هناك، إذن، الإنسان المجرد من كل صفة ملموسة. وهناك الإنسان الذي يسير في الأسواق. ولا أحد من المنظرين ادعى ألا فرق بين الاثنين. حتى روسو أكثرهم غلوا في التجريد، يحلق طويلا في سماء المثل، ثم يعود إلى الواقع، ليتساءل مع مونتيسكيو عن أي نظام أصلح لأي شعب في محيطه الجغرافي، وبمعطياته التاريخية والثقافية والعقائدية.
عندئذ، يتضح لنا في البحث في الأصول من له حق التشريع، من له حق الإمارة، من له حق فض النزاعات، إنما هو بهدف ردّ ادعاء: أصحاب النفوذ من رجال الدين والنبلاء والمستبدين بالسلطة، أي كل من يعتقد أن تحكمه في غيره أمر طبيعي.
التحليل النظري الجذري هو تمهيد وتأصيل لإرادة التغيير. من يحبذ التغيير، وأحيانا يستبطئه، لا يعيب على التحليل المذكور إفراطه في التجريد. إذ الغرض منه بالضبط هو تنقيح الذهن من كل الأفكار الموروثة. وأما من يفضل الاستقرار والمحافظة على ما هو قائم، ولو مقابل إصلاحات، كأنه يستبشع الفرضية الأساس، أي كون الفرد سيد نفسه، فعّال لما يريد.
هذا الفرد الواعي بذاته، العاقل، الكابح لنزوات نفسه، المستقل عن غيره، المتعاقد مع نفسه، أليس غافلا عن واقعه، متنكرا لحقيقته؟ قبل أن يتعاقد مع نفسه، أو لم يتعاقد مع خالقه؟ هذا المعارض لتحليل روسو، ولأفكار القرن الثامن عشر، يجدها عند المتدين، المسلم وغير المسلم، عند الشرقي والغربي. نجدها عن مفكر كالمودودي، ونجدها عند المعارض للثورة الفرنسية كالمفكر لوي بونات.
هكذا نرى كيف يمكن تقويض تحليل روسو، وبالتالي مفهوم المواطنة الكاملة، من الأساس دون العودة إلى وضع يتصف بالحجر والعبودية. هذه هي النقطة، أي أن نقوض الأسس المنطقية والمعرفية لتحليلات القرن الثامن عشر، خاصة تحليلات روسو، دون العودة إلى فكر وسطوي.
يقول المعارض- أي كان: الإنسان حر، ولكن بعد عتق، الإنسان مخلق، ولكن بتكليف، الإنسان صاحب عقل، ولكن عن منة. لاحظنا أن روسو قلب المفاهيم الثيولوجية إلى سياسية. ونرى هنا أن خصومه يكتفون بقلب مضاد، أي بربط حقوق سياسية بمجال غير سياسي.
واضح مما سبق أن مفهوم المواطنة التامة الكاملة، المضمن في الوثائق الأمريكية والفرنسية، التي صدرت أواخر القرن الثامن عشر، يتجاوب مع تحليل روسو. أما الوثائق الإنجليزية، التي تتابعت من القرن الثاني عشر إلى القرن السابع عشر، فإنها تعتمد مبادئ مخالفة، كما أوضحنا ذلك. في الأولى حياد روسو وتلامذته. نلاحظ تناقضا بين المواطنة والولاء. وهو تناقض لا وجود له في الثانية.
يُعنون طوماس هوبز مؤلفه الشهير «في المواطن». هذا عنوان كتاب، مع أن المضمون هو تبرير الاستبداد الملكي.
تمزج وثائق الأمم المتحدة بين تحليلين، النظري الميتافيزي والقانوني التاريخي. هل يجوز اعتماد هذا المفهوم بكل خلفياته المعرفية للحكم على الحالة التي نعيشها اليوم في وطننا؟ هذا هو السؤال المطروح علينا من أمد.
أنصار الخصوصية، أي الأصالة الثقافية، يردون بـ «لا». حينئذ نقول، في هذه الحالة، ما هو الحل؟ أنصار العولمة، على الأقل في هذا الموضوع، يجيبون بـ «نعم». حينئذ نقول: بما أن الفروق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تظل قائمة- لا أحد يقول إن المجتمع المغربي هو المجتمع الفنلندي- فكيف نكيّف التحليل حتى يصبح موافقا للحال؟ نتصور انتقال المغربي من موالٍ إلى مواطن، مع اعتبار الفارق الثقافي.
قبل متابعة النقاش، يجدر بنا هنا أن نذكر بأمرين: أولا، لماذا شرط في مؤسس المدينة الإلهام؟ (في فصل بعنوان «المشرع»، شرط الإلهام.) ثانيا، لماذا ضمّ إلى كتاب «العقد الاجتماعي»، بعد تردد، فصلا عن الدين المدني؟ في هاتين النقطتين يتستر العائق المعرفي الذي ألمحنا إليه.
