جمال الدين علي - حدث في مستشفى سانت كاثرين.. قصة قصيرة

(حالما تحضر الممرضة آن الأوراق; سأضع توقيعي عليها; وينتهي كل شيء).
قال وهو يتهاوى على المقعد ونظر بأسى لوجه زوجته الشاحب المغطى بأجهزة التنفس الاصطناعي.
( لا. لن أتركها تتعذب أكثر من ذلك. الموت راحة لها). وربما فكر في أن التشبث بجدار الأمل الزلق هو العذاب بعينه لكليهما و لن يصمدا طويلا. أو ربما فكر في أمر آخر; وهو شارد بذهنه يحادث نفسه.
( وبعد انتهاء مراسم الدفن سوف أحمل باقي عمري وأعود للديار). ولمع نور من مكان خفي بعينه مخترقا سحب الحزن المتراكم. كلما يشرق عليه صباح; تغيب شمس العودة; إلا أن استطال ليل الغربة سنوات ضوئية. تلك العودة التي تأخرت كثيرا باتت وشيكة الآن.
( مسكينة زوجتي جين سترحل بدوني). مط شفتيه ( أو سوف أرحل بدونها. تمنيت اصطحابها معي. إلي قريتي حيث خلقت ونشأت). وكان ذلك قبل حوالي أربعين سنة. كان جالسا على الشط يرسم خطط العودة بعود يابس على الرمال; وفجأة شعر بكفين ناعمين ودافئين يغطيان بصره و كرتين ملتهبتين تلتصقان بظهره وثالثة الأثافي أنفاس ساخنة ألهبت حلمة أذنه. سرى تيار غامض بجسده وفار الدم القديم بعروقه; حين نفثت بخار الغرام الغامض.
( أحزر من أكون). ومن تكون غيرها. الفتاة الأرستقراطية الإنجليزية الشقراء (جين آدمز). كانت تعشق المغامرات وعيش سفاري. نطفة بيضاء تخلّقت من أمشاج مدينة الضباب حين نزوة أصابت الشمس. وهو مشدود بعصب قرية الدخان المتصاعد من المطابخ البلدية والحقول وأفران الطوب. حيث لا وجود لمغامرات خطيرة هناك. منذ النشأة يعرف مكان ميلاده وأين دفنت سرته ومن ستكون زوجته. يمشي الدرب المرسوم بأصابع الدهر; لا يحيد حتى يلقى حتفه. ولا أبالغ لو قلت يعرف مكان قبره بطرف الجبانة حيث يرقد أسلافه. أخطر مغامرة ارتكبها يوم ركب ظهر اللوري المحمل بجولات البصل إلى جامعة الخرطوم. وبعدها توالت المغامرات الخطرة حتى حلقت الطائرة بأحلامه وحطت بمطار هيثرو في مدينة الضباب. يومها التفت للوراء البعيد وتساءل ( هل أنا الشعبة المزالفة؟). لا. ربما هو العنزة المفرودة عن القطيع. تعرف عليها منذ الوهلة الأولى; فقد قرأ كل أحلامه الوردية مرسومة بخطوط كفيها. ( إلى أين وصلت؟). سألت وابتسامة عريضة كشراع تغطي شفتيها. ما زالت خطط العودة واضحة بذهنه ( ستدهش أمي حينما تشاهدها معي. ستصرخ مستنكرة. و سعاد ابنة أخي؟. تحرم علينا الخواجية الغل... تلك الكلمة القبيحة. سيردعها أبي . يا ولية دعيه يختار شريكة حياته بنفسه. ستنكمش منتحبة. وترفض الأكل والشرب. سيراضيها أبي بوكزة خفيفة و همسة ناعمة وغمزة موحية. سوف تبتسم وتغطي الخجل السائل من شفتيها بطرف ثوبها. جدي لن يرفض. أعرفه جيدا. جدي عاشق عريق. يعشق اللون الأبيض واللحوم البيضاء. هناك حديث متداول في القرية أنه في صباه كان مغرم بالخواجية زوجة مفتش المركز. حتى أنه سمى ابنته الكبري أمي سارا علي اسمها. ضبطه مرة وهو يسقي شتلة النخيل التي غرسها للتو. وبعد أن فتح لها الماء وتدفق الأخير بشوق الغائب واحتضن خصرها والتف حولها يراقصها و ابتلت عروقها واهتز جريدها; رمى جدي بالمعول وكأن روح المياه العاشقة قد تلبسته وتذكر حبه القديم أخذ يغني بصوته الذي يتلو به القرآن. ذلك غير الذي يخاطب به الناس. صوت عذب حنين قادم من أعماق سحيقة.
واهٍ من قلبي و ليلي الطويل
يا عذارى الحي قد راح الجميل
لم يقل حتى وداعاً في الرحيل
خبريني أي عرفيني أين سار يا عذارى
عابد الحب ديني و مراحي
صابر في الحب لم اشكو جراحي
يا تري المحبوب يدري عن براحي
لليالي الامس و اللهو المباح
أم تناسى يا عذارى
يا عذارى الحي.
ورأيت دمعة ترقرقت بعينه. جدي سيفرح كطفل. سيضربني على كتفي ويقول. عفارم عليك. سوف نضحك كصديقين. وحين أرفع بصري إليه; أرى الدمعة القديمة عادت و تلألأت بعينه. سوف يمسحها بسرعة ويقول. أستغفر الله العظيم. يتوب من ذنبه القديم. ترى هل يتوب قلبي من حبها و هل تاب جدي بالفعل وكفر عن ذنبه؟. أشك في ذلك).
تعلقت جين بعنقه و مصت قبلة طويلة; شفطتها من مسارب روحه; حين أخبرها بنيته الزواج منها. ولم تدعه يكمل. أدخلته القفص ورياح الحب أحكمت غلق الأبواب. فاجأته جين برغبتها بالعيش في المنزل الريفي الذي ورثته عن أبيها. موجة عالية محت خططه على الرمال وريح عاصفة أحرقت سفن العودة. عمره الآن ناهز السبعون وما زالت أحلام العودة تراوده. لا يريد لجسده أن يدفن هنا. في هذه الأرض العجوز التي تصطك مفاصلها من البرد. جسده يحن للطين الأخضر اللزج. سوف يكون رحيما به حين يضمه القبر. يريد الارتماء بحضن أمه الأرض. حضنها دائما مفتوح للابن الضال. يتكيء على جانب. يسأل نفسه. ( هل ضللت الطريق يوم ركبت اللوري إلى جامعة الخرطوم. وحين حلقت الطائرة وحطت بأحلامي في البعيد؟).
وهنا تدخل الممرضة آن حاملة بيدها مجموعة من الأوراق.
( مستر حسان. الأوراق.. مستر حسان). تهزه من كتفه وترفع نبرة صوتها. (مستر حسان.. مستر حسان هل نمت؟). ترمش زوجته جين وتحرك شفتيها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...