من الأسباب التي أدت إلى تقلص نطاق مصطلح العلمانية، تصور البعض أن العلمانية ليست ظاهرة تاريخية، شاملة كاسحة، وإنما هي ظاهرة محددة تتم من خلال آليات واضحة (مثل مصادرة أموال الكنيسة وإشاعة الإباحية)، يمكن تحديدها ببساطة، كما يمكن تبنيها أو التصدي لها بشكل واع.
ومن المنظور الاختزالي نفسه تناقش العلمانية في إطار نقل الأفكار والتأثر بالحضارات الأجنبية، فينظر إلى العلمانية على أنها مجموعة من الأفكار الغربية صاغها بعض المفكرين الغربيين، وأن هذه الأفكار نشأت في أوروبا بسبب طبيعة المسيحية، باعتبارها عقيدة تفصل الدين عن الدولة وتعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله (كأن الغرب لم يشهد ظاهرة تداخل الديني والزمني!)، وبسبب فساد الكنيسة وسطوتها، فالعلمانية من ثَم ظاهرة مسيحية غربية وحسب، مرتبطة ارتباطاً كاملاً بالغرب (الذي لا يزال البعض يصفه بأنه مسيحي)، ولذا، فلا علاقة بالاسلام والمسلمين بها. وحسب هذا التصور الاختزالي، يعود انتشار العلمانية إلى أن بعض المفكرين العرب قاموا بنقل الأفكار العلمانية الغربية، فتبناها بعض أعضاء النخبة، ثم قلدتهم دائرة أوسع من الناس، ثم أخذ نطاق التقليد يتسع تدريجياً إلى أن انتشرت العلمانية في مجتمعاتنا. بل يذهب البعض إلى أن عملية نقل وتطبيق الأفكار العلمانية تتم من خلال مخطط محكم (أو ربما مؤامرة عالمية يقال لها أحياناً (صليبية) أو (يهودية) أو (غربية)!). وللتحقق من معدلات العلمنة في مجتمع ما، فإن الباحث الذي يؤمن بمثل هذه الرؤية يتناول عمليات العلمنة الواضحة وآلياتها المباشرة ومؤشراتها الظاهرة، فإن وجدها، صنف المجتمع باعتباره مجتمعاً علمانياً، وإن لم يجدها، فهو، بكل بساطة، مجتمع إيماني!
وانطلاقاً من هذا التصور الاختزالي تصبح مهمة مَن يود التصدي للعلمانية هي البحث عن الأفكار العلمانية والممارسات العلمانية (الواضحة)، وعن القنوات التي يتم من خلالها نقل الأفكار والممارسات العلمانية. ومهمة مَن يبغى الإصلاح هي ببساطة استئصال شأفة هذه الأفكار والممارسات، عن طريق إصدار تشريعات سياسية معينة وفرض رقابة صارمة على الصور والأفكار الواردة من الخارج (يساعده في هذا البوليس السري والمخابرات العامة بطبيعة الحال!).
ول يمكن أن نقلل من أهمية الأفكار والممارسات العلمانية الواضحة، فهي تساعد ولا شك على تقبل الناس للمُثُل العلمانية، وخصوصاً إذا أشرف على عملية نقل الأفكار وفرض الممارسات مؤسسة ضخمة مثل الدولة المركزية. ولكن تصور العلمانية باعتبارها مجموعة أفكار وممارسات واضحة يظل، مع هذا، تصوراً ساذجاً، ويشكل اختزالاً وتبسيطاً لظاهرة العلمانية وتاريخها، وللظواهر الاجتماعية على وجه العموم.
وهذه الرؤية تتجاهل بعض الحقائق البديهية والبسيطة:
1 ـ النماذج الطبيعية-المادية موجودة بشكل كامن في أي مجتمع بشري، وهي مكون ضروري وأساسي في الوجود الانساني. وعلى المستوى الفكري، يمكن القول بأن الأفكار العلمانية كامنة في أي مجتمع على وجه الأرض (ومنها المجتمعات الاسلامية بطبيعة الحال)، فإغراء التفسيرات المادية والنزوع الجنيني الذي يعبر عن نفسه في الرغبة في الاندماج بالخالق، وفي إلغاء كل الحدود، وفي التحكم الكامل في كل شيء، وفي التخلي عن الحدود عن المسؤولية الخلقية ـ هو جزء من النزوع العام الموجود في النفس البشرية. وهو نزوع يعبر عن نفسه في النزوع نحو الحلولية الكمونية الواحدية. وهذا يعني أن الاتجاه نحو العلمنة والواحدية المادية إمكانية كامنة في النفس البشرية، ومن ثم، فهي كامنة في المجتمعات الاسلامية (التي توجد فيها نزعات حلولية كمونية واحدية متطرفة)، وفي أي مجتمع انساني.
2 ـ أية جماعة إنسانية (وضمن ذلك الأمة الاسلامية)، مهما بلغ تدينها وتمسكها بأهداب دينها، لابد أن تتعامل، في كثير من الأحيان، مع الزمان والمكان والطبيعة والجسد، من خلال إجراءات زمنية صارمة دون أي تجاوز. فمثلاً: عملية بناء بيت للعبادة يتطلب اختيار عمال يتسمون بالكفاءة في أدائهم المهني، ونحن لا ننظر كثيراً إلى مستواهم الأخلاقي أو إلى معتقداتهم الدينية إلا بمقدار تأثير هذا في أدائهم المهني، أي أن عملية اختيار العمال تخضع لمعايير زمنية. ومع هذا، يظل الهدف النهائي من عملية بناء بيت العبادة إقامة الشعائر وليس الربح المادي، فالبناء وسيلة وليس غاية. وعناصر العلمنة موجودة في أي مجتمع في الهامش وفي حالة كمون، ويمكن أن تنتقل من الهامش إلى المركز (المرجعية) ومن الكمون إلى التحقق، إن ظهرت اللحظة التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية المواتية، وساد الجو الفكري المناسب.
3 ـ السلوك الانساني مركب لأقصى درجة، وما يحدده ليس العوامل الواضحة والبرامج المحددة وحسب. فدور العناصر الكامنة غير الواضحة وغير الواعية في تشكيل السلوك الانساني قوي، بل إنها في معظم الأحيان تكون أقوى كثيراً من العناصر الواضحة التي يمكن للانسان أن يستخدم إرادته ضدها، فيتحاشاها أو يحاصرها أو يحيدها.
4 ـ علاقة الدين المسيحي بالمجتمع الغربي علاقة مركبة، وسنجد أن القائلين بأن العلمانية ظاهرة مسيحية غربية وحسب قد أخذوا نصاً من العهد الجديد (اتركوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) وعمموا بناء عليه، بل افترضوا أن كل المسيحيين يسلكون حسب هذا النص. والواقع التاريخي مختلف تمام الاختلاف. فالعقيدة المسيحية لا يمكن اختزالها في هذا النص، وهي رؤية كاملة للكون شكلت الإطار المعرفي والحضاري الذي كان يتحرك داخله العالم الغربي لمدة طويلة، وكانت بمنزلة الأيديولوجية الحاكمة له في كل مجالات الحياة (وضمن ذلك مجالات قيصر). وظهور العلمانية في الغرب لا يرجع إلى فساد بعض رجال الدين، أو إلى الارتباط الوثيق بين مؤسسات الكنيسة (الكاثوليكية) ومؤسسات الإقطاع الغربي، أو إلى تعنت الكنيسة ورفضها الأعمى للثورة العلمية. فرغم أهمية هذه العناصر في اندلاع الثورات ضد الكنيسة إلا أننا نصور أن المسألة أعمق من ذلك بكثير، فهي مرتبطة بتحولات بنيوية عميقة في عالم الاقتصاد والسياسة، ثم في مجالات الحياة الأخرى، لم يدرك مَن ساهم في ظهورها ومَن تفاعل معها مدى تأثيرها في رؤية الانسان لنفسه ولله وللطبيعة. وهذه التحولات (لا الثورة ضد فساد رجال الدين وغيره من العناصر)، هي التي أدت إلى ظهور العلمانية. وكل المجتمعات الانسانية ليست بمنأى عن مثل هذه التحولات.
ومن ثم، فمن يدرس ظاهرة العلمانية باعتبارها مجموعة من الأفكار المحددة والممارسات الواضحة يتجاهل الكثير من جوانبها، وبالتالي، يفشل في رصدها. ومصطلح (علمانية) الذي لا يشير إلى هذه الجوانب هو دال قاصر عن الإحاطة بمدلوله. فالعلمانية ثمرة عمليات كثيرة متداخلة بعضها ظاهر واضح والآخر بنيوي كامن، وهي تشمل كل جوانب الحياة، العامة والخاصة، والظاهرة والباطنة. وقد تتم عمليات العلمنة من خلال الدولة المركزية، بمؤسساتها الرسمية، أو من خلال قطاع اللذة من خلال مؤسساته الخاصة، أو من خلال عشرات المؤسسات الأخرى (ومنها المؤسسات الدينية ذاتها)، أو من خلال أهم المنتجات الحضارية أو أتفهها.
ولذا، فنحن نتحدث عن (العلمنة البنيوية الكامنة) ـ وهو مصطلح قمنا بسكه لوصف أهم أشكال العلمنة وأكثرها ظهوراً وشيوعاً ـ . وقد يكون من المفيد أن نبدأ بأن نذكر أنفسنا بحقيقة بديهية، وهي أن كل الأشياء المحيطة بنان المهم منها والتافه، تجسد نموذجاً حضارياً متكاملاً يحوي داخله إجابة عن الأسئلة الكلية النهائية. فإن كانت هذه الأشياء تجسد الرؤية العلمانية الشاملة، فإنها ستقوم بإعادة صياغة وجدان الناس وأحلامهم ورغباتهم (حياتهم الخاصة) وتعلمهم بشكل شامل كامل، دون أن يشعروا بذلك، من خلال عمليات تبلغ الغاية في التركيب والكمون.
وفي دراستنا في العالم العربي والاسلامي للعلمانية عادة ما نركز على التعريفات والمصطلحات المعجمية والمخططات الثقافية والممارسات الواضحة، وننسى أن العلمنة تتم من خلال منتجات حضارية يومية أو أفكار شائعة، وتحولات اجتماعية تبدو كلها في الظاهر بريئة أو مقطوعة الصلة بالعلمانية أو الإيمانية، ولكنها في واقع الأمر تخلق جواً خصباً مواتياً لانتشار الرؤية العلمانية الشاملة للكون، وتصوغ سلوك مَن يتبناها وتوجهه وجهة علمانية. وقد وصفنا مثل هذا المنتج الحضاري أو الأفكار أو التحولات التي تولد العلمانية (بشكل كامن) بأنها جزء عضوي لا يتجزأ من بنية هذا المنتج وهذه الأفكار وهذه التحولات لا تضاف إليه، ولا يمكن استخدام هذا المنتج أو تبني هذه الأفكار أو خوض هذه التحولات دون أن يجد الانسان نفسه متوجهاً توجاً علمانياً شاملاً، ولذا، سميناها (بنيوية). والصفات البنيوية عادة ما تكون كامنة، غير ظاهرة أو واضحة، وهي من الكمون والتخفي بحيث إن معظم مَن يتداولون نوعاً بعينه من المنتجات الحضارية، ويستبطنون الأفكار البريئة، ويعيشون في ظلال التحولات الانقلابية التي تؤدي إلى توليد الرؤية العلمانية ـ لا يدركون أثرها ولذا، سميناها (علمنة بنيوية كامنة). بل إن كثيراً ممن يساهمون في صنع هذه المنتجات وصياغة هذه الأفكار وإحداث هذه الانقلابات قد يفعلون ذلك وهم لا يدركون تضميناتها الفلسفية ودورها القوي في صياغة الإدراك والسلوك. ولذا، يمكن أن يكون هناك مجتمع يتبنى بشكل واضح ظاهر أيديولوجية دينية، أو رؤية علمانية جزئية، ولكن عمليات العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة من القوة بحيث إنها توجه المجتمع وجهة مغايرة تماماً لا يشعر بها أعضاء المجتمع أنفسهم.
ولنحاول أن نضرب بعض الأمثلة..
1 ـ التحولات الاجتماعية: من المعروف أن الاتحاد السوفيتي كان دولة تسيرها عقيدة علمانية شاملة، ذات طابع إلحادي مادي هجومي. أما الولايات المتحدة فهي ـ على العكس من هذا ـ تسمح بحرية العقيدة والتبشير والدعاية الدينية، كما أن عدد الكنائس في الولايات المتحدة كبير جداً. وحتى عهد قريب لم يكن بإمكان أحد أعضاء النخبة الحاكمة أن يجاهر بإلحاده (أو سلوكه الجنسي غير السوي، غير المقبول اجتماعياً) ويحتفظ بمنصبه في الوقت نفسه، ولا يزال هذا الوضع قائماً في كثير من الولايات. ولا يزال كثير من الساسة يحرصون على حضور الصلوات يوم الأحد، بل إن الدولار الأمريكي متوج بعبارة (نحن نثق بالإله).
وحسب هذا الانطباع الأولي، كان لابد أن يكون الاتحاد السوفيتي أكثر علمانية من الولايات المتحدة. ولكن العكس في تصوري هو الصحيح! فالولايات المتحدة أكثر البلاد علمنة بلا منازع. وهذا يعود إلى مركب من الأسباب، من أهمها التغيرات البنيوية الضخمة (التي ليس لها نظير في أي مجتمع). فهناك عمليات التصنيع والتمدن (بالإنجليزية: إربانيزيشن urbanization، أي (انتشار نمط الحياة في المدن) )، والتي تؤدي إلى الهجرة من القرية إلى المدينة، وإلى تركيز البشر في رقعة محدودة، وظهور أشكال جديدة من التضامن غير الأشكال القبلية أو القروية أو الأسرية، وتسارع إيقاع الحياة، وتفكك الأسرة، وظهور مؤسسات حكومية تضطلع بكثير من أدوار مؤسسة الأسرة، وانتشار المصنع (والسوق) كوحدات أساسية ومركزية، وتهميش القيم الأخلاقية والانسانية والدينية، وهيمنة أخلاقيات السوق وقوانين البيع والشراء والعرض والطلب على الوجدان الأمريكي. هذه التطورات البنيوية تولد استعداداً ذهنياً ونفسياً لدى المواطن للتعامل مع الواقع بشكل هندسي آلي كمي، كما تخلق التربة الخصبة التي ينمو فيها الإيمان بأن الواقع (وضمن ذلك كثير من جوانب السلوك الانسان) إن هو إلا مادة نسبية منفصلة عن القيمة توظف لتعظيم اللذة وزيادة المنفعة المادية، وبأن القيم الأخلاقية نسبية، وبأن البقاء للأصلح. أي أن بنية المجتمع نفسها تولد رؤية معرفية أخلاقية علمانية شاملة (بغض النظر عن نطاق الدعاية الإلحادية الصريحة). ولو درسنا معدلات التصنيع والتمدن في الولايات المتحدة لوجدناها أعلى بكثير من نظيرتها في الاتحاد السوفيتي، وسنجد أنه رغم شراسة الدعاية الإلحادية في الاتحاد السوفيتي فإن فعاليتها في عملية العلمنة أقل بكثير من فعاليات عمليات التصنيع والتمدن.
2 ـ الأفكار التي تبدو محايدةً بريئةً:
كثير من الأفكار التي تبدو محايدة بريئة تماماً، لا علاقة لها بأية أيديولوجية. تضمر في واقع الأمر الرؤية العلمانية. ففكرة الانسان الطبيعي، والعودة إلى بساطة الطبيعة (التي عادة ما يتم الخلط بينها وبين مفهوم الفطرة)، والقول بوحدة العلوم وتبني النماذج الموضوعية أو العقلية المادية (التي عادة ما يتم الخلط بينها وبين مفهوم العقل ذي المرجعية الدينية)، وفكرة نهاية التاريخ، والمنظومات الحلولية، وخطاب التمركز حول الأنثى ـ هي في تصوري الأساس الصلب للرؤية العلمانية الشاملة (ومن أهم تجلياتها في الوقت نفسه). ومع هذا، فإن كثيرين ممن قاموا بالترويج لهذه الأفكار ولغيرها لم يدركوا النماذج الكامنة وراءها.
3 ـ المنتجات الحضارية اليومية:
تُعَد المنتجات الحضارية المألوفة البريئة من أهم آليات العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة. ولنضرب مثلاً بـ(التي شيرت T-Shirt) الذي يرتديه أي طفل أو رجل وقد كتب عليه مثلاً (اشرب كوكاكولا). إن الرداء الذي كان يوظف في الماضي لستر عورة الإنسان ولوقايته من الحر والبرد، وربما للتعبير عن الهوية، قد وظف في حالة (التي شيرت) بحيث أصبح الإنسان مساحة، لا خصوصية لها، غير متجاوزة لعالم الحواس والطبيعة/ المادة. ثم توظف هذه المساحة في خدمة شركة الكوكاكولا (على سبيل المثال)، وهي عملية توظيف تفقد المرء هويته وتحيده، بحيي يصبح منتجاً بائعاً (الصدر كمساحة) ومستهلكاً للكوكاكولا (هذا مع العلم بأن الكوكاكولا ليست محرمة)، أي أن (التي شيرت) أصبح آلية كامنة من آليات العلمنة. ومع هذا لا يمكن القول بأن الكثيرين يدركون ذلك.
وقل الشيء نفسه عن المنزل.. فهو ليس أمراً محايداً أو بريئاً، كما قد يتراءى للمرء لأول وهلة. فهو عادة ما يجسد رؤية للكون تؤثر في سلوك مَن يعيش فيه شاء أم أبى. لذا، فحينما يصبح المنزل ملياً وظيفياً (غربياً أو دولياً)، يهدف إلى تحقيق الكفاءة في الحركة والأداء ولا يكترث بالخصوصية والأسرار ـ فإنه يصبح هو الآخر مثل (التي شيرت) خِلواً من الشخصية والعمق. وأثاث مثل هذا المنزل عادة وظيفي (عملي - غربي - حديث)، يلفظ أية خصوصية باسم الوظيفية والبساطة، ولكن البساطة هنا تعني في الواقع غياب الخصوصية.
ولنتخيل الآن إنساناً يلبس (التي شيرت)، ويسكن في منزل وظيفي بُني ربما على طريقة البريفاب Pre-fab (الكتل الصماء سابقة الإعداد)، ويأكل طعاماً وظيفياً (هامبورجر - تيك أواي تم طبخه بطريقة نمطية)، ويشرب كوكاكولا، وينام على سرير وظيفي، ويعيش في مدينة شوارعها فسيحة، عليه أن يجري بسيارته (المستوردة) فيها بسرعة مائة ميل في الساعة، بل قد يهرول إلى المسجد (أو الكنيسة) حينما يحين وقت الصلاة ـ تُرى .. ألن يتحول مثل هذا الانسان إلى إنسان وظيفي متكيف لا توجد في حياته خصوصية أو أسرار، إنسان قادر على تنفيذ كل ما يصدر إليه من أوامر دون أن يثير أية تساؤلات أخلاقية أو فلسفية؟! قد يقيم هذا الانسان الوظيفي الصلاة في مواقيتها، ولك كل ما حوله خلق له بيئة معادية لإدراك مفهوم القيمة المتجاوزة وجدواها!
والعلمنة البنيوية الكامنة هذه، من خلال أبسط الأشياء، لا تتم على مستوى البيئة الاجتماعية والمادية البرّانية، وإنما تتغلغل لتصل إلى باطن الإنسان، إلى مستوى عالم الأحلام والرغبات .. وهنا سيأتي دور الصور البريئة. فصديقنا الوظيفي، إن أراد أن يزجي أوقات فراغه .. فإنه سيستمع إلى أغنية لا تحدثه إلا عن الحب الرومانسي المستحيل، وعن المعبودة التي تصبح المطلق بالنسبة له (ولذا، فالأغنية تستخدم المصطلح الديني، والمفردات الدينية، رغم أنها موجهة للحبيبة الظالمة!)، وسيشاهد فيلماً أمريكياً يقوم بعلمنة وجدانه ورغباته، فالموقف الأساسي في معظم هذه الأفلام هو بطل لا يدين بأية مرجعيات أخلاقية (سوى القوة والعنف والسرعة)، يقع في حب فتاة جميلة هي البطلة (ولعل كلمة (حب) هنا كلمة 0متخلفة) قليلاً، فهو في الواقع (يشتهيها) وحسب، وعلى استعداد أن (يتعايش) معها!). وتظهر بعض الصعوبات التي يتجاوزها البطل الدارويني، ويفوز بما يشتهي وينغمس في الإشباع الفوري. ولا يختلف هذا عن الكارتون المسمى (توم وجيري) حيث يقوم الفأر اللذيذ الماكر باستخدام كل الحيل (التي لا يمكن الحكم عليها أخلاقياً، فهي لذيذة وذكية وناجحة) للقضاء على خصمه القط الغبي ثقيل الظل. ولنلاحظ أن القيم المستخدمة هنا قيم نسبية نفسية وظيفية برجماتية، لا علاقة لها بالخير أو الشر، قيم تشير إلى نفسها وحسب، ولا تفرق بين الظاهر والباطن. كما أن الصراع بين الإثنين لا ينتهي، إذ بدأ ببداية الفيلم ولا ينتهي بنهايته. فالعالم، حسب رؤية هذا الكارتون الكامنة، إن هو إلا غابة داروينية مليئة بالذئاب التي تلبس ثياب القط والفأر: توم وجيري. وقد أثبتت إحدى الدراسات أن أفلام توم وجيري هذه أكبر آلية لنقل فكرة حسم المشاكل عن طريق العنف للأطفال.
وأعتقد أن أهم آليات العلمنة البنيوية الكامنة في العالم هي الإعلانات التليفزيونية الظريفة بالغة البراءة! وهي إعلانات تروج رؤية للعالم عمادها الجنس والاستهلاك باعتبارهما القيمتين العظميين. كما أن هوليوود لعبت دوراً جوهرياً في علمنة وجدان سكان الكرة الأرضية، وبخاصة من خلال أفلامها البريئة غير الفاضحة، مثل أفلام رعاة البقرة المسماة (الويسترن Western) أو (الكوبوي Cowboy) وأفلام الحرب، فالرؤية العلمانية الشاملة كامنة فيها، بشكل يصعب على الانسان اكتشافه. وأفلام الويسترن بالذات تنقل لنا رؤية علمانية داروينية إمبريالية عنصرية بشعة متحيزة ضدنا.
وما قولكم في هذه النجمة السينمائية المغمورة (أو الساطعة) التي تحدثنا عن ذكريات طفولتها، وفلسفتها في الحياة، وعدد المرات التي تزوجت فيها، وخبراتها المتنوعة مع أزواجها أو مع عشاقها من الأثرياء وصغار السن، ثم تتناقل الصحف هذه الأخبار وكأنها الحكمة كل الحكمة؟! .. أليس هذا أيضاً علمنة للوجدان والأحلام، إذ تتحول النجمة إلى مصدر للقيمة ويصبح أسلوب حياتها القدوة التي تحتذى، وتصبح أقوالها المرجعية النهائية؟! والمسكينة لا علاقة بها بأية مرجعية، ولا أية قيمة، ولا أية مطلقية، إذ أن رؤيتها للعالم محصورة بحدود جسدها ـ الذي قد يكون رائعاً، ولكنه ولا شك محدود ونسبي ـ . كما أن خبراتها مع أزواجها وعشاقها (رغم أنها قد تكون مثيرة) لا تصلح أساساً لرؤية معرفية أخلاقية (إلا إذا كانت رؤية علمانية شاملة عدمية ترى أن كل الأمور نسبية). ومع هذا تصر الصحف التي تبرز آراء هذه النجمة ومفاتنها، على أن كلماتها لا تقل في حكمتها عن آراء أحكم الحكماء وأعمق الفلاسفة. وإذا أخذنا الحكمة من أفواه نجمات السينما والراقصات وملكات الجاذبية الجنسية، فستكون حكمة لها طابعها الخاص الذي لا يمكن أن يوصف بالروحانية أو الأخلاقية أو ما شابه من أوصاف تقليدية عتيقة! وقد يكون وصف أقوال هذه النجمة بأنها (منافية للأخلاق) أو (للذوق العام) وصفاً دقيقاً، ولكنه مع هذا لا يبين الدور الذي تلعبه النجمة وأفكارها في إعادة صياغة رؤية الانسان لنفسه وتصوره لذاته وللكون بشكل غير واع ـ ربما منج انبها ومن جانب المتلقي معاً ـ .
وما يهمنا في كل هذا هو أن نشير إلى أن بعض المنتجات الحضارية التي قد تبدو بريئة تماماً تؤثر في وجداننا وتعيد صياغة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم، إذ أن أولئك الذين يشاهد أطفالهم توم وجيري، ويرتدون التيشيرت، ويشاهدون الأفلام الأمريكية (إباحية كانت أم غير إباحية)، ويتابعون أخبار وفضائح النجوم ويتلقفونها، ويشاهدون كماً هائلاً من الإعلانات التي تغويهم بمزيد من الاستهلاك، ويهرعون بسياراتهم من عملهم لمحلات الطعام الجاهز وأماكن الشراء الشاسعة ـ يجدون أنفسهم يسلكون سلوكاً ذا توجه علماني شامل، ويستبطنون ـ عن غير وعي ـ مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات هي في جوهرها علمانية شاملة دون أية دعاية صريحة أو واضحة .. وربما كان بعضهم لا يزال يقيم الصلاة في مواقيتها ويؤدي الزكاة!
ونظراً لأن البعض لا يدرك أشكال العلمنة البنيوية الكامنة هذه، فإنه لا يرصدها. ولذا، يخفق في تحديد مستويات العلمنة الحقيقية. وعلى هذا، فقد يصنف بلد باعتباره إسلامياً (مثلاً) لأن دستوره هو الشريعة الاسلامية، مع أن معدلات العلمنة فيه قد تكون أعلى من بلد دستوره ليس بالضرورة إسلامياً ولكن معظم سكانه لا يزالون بمنأى عن آليات العلمنة البنيوية الكامنة التي أشرنا إليها.
د. عبدالوهاب المسيري
*المصدر : العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة /ج1
ومن المنظور الاختزالي نفسه تناقش العلمانية في إطار نقل الأفكار والتأثر بالحضارات الأجنبية، فينظر إلى العلمانية على أنها مجموعة من الأفكار الغربية صاغها بعض المفكرين الغربيين، وأن هذه الأفكار نشأت في أوروبا بسبب طبيعة المسيحية، باعتبارها عقيدة تفصل الدين عن الدولة وتعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله (كأن الغرب لم يشهد ظاهرة تداخل الديني والزمني!)، وبسبب فساد الكنيسة وسطوتها، فالعلمانية من ثَم ظاهرة مسيحية غربية وحسب، مرتبطة ارتباطاً كاملاً بالغرب (الذي لا يزال البعض يصفه بأنه مسيحي)، ولذا، فلا علاقة بالاسلام والمسلمين بها. وحسب هذا التصور الاختزالي، يعود انتشار العلمانية إلى أن بعض المفكرين العرب قاموا بنقل الأفكار العلمانية الغربية، فتبناها بعض أعضاء النخبة، ثم قلدتهم دائرة أوسع من الناس، ثم أخذ نطاق التقليد يتسع تدريجياً إلى أن انتشرت العلمانية في مجتمعاتنا. بل يذهب البعض إلى أن عملية نقل وتطبيق الأفكار العلمانية تتم من خلال مخطط محكم (أو ربما مؤامرة عالمية يقال لها أحياناً (صليبية) أو (يهودية) أو (غربية)!). وللتحقق من معدلات العلمنة في مجتمع ما، فإن الباحث الذي يؤمن بمثل هذه الرؤية يتناول عمليات العلمنة الواضحة وآلياتها المباشرة ومؤشراتها الظاهرة، فإن وجدها، صنف المجتمع باعتباره مجتمعاً علمانياً، وإن لم يجدها، فهو، بكل بساطة، مجتمع إيماني!
وانطلاقاً من هذا التصور الاختزالي تصبح مهمة مَن يود التصدي للعلمانية هي البحث عن الأفكار العلمانية والممارسات العلمانية (الواضحة)، وعن القنوات التي يتم من خلالها نقل الأفكار والممارسات العلمانية. ومهمة مَن يبغى الإصلاح هي ببساطة استئصال شأفة هذه الأفكار والممارسات، عن طريق إصدار تشريعات سياسية معينة وفرض رقابة صارمة على الصور والأفكار الواردة من الخارج (يساعده في هذا البوليس السري والمخابرات العامة بطبيعة الحال!).
ول يمكن أن نقلل من أهمية الأفكار والممارسات العلمانية الواضحة، فهي تساعد ولا شك على تقبل الناس للمُثُل العلمانية، وخصوصاً إذا أشرف على عملية نقل الأفكار وفرض الممارسات مؤسسة ضخمة مثل الدولة المركزية. ولكن تصور العلمانية باعتبارها مجموعة أفكار وممارسات واضحة يظل، مع هذا، تصوراً ساذجاً، ويشكل اختزالاً وتبسيطاً لظاهرة العلمانية وتاريخها، وللظواهر الاجتماعية على وجه العموم.
وهذه الرؤية تتجاهل بعض الحقائق البديهية والبسيطة:
1 ـ النماذج الطبيعية-المادية موجودة بشكل كامن في أي مجتمع بشري، وهي مكون ضروري وأساسي في الوجود الانساني. وعلى المستوى الفكري، يمكن القول بأن الأفكار العلمانية كامنة في أي مجتمع على وجه الأرض (ومنها المجتمعات الاسلامية بطبيعة الحال)، فإغراء التفسيرات المادية والنزوع الجنيني الذي يعبر عن نفسه في الرغبة في الاندماج بالخالق، وفي إلغاء كل الحدود، وفي التحكم الكامل في كل شيء، وفي التخلي عن الحدود عن المسؤولية الخلقية ـ هو جزء من النزوع العام الموجود في النفس البشرية. وهو نزوع يعبر عن نفسه في النزوع نحو الحلولية الكمونية الواحدية. وهذا يعني أن الاتجاه نحو العلمنة والواحدية المادية إمكانية كامنة في النفس البشرية، ومن ثم، فهي كامنة في المجتمعات الاسلامية (التي توجد فيها نزعات حلولية كمونية واحدية متطرفة)، وفي أي مجتمع انساني.
2 ـ أية جماعة إنسانية (وضمن ذلك الأمة الاسلامية)، مهما بلغ تدينها وتمسكها بأهداب دينها، لابد أن تتعامل، في كثