السرعة، يتنقل ما بين محطة وأخرى دونما توقف..

سافرت بصحبة طفولتي وذكريات من دون أمتعة ولا حقائق، تاركاً خلفي النيران والدخان..

قرار السفر لم يكن محبباً بالنسبة لي ولكنه صدر عن جدي لوالدي الذي صار حاكم أمري بعد ان اختفى والِدي بين الركام الذي خلفه صاروخ طائرة F16 الامريكية الذي كان بيتنا واحدا من أهدافها في حرب 2003.. ضاع أبي وأمي، تاها تماماً وكأن ظلمة قد ابتلعتهما، وأرغمتهما على ان يكونا جزءً من ذاكرة الحرب الأمريكية، عندئذ تكفل جدي بتربيتي، وكان دؤوباً لتعويض ذلك النقصان الهائل في حياتي.

طلع الفجر أزرق باهت في السادسة صباحاً من يوم السادس عشر من آب 2006، وبدا الصمت مطبقاً في ذلك اليوم، عدا صوت ديك ينادي وحيداً ويتنازع الحضور مع صوت طلقات نارية بعيدة مجهولة المصدر.. تلك الذكرى التي لا يمكن شطبها من مخيلتي، كونها آخر لحظاتي في مسقط رأسي (مدينة الصدر).

كان عمري وقتها سبعة عشر عاماً فقط.. سرتُ راضخاً لأمنية جدي متوجهاً إلى المجهول طارقاً أبواب البلدان باحثاً عن ملجأ آمن..

كان هجران (مدينة الصدر) أمر في غاية الصعوبة لانها لم تكن مدينة بالمفهوم الشائع فمنذ لحظة تأسيسها في ستينيات القرن العشرين واستيطان سكان ريف الجنوب العراقي فيها، ظلت ممزوجة بنكهة الريف والروح القروية التي تسيطر عليها البساطة والعشوائية إلى حد كبير، مثلما امتازت بتداخل بيوتها ذات المساحات الصغيرة وهو الامر الذي زاد من شعبيتها وخصوصيتها التي انتقلت فيما بعد إلى باقي الأحياء البغدادية الأخرى..

غيابي لم يكن رحيلاً عن المدينة فحسب؛ وإنما ابتعاد عن الذات وإنسلاخ حقيقي عن النسيج العائلي المترابط.. كان يوماً ودائعياً جنائزياً ملبداً بالحزن الثقيل.. يومها أودعني جدي أمانة بيد مجموعة من شباب الحي المهاجرين، الهاربين من الموت العشوائي ودواعي الحرب الاهلية التي بدأ فتيلها يشتعل بفضل الفوضى التي تُسير البلد في ذلك الحين.

مضت السنوات عجولة وانا أتنقل بين البلدان غير آبه بتغيرات الزمن من حولي، حتى بدأت انسج لنفسي عالماً جديداً هناك، بعدما انفصلت عن الشباب العراقيين الذين سافرتُ بمعيتهم لأن كلاً منهم اختار طريقاً يختلف عن الآخر، فيما وجدتُ نفسي في مدينة سكليسونا السويدية التي تقع على بعد ساعة من العاصمة ستوكهولم.

كانت السلطات السويدية متعاطفة مع قصتي إلى حد كبير ، وخصصت لي مكاناً للإقامة كما خصصت لي راتباً شهرياً رمزياً، وكلفت الحكومة أيضا أحد المحامين في ستوكهولم لتولي قضية اللجوء التي تقدمت بطلب للحصول عليه.

بدأت أعيش في سكليسونا وأتعلم اللغة السويدية والعمل على الحاسوب وتصفح الانترنت إلى ان حَصلتُ على جواز مرور إلى حياة كريمة تحترم وجودي كإنسان ألا وهو الجنسية السويدية..

كنت أرى ملامح وجه جدي الأليف الدافئ في كل وجه عراقي ألمحه في الغربة، ويقتلني الشوق إليه وإلى سجارته محلية الصنع ودخانها الضبابي الكثيف، إلى سعاله المتواصل، إلى ابتسامته الساخرة، كما هو الحنين إلى النوم على أسطح البيوت أيام صيف بغداد الحار، وإلى أصدقاء الطفولة في مدينة الصدر، وإلى ممارسات بسيطة جداً كنت امارسها معهم كلعب كرة القدم حافي القدمين على الاسفلت، أو لعبة الشرطي والحرامي، أو الطائرات المصنوعة من أوراق الجرائد أو ألعاب طفولية أخرى لا يعرفها الاطفال هنا في السويد.. غير ان مشاغل الحياة وزحمة التطور في هذا البلد أبعدني عن بلدي الام لدرجة اني فقدت التواصل معه، وسرعان ما اختُزلتْ علاقتي به وصرتُ أسمع أخباره الموجعة من خلال نشرات الاخبار التي تتناقلها القنوات الفضائية..

