من دون الجميع أولانى ثقته .. لكن لماذا أنا بالذات ؟ .. أنا أرجع ذلك لسببين أولهما ما عرف عني بأني كتوم لا أكشف سراً . وثانيهما اعتقاده أنني أعرف فى مثل هذه الأمور أو بالأحرى خير من يعرف فى هذه الأمور . ونحن – المتعلمين- فى القري يبالغ أهلنا فى احترامنا وتقديرنا ، لذلك ندهش عندما نري أهل المدينة بأحذيتهم اللامعة وذقونهم الحليقة الناعمة يعاملوننا بنفس قسوة وسائل المواصلات عندهم . قال وقد بدا أنه يخفى فى صدره أمراً عظيماً :
- كنت أخشي ألا أجدك .. أحملها فى طيات ملابسي منذ أكثر من شهرين .
كان مضطرباً ، شاحب الوجه أشرت عليه أن يجلس ، عيناه الغائرتان فى محجريهما بدا بياضهما شديد الصفرة . جلس بجواري خلف المنضدة الطويلة أزحت كتاباً كنت أقرأ فيه بعيداً ، تطلع إلي الباب ، فقمت وأغلقته ثم عدت إلي مكاني لأجده وقد فرد أمامي ورقة متسخة مكتوبة بخط ردئ ، أرجل طيور مختلفة الأشكال والأحجام ، أو كتابة فرعونية رديئة لتلميذ مصري قديم خائب .. أيقنت من البدء أنني لن أستطيع قراءتها .. الورقة لا تتعدى مساحتها نصف ورقة فولسكاب ، ليس بها مكان خال من الكتابة ، لون الحبر فيها أزرق غامق يوحي بالكآبة ، وتكاد تكون خالية من الإعجام وعلامات الترقيم ، آثار طيها تؤكد أنها كتبت منذ فترة طويلة .
- لقد وجدتها فى شق الحائط مطبقة هكذا .
وكان قد أعاد طيها كما وجدها ، تناولتها من يده وبدأت أفردها أمامي من جديد .. بدت لي طلسماً مغلقاً قلت :
- هل تعتقد فى مثل هذه الأشياء؟
بدا أنه لم يستمع لسؤالي فلم أسمع منه إجابة ، بيد أنه قال :
- ذهبت إلي الشيخ " سيد " وقال لي بللها فى الماء .
أطرقت قليلاً ، وعرفت أنه لم يكن لسؤالي معني ، ثم قلت :
- ولماذا لم تفعل ؟
- قلت آتي إليك أولاً .. أنت متعلم .
حدقت فى الورقة دون تعليق أستطيع – الآن – أن أتبين بعض الحروف والكلمات غير أنني لم أستطع قراءة سطر واحد بأكمله ، لاحظ اليأس فى عيني فقال يستحثني :
- لم أنم منذ شهرين .
ملت إلي تصديقه ، خاصة وهالتان سوداوان قاتمتان تحيطان بعينيه وقد رأيت أن شيئا واحداً هو كل ما يريده أن يطمئن .. لكن لماذا أنا بالذات من دون أهل القرية ؟
أحاطنا مد طويل من الصمت . وأخيراً وبعد جهد جهيد قرأت " بسم الله ألله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله ولا إله إلا الله " ثم توقفت أو بالضبط لم أستطع أن أكمل ، وكان وجهه قد امتقع ، وبدا لي أكثر اصفراراً مما توقعت لذلك تحاشيت النظر إلي عينيه ، وعلي الفور خطرت لي فكرة .. قلت :
- إن العمل لا يبدأ بالبسملة ..هذا حجاب ، انظر .
وأشرت إلي نهاية الورقة وأنا أقول : اقرأ . الحمد لله رب العالمين . أمين وكنت أعرف أنه يفك الخط ، ردد معي ما قلته ، وقد بدا عليه الارتياح غير أنى شعرت بغصة فى حلقي ، فى الحقيقة أنا لا أعرف الفرق بين " الحجاب " و " العمل " كما أن معظم المكتوب لا أستطيع قراءته ، لقد كان الشيخ " سيد " علي حق عندما قال له " بللها فى الماء " قلت كتلميذ يتذكر إجابة سؤال لم يراجعه جيداً :
- إن لم يكن هذا حجاباً فهو عمل بصلاح الحال .
ثم أضفت :
- هل تصدقني ؟
هز رأسه ممنوناً ، ثم قال :
- أرحتني .
