اعتاد الجد أن يتجرع كميات كبيره من المياه، إن صباحًا أو مساء أو في ساعات الليل، وسواء شعر بالعطش أو لم يشعر. الرجل على حال التعلق بالماء دوما، أُجزم أن سلوكه هذا عن غير إرادة وبرغبة منه، كأنه يخشى انقضاض ملاك الموت، على حين غفلة، ليفعل فعلته قبل اقتناص جرعة ماء.. ربما تحميه وتلطف من جوفه في حومة جهنم!
يظن الرجل الذى فقد كل علاقة منه مع العالم فى الخارج.. أن كل ما أنجزه وتعارك من أجله، يكفى، ويلزمه لزوما، أن يبحث عن الهدوء والروية والسكينة.
لا تفهمنى بالخطأ، أنا الآن الذى أرجوك أن تتفهم ما أعنيه.. وخصوصا لا أعنى اﻹساءة إلى الرجل الذى نجح فى كل الصراعات التي قرر اقتحامها. لن أخبرك عن الجهد الذى بذله من أجل أن يضاعف دخله الشهرى حتى ينجح فى توفير الخبز والغموس لأبنائه..
نعم، أبناؤه الخمسة الذين تلقفهم عفوا من يد القدر.. لا يتذكر تماما تلك الليالى السعيدة التى نجح فيها فى إخصاب بويضات زوجته، حتى تنبت له تلك الحفنة من البشر.
دعنى أطرح على مسامعك حادثة واحدة فى مرحلة الشباب وبعد زواجه بسنوات قليلة.. تشارك مع أحدهم على قيادة سيارة أجرة يعمل سائقا عليها، من الرابعة بعد الظهر حتى الثانية عشرة ليلا.. ووفرت له ما ينفقه على حمل وولادة وتربية الولد الجن العفريت "موسى" ابنه البكرى..
ثم البنت "زوبة"، بعدهما وضح أن النفقات تفوق ما يتوفر معه. رويدا قل ما يمكن تحقيقه!
لن أطيل حتى لا تشعرون بالملل، ببساطة ووضوح وبكل الصراحة، العيال ربوا أنفسهم أجسادهم وعقولهم فى الشارع، كل حسب ما يتمنى أو ما يمكن أن يحصل عليه.. وقبل أن أبلغ سن اﻹحالة إلى المعاش.
وهو ما استسلم له، بعد الحادثة التى هرست السيارة وجعلتها تباع بالقطعة فى وكالة البلح. لم أشأ أن أتوقف عندها حتى لا أكون سببًا فى إزعاجكم، وأنتم تقرأون تلك السطور على شاطىء النيل أو بحر الأسكندرية أو أي شاطىء من تلك القرى السياحية.
الآن كل طقوس الجد مع الماء تحملها الحفيد، "يوسف"، لا يهم، كل الهام هو تنفيذ تعليمات الجد ورعايته.. فلا تمر ثلاث دقائق كاملة إلا ويسمع الولد صوت النداء باسمه، أعجبته اللعبة في البداية، ومع مضى الوقت بدأ يعبر عن ضجره، حتى أن أمه هددته بشيخوخته وبأنه سيكبر إن شاء الله ولن يجد من أحفاده من يقدم له جرعة ماء!
لم يفهم الصغير ما تعنيه أمه تماما، لكنه شعر بشيء ما جعله لا يتردد في الاستجابة إلى سباب الجد بأدب جم. تحولت العلاقة بين الصغير والجد وقلل المياه المعلقة في سور الشرفة، فوق قاعدة خشبية ومحاطة بسيخين من الحديد.. أصبحت العلاقة بين ثلاثتهم آلية.. بآليه يسرع الولد إلى القلل فور سماع النداء، يقدمها إلى المسجى الذي يشكو من علله الغامضة، ولم يبح للصغير إلا بجملة واحدة.. تشى بالخوف من الموت بين أقدام الناس في الشوارع، ففضل البقاء وحده فوق سريره، لا يعوزه إلا جرعة ماء، أعد لها العدة.
فلا تراه ثرثارًا صاحب لغة مفوه، إلا فى حديث الماء. الغريب أن أحدهم لا يجرؤ على مقاطعة الجد أثناء حديثه. غالبا من يراه يتحدث يظن أنه في حضرة خبير محنك، خبيرًا في شئون الماء. الطريف أنه لا يحفظ من آيات المصحف سوى الآيات التي تتناول الماء، وتتحدث عنها. وهي نفسها الآيات الذي يتلوها في صلواته غير المنتظمة.
فجأة ينهض من داخل صومعته الخاصة، بخفة غير معهوده، يسرع للتوضؤ صائحًا فيمن يقابله بغضب شديد، آمرًا أن يتبعه للصلاة وأن التوضؤ الجيد نصف الصلاة. فما من الست أم يوسف إلا التمتمة بالكلمات التي لا تستطيع أن تفصح عنها.. دورة المياه سوف تغرق حالا في فيض من المياه وعليها قضاء نصف الساعة في تنظيفها من جديد!
انتهى من صلواته الخاصة وفى كل الركعات لا يتلو إلا واحدة من تسع وخمسين آية ذكرت الماء فيها. ولا يمل تكرار معلوماته بأن سور الواقعة والحاقة وعبس وفصلت والسجدة والفرقان والحج والأنبياء والرعد والبقرة.. وغيرها ذكرت فيها الماء لمرة واحدة، بينما في سورة هود مثلا ذكر الماء ثلاث مرات.
في البداية دهشوا لاطلاع الجد على تلك المعلومات، الذي أقسم أنه نجح وحده في الحصول عليها، من بين آيات وسور المصحف كله!. بمضى الوقت حفظوها عنه، ثم ملوا اللعبة، حتى فاجأهم بما أدهشهم أكثر كثيرًا عما قبل. نجح الجد في حصر وتحديد الآيات الذي تتناول الموت.. وبدأ يذكرها ويرددها بقوة ذاكرة يحسد عليها، وهو على حالة من الوهن والتوهان.
أما ما جعلهم يستمعون ولا يقدرون على التعليق، وألجمتهم السكتة وأخرست ألسنتهم.. هو حديثه وقت أن بدأ يقارن بين آيات الموت وآيات الماء!
يقول الرجل إن الماء جاءت في الآيات الذي تتحدث عن الحياة، عن الخلق، عن عطاء الله بالخير، وهو الذي أنقذ نوحا وأهله، وهو العطاء الذي لا ينضب في الجنه. بينما الموت جاء في خمس وثلاثين آية فقط.. وأكثر ما تكرر في تلك الآيات قوله تعالى " كل نفس ذائقة الموت ".
فلما انتهى زمن الدهشة، استطاعوا أن يسألوه: "الموت مكتوب على الناس كلها، للعالمين.. سيبنا فى حالنا؟"
قاطعهم: "أستغفر الله العظيم".
ويكررها بآلية وتكشيرة استفزت "حسين" أو الابن العاق كما يسميه الجد، حتى قال له بانفعال: "هو انت ناوي تدخل الجنة على حسابنا.. إن كنت فاهم فهمنا.. وإن كنت مش فاهم سيبنا في حالنا وخليك انت في حالك، منتظر الموت بطريقتك؟!"
ولما كظم الرجل لسانه ولم يسبه كما اعتادا معًا، سأله: "وانت منتظره إزاى يا روح أمك"
"أنا تطوعت في الجيش وحا سافر للحدود بعد يومين، وهناك موته.. يمكن يبقى لها معنى"
أدار "حسين" العاق ظهره ناحية الباب وسط دهشة الجميع. ليس من بين العائلة من عمل بالجيش.. من أين جاء هذا المتمرد الذي قرر أن يموت هناك.. وحده. وقبل أن يختفى خلف الباب الموارب، أدار رأسه وقال في تحد كعادته: " خليك أنت تتحدى الموت بالميه اللي بتشفي من الأمراض وتخلصنا من السميات.. لكن أنا تحديته بطريقتي، يمكن يكون للموت على الحدود له شكل تأنى."
******
طقوس الجد مع الماء تتبدى في طريقته الخاصة في شرب الماء، علاقته الخاصة بالقُلل، فهو لا يشرب إلا منها حتى في عز برد طوبة.