بعد ان أقمتُ لأكثر من خمسين عاماً في المملكة السويدية وكونتُ اسرتي، تنبهتُ ذات مرة وأنا أنسق شعري أمام المرآة وأستكشف ما غيره الزمن في شكلي، تبينتُ ان طبيعتي وعاداتي وتقاليدي الشرقية بدأت تتلاشى مع الزمن، ولم يبق منها إلا ملامح بشرتي السمراء الحنطية، ولغتي العربية بلهجتها العراقية العامية التي كنت مصراً على ان لا يحذفها فكري كما حذف أشياء كثيرة من الماضي، لذلك علمتها لأبني الوحيد بالتعاون مع زوجتي العراقية (سندس) المغتربة هي الاخرى..

سندس فاتنة من حي الأعظيمة ببغداد ذات الأغلبية السنية، فيما كنت أنا من مدينة الصدر ذات الأغلبية الشيعية، تلاقت أفكارنا هنا في أرض الغربة وانسجمنا واجتمعنا على محبة مثالية كان ثمارها أبننا الوحيد (آدم)، فيما كان البلد وقتها يحترق بنيران الطائفية، التي كنا نواجهها بسخط وسخرية..

عجلة الحياة حثت نفسها لأجد نفسي قد كبرتُ أكثر مما كنت متوقعاً.. كنت أحسب عمري من خلال نظراتي لآدم الذي تجاوز الثلاثين من عمره وصار شاباً أنيقاً مفتول العضلات مجعد الشعر أسمر البشرة مثلي تماماً، لم يأخذ من أمه سوى عينيها الخضراوين..

وذات شتاء شديد البرودة، تنبهت للثلج وهو يكاد يغطي نوافذ غرفي المطلة على منظر بانورامي خلاب.. عدتُ بالذاكرة إلى جدي وبغداد والماضي والهروب من الموت ولحظات الخوف.. عدتُ حيث أخشى العودة..

وإذا بالهاتف يرن ليقطع سلسلة الذاكرة الحزينة.. كان اتصالاً من مسؤول في السفارة العراقية في ستوكهولم يطلب حضوري إلى مقر السفارة لطلب بعض المعلومات.

كان صوت المتحدث باللهجة العراقية يمزق قلبي ويرغمني على البكاء بصمت قاتل.. صوت جعلني أبكي بكاء طفل تجاوز السبعين عاماً ..

وفي صباح اليوم التالي زرتُ برفقة آدم مقر السفارة، والتقينا بمسؤول إداري في السفارة اسمه هيثم كان شاباً وسيماً يرتدي طقماً رجالياً أسوداً وربطعة عنق حمراء، تفوح منه رائحة عراقية أجهل تعريفها ولكني شممتها حاملاً معها شوقاً وحنيناً كبيرين..

تحدثنا عن جملة موضوعات في الشأن السياسي والاقتصادي للواقع العراقي وعن حركة الاعمار التي تشهدها البلاد خلال النصف قرن المنصرم، وعن تغيير خارطة المدن والمحافظات العراقية، والترف الذي بدأ يتذوق طعمه المواطن العراقي وقد بدأ ينسيه مرارة العيش التي توارثها عن الاجيال السابقة.

استمر حديثنا طويلاً إلى أن داهمني هيثم بالسؤال عن أسم جدي الكامل.. والذي جعلني ألمس في سؤاله مفاجأة غير سارة من خلال تعبير وجهه الذي اختلف تماماً عن بداية اللقاء..

لم أستطع الكلام، وكأن الحروف احتشدت في لساني.. وبدا الارتباك واضحاً على ملامحي.. إلا ان آدم تدارك الامر.. وذكر الاسم بسلاسة (حيدر عبد الحسين محمد).

ابتسم هيثم وقال ببرود، الاسم صحيح ومطابق للخطاب الذي وردنا من بغداد وهو عن الارث الذي تركه السيد حيدر لكم.. وهو داره القديمة التي كان قد سجلها بأسم حفيده.

