دينو بوزاتي - المصعد.. ترجمة محمد فري

عندما ولجت المصعد في الطابق الواحد والثلاثين من العمارة التي أقطنها من أجل النزول، كانت مصابيح اللوحة تشير إلى الطابق السابع والعشرين والرابع والعشرين معلنة أنها ستتوقف كي يلتحق بنا شخص آخر,
انغلق بابا المصعد، وشرعنا في النزول، كان مصعدا سريعا.
.
في رمشة عين انتقل بنا المصعد من الطابق الواحد والثلاثين إلى السابع والعشرين، ثم توقف، انفتح الباب آليا، سرحت ببصري وشعرت بشيء ما، هنا، بداخلي، بأعلى قفصي الصدري، شيء يشبه دواراداخليا.
فقد دخلت تلك التي كنت أصادفها بالجوار شهورا وشهورا، والتي كانت كل مرة تدفع بقلبي إلى الخفقان
كانت فتاة في حوالي السابعة عشرة، كنت أصادفها غالبا في الصباح، تحمل سلة حاجيات كبيرة
لم تكن أنيقة،
لكنها لم تكن تهمل نفسها أيضا، كان شعرها الأسود الملقى على كتفيها مشدودا على جبينها بشريط على الطريقة الإغريقية، شيئان مهمان لديها يلفتان النظر: وجهها النحيف الصلب، ذو العظم القوي، والخدان البارزان، والفم الصغير،المغلق المتغطرس، وجه يعكس نوعا من التحدي.
ثم طريقة مشيها، الآمرة، الكلاسيكية، ذات الثقة المتغطرسة التي تشمل كل جسدها، وكأنها سيدة العالم.
دخلت المصعد، لم تكن تحمل سلتها هذه المرة، لكن شعرها كان مشدودا دائما بذاك الشريط الإغريقي، لم تكن أيضا تضع أحمر شفاه، غير أن فمها الثابت المتغطرس ذا الشكل المكتنز لم يكن بحاجة إلى ذلك.
مبالاة ، لم أعلم إن كانت قد رمقتني بطرف عينها وهي داخلة قبل أن تدقق النظر بلا
تجاه الحائط المقابل، ليس هناك مكان في العالم تتخذ فيه وجوه الأشخاص الذين يجهلون بعضهم تعابير قماءة شديدة كالمصعد، وقد تميزت الفتاة أيضا وحتميا بتعابير بليدة، لكنها كانت على كل حال، بلادة متغطرسة واثقة جدا من نفسها.
لكن، وقبل كل شيء، توقف المصعد عند الطابق الرابع والعشرين، وستنتهي هذه الكلفة العرضية بيني وبينها، انفتح صماما باب المصعد، ودخل شخص قدرت سنه في حوالي الخامسة والخمسين، يبدو متهالكا، ليس بالبدين ولا النحيف، أصلع تقريبا، ذو وجه متجعد لاتعوزه سمات الذكاء.
كانت الفتاة تقف بصلابة، وقد أمالت قليلا رأس قدمها اليمنى نحو الخارج، مثلما تفعل عارضات الأزياء عندما يصورن. كانت تنتعل صندلا أسود ذا كعب عال. وتحمل حقيبة يدوية صغيرة من الجلد الأبيض أو الجلد الصناعي، كانت بالأحرى حقيبة متواضعة. بينما ظلت تحدق في الجدار المقابل بلا مبالاة شديدة.
كانت من نوع النساء المقيتات اللواتي يفضلن أن يقتلن على أن يمنحنك ابتسامة، ماذا يستطيع أن يؤمل خجول مثلي؟ لاشيء طبعا، ثم إن كانت فعلا خادمة فستشعر نحو شخصي بكل انعدام الثقة المتعجرف الذي يكنه خدم البيوت تجاه أسيادهم.