وأنا الذي لم يكن قد ارتاح بعد ، سألته :
- هل لك أعداء ؟
- أبدا
- من غير أهل بيتك يمكن أن يضع هذه الورقة فى شق الحائط ؟
- لا أحد
- إذن ..
وكنت أقصد زوجته، وكان هو يدرك أن لا أحد غير زوجته، ثم بدأ يسرد لي كيف وجد الورقة مطبقة ومحاطة جوانبها بالصمغ فى شق الحائط ، وقد نسج عليها العنكبوت خيوطه وأن هذه ليست أول مرة تحدث ولكنه كان يتجنب الحديث عنها – أقصد زوجته – كنت من جانبي أتحاشي الحديث عنها أيضا وكان علي أن استمع حتي النهاية ، وما كان لي أن أشرد بفكري بعيداً :
زوجته !
جاءت يوماً إلي هذا المكان وجلست فى هذه الغرفة وبكت أمامي طويلاً ، وقلت لها أصبري وأنها يجب ألا تيأس ، وهو أبدا لن يطلقك وهي ما زالت زوجته ، وأنها بين نساء القرية عملة نادرة وكان الضرب فوق جسدها الأسمر اللدن صلباناً وسيوفا ، ساعتها قالت :
- معمول له عمل .
- وهل تعتقدين فى مثل هذه الخرافات ؟
ولما أطرقت طويلاً ، وخيم علي الغرفة صمت أسود ، قلت لها :
- استري جسدك المكشوف .
ففعلت وابتسمت فى خجل لعوب ولم أعرف بعد ذلك كيف عادت له ؟ أو لماذا .. ؟ تنبهتُ لانقطاعه عن الكلام ، ورأيته يتململ فى جلسته وحرت كيف اعتذر له .. وكانت الورقة لم تزل مفرودة أمامي .. قال وقد ضبطني اختلس النظر إليها:
- خليها عندك .. يمكن تنفعك .
وكأنه قذفني بمدية ، فزعت ، ولم أعرف بماذا أجيب ؟ تركت الورقة علي مضض فى مكانها وأنا أرفض بشدة بقاءها ، ولم أكن أعرف لماذا أيضا ؟ وكدت أصيح فى وجهه : " لا أريدها " غير أنني لم أفعل شيئا . ثم قام واستعد للخروج وعند الباب شد علي يدي فى امتنان – قائلا :
- طمأنتني .
ناديت علي أمي وعندما أخبرتها بما حدث ، وعلمت بوجود الورقة لدي، دقت علي صدرها فى فزع ، وأسرعت تأتي بطبق به ماء لتذوب فيه الورقة . ثم قالت :
- فى الصباح أخبر الشيخ " سيد " اللهم احفظنا .
- كنت أخشي ألا أجدك .. أحملها فى طيات ملابسي منذ أكثر من شهرين .
كان مضطرباً ، شاحب الوجه أشرت عليه أن يجلس ، عيناه الغائرتان فى محجريهما بدا بياضهما شديد الصفرة . جلس بجواري خلف المنضدة الطويلة أزحت كتاباً كنت أقرأ فيه بعيداً ، تطلع إلي الباب ، فقمت وأغلقته ثم عدت إلي مكاني لأجده وقد فرد أمامي ورقة متسخة مكتوبة بخط ردئ ، أرجل طيور مختلفة الأشكال والأحجام ، أو كتابة فرعونية رديئة لتلميذ مصري قديم خائب .. أيقنت من البدء أنني لن أستطيع قراءتها .. الورقة لا تتعدى مساحتها نصف ورقة فولسكاب ، ليس بها مكان خال من الكتابة ، لون الحبر فيها أزرق غامق يوحي بالكآبة ، وتكاد تكون خالية من الإعجام وعلامات الترقيم ، آثار طيها تؤكد أنها كتبت منذ فترة طويلة .
- لقد وجدتها فى شق الحائط مطبقة هكذا .
وكان قد أعاد طيها كما وجدها ، تناولتها من يده وبدأت أفردها أمامي من جديد .. بدت لي طلسماً مغلقاً قلت :
- هل تعتقد فى مثل هذه الأشياء؟
بدا أنه لم يستمع لسؤالي فلم أسمع منه إجابة ، بيد أنه قال :
- ذهبت إلي الشيخ " سيد " وقال لي بللها فى الماء .
أطرقت قليلاً ، وعرفت أنه لم يكن لسؤالي معني ، ثم قلت :
- ولماذا لم تفعل ؟
- قلت آتي إليك أولاً .. أنت متعلم .
