إلى محمد ربيع
اليوم يا صديقي، قرضت ثلاثة من أظافري التي انتظرت عاماً كي تطول. نعم انتظرت عاماً كاملاً، ثم منذ قليل قرضتها تباعاً. بعدها ابتلعت حبة مسكن قوية، ربما ما زلت تذكر أني كنت مصابة بصداع نصفي مزمن، ولم أشف منه بعد. ورشفت من كوب الشاي رشفة، لست متأكدة تماماً من أن هذا ما حدث بالترتيب نفسه، ربما ابتلعت حبة المسكن أولاً، وأتبعتها برشف الشاي أو فعلت العكس، وقلت لنفسي لا يهم.
أنا على أية حال ما زلت أحب بيسوا وأعتبره شاعري المفضل، ولن يكون عليّ، في الأيام القاحلة المقبلة، إلا أن أضع كتاب اللاطمأنينة قرب سريري، فأنام قبل الفجر بدلاً من النوم في الخامسة صباحاً.
الحياة ليست وردية، حتى لو قالت إديت بياف بالفرنسية، ولويس أرمسترونج بالإنجليزية إنها كذلك، حتى لو ظللت أحب الفيديو الأكثر حسيّة لخوليو إجلاسياس وهو يغني مع داليدا- رغم أنهما كانا فقط يقفان متلاصقين، يده على ظهرها، لكن بدا لي كأنهما كانا في السرير معاً في الليلة السابقة- بالفرنسية: الحياة وردية، وفي ليالي الحب ليس ثمة إلا السعادة اللانهائية حتى الموت.
يجب أن نسحب الأباجورة قريباً إلى مكان نجلس فيه للقراءة، ويجب. بشكل أكثر تطرفاً. أن نعي الفارق بين الأغنية الجميلة والحقيقة، الأغنية، غالباً. ما تكون جميلة والحقيقة على العكس تماماً، هل مطلوب أن تكون الحقيقة على هذا القدر من الجمال هي الأخرى؟ هأو!
لا يبدو أنه قد آن أوان التخلص من المرايا التي تحيط بي في كل مكان، في الحمام، في حقيبة يدي، في الدولاب وفي التسريحة الكلاسيكية وفي الصالة. كان لبيتنا القديم مدخل كله من الخشب، تحتل مرآة كبيرة رائقة نصف مساحة أحد الحوائط فيه، وكنت أستغل حتى الوقت الذي أودع فيه صديقاتي أمام الباب في النظر إلى وجهي في المرآة. أذكر وقتها أني اكتشفت شعرة بيضاء في حاجبي الأيمن، فدهشت، وعندما أخبرت أمي بذلك لم تنظر إلى وجهي للتأكد، لكنها أكدت أن استمرار النظر في المرآة بهذا المعدل “هيجننك إن شاء الله”!
أنا الآن، بشعر أبيض كثير في رأسي، مستلقية على الكنبة الكبيرة وحدي، وفي يدي مرآة مربعة صغيرة، رأسي مائلة إلى الخلف، وبذلك يصبح وجهي أقل امتلاء مما عليه في الحقيقة وأنا أحبه على هذا النحو.
ربما أحب نفسي على كل نحو، لكن أية نفس فيهم؟ أفي كل صورها؟ وهي ليست نفس واحدة، على انقسامها، امرأة جسور، وامرأة تبكي لمجرد تذكر بائعة الليمون العجوز في موقف عبد المنعم رياض، تلك النحيلة التي تجلس على قطعة من الكرتون، ظهرها للسياج المعدني، وينهشها البرد والحر والمارة، وإشفاقي عليها كذلك.
أعرف، ليست القوة هي السفر ليلاً وحدي، والعيش وحدي والأكل وحدي والنوم. النوم؟ هل ينام الذين جاؤوا إلى الحياة بعينين إحداهما قصيرة البصر والأخرى طويلته؟ ربما لو أصبحت أخلاقي أكثر لطفاً، لو توقفت عن القتال، لو توقفت عن الحقد على هؤلاء الذين يغفون بمجرد أن تلامس رؤوسهم مخدة؟
يقول بيسوا: “أنسى على نحو لا محدد أكثر مما أستطيع أن أتذكر” نعم، إنها تلك الرغبة الملحة اللعينة في المحو، لا أريد أن يتبقى مني شيء، لذلك سأهلك نفسي في حياتي كي لا يظل شيء باقياً، هل يصلح أن يكون السفر تلو السفر تلو السفر حلاً؟ والاستمرار، في دأب لم أعتد أن أملكه، في إنهاك كل شيء معي، فلا أقع قبل أن يقع العالم معي، قتيلاً هو الآخر. لا أريد أن أقطع بأن هذا هو الذي سيحدث بالضبط، ليس هروباً من الحساب، فقد لا أفعل، لن أقطع بشيء فيطمع الذين في قلوبهم مرض، وهم يعرفون جيداً أن لا قناعة نهائية لديَّ تجاه أي شيء، وأني لا يمكن أن أقطع حتى بشيء يتوجب عليَّ فعله، فليس عليَّ فعل أي شيء بشكل قسري، وربما ليس عليَّ فعل أي شيء بتاتاً.
يا صديقي، وعندما أقول يا صديقي، فأنت تعرف أني لا أعني أحداً غيرك، لقد توقفت عن لبس الصنادل التي تشبه خيوط الحرير الواهية، وتوقفت عن الضحك. تصوّر، توقفت عن الضحك تماماً، وأنت نصحتني ألا أتوقف عنه مطلقاً، مهما فعلت الحياة فيّ. ذات مرة قال لي عدلي رزق الله، وكان رجلاً لطيفاً للغاية، وكنت فتاة طفلة، وكنا على مقهى في وسط المدينة: “ضحكتك حلوة قوي يا مودموازيل”. فخجلت، وما زلت للآن خجلى!
* عن موقع ثقافات
اليوم يا صديقي، قرضت ثلاثة من أظافري التي انتظرت عاماً كي تطول. نعم انتظرت عاماً كاملاً، ثم منذ قليل قرضتها تباعاً. بعدها ابتلعت حبة مسكن قوية، ربما ما زلت تذكر أني كنت مصابة بصداع نصفي مزمن، ولم أشف منه بعد. ورشفت من كوب الشاي رشفة، لست متأكدة تماماً من أن هذا ما حدث بالترتيب نفسه، ربما ابتلعت حبة المسكن أولاً، وأتبعتها برشف الشاي أو فعلت العكس، وقلت لنفسي لا يهم.
أنا على أية حال ما زلت أحب بيسوا وأعتبره شاعري المفضل، ولن يكون عليّ، في الأيام القاحلة المقبلة، إلا أن أضع كتاب اللاطمأنينة قرب سريري، فأنام قبل الفجر بدلاً من النوم في الخامسة صباحاً.
الحياة ليست وردية، حتى لو قالت إديت بياف بالفرنسية، ولويس أرمسترونج بالإنجليزية إنها كذلك، حتى لو ظللت أحب الفيديو الأكثر حسيّة لخوليو إجلاسياس وهو يغني مع داليدا- رغم أنهما كانا فقط يقفان متلاصقين، يده على ظهرها، لكن بدا لي كأنهما كانا في السرير معاً في الليلة السابقة- بالفرنسية: الحياة وردية، وفي ليالي الحب ليس ثمة إلا السعادة اللانهائية حتى الموت.
يجب أن نسحب الأباجورة قريباً إلى مكان نجلس فيه للقراءة، ويجب. بشكل أكثر تطرفاً. أن نعي الفارق بين الأغنية الجميلة والحقيقة، الأغنية، غالباً. ما تكون جميلة والحقيقة على العكس تماماً، هل مطلوب أن تكون الحقيقة على هذا القدر من الجمال هي الأخرى؟ هأو!