شيء غريبأوه الكثير الكثير، ثم، هناك أيضا هذه الحقيبة ",
يتضمن صماما المصعد نافذتين صغيرتين زجاجيتين يمكن من خلالهما متابعة مرور الأبواب المغلقة للطوابق وأرقامها المطابقة, لكن لماذا يتحرك المصعد بهذا البطء الشديد؟ يظهر أنه أصيب بالشلل. رغم ذلك كنت سعيدا، فكلما تحرك ببطء كلما طال مكوثي بجانبها,
استمررنا في النزول بسرعة حلزون. ولم ينبس ثلاثتنا ببنت شفة، مرت دقيقة، ثم دقيقة أخرى، فابتداء من الطابق الرابع والعشرين، وعوض أن ينزلق المصعد بحيويته المعهودة و المرنة ، يتهيأ ببطء، وبالبطء نفسه دائما، ويبدأ في النزول. حملقت في الإعلان الثابت على أحد جدران المصعد:" سرعة كبيرة ابتداء من أربعة أشخاص، سرعة بطيئة فقط ابتداء من أربعة إلى ثمانية أشخاص," آليا، يخفض المصعد سرعته عندما يحمل وزنا كبيرا، تساءلت:" أمر غريب حقا، نحن بالكاد ثلاثة أشخاص، ومع ذلك ليس فينا واحد سمين" اتجهت بنظري نحو الفتاة، تمنيت فقط أن ترد علي نظرتي، لكن لاشيء من ذلك. بادر الرجل مبتسما بلطف، والذي أقدر سنه بحوالي الخامسة والخمسين:" لست سمينا، ومع ذلك أزن الكثير، أتعلمان _ كم؟ _. كانت الطوابق تمر واحدة تلو الأخرى عبر نافذتي الباب من الأسفل إلى الأعلى، كم كان عددها الذي مر؟ المفروض أن نكون قد وصلنا منذ مدة إلى الطابق السفلي. وعلى العكس، استمر المصعد في النزول بكسل غريب، لكنه كان ينزل.
أخيرا، نظرت الفتاة حولها، وكأنها قلقة. ثم خاطبت الرجل المجهول:" ماذا يحدث؟" رد بهدوء:" تقصدين أننا تجاوزنا الطابق السفلي؟ نعم. بكل تأكيد آنستي. يحدث هذا أحيانا. نوجد طبعا تحت الأرض. ألا تلاحظين أننا لم نعد نشاهد أبواب هبوط؟", كان الأمر كذلك، فخلف النوافذ كان ينزلق
جدار خشن ذو بياض متسخ.
قالت الفتاة:" _ هل تمزح؟
_ لا. لا. لايحدث ذلك دائما، لكن اليوم حدث ذلك.
_ وإلى أين سننتهي؟
رد بغموض:
_ من يدري؟ على كل حال أشعر أننا سنظل محبوسين هنا فترة معينة، أظن أنه من المستحسن أن نشرع في تقديم أنفسنا. ثم مد يده اليمنى نحو الفتاة ونحوي:
_ أتسمحان؟ السيد شياسي
_ بيروزي. ردت الفتاة
ــ بيروزي؟ ... تساءلت بجرأة مادا يدي بدوري
_ ايسثير بيروزي, قالت بشكل حرون
بدت مرتعبة بسبب ظاهرة غريبة, كان المصعد مستمرا في الغوص داخل أحشاء الأرض, كان وضعا مخيفا, في موقف آخر، كنت سأشل من الرعب، وعلى النقيض، كنت أحس بالسعادة. كنا كثلاثة من الناجين من الغرق في جزيرة مقفرة. وكان يظهر لي أنه من المنطق أن تهتم بي ايسثير. لم أكن قد تجاوزت الثانية والثلاثين، أظهر وسيما: كيف يمكن لهذه المتوحشة الصغيرة أن تفضل علي هذا الشيخ الآخر المتداعي؟
_" لكن أين نحن ذاهبون؟" قالت ايستير وهي تتشبث بذراع شياسي
ـ" لا لا .. لاتقلقي. هدوءا صغيرتي. ليس هناك خطر. ألا تلاحظين أننا ننزل بلطف؟ "
لماذ لم تتشبث بي أنا، لكأنها صفعتني بقوة.