شعوري بالذنب تجاه جدي، جعلني مطأطأ الرأس وكأني السبب بموته، وكأن أرثه هذا بمثابة توبيخ كبير لي مقابل نسيانه تلك السنوات الطوال، الامر الذي جعل هيثم يتوجه بالكلام إلى آدم قائلاً:

– هذا الخطاب وردنا صباح أمس من دائرة استثمار بغداد تود فيه تعويض الجهة المستفيدة من ذلك العقار المتواضع لغرض إزالته من معالم المدينة بالكامل، ذلك ان خارطة المدينة الجديدة التي باشرت بها شركات الاعمار العالمية تعتمد على بناء ناطحات سحاب أسوة بباقي أحياء بغداد، فلم يعد في بغداد أي بناء تقليدي قديم..

التقت عيناي بعيني هيثم وما من إجابة يمكن لي أن أنقلها له، فبقيت صامتاً للحظات ثم أدرت عيني صوب آدم الذي أوكلني مسؤولية الاجابة..

وعدتُ هيثم بدراسة الموضوع والاجابة بأقرب وقت، وغادرت وآدم السفارة، بفكر مشوش تائه..

بعد ان تخلصت من نوبة الحزن الثقيلة وإحساسي بالذنب تجاه جدي الراحل؛ فكرت بما طرحه هيثم وتأملت الايام المتبقية من عمري، وتمنيتُ رؤية بلادي مرة أخرى بصورة تختلف عن تلك الصورة المأساوية التي تحمل واقع مقتل والدي..

اعتزمتُ السفر إلى بغداد، إلا ان سندس لم تسمح لي بالمغادرة وحدي، مستعرضةً عدة مبررات لتخفي خوفها ان لا تراني مرة أخرى، كانت خائفة لموتي خصوصاً وان عمري تجاوز الثمانين.. لذا بادر آدم لمرافقتي ولرؤية بلد آبائه وأجداده الذي لم يكحل عينيه برؤياه، ولم يقرأ عنه إلا أخبار الموت والحروب في كتب التاريخ..

حددنا موعد الرحلة إلى بغداد، ولكن طارئاً كان قد أصابني وأودعني طريح الفراش، يبدو ان حجم الفرحة لم يتناسب مع شيخوختي، وربما حنيني تفجر من جسدي بشكل عبثي وأثر سلباً على صحتي.. لا أعرف ماذا أصابني بالضبط ولكن الطبيب حذرني من مغادرة الفراش..

كان آدم ملهوفاً لرؤية بلاد اجداده، لذا اتفقنا على ان يتوجه آدم إلى بغداد بمفرده على ان يتواصل من هناك معي على نحو يومي..

في الثالث من نيسان عام 2070 اعتزم آدم التوجه إلى بغداد..

كان الجو في بغداد ربيعياً يمتاز بنسمات هواء عذبة مصحوبة ببعض الاتربة الصفراء التي غطت الشمس الغاربة فصار لونها أبيضاً شاحباً، بدت كبرتقالة ذهبية مقشرة في السماء..

أربكته النظرات الاولى إلى محيطه حيث البنايات الشاهقة والشوارع العريضة وحركة السيارات السريعة.. وأبقته ثابتاً كمسمار دقّ في مكانه، تائها ما بين الدهشة والانبهار وعدم التصديق، ولم ينته شروده إلا عندما زمر له سائق التكسي لعرض خدمة نقله حيث يشاء..

فتح باب السيارة وطلب من السائق توصيله إلى (مدينة الصدر) ألتفت السائق نحوه وعلامات التعجب مرسومة على وجهه، وكأن آدم قد نطق اسم مدينة تاريخية عفى عليها الزمن.. لم يعرف السائق الشاب موقع المدينة بالضبط، خصوصاً وان معالم بغداد قد اختلفت تماماً عن ما كانت عليه في السابق..

تنقلت السيارة في شوارع بغداد، فيما فتح آدم الخارطة وأشار بسبابته نحو شرق بغداد.. وتحدث مع السائق عن مدينة الصدر بقطاعاتها الصغيرة وأبنيتها المتداخلة، وكلمه عن أسواق قديمة كان قد سمع بها من خلال أحاديث والده، كان من بينها سوق عُريبة وسوق العورة، وكان السائق يبتسم وهو يصغي لحديث آدم، إلى ان فاجأه بالحديث عن سوق مريدي الاشهر في المدينة في ذلك الوقت، كان سوقاً عشوائياً تباع فيه المسروقات والأسلحة غير المرخصة والملابس المستخدمة وأدوات السيارات وكل ما يمكن أن يفكر به المرء..