يقال عادة إن العائق ديني. لكن ما هو؟ ومن أي نوع هو؟ هل هو دين مدني؟ أم دين منزل؟ لم يلغ روسو العامل الديني، بقدر ما قلبه رأسا على عقب. أبدل الوازع الخارجي بآخر داخلي. وما لمح إليه هو جهر به أتباعه: كانط، وهيغل، وفيورباخ. عنذئد، لم يعد النقاش في هذا المستوى يدور حول ماهية الإنسان وحقوقه، بل حول أصل الأصول؛ أي مرجعية هذه الحقوق.
يقول الخصم إن الإنسان حر ومستقل عن غيره. يرد الخصم: ممن؟ يجيب روسو: عن أخيه الإنسان. يرد الخصم: صحيح، إذ لا سلطان لمخلوق على مخلوق. والسلطة، كل السلطة، هي للخالق وحده. لا ضمان لحرية الإنسان، دون الاعتراف بربوبية الخالق. يقول روسو: لا فرق بين بني البشر. يرد الخصم: نعم، لا أدل على المساواة من الشعائر الأربعة: الصوم، الصلاة، الطواف، والزكاة. هذه الشعائر الأربع هدفها هو تشخيص المساواة (عندما أقول الخصم، فإنني أقصد خصم أفكار روسو، خصم تحليلات القرن الثامن عشر، خصم المفهوم الإشكالي للمواطن المساهم.)
حسب الخصم، لا مسوغ لأي تعارض بين الولاء، أي الوفاء للذات، والمواطنة المدنية التي تمنح الفرد حقوقا سياسية محددة. بل إن الولاء هو الشرط الضامن للحقوق السياسية. من يريد أن يتحقق من هذا القول، يعود إلى كتاب المودودي «نحو دستور إسلامي»، في المادة 8، سيجد أن كل الحقوق التي تتكلم عنها الوثائق الأولى موجودة، ولكن مبنية على أسس مختلفة تماما عن الأسس التي تكلمت عنها اعتمادا على روسو.
قد يقال إن هذا انحراف المفهوم عن معناه ومنحاه. لكن لهذا الانحراف- إن كان هناك انحراف- ما يبرره منطقيا: انحراف يميني يوازي ما سبقه من انحراف يساري.
رغم الانتقادات الموجهة إلى تحليل روسو، يمكن اعتبار هذا التحليل النظري، المغالي في النظرية، عند روسو وغيره، آلة معيارية نقيس بها المسافة بين ما نعيشه، وما نتخيله في مجتمع ما. لتفعيل مفهوم المواطنة الكاملة المحصورة في أقلية محدودة، لا بد من مقدمات تاريخية، اجتماعية، عقائدية. إن هي تواجدت، تصورنا إمكانية تجسيد المفهوم، ولو على مراحل. في حال العكس، لعب المفهوم، كما أشرنا إلى ذلك في مستهل هذا الحديث، دور الضد، عملا بالقاعدة المعروفة: الشيء يُعرف بضده.
لاستحضار المفهوم، يتحضر التعبير عما نشعر به من غبن. وهذا هو وضعنا اليوم. نقرأ روسو، نستحسن أفكاره، نوظفها للإفصاح عن مشاعرنا. لكن لا أحد، في وضعنا الحالي، يسايره إلى آخر المطاف. كلنا يرى أن الحرية مطلب ملح، وليس صفة قائمة، وأن ما نعيشه في أحسن الظروف هو عملية تحرير لانهائي. كلنا يرى أن المساواة بين البشر فرضية أخلاقية، وليس معطى بديهيا، فرضية محتملة التحقيق إن صاحبها علم، بجانب امتيازات مجانية التي يرفضها الجميع. لدى كل واحد منا خصائص محببة: نفس، عقيدة، ميزة اجتماعية، مهارة ذهنية يستميت في الدفاع عنها.
كان الهدف من هذا البحث شرح المواطنة التامة، اعتمادا على أقوال أكثر المحللين عمقا واتساقا، أعني جون جاك روسو، وطرح مسألة شرح استيراد المفهوم لفهم حياة بعينها، كما هي حالة المغرب. المواطنة تعني المساهمة، حيازة سهم من السيادة. ليست صفة تنسب إلى نظام سياسي، فنقول: هذه دولة مواطنة، وإن يجوز القول إن هذه دولة شرعية، أو هذه دولة مواطنين. المفهوم يضاف إلى فرد: هذا مواطن في زمن محدد وفي دولة معينة. حتى في دولة الطاغية، يوجد مواطن واحد، هو الطاغية نفسه. وحتى في دولة الجمهور، يميز المواطن المساهم عن المجاور المعاهد، الذي هو مواطن بالمعنى اللغوي، أي المساكن.