لا يبدو أنه قد آن أوان التخلص من المرايا التي تحيط بي في كل مكان، في الحمام، في حقيبة يدي، في الدولاب وفي التسريحة الكلاسيكية وفي الصالة. كان لبيتنا القديم مدخل كله من الخشب، تحتل مرآة كبيرة رائقة نصف مساحة أحد الحوائط فيه، وكنت أستغل حتى الوقت الذي أودع فيه صديقاتي أمام الباب في النظر إلى وجهي في المرآة. أذكر وقتها أني اكتشفت شعرة بيضاء في حاجبي الأيمن، فدهشت، وعندما أخبرت أمي بذلك لم تنظر إلى وجهي للتأكد، لكنها أكدت أن استمرار النظر في المرآة بهذا المعدل “هيجننك إن شاء الله”!
أنا الآن، بشعر أبيض كثير في رأسي، مستلقية على الكنبة الكبيرة وحدي، وفي يدي مرآة مربعة صغيرة، رأسي مائلة إلى الخلف، وبذلك يصبح وجهي أقل امتلاء مما عليه في الحقيقة وأنا أحبه على هذا النحو.
ربما أحب نفسي على كل نحو، لكن أية نفس فيهم؟ أفي كل صورها؟ وهي ليست نفس واحدة، على انقسامها، امرأة جسور، وامرأة تبكي لمجرد تذكر بائعة الليمون العجوز في موقف عبد المنعم رياض، تلك النحيلة التي تجلس على قطعة من الكرتون، ظهرها للسياج المعدني، وينهشها البرد والحر والمارة، وإشفاقي عليها كذلك.
أعرف، ليست القوة هي السفر ليلاً وحدي، والعيش وحدي والأكل وحدي والنوم. النوم؟ هل ينام الذين جاؤوا إلى الحياة بعينين إحداهما قصيرة البصر والأخرى طويلته؟ ربما لو أصبحت أخلاقي أكثر لطفاً، لو توقفت عن القتال، لو توقفت عن الحقد على هؤلاء الذين يغفون بمجرد أن تلامس رؤوسهم مخدة؟
يقول بيسوا: “أنسى على نحو لا محدد أكثر مما أستطيع أن أتذكر” نعم، إنها تلك الرغبة الملحة اللعينة في المحو، لا أريد أن يتبقى مني شيء، لذلك سأهلك نفسي في حياتي كي لا يظل شيء باقياً، هل يصلح أن يكون السفر تلو السفر تلو السفر حلاً؟ والاستمرار، في دأب لم أعتد أن أملكه، في إنهاك كل شيء معي، فلا أقع قبل أن يقع العالم معي، قتيلاً هو الآخر. لا أريد أن أقطع بأن هذا هو الذي سيحدث بالضبط، ليس هروباً من الحساب، فقد لا أفعل، لن أقطع بشيء فيطمع الذين في قلوبهم مرض، وهم يعرفون جيداً أن لا قناعة نهائية لديَّ تجاه أي شيء، وأني لا يمكن أن أقطع حتى بشيء يتوجب عليَّ فعله، فليس عليَّ فعل أي شيء بشكل قسري، وربما ليس عليَّ فعل أي شيء بتاتاً.
يا صديقي، وعندما أقول يا صديقي، فأنت تعرف أني لا أعني أحداً غيرك، لقد توقفت عن لبس الصنادل التي تشبه خيوط الحرير الواهية، وتوقفت عن الضحك. تصوّر، توقفت عن الضحك تماماً، وأنت نصحتني ألا أتوقف عنه مطلقاً، مهما فعلت الحياة فيّ. ذات مرة قال لي عدلي رزق الله، وكان رجلاً لطيفاً للغاية، وكنت فتاة طفلة، وكنا على مقهى في وسط المدينة: “ضحكتك حلوة قوي يا مودموازيل”. فخجلت، وما زلت للآن خجلى!
* عن موقع ثقافات