خاطبتها قائلا:
" _ آنسة ايسثير. أود أن أقول لك شيئا: أتعلمين أنني أفكر فيك طول الوقت؟ أتعلمين أنني معجب بك جدا؟
_ لكن ... كيف؟ ,, إنها المرة الأولى التي نلتقي فيها." ردت بجفاف
_ " إنني أصادفك تقريبا كل يوم صباحاعندما تتوجهين نحو السوق "
أحسست أنني أخطأت، لذا بادرت إيسثير:" _ آه.. كنت تعلم إذن أنني خادمة؟"
حاولت تصحيح الموقف :
_ " خادمة؟ أنت؟ لا. أقسم أنني كنت بعيدا عن أن أتخيل ذلك "
ــ " وماذا كنت تعتقدني إذن؟ ربما أميرة؟ "
تدخل شياسي بمظهر طيب:"
_ هيا يا آنسة ايسثير. أعتقد أنه ليس وقتا للخصام. الآن نعاني مشكلا واحدا "
شعرت نحوه ببعض الامتنان، لكنه أغضبني في الوقت نفسه:"
_ لكن أنت ياسيد شياسي، واعذر فضولي، من تكون إذن؟
_ من يدري؟ تساءلت بدوري عن ذلك مرارا. أنا متعدد. لنقل تاجر، فيلسوف، طبيب، حيسوبي، مهندس.
_ ساحر أيضا؟ بالمصادفة، ألن تكون الشيطان نفسه؟ تعجبت من إحساسي بقوة إرادتي في هذا الموقف الكابوسي. وبشعوري أنني بطل تقريبا.
انفجر سياشي ضاحكا، لكن المصعد كان مستمرا في النزول دائما. نظرت إلى ساعتي. مرت أكثر من ساعة. أجهشت إيسثير بالبكاء. أمسكتها من كتفيها برفق:"
_ لا لا داعي للبكاء، سترين، كل شيء سيعود إلى حاله."
_ " و .. إ,, إذا استمر الوضع عل...عل على هذا الحال " لم تستطع أن تقول شيئا آخر.
رد شياسي:"
_ لا لا يا آنسة.. لن نموت جوعا أو عطشا.. لدي كل مانحتاجه في حقيبتي. على الأقل ما يكفينا لثلاثة أشهر"
حملقت فيه بقلق، إذن كان هذا الشخص يعرف كل شيء منذ البداية؟ هل هو من خلق كل هذا؟ ألن يكون هو الشيطان نفسه؟ لكن في الأساس، ماذا سيفعل سواء كان الشيطان أم لا؟ كنت أشعر أنني شاب قوي واثق من نفسي.
همست في أذنها :" إيسثير، لاتقولي لا. لا أحد يعلم كم سنظل سجناء هنا. ايسثير، أخبريني: هل تريدين أن تتزوجيني؟ "
ردت بألفة أطربتني كثيرا:"
_ أتزوجك؟ لكن كيف تفكر في الزواج بي؟"
بادر شياسي:"
_ إذا كان هذا ما يشغلكما. فاعلما يا أبنائي أنني قسيس أيضا.
_ لكن .. أنت .. ماذا تفعل في حياتك؟ سألتني ايسثير أخيرا بنوع من اللطف.
_ عامل، أكسب كثيرا، يمكنك أن تثقي بي جميلتي. اسمي دينو.
قال شياسي:"
_ فكري جيدا آنستي .. على كل هي فرصة.
ألححت: _" إذن؟ "
كان المصعد مستمرا في النزول، كنا قد تجاوزنا منحدرا لا أدري عدد أمتاره. أبدت ايسثير تكشيرة صغيرة غريبة لا تخلو من خوف:"
_ طبعا دينو. على كل أنا لا أكرهك. أتعلم؟ "
احتضنتها وأنا أطوقها من خصرها، ومنحتها قبلة خفيفة فقط على جبينها حتى لاأرعبها.