المواطن بمعنى روسو غاية في التجريد. فهو لهذا السبب بالذات قابل للتجسيد في أنظمة مختلفة؛ في قبيلة كحال مكة الجاهلية، في مدينة كحال جنيف، في الزاوية كحال المدينة أيام النبي أو حال الكنيسة المسيحية، (تلاحظون أن نظام البابا هو نظام ديمقراطي، فيه انتخابات وحرية وخلايا نقاش، إلخ.) وحال الدولة العبرية القديمة، والدولة القومية الحديثة، كحال فرنسا إبان الثورة الكبرى، والإمبراطورية كحال روما القيصرية (عندما عممت المواطنة الرومانية على جميع سكان الإمبراطورية، حيث أصبح كل ساكن في الإمبراطورية الرومانية يتمتع بالحقوق نفسها، التي كان يتمتع بها في البداية شيوخ روما فقط)، والدولة الاتحادية كحال الاتحاد الأوروبي (توجد مواطنة أوروبية).
وبما أن المفهوم غير مرتبط بهيأة محددة، بل يصف حالة فردية (مواطن مكة، مواطن روما، مواطن الجمهورية الفرنسية، مواطن مدينة جنيف، إلخ)، فإنه يكتسي مظاهر شتى، حيث يمكن النظر إليه من جوانب مختلفة. الجانب الأول قانوني: من هو المواطن؟ ما هي شروطه ومؤهلاته؟ ما هي الحقوق والواجبات المرتبطة به؟ كل ذلك مضمن في الدستور، أكان عرفا أم مكتوبا (الدستور الإنجليزي عرفي)، وما يتفرع عنه من قوانين مدنية وجنائية. ما هي الأفعال التي تسقط الجنسية، وبالتالي المواطنة؟ نجد الجواب في القانون الجنائي. ما هو، مثلا، وضع الزنا؟ نجد ذلك في القانون المدني. (نذكر هذا، لأن المشكل مطروح الآن في فرنسا. هناك مواطنة، بالخصوص، تذهب إلى بلد، تنجب بالتلقيح. هذا المولود يسجل لها في البلد الذي أنجبت فيه. وعندما تعود إلى فرنسا، لا يكون لهذا المولود وجود قانونا، حيث لا يسجل في الحالة المدنية. يحدث هذا في بلد يقال عنه إنه بلد حقوق الإنسان.) إذن، على هذا المستوى، لا فرق بين مضمون citoyen وcitizen وكلمة national (حامل الجنسية). لذلك، لا يكاد يوجد فرق في اللغة الإنجليزية بين citizen وnational، في الاستعمال العام. في حين، في فرنسا، هناك فرق. لكن هذا على المستوى القانوني فقط.
الجانب الثاني سوسيولوجي. نجد هذا مبسوطا في المدونة الانتخابية، وما يتعلق بالمشاركة في النشاط السياسي من تسجيل وترشح وتزكية، إلخ. وهنا تطرح قضية الملكية الخاصة. المعوز من لا يملك شيئا. كيف يكون مشاركا في شركة الدولة، إذ ليس فيها سهم؟ روسو منظر المواطنة التامة يلغي الملكية الخاصة، كما ألغاها من قبل أفلاطون، بالنسبة إلى حماة الجمهورية، الذين هم مواطنون بامتياز. في حين أن المنظرين الإنجليز، مثل هوبز ولوك، يجعلون من الملكية هدفا. وأوضح عبارة عن هذا الاختبار الدستور الذي صادقت عليه اللجنة التأسيسية الفرنسية سنة 1791، وهي نفس الجمعية التي صادقت على إعلان حقوق الإنسان والمواطن، حيث ميّز بين المواطن النشيط والمواطن الخامل أو السلبي على أساس مستوى ما يؤديه للدولة من ضريبة. وهذه المسألة هي الآن في عمق أزمة الديمقراطية التمثيلية في أوروبا، مع أن الكلام لا يفسح على هذا، ولكن النقاش المغلف هو من له الحق في تسيير السياسة، من يملك شيئا، من يخلق الثورة، من يمكن الدولة من أن تعيش، أم من لا يفعل شيئا من ذلك، بل ينتظر كل شيء من الآخرين. فهذا الوعي بأن هناك مواطنا مشاركا فعليا، ومواطنا مستهلكا فقط يطرح الآن سؤالا عويصا، ولا يمكن بدون شك إيجاد حل له. وهذا وجه النقد الاشتراكي الذي يؤكد أن لا مواطنة كاملة شاملة دون ملكية جماعية، أو على الأقل المشاركة في الملك العام. وهو مغزى الحقوق الاجتماعية التي أضيفت إلى الحقوق السياسية في فترة لاحقة.
يمكن اعتبار أن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، التي منحت لقسم كبير من المواطنين، الهدف منها استدراجهم إلى المشاركة السياسية، حتى يكون لهم سهم في السياسة. إذا كنت تنتظر شيئا من المنظمة- من التنظيم السياسي- لابد أن تهتم به، لخلق هذا الاهتمام. لكي أستدرجك إلى المشاركة في الحياة السياسية، فإني أمنحك حقوقا اجتماعية، اقتصادية، إلخ. وهذه النقطة بالذات هي التي أوضحها وفسرها من يطلق عليهم اسم «فلاسفة المنفعة» (ستيوارت ميل مثلا) في بداية القرن التاسع عشر.
إذن، هذه الحقوق الاجتماعية التي أضيفت إلى الحقوق السياسية في فترة لاحقة كانت بمثابة إعلان للجميع للمشاركة واحترام ضمني أن لا المساهمة في الحياة السياسية دون شعور بالمصلحة الشخصية. هذه المسألة مطروحة اليوم بإلحاح بسبب العزوف عن السياسة؛ أي تحول المواطن من نشيط إلى سلبي، وتكاثر اللاجئين الأجانب، الذي يربطون تلقائيا الحقوق الاجتماعية الممنوحة لهم تحت تأثير قانون دولي غير مقبول مجتمعيا في عدة بلدان ديمقراطية بحقوق المواطنة في إطار سيادة وطنية.
الجانب الثالث تكوّني/ جينيالوجي: ما هي ظروف نشأة الفرد المؤهل للمواطنة؟ المنظر السياسي الكلاسيكي أقرب إلى فقيه قانوني منه إلى المؤرخ، كما هو واضح في كتابات هوبز وسبينوزا، يستهل تحليلاته بتعريف مفاهيم، وليس برصد حالات واقعية. ينطلق من نقطة معينة، ولا يعود إلى ما قبلها إلا نادرا. فالسياسة عند هؤلاء لا تبدأ في حياة البشرية إلا عندما يعي المرء أنه حرّ مستقل. فبالنسبة إلى البشرية جمعاء، يعتبر ما سميته بالفطام بمثابة سن الرشد بالنسبة إلى الفرنسي.
الجانب الرابع أخلاقي. لا يوجد مفكر كبير اهتم بالسياسة وأهمل التربية؛ أي إن هؤلاء المحللين كلهم ربطوا المواطنة بالفضيلة. لا يمكن أن تكون المواطنة مع الدناءة والخسة. كل تحليل يدور حول العقل والحرية والعدل والمصلحة، إلخ، يفترض في الفرد الفضيلة والاستقامة والصدق والأمانة. هذا ما ألمح إليه «كانط» في تعليقاته على كتابات «هوبز». وعي الإنسان بإنسانيته، الطفرة من العنف والتقاتل على حساب التعايش والمسالمة هو في آن واحد مفهوم نفساني وأخلاقي. وعي بالذات ووعي بالواجب. لا انفصام أبدا بين الحرية والتعقل، ولا مواطنة مع الدناءة والكذب والخيانة. هذه الخصال مطلوبة في كل حال: في إطار الأسرة، والحرفة، والقبيلة، فأحرى أن تكون ضرورية لاستمرار الدولة، التي هي النظام الأسمى.
الجانب الخامس والأخير سياسي. قلنا إن روسو حول مفاهيم الثيولوجيا إلى مفاهيم سياسية. لكن خصومه الذين عاشوا مآسي الدولة الفرنسية قلبوا بدورهم مفاهيمهم دون أن يعودوا إلى تأثير أنماط التفكير القديمة. هذه العملية الثنائية هي التي عرفها هيغل بالديالكتيك. اللحظة الثيولوجية هي عندما يتصور الإنسان الكمال في فكرة متعالية. اللحظة السياسية هي تجسيد الصورة المثالية في العقل البشري. اللحظة التوفيقية التجانسية هي التي تتوحد فيها الإرادة البشرية والمشيئة الربانية. اللحظة التالية لم تتبلور إلا عند هيكل. فتظل اللحظتان، الأولى والثانية، متقابلتين متنافرتين، على مستوى الأصول، لا مستوى التدابير الإجرائية. ولا يبدو أن الصراع القائم بين الموقفين ينتهي عن قريب، ما دام مستعرا في قلب البشر. حتى من يتحاشى التوسع في الموضوع، كما فعلنا، ويطالب فقط برفع كل أنواع الحيف، لكي يعم المفهوم، ويصبح كل مواطن مجاور مواطنا مساهما في المؤسسة الجماعية، يصطدم، عاجلا أم آجلا، باعتراضات قوية: اجتماعية (عدم الكفاءة)، تاريخية (الخصوصية الثقافية)، أخلاقية (الرشوة)، وأخيرا وليس آخرا، عقائدية. لا حرية بدون وفاء. لا حق بدون وعي.