قاطعه السائق بتلقائية.. سمعت ان جدي لأمي كان تاجراً هناك.. ولكني أجهل نوعية البضاعة التي كان يتاجر فيها..

سُعد آدم بهذا الخبر وطلب من صديق رحلته ان ينقله إلى هناك، غير ان السائق أضاف بنبرة مؤكدة ان السوق تمت إزالته بالكامل قبل أكثر من نصف قرن، ولم يعد في المدينة اي سوق من الاسواق القديمة.. إلا انه سينقله للمكان الذي قصده حيث الابنية التجارية الشاهقة التي شيدت في السنوات الاخيرة.

طال الحديث بين آدم والسائق الذي قال ان اسمه جمال، وسرعان ما تطورت علاقتهما وجمعتهما صداقة ومودة.. وهو الأمر الذي دعا آدم لسرد قصته على جمال علّه يجد سبيلاً للوصول إلى دار جده القديمة.

جمال شاب ودود وسريع البديهية، حاد الذكار اجتماعي كباقي العراقيين، الذين تميزهم هذه الصفة عن باقي شعوب العالم..

انتهى اليوم بعد رحلة بحث غير مجدية، فطلب آدم من جمال ان يرشده لفندق مناسب لقضاء ليلته الاولى في بغداد، على ان يعود إليه صباح اليوم التالي.

فور دخوله إلى غرفته في الفندق.. أرسل آدم رسالة الكترونية إلى والديه اللذين كانا ينتظران حروفه بفارغ الصبر، كتب رسالة اوضح فيها تفاصيل يومه الأول في بغداد وعن التحولات الكبيرة التي جعلت من المدينة ما يناقض كل الروايات التي سمعها عنها من قبل..

وبعد دقائق قليل تلقى إجابة من امه سندس تقول ان والده في وضع صحي صعب جداً.. وانه يتمنى عليه الاستقرار في بغداد لبعض الوقت، وفيما يخص العثور على دار الجد، نصحته بالتوجه إلى هيئة الاستثمار العراقي..

في تلك اللحظة اصيب مزاجه بالخرس، وكانت أحاسيسه متناقضة، ما بين حبه لبلاده القديمة الجديدة وقلقه الذي بدأ ينمو بسبب صحة والده، ومن شدة التعب غفى من دون أن يدري وهو غارق في أفكاره، ولم يصحو إلا على صوت جمال الذي حدثه من هاتف الفندق الداخلي.

انطلق آدم وجمال في رحلة بحث صباحية عن هيئة الاستثمار العراقي.. ومن هناك مباشرة نُقلا برفقة رجال من الهيئة إلى الأرث القديم والذي كان أشبه بحجر صغير يكاد لا يرى بسبب ناطحات السحاب المحيطة به.

بدا البيت وكأنه آثار قديمة تدعو للفضول والأسئلة وهي معرضة للانهيار في أية لحظة..

تقدمَ آدم نحو الباب الصغير الذي لا يسع لمرور أكثر من شخص واحد، فوجده مخلوعاً من مكانه وأمامه فجوة ارتسمت على الارض، حفرة بقطر عشرة أقدام تقريباً، وعلل المرافق القادم بصحبته لمعاينة البيت ان سببها انفجار سيارة مفخخصة قبل أكثر من سبعين عاماً أيام العنف في بغداد..

رفع الباب عن مكانه ودخل إلى ارثه القديم حتى تنبه لجدران البيت وهي مازالت تحكي ما جرى بثقوب الرصاص وآثار الشظايا التي شوهت واجهة البيت.

كانت أرضية البيت مكسوة بحطام زجاج النوافذ المهشمة، فيما كانت أطر النوافذ ملتوية بصورة عبثية وكأنها صهرت من الحرارة..

وبعد لحظات قليلة اصطفت الآليات العملاقة بصوتها المدوي قبالة البيت تنتظر أوامر الازالة، وبدت وكأنها وحش آلي كاسر، كائن غريب يمتلك القدرة على هدم الكرة الارضية في غضون دقائق قليلة..