_" ليحفظكما الله " قالها شياسي وهويرفع يديه كمن يقوم بطقوس مقدسة.
في هذه اللحظة، توقف المصعد. بقينا في حالة ترقب، ماذا سيحدث؟ هل لامسنا قاع الأرض؟ هل هي وقفة قبل السقطة الكارثية الأخيرة؟ لا. عوض ذلك. وبتنهيدة عميقة، بدأنا في الصعود برفق.
صاحت ايسثير فجأة والتي كنت ماأزال أحسها بين ذراعي:
"_ اتركني من فضلك يا دينو "
استمر المصعد في الصعود.
تابعت ايسثير:
"_ أوه لكم بدوت لينة، لا.. لايمكن ذلك أبدا مادام الخطر قد انتهى .. إذا أردت ذلك فعلا، فلنتحدث مع أهلي ... خطوبة؟ يظهر أنك تتسرع كثيرا .. لكن أخيرا، يظهر أنها كانت مزحة، أليس كذلك؟ أتمنى أن تكون فهمت ذلك."
استمر المصعد في صعوده.
"_ لا .. لاتلح الآن من فضلك .. نعم، نعم، أنت عاشق ... عاشق ... أعرف، هي الحكاية المعتادة ... أوه.. لكن في الأخير، ألم يخبرك أحد من قبل أنك أكبر مزعج؟ ".
كنا نصعد بسرعة خطيرة.
"_ تراني غدا؟ ولماذا يجب أن نلتقي غدا؟ أنا لاأعرفك أصلا... ثم، أتظن أن لدي وقتا لذلك ... ماذا تظنني؟ تريد أن تستغلني لأنني خادمة؟ "
أمسكتها من معصمها:
"_ ايسثير، لاتفعلي ذلك، أرجوك، كوني لطيفة. "
أظهرت غضبها:
"_ أتركني ... أتركني ... ماهذا التصرف؟ هل أصابك الجنون أم ماذا؟ ألا تخجل من نفسك؟ أتركني إذن قلت لك ... ياسيد شياسي، من فضلك، أيمكنك أن توقف هذا الشخص عند حده؟ "
لكن .. وبشكل مريب، كان شياسي قد اختفى. توقف المصعد. انفتح الباب وتنفسنا الصعداء. كنا قد وصلنا إلى الطابق السفلي. تخلصت ايسثير مني بقوة:
"_ ابتعد عني نهائيا ... وإلا فسأفضحك فضيحة لن تنساها طيلة حياتك. "
رمتني بنظرة احتقار، وقد خرجت بالفعل. ابتعدت، ماشية بطريقة مستقيمة، وكان صدى خطاها المتغطرس يرن في أذني كالشتائم.
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

نص حملني بلغته السلسلة العذبة، إلى ضفاف الزمن الجميل، حيث كان الاشتغال على اللغة و النصوص غير القصيرة جدا، خبزا يوميا للمبدعين و الكتاب، قبل أن يتوارى كل ذلك الجهد خلف نوافذ الفايسبوك الضيقة..
أحببت نصوصك القصصية، و هذا ليس سرا، و أراك في ترجمتك تثير نفس السحر، بحثا عن الحكاية الحالمة و البراءة في رؤية العالم .. و الانفتاح على مفاجآته.
لو لم أقرأ العنوان، لما فكرت أنه نص مترجم...
 
شكرا أخي جبران على مرورك الطيب؛ والذي يحمل حنينا إلى زمن جميل ما يزال صداه يداعب ذهننا..
زمن رافقتنا فيه لغة القصة القصيرة بوقارها ومتعتها.. قبل أن يكتسح اليم الأزرق هذا الحلم كما ذكرت..
تشدني بعض النصوص الأجنبية؛ ولا أرتاح من سمعت إلا عندما أعيد صياغتها ترجمةً... وأشعر باكتساب متعة مضاعفة: متعة القراءة؛ ومتعة الترجمة..
شكرا مجددا أخي جبران.. ولا أنسى أن أسألك عن حال مطر
مودتي
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...