عندئذ، يتضح لنا في البحث في الأصول من له حق التشريع، من له حق الإمارة، من له حق فض النزاعات، إنما هو بهدف ردّ ادعاء: أصحاب النفوذ من رجال الدين والنبلاء والمستبدين بالسلطة، أي كل من يعتقد أن تحكمه في غيره أمر طبيعي.
التحليل النظري الجذري هو تمهيد وتأصيل لإرادة التغيير. من يحبذ التغيير، وأحيانا يستبطئه، لا يعيب على التحليل المذكور إفراطه في التجريد. إذ الغرض منه بالضبط هو تنقيح الذهن من كل الأفكار الموروثة. وأما من يفضل الاستقرار والمحافظة على ما هو قائم، ولو مقابل إصلاحات، كأنه يستبشع الفرضية الأساس، أي كون الفرد سيد نفسه، فعّال لما يريد.
هذا الفرد الواعي بذاته، العاقل، الكابح لنزوات نفسه، المستقل عن غيره، المتعاقد مع نفسه، أليس غافلا عن واقعه، متنكرا لحقيقته؟ قبل أن يتعاقد مع نفسه، أو لم يتعاقد مع خالقه؟ هذا المعارض لتحليل روسو، ولأفكار القرن الثامن عشر، يجدها عند المتدين، المسلم وغير المسلم، عند الشرقي والغربي. نجدها عن مفكر كالمودودي، ونجدها عند المعارض للثورة الفرنسية كالمفكر لوي بونات.
هكذا نرى كيف يمكن تقويض تحليل روسو، وبالتالي مفهوم المواطنة الكاملة، من الأساس دون العودة إلى وضع يتصف بالحجر والعبودية. هذه هي النقطة، أي أن نقوض الأسس المنطقية والمعرفية لتحليلات القرن الثامن عشر، خاصة تحليلات روسو، دون العودة إلى فكر وسطوي.
يقول المعارض- أي كان: الإنسان حر، ولكن بعد عتق، الإنسان مخلق، ولكن بتكليف، الإنسان صاحب عقل، ولكن عن منة. لاحظنا أن روسو قلب المفاهيم الثيولوجية إلى سياسية. ونرى هنا أن خصومه يكتفون بقلب مضاد، أي بربط حقوق سياسية بمجال غير سياسي.
واضح مما سبق أن مفهوم المواطنة التامة الكاملة، المضمن في الوثائق الأمريكية والفرنسية، التي صدرت أواخر القرن الثامن عشر، يتجاوب مع تحليل روسو. أما الوثائق الإنجليزية، التي تتابعت من القرن الثاني عشر إلى القرن السابع عشر، فإنها تعتمد مبادئ مخالفة، كما أوضحنا ذلك. في الأولى حياد روسو وتلامذته. نلاحظ تناقضا بين المواطنة والولاء. وهو تناقض لا وجود له في الثانية.
يُعنون طوماس هوبز مؤلفه الشهير «في المواطن». هذا عنوان كتاب، مع أن المضمون هو تبرير الاستبداد الملكي.
تمزج وثائق الأمم المتحدة بين تحليلين، النظري الميتافيزي والقانوني التاريخي. هل يجوز اعتماد هذا المفهوم بكل خلفياته المعرفية للحكم على الحالة التي نعيشها اليوم في وطننا؟ هذا هو السؤال المطروح علينا من أمد.
أنصار الخصوصية، أي الأصالة الثقافية، يردون بـ «لا». حينئذ نقول، في هذه الحالة، ما هو الحل؟ أنصار العولمة، على الأقل في هذا الموضوع، يجيبون بـ «نعم». حينئذ نقول: بما أن الفروق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تظل قائمة- لا أحد يقول إن المجتمع المغربي هو المجتمع الفنلندي- فكيف نكيّف التحليل حتى يصبح موافقا للحال؟ نتصور انتقال المغربي من موالٍ إلى مواطن، مع اعتبار الفارق الثقافي.
قبل متابعة النقاش، يجدر بنا هنا أن نذكر بأمرين: أولا، لماذا شرط في مؤسس المدينة الإلهام؟ (في فصل بعنوان «المشرع»، شرط الإلهام.) ثانيا، لماذا ضمّ إلى كتاب «العقد الاجتماعي»، بعد تردد، فصلا عن الدين المدني؟ في هاتين النقطتين يتستر العائق المعرفي الذي ألمحنا إليه.
يقال عادة إن العائق ديني. لكن ما هو؟ ومن أي نوع هو؟ هل هو دين مدني؟ أم دين منزل؟ لم يلغ روسو العامل الديني، بقدر ما قلبه رأسا على عقب. أبدل الوازع الخارجي بآخر داخلي. وما لمح إليه هو جهر به أتباعه: كانط، وهيغل، وفيورباخ. عنذئد، لم يعد النقاش في هذا المستوى يدور حول ماهية الإنسان وحقوقه، بل حول أصل الأصول؛ أي مرجعية هذه الحقوق.
يقول الخصم إن الإنسان حر ومستقل عن غيره. يرد الخصم: ممن؟ يجيب روسو: عن أخيه الإنسان. يرد الخصم: صحيح، إذ لا سلطان لمخلوق على مخلوق. والسلطة، كل السلطة، هي للخالق وحده. لا ضمان لحرية الإنسان، دون الاعتراف بربوبية الخالق. يقول روسو: لا فرق بين بني البشر. يرد الخصم: نعم، لا أدل على المساواة من الشعائر الأربعة: الصوم، الصلاة، الطواف، والزكاة. هذه الشعائر الأربع هدفها هو تشخيص المساواة (عندما أقول الخصم، فإنني أقصد خصم أفكار روسو، خصم تحليلات القرن الثامن عشر، خصم المفهوم الإشكالي للمواطن المساهم.)
حسب الخصم، لا مسوغ لأي تعارض بين الولاء، أي الوفاء للذات، والمواطنة المدنية التي تمنح الفرد حقوقا سياسية محددة. بل إن الولاء هو الشرط الضامن للحقوق السياسية. من يريد أن يتحقق من هذا القول، يعود إلى كتاب المودودي «نحو دستور إسلامي»، في المادة 8، سيجد أن كل الحقوق التي تتكلم عنها الوثائق الأولى موجودة، ولكن مبنية على أسس مختلفة تماما عن الأسس التي تكلمت عنها اعتمادا على روسو.
قد يقال إن هذا انحراف المفهوم عن معناه ومنحاه. لكن لهذا الانحراف- إن كان هناك انحراف- ما يبرره منطقيا: انحراف يميني يوازي ما سبقه من انحراف يساري.
رغم الانتقادات الموجهة إلى تحليل روسو، يمكن اعتبار هذا التحليل النظري، المغالي في النظرية، عند روسو وغيره، آلة معيارية نقيس بها المسافة بين ما نعيشه، وما نتخيله في مجتمع ما. لتفعيل مفهوم المواطنة الكاملة المحصورة في أقلية محدودة، لا بد من مقدمات تاريخية، اجتماعية، عقائدية. إن هي تواجدت، تصورنا إمكانية تجسيد المفهوم، ولو على مراحل. في حال العكس، لعب المفهوم، كما أشرنا إلى ذلك في مستهل هذا الحديث، دور الضد، عملا بالقاعدة المعروفة: الشيء يُعرف بضده.
لاستحضار المفهوم، يتحضر التعبير عما نشعر به من غبن. وهذا هو وضعنا اليوم. نقرأ روسو، نستحسن أفكاره، نوظفها للإفصاح عن مشاعرنا. لكن لا أحد، في وضعنا الحالي، يسايره إلى آخر المطاف. كلنا يرى أن الحرية مطلب ملح، وليس صفة قائمة، وأن ما نعيشه في أحسن الظروف هو عملية تحرير لانهائي. كلنا يرى أن المساواة بين البشر فرضية أخلاقية، وليس معطى بديهيا، فرضية محتملة التحقيق إن صاحبها علم، بجانب امتيازات مجانية التي يرفضها الجميع. لدى كل واحد منا خصائص محببة: نفس، عقيدة، ميزة اجتماعية، مهارة ذهنية يستميت في الدفاع عنها.
كان الهدف من هذا البحث شرح المواطنة التامة، اعتمادا على أقوال أكثر المحللين عمقا واتساقا، أعني جون جاك روسو، وطرح مسألة شرح استيراد المفهوم لفهم حياة بعينها، كما هي حالة المغرب. المواطنة تعني المساهمة، حيازة سهم من السيادة. ليست صفة تنسب إلى نظام سياسي، فنقول: هذه دولة مواطنة، وإن يجوز القول إن هذه دولة شرعية، أو هذه دولة مواطنين. المفهوم يضاف إلى فرد: هذا مواطن في زمن محدد وفي دولة معينة. حتى في دولة الطاغية، يوجد مواطن واحد، هو الطاغية نفسه. وحتى في دولة الجمهور، يميز المواطن المساهم عن المجاور المعاهد، الذي هو مواطن بالمعنى اللغوي، أي المساكن.
المواطن بمعنى روسو غاية في التجريد. فهو لهذا السبب بالذات قابل للتجسيد في أنظمة مختلفة؛ في قبيلة كحال مكة الجاهلية، في مدينة كحال جنيف، في الزاوية كحال المدينة أيام النبي أو حال الكنيسة المسيحية، (تلاحظون أن نظام البابا هو نظام ديمقراطي، فيه انتخابات وحرية وخلايا نقاش، إلخ.) وحال الدولة العبرية القديمة، والدولة القومية الحديثة، كحال فرنسا إبان الثورة الكبرى، والإمبراطورية كحال روما القيصرية (عندما عممت المواطنة الرومانية على جميع سكان الإمبراطورية، حيث أصبح كل ساكن في الإمبراطورية الرومانية يتمتع بالحقوق نفسها، التي كان يتمتع بها في البداية شيوخ روما فقط)، والدولة الاتحادية كحال الاتحاد الأوروبي (توجد مواطنة أوروبية).
وبما أن المفهوم غير مرتبط بهيأة محددة، بل يصف حالة فردية (مواطن مكة، مواطن روما، مواطن الجمهورية الفرنسية، مواطن مدينة جنيف، إلخ)، فإنه يكتسي مظاهر شتى، حيث يمكن النظر إليه من جوانب مختلفة. الجانب الأول قانوني: من هو المواطن؟ ما هي شروطه ومؤهلاته؟ ما هي الحقوق والواجبات المرتبطة به؟ كل ذلك مضمن في الدستور، أكان عرفا أم مكتوبا (الدستور الإنجليزي عرفي)، وما يتفرع عنه من قوانين مدنية وجنائية. ما هي الأفعال التي تسقط الجنسية، وبالتالي المواطنة؟ نجد الجواب في القانون الجنائي. ما هو، مثلا، وضع الزنا؟ نجد ذلك في القانون المدني. (نذكر هذا، لأن المشكل مطروح الآن في فرنسا. هناك مواطنة، بالخصوص، تذهب إلى بلد، تنجب بالتلقيح. هذا المولود يسجل لها في البلد الذي أنجبت فيه. وعندما تعود إلى فرنسا، لا يكون لهذا المولود وجود قانونا، حيث لا يسجل في الحالة المدنية. يحدث هذا في بلد يقال عنه إنه بلد حقوق الإنسان.) إذن، على هذا المستوى، لا فرق بين مضمون citoyen وcitizen وكلمة national (حامل الجنسية). لذلك، لا يكاد يوجد فرق في اللغة الإنجليزية بين citizen وnational، في الاستعمال العام. في حين، في فرنسا، هناك فرق. لكن هذا على المستوى القانوني فقط.
الجانب الثاني سوسيولوجي. نجد هذا مبسوطا في المدونة الانتخابية، وما يتعلق بالمشاركة في النشاط السياسي من تسجيل وترشح وتزكية، إلخ. وهنا تطرح قضية الملكية الخاصة. المعوز من لا يملك شيئا. كيف يكون مشاركا في شركة الدولة، إذ ليس فيها سهم؟ روسو منظر المواطنة التامة يلغي الملكية الخاصة، كما ألغاها من قبل أفلاطون، بالنسبة إلى حماة الجمهورية، الذين هم مواطنون بامتياز. في حين أن المنظرين الإنجليز، مثل هوبز ولوك، يجعلون من الملكية هدفا. وأوضح عبارة عن هذا الاختبار الدستور الذي صادقت عليه اللجنة التأسيسية الفرنسية سنة 1791، وهي نفس الجمعية التي صادقت على إعلان حقوق الإنسان والمواطن، حيث ميّز بين المواطن النشيط والمواطن الخامل أو السلبي على أساس مستوى ما يؤديه للدولة من ضريبة. وهذه المسألة هي الآن في عمق أزمة الديمقراطية التمثيلية في أوروبا، مع أن الكلام لا يفسح على هذا، ولكن النقاش المغلف هو من له الحق في تسيير السياسة، من يملك شيئا، من يخلق الثورة، من يمكن الدولة من أن تعيش، أم من لا يفعل شيئا من ذلك، بل ينتظر كل شيء من الآخرين. فهذا الوعي بأن هناك مواطنا مشاركا فعليا، ومواطنا مستهلكا فقط يطرح الآن سؤالا عويصا، ولا يمكن بدون شك إيجاد حل له. وهذا وجه النقد الاشتراكي الذي يؤكد أن لا مواطنة كاملة شاملة دون ملكية جماعية، أو على الأقل المشاركة في الملك العام. وهو مغزى الحقوق الاجتماعية التي أضيفت إلى الحقوق السياسية في فترة لاحقة.
يمكن اعتبار أن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، التي منحت لقسم كبير من المواطنين، الهدف منها استدراجهم إلى المشاركة السياسية، حتى يكون لهم سهم في السياسة. إذا كنت تنتظر شيئا من المنظمة- من التنظيم السياسي- لابد أن تهتم به، لخلق هذا الاهتمام. لكي أستدرجك إلى المشاركة في الحياة السياسية، فإني أمنحك حقوقا اجتماعية، اقتصادية، إلخ. وهذه النقطة بالذات هي التي أوضحها وفسرها من يطلق عليهم اسم «فلاسفة المنفعة» (ستيوارت ميل مثلا) في بداية القرن التاسع عشر.
إذن، هذه الحقوق الاجتماعية التي أضيفت إلى الحقوق السياسية في فترة لاحقة كانت بمثابة إعلان للجميع للمشاركة واحترام ضمني أن لا المساهمة في الحياة السياسية دون شعور بالمصلحة الشخصية. هذه المسألة مطروحة اليوم بإلحاح بسبب العزوف عن السياسة؛ أي تحول المواطن من نشيط إلى سلبي، وتكاثر اللاجئين الأجانب، الذي يربطون تلقائيا الحقوق الاجتماعية الممنوحة لهم تحت تأثير قانون دولي غير مقبول مجتمعيا في عدة بلدان ديمقراطية بحقوق المواطنة في إطار سيادة وطنية.
الجانب الثالث تكوّني/ جينيالوجي: ما هي ظروف نشأة الفرد المؤهل للمواطنة؟ المنظر السياسي الكلاسيكي أقرب إلى فقيه قانوني منه إلى المؤرخ، كما هو واضح في كتابات هوبز وسبينوزا، يستهل تحليلاته بتعريف مفاهيم، وليس برصد حالات واقعية. ينطلق من نقطة معينة، ولا يعود إلى ما قبلها إلا نادرا. فالسياسة عند هؤلاء لا تبدأ في حياة البشرية إلا عندما يعي المرء أنه حرّ مستقل. فبالنسبة إلى البشرية جمعاء، يعتبر ما سميته بالفطام بمثابة سن الرشد بالنسبة إلى الفرنسي.
الجانب الرابع أخلاقي. لا يوجد مفكر كبير اهتم بالسياسة وأهمل التربية؛ أي إن هؤلاء المحللين كلهم ربطوا المواطنة بالفضيلة. لا يمكن أن تكون المواطنة مع الدناءة والخسة. كل تحليل يدور حول العقل والحرية والعدل والمصلحة، إلخ، يفترض في الفرد الفضيلة والاستقامة والصدق والأمانة. هذا ما ألمح إليه «كانط» في تعليقاته على كتابات «هوبز». وعي الإنسان بإنسانيته، الطفرة من العنف والتقاتل على حساب التعايش والمسالمة هو في آن واحد مفهوم نفساني وأخلاقي. وعي بالذات ووعي بالواجب. لا انفصام أبدا بين الحرية والتعقل، ولا مواطنة مع الدناءة والكذب والخيانة. هذه الخصال مطلوبة في كل حال: في إطار الأسرة، والحرفة، والقبيلة، فأحرى أن تكون ضرورية لاستمرار الدولة، التي هي النظام الأسمى.
الجانب الخامس والأخير سياسي. قلنا إن روسو حول مفاهيم الثيولوجيا إلى مفاهيم سياسية. لكن خصومه الذين عاشوا مآسي الدولة الفرنسية قلبوا بدورهم مفاهيمهم دون أن يعودوا إلى تأثير أنماط التفكير القديمة. هذه العملية الثنائية هي التي عرفها هيغل بالديالكتيك. اللحظة الثيولوجية هي عندما يتصور الإنسان الكمال في فكرة متعالية. اللحظة السياسية هي تجسيد الصورة المثالية في العقل البشري. اللحظة التوفيقية التجانسية هي التي تتوحد فيها الإرادة البشرية والمشيئة الربانية. اللحظة التالية لم تتبلور إلا عند هيكل. فتظل اللحظتان، الأولى والثانية، متقابلتين متنافرتين، على مستوى الأصول، لا مستوى التدابير الإجرائية. ولا يبدو أن الصراع القائم بين الموقفين ينتهي عن قريب، ما دام مستعرا في قلب البشر. حتى من يتحاشى التوسع في الموضوع، كما فعلنا، ويطالب فقط برفع كل أنواع الحيف، لكي يعم المفهوم، ويصبح كل مواطن مجاور مواطنا مساهما في المؤسسة الجماعية، يصطدم، عاجلا أم آجلا، باعتراضات قوية: اجتماعية (عدم الكفاءة)، تاريخية (الخصوصية الثقافية)، أخلاقية (الرشوة)، وأخيرا وليس آخرا، عقائدية. لا حرية بدون وفاء. لا حق بدون وعي.