له بدلاً من القلة عشر قلل مرصوصة على سور الشرفة، صمم لها حاملا حديديا، يوم أن وقف على يد الحداد الماهر حتى ينفذ كل تعليماته.
حرص على إقتناء كل أشكال القلل، ذي الرقبة الطويلة كرقبة الإوزة كما يسميها، والمتكور ذي الرقبة القصيرة، وغير المتكوره، وأشكال يكاد لا تراها ﺇلا في شرفة الرجل. الأمر لا يختلف كثيرًا إذا تحدثنا عن الألوان.. منها الأحمر أو اللون الطوبى ومنها الفاتح غير المحروق.
نجح الجد في مصادقة صناع الفخار في القاهرة أو نقول حدود القاهرة من الهرم، شبرا، الفخارية في مصر القديمة.. فكانت القلل ذات اليدين والخالية منها، وتلك الأشبه بالزير وشبيهة رأس الأسد وغيرها كثير.. كثير!
ألم اقل لك أن الرجل صادق الفخارين، وإلا بماذا تُفسر هذا التنوع الغريب في الشكل، وتلك الكمية الزائدة عن حاجة سبيل مسجد الحسين؟
عندي تفسير وحيد في موضوع الكميات الزائدة، تلك التى يرصها تحت السرير. باختصار أن الجن المعفرت الصغير يوسف بدأ عادة جديدة.. عامدًا متعمدا يترك القلة وكأنها سقطت سهوا.. القلة تلو الأخرى تسقط وكأنها قنبلة ماء يضحك لها الصغير ويكشر الجد. فيغضب الجميع من يوسف ولا يبرر أبدًا سر فعلته الخبيثة.
كله كوم وموضوع الحائل الداخلي بالقلل كوم. للجد مزاج خاص في منظر هذا الحائل وشكل الزخارف فيه، من سيراها حتى ممن يتصادف ويسمح له باستخدام قلله، لا أحد أكيد. لكن إصرار الجد حقيقي في العناية بابتكار الأشكال الغامضة في هذا الحائل.. حكايات تحكى!
وهناك طقس آخر لا ينتبه له من كثرة ما شاهد الجد وهو يشرب.. فلا تلامس شفتاه الجد حافة القلة، تتسربل الماء من خلال الحائل، فتصدر صوتا يجعل من لم يشرب يعشق الشرب، فلا يلامس الرجل حافة رقبة القلة، حتى إذا وصلت إلى شفتي الجد امتصها بمتعة واحتواء وتلذذ، وإلا لماذا تبدو الشفتان هكذا مرتعشتان لامعتان، وفى تعمد يضمهما الجد ويمسحهما بلسانه بمتعة من يطعم عشيقته ريقه الندى.
زاد وغطى أن بدأ الصغير يثير غضب الجد عمدًا.. كأن يتجرع من قلله ولو جرعة صغيرة، وهو يعلم تمامًا أن الجد يرفض مشاركته في قلله، تلك التي جعلها مشغوليته الجادة وكم من الوقت يقضيه في إعدادها وتنظيف الغطاء النحاسي وتلميعه بالليمون فيبرق النحاس مثل الذهب.
وهذا ما حدث اليوم..
صاح الجد على الحفيد بسرعة إحضار القُلة، فتجرع الجرعة الصغيرة، وبسرعة حك شفتيه بكُم الجلباب وقد أدار رأسه إلى الناحية البعيدة عن عيني الجد، وإلا اكتشف احتقان أسفل وجهه كله.. كم هي لذيذة تلك اللعبة وهو يختلس جرعة عندًا في الجد.
بقيت ذراعه الصغيرة ممدودة إلى حين، بينما الجد لم يحملها عنه بعد، حتى إذا ألقى الولد طلة سريعة إلى الجد وجده نائما. نائمًا نومًا هادئًا على غير العادة وبلا الشخير الذي يعرفه عنه.. ولا حتى سمع صوتا هينا منه.
لم يطل المشهد.. صاح يوسف، تمنى لو يقدر على إيقاظ الجد، لم ينجح.