لم يفكر آدم بكل ما كان يدور حوله، بقدر ما انشغل في التجوال في أرجاء البيت المتكون من غرفتين صغيرتين ومطبخ أقل من المتواضع..

دخل غرفة صغيرة بطلاء أبيض متسخ، عانق الأتربة وصاحب الإهمال، ومنضدة كتابة فقيرة على وشك التلف متكئة بجدار الغرفة، مسنودة بكتب قديمة من أقدامها.. كانت تتهاوى مع نسمات الهواء الهابة من النافذة المهشمة المطلة على الباب الخارجي..تنبه لتقويم سنوي منضدي يكسوه التراب كان يعود لعام 2005، بدا وكأنه جزء من أثاث الغرفة، ثم تبين انه استخدم أكثر من مرة، حيث كانت مربعات الايام والاشهر مؤشر عليها بأكثر من قلم، مما أوقع آدم في محنة حل اللغز الدائر حول حذف أيام التقويم بهذه الطريقة المتكررة.. إلى ان وجد عبارات مكتوبة في آخر صفحة من التقويم (الايام تكرر نفسها، لذا علينا ان نعيد أيامنا..)

تابع آدم تجواله بعينين ترصدان أصغر الاشياء وأبسطها، وكأنه في متحف يعود لعهد ما بعد الديناصورات، ركز نظره على مصباح يدوي لم يسبق له وان شاهد مثيلاً له، كان يعمل على بطاريات من نوع منقرض.. ورصد مدفأة نفطية تعاونت الرطوبة والصدأ على أكل أجزاء منها، وسجادة معلقة على جدار الغرفة مطرزة بآيات قرآنية.. وصورة شخصية لشيخ سبعيني ذا لحية طويلة مهذبة بيضاء كالثلج، تعلو رأسه عمامة سوداء.. عرف من صديقه جمال انه المرجع الديني الراحل سماحة السيد (محمد محمد صادق الصدر) والذي حملت المدينة اسمه بعد الحرب العراقية الامريكية 2003.

اختتم آدم جولته في أروقة البيت بعدما وقعت عيناه على مفكرة لكتابة اليوميات والذكريات، كانت مرمية على الأرض، وبذل قصار جهده لقراءة ما سُطر بها، إلا ان بقعاً قاتمة اللون شوهت ما كان قد كتب فيها..

حمل المفكرة ووقف قبالة البيت، ليسلط نظرة بانورامية تأملية، عله يجد تفسيراً لتلك البقع الحمراء التي غطت حروف المفكرة..

لوح بيديه لمشرفي الآليات لاتخاذ اللازم، وسرعان ما تقدمت لالتهام البيت وكأنه وجبة سريعة لجائع فقد صبره..

تنبه آدم لأحد المارة وهو يهز يده بتعبير عن السخرية والازدراء تجاه ما تحصده الآليات، استوقفه مستفهماً عن أسباب ضجره وما إذا كان يعرف شيئاً عن هذا البيت المهجور..

اجاب بشيء من الأسى:

حملتُ قصة هذا البيت من ذكرى والدي الذي حدثني عنه قبل رحيله، أخبرني ان لهذا البيت تاريخه العريق الذي توارثته الاجيال، فضلاً عن كونه الارث التاريخي الوحيد الذي بقي شاخصاً حتى هذا الزمن، علاوة على انه يحكي قصة الشيخ (حيدر عبد الحسين محمد) الذي عاش وحيداً لدهر من الزمن المرّ وكان يقضى أوقاته بتدوين الذكريات .. وقيل انه قتل بشظية سيارة مفخخة انفجرت قرب داره وأودته قتيلاً..

ترك آدم المتحدث وسارع لتوقيف الآليات المدمرة، غير انها كانت مبرمجة الكترونياً وما هي إلا دقائق قليلة حتى تحول التاريخ إلى ركام..

وبعد أكثر من عشرين عاماً على الحادثة انشأت هيئة الاستثمار ناطحة سحاب، هي الأكبر والأوسع في المدينة، بعد استغلال موقع البيت الصغير مع المناطق المحيطة به..

وخصصت طابقاً كاملاً لمقتنيات الشيخ (حيدر عبد الحسين محمد) التي انتشلت من تحت الركام، كما اعتزمت الهيئة تكليف فرقة من النحاتين الموهوبين لتجسيد نصب تذكاري للشيخ حيدر على ان يبقى شاخصاً بأعلى ناطحة سحاب..




* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...