حدقت فى الورقة دون تعليق أستطيع – الآن – أن أتبين بعض الحروف والكلمات غير أنني لم أستطع قراءة سطر واحد بأكمله ، لاحظ اليأس فى عيني فقال يستحثني :
- لم أنم منذ شهرين .
ملت إلي تصديقه ، خاصة وهالتان سوداوان قاتمتان تحيطان بعينيه وقد رأيت أن شيئا واحداً هو كل ما يريده أن يطمئن .. لكن لماذا أنا بالذات من دون أهل القرية ؟
أحاطنا مد طويل من الصمت . وأخيراً وبعد جهد جهيد قرأت " بسم الله ألله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله ولا إله إلا الله " ثم توقفت أو بالضبط لم أستطع أن أكمل ، وكان وجهه قد امتقع ، وبدا لي أكثر اصفراراً مما توقعت لذلك تحاشيت النظر إلي عينيه ، وعلي الفور خطرت لي فكرة .. قلت :
- إن العمل لا يبدأ بالبسملة ..هذا حجاب ، انظر .
وأشرت إلي نهاية الورقة وأنا أقول : اقرأ . الحمد لله رب العالمين . أمين وكنت أعرف أنه يفك الخط ، ردد معي ما قلته ، وقد بدا عليه الارتياح غير أنى شعرت بغصة فى حلقي ، فى الحقيقة أنا لا أعرف الفرق بين " الحجاب " و " العمل " كما أن معظم المكتوب لا أستطيع قراءته ، لقد كان الشيخ " سيد " علي حق عندما قال له " بللها فى الماء " قلت كتلميذ يتذكر إجابة سؤال لم يراجعه جيداً :
- إن لم يكن هذا حجاباً فهو عمل بصلاح الحال .
ثم أضفت :
- هل تصدقني ؟
هز رأسه ممنوناً ، ثم قال :
- أرحتني .
وأنا الذي لم يكن قد ارتاح بعد ، سألته :
- هل لك أعداء ؟
- أبدا
- من غير أهل بيتك يمكن أن يضع هذه الورقة فى شق الحائط ؟
- لا أحد
- إذن ..
وكنت أقصد زوجته، وكان هو يدرك أن لا أحد غير زوجته، ثم بدأ يسرد لي كيف وجد الورقة مطبقة ومحاطة جوانبها بالصمغ فى شق الحائط ، وقد نسج عليها العنكبوت خيوطه وأن هذه ليست أول مرة تحدث ولكنه كان يتجنب الحديث عنها – أقصد زوجته – كنت من جانبي أتحاشي الحديث عنها أيضا وكان علي أن استمع حتي النهاية ، وما كان لي أن أشرد بفكري بعيداً :
زوجته !
جاءت يوماً إلي هذا المكان وجلست فى هذه الغرفة وبكت أمامي طويلاً ، وقلت لها أصبري وأنها يجب ألا تيأس ، وهو أبدا لن يطلقك وهي ما زالت زوجته ، وأنها بين نساء القرية عملة نادرة وكان الضرب فوق جسدها الأسمر اللدن صلباناً وسيوفا ، ساعتها قالت :
- معمول له عمل .
- وهل تعتقدين فى مثل هذه الخرافات ؟
ولما أطرقت طويلاً ، وخيم علي الغرفة صمت أسود ، قلت لها :
- استري جسدك المكشوف .
ففعلت وابتسمت فى خجل لعوب ولم أعرف بعد ذلك كيف عادت له ؟ أو لماذا .. ؟ تنبهتُ لانقطاعه عن الكلام ، ورأيته يتململ فى جلسته وحرت كيف اعتذر له .. وكانت الورقة لم تزل مفرودة أمامي .. قال وقد ضبطني اختلس النظر إليها:
- خليها عندك .. يمكن تنفعك .
وكأنه قذفني بمدية ، فزعت ، ولم أعرف بماذا أجيب ؟ تركت الورقة علي مضض فى مكانها وأنا أرفض بشدة بقاءها ، ولم أكن أعرف لماذا أيضا ؟ وكدت أصيح فى وجهه : " لا أريدها " غير أنني لم أفعل شيئا . ثم قام واستعد للخروج وعند الباب شد علي يدي فى امتنان – قائلا :
- طمأنتني .
ناديت علي أمي وعندما أخبرتها بما حدث ، وعلمت بوجود الورقة لدي، دقت علي صدرها فى فزع ، وأسرعت تأتي بطبق به ماء لتذوب فيه الورقة . ثم قالت :
- فى الصباح أخبر الشيخ " سيد " اللهم احفظنا .