بقى معلقًا بجده النائم، بينما أجساد الأهل والجيران تتوارد وتكتظ بهم الغرفة.. فلما صاح فيهم أحد الجيران خرجوا جميعًا، وقد نسوا الصغير هناك منزويًا في الركن البعيد، لاذ في صمت متسائل لم يتخلص منه لفترة طويلة.
يظن الرجل الذى فقد كل علاقة منه مع العالم فى الخارج.. أن كل ما أنجزه وتعارك من أجله، يكفى، ويلزمه لزوما، أن يبحث عن الهدوء والروية والسكينة.
لا تفهمنى بالخطأ، أنا الآن الذى أرجوك أن تتفهم ما أعنيه.. وخصوصا لا أعنى اﻹساءة إلى الرجل الذى نجح فى كل الصراعات التي قرر اقتحامها. لن أخبرك عن الجهد الذى بذله من أجل أن يضاعف دخله الشهرى حتى ينجح فى توفير الخبز والغموس لأبنائه..
نعم، أبناؤه الخمسة الذين تلقفهم عفوا من يد القدر.. لا يتذكر تماما تلك الليالى السعيدة التى نجح فيها فى إخصاب بويضات زوجته، حتى تنبت له تلك الحفنة من البشر.
دعنى أطرح على مسامعك حادثة واحدة فى مرحلة الشباب وبعد زواجه بسنوات قليلة.. تشارك مع أحدهم على قيادة سيارة أجرة يعمل سائقا عليها، من الرابعة بعد الظهر حتى الثانية عشرة ليلا.. ووفرت له ما ينفقه على حمل وولادة وتربية الولد الجن العفريت "موسى" ابنه البكرى..
ثم البنت "زوبة"، بعدهما وضح أن النفقات تفوق ما يتوفر معه. رويدا قل ما يمكن تحقيقه!
لن أطيل حتى لا تشعرون بالملل، ببساطة ووضوح وبكل الصراحة، العيال ربوا أنفسهم أجسادهم وعقولهم فى الشارع، كل حسب ما يتمنى أو ما يمكن أن يحصل عليه.. وقبل أن أبلغ سن اﻹحالة إلى المعاش.
وهو ما استسلم له، بعد الحادثة التى هرست السيارة وجعلتها تباع بالقطعة فى وكالة البلح. لم أشأ أن أتوقف عندها حتى لا أكون سببًا فى إزعاجكم، وأنتم تقرأون تلك السطور على شاطىء النيل أو بحر الأسكندرية أو أي شاطىء من تلك القرى السياحية.
الآن كل طقوس الجد مع الماء تحملها الحفيد، "يوسف"، لا يهم، كل الهام هو تنفيذ تعليمات الجد ورعايته.. فلا تمر ثلاث دقائق كاملة إلا ويسمع الولد صوت النداء باسمه، أعجبته اللعبة في البداية، ومع مضى الوقت بدأ يعبر عن ضجره، حتى أن أمه هددته بشيخوخته وبأنه سيكبر إن شاء الله ولن يجد من أحفاده من يقدم له جرعة ماء!
لم يفهم الصغير ما تعنيه أمه تماما، لكنه شعر بشيء ما جعله لا يتردد في الاستجابة إلى سباب الجد بأدب جم. تحولت العلاقة بين الصغير والجد وقلل المياه المعلقة في سور الشرفة، فوق قاعدة خشبية ومحاطة بسيخين من الحديد.. أصبحت العلاقة بين ثلاثتهم آلية.. بآليه يسرع الولد إلى القلل فور سماع النداء، يقدمها إلى المسجى الذي يشكو من علله الغامضة، ولم يبح للصغير إلا بجملة واحدة.. تشى بالخوف من الموت بين أقدام الناس في الشوارع، ففضل البقاء وحده فوق سريره، لا يعوزه إلا جرعة ماء، أعد لها العدة.
فلا تراه ثرثارًا صاحب لغة مفوه، إلا فى حديث الماء. الغريب أن أحدهم لا يجرؤ على مقاطعة الجد أثناء حديثه. غالبا من يراه يتحدث يظن أنه في حضرة خبير محنك، خبيرًا في شئون الماء. الطريف أنه لا يحفظ من آيات المصحف سوى الآيات التي تتناول الماء، وتتحدث عنها. وهي نفسها الآيات الذي يتلوها في صلواته غير المنتظمة.
فجأة ينهض من داخل صومعته الخاصة، بخفة غير معهوده، يسرع للتوضؤ صائحًا فيمن يقابله بغضب شديد، آمرًا أن يتبعه للصلاة وأن التوضؤ الجيد نصف الصلاة. فما من الست أم يوسف إلا التمتمة بالكلمات التي لا تستطيع أن تفصح عنها.. دورة المياه سوف تغرق حالا في فيض من المياه وعليها قضاء نصف الساعة في تنظيفها من جديد!
انتهى من صلواته الخاصة وفى كل الركعات لا يتلو إلا واحدة من تسع وخمسين آية ذكرت الماء فيها. ولا يمل تكرار معلوماته بأن سور الواقعة والحاقة وعبس وفصلت والسجدة والفرقان والحج والأنبياء والرعد والبقرة.. وغيرها ذكرت فيها الماء لمرة واحدة، بينما في سورة هود مثلا ذكر الماء ثلاث مرات.
في البداية دهشوا لاطلاع الجد على تلك المعلومات، الذي أقسم أنه نجح وحده في الحصول عليها، من بين آيات وسور المصحف كله!. بمضى الوقت حفظوها عنه، ثم ملوا اللعبة، حتى فاجأهم بما أدهشهم أكثر كثيرًا عما قبل. نجح الجد في حصر وتحديد الآيات الذي تتناول الموت.. وبدأ يذكرها ويرددها بقوة ذاكرة يحسد عليها، وهو على حالة من الوهن والتوهان.
أما ما جعلهم يستمعون ولا يقدرون على التعليق، وألجمتهم السكتة وأخرست ألسنتهم.. هو حديثه وقت أن بدأ يقارن بين آيات الموت وآيات الماء!
يقول الرجل إن الماء جاءت في الآيات الذي تتحدث عن الحياة، عن الخلق، عن عطاء الله بالخير، وهو الذي أنقذ نوحا وأهله، وهو العطاء الذي لا ينضب في الجنه. بينما الموت جاء في خمس وثلاثين آية فقط.. وأكثر ما تكرر في تلك الآيات قوله تعالى " كل نفس ذائقة الموت ".
فلما انتهى زمن الدهشة، استطاعوا أن يسألوه: "الموت مكتوب على الناس كلها، للعالمين.. سيبنا فى حالنا؟"
قاطعهم: "أستغفر الله العظيم".
ويكررها بآلية وتكشيرة استفزت "حسين" أو الابن العاق كما يسميه الجد، حتى قال له بانفعال: "هو انت ناوي تدخل الجنة على حسابنا.. إن كنت فاهم فهمنا.. وإن كنت مش فاهم سيبنا في حالنا وخليك انت في حالك، منتظر الموت بطريقتك؟!"
ولما كظم الرجل لسانه ولم يسبه كما اعتادا معًا، سأله: "وانت منتظره إزاى يا روح أمك"
"أنا تطوعت في الجيش وحا سافر للحدود بعد يومين، وهناك موته.. يمكن يبقى لها معنى"
أدار "حسين" العاق ظهره ناحية الباب وسط دهشة الجميع. ليس من بين العائلة من عمل بالجيش.. من أين جاء هذا المتمرد الذي قرر أن يموت هناك.. وحده. وقبل أن يختفى خلف الباب الموارب، أدار رأسه وقال في تحد كعادته: " خليك أنت تتحدى الموت بالميه اللي بتشفي من الأمراض وتخلصنا من السميات.. لكن أنا تحديته بطريقتي، يمكن يكون للموت على الحدود له شكل تأنى."
******
طقوس الجد مع الماء تتبدى في طريقته الخاصة في شرب الماء، علاقته الخاصة بالقُلل، فهو لا يشرب إلا منها حتى في عز برد طوبة.
له بدلاً من القلة عشر قلل مرصوصة على سور الشرفة، صمم لها حاملا حديديا، يوم أن وقف على يد الحداد الماهر حتى ينفذ كل تعليماته.
حرص على إقتناء كل أشكال القلل، ذي الرقبة الطويلة كرقبة الإوزة كما يسميها، والمتكور ذي الرقبة القصيرة، وغير المتكوره، وأشكال يكاد لا تراها ﺇلا في شرفة الرجل. الأمر لا يختلف كثيرًا إذا تحدثنا عن الألوان.. منها الأحمر أو اللون الطوبى ومنها الفاتح غير المحروق.
نجح الجد في مصادقة صناع الفخار في القاهرة أو نقول حدود القاهرة من الهرم، شبرا، الفخارية في مصر القديمة.. فكانت القلل ذات اليدين والخالية منها، وتلك الأشبه بالزير وشبيهة رأس الأسد وغيرها كثير.. كثير!
ألم اقل لك أن الرجل صادق الفخارين، وإلا بماذا تُفسر هذا التنوع الغريب في الشكل، وتلك الكمية الزائدة عن حاجة سبيل مسجد الحسين؟
عندي تفسير وحيد في موضوع الكميات الزائدة، تلك التى يرصها تحت السرير. باختصار أن الجن المعفرت الصغير يوسف بدأ عادة جديدة.. عامدًا متعمدا يترك القلة وكأنها سقطت سهوا.. القلة تلو الأخرى تسقط وكأنها قنبلة ماء يضحك لها الصغير ويكشر الجد. فيغضب الجميع من يوسف ولا يبرر أبدًا سر فعلته الخبيثة.
كله كوم وموضوع الحائل الداخلي بالقلل كوم. للجد مزاج خاص في منظر هذا الحائل وشكل الزخارف فيه، من سيراها حتى ممن يتصادف ويسمح له باستخدام قلله، لا أحد أكيد. لكن إصرار الجد حقيقي في العناية بابتكار الأشكال الغامضة في هذا الحائل.. حكايات تحكى!
وهناك طقس آخر لا ينتبه له من كثرة ما شاهد الجد وهو يشرب.. فلا تلامس شفتاه الجد حافة القلة، تتسربل الماء من خلال الحائل، فتصدر صوتا يجعل من لم يشرب يعشق الشرب، فلا يلامس الرجل حافة رقبة القلة، حتى إذا وصلت إلى شفتي الجد امتصها بمتعة واحتواء وتلذذ، وإلا لماذا تبدو الشفتان هكذا مرتعشتان لامعتان، وفى تعمد يضمهما الجد ويمسحهما بلسانه بمتعة من يطعم عشيقته ريقه الندى.
زاد وغطى أن بدأ الصغير يثير غضب الجد عمدًا.. كأن يتجرع من قلله ولو جرعة صغيرة، وهو يعلم تمامًا أن الجد يرفض مشاركته في قلله، تلك التي جعلها مشغوليته الجادة وكم من الوقت يقضيه في إعدادها وتنظيف الغطاء النحاسي وتلميعه بالليمون فيبرق النحاس مثل الذهب.
وهذا ما حدث اليوم..
صاح الجد على الحفيد بسرعة إحضار القُلة، فتجرع الجرعة الصغيرة، وبسرعة حك شفتيه بكُم الجلباب وقد أدار رأسه إلى الناحية البعيدة عن عيني الجد، وإلا اكتشف احتقان أسفل وجهه كله.. كم هي لذيذة تلك اللعبة وهو يختلس جرعة عندًا في الجد.
بقيت ذراعه الصغيرة ممدودة إلى حين، بينما الجد لم يحملها عنه بعد، حتى إذا ألقى الولد طلة سريعة إلى الجد وجده نائما. نائمًا نومًا هادئًا على غير العادة وبلا الشخير الذي يعرفه عنه.. ولا حتى سمع صوتا هينا منه.
لم يطل المشهد.. صاح يوسف، تمنى لو يقدر على إيقاظ الجد، لم ينجح.
بقى معلقًا بجده النائم، بينما أجساد الأهل والجيران تتوارد وتكتظ بهم الغرفة.. فلما صاح فيهم أحد الجيران خرجوا جميعًا، وقد نسوا الصغير هناك منزويًا في الركن البعيد، لاذ في صمت متسائل لم يتخلص منه لفترة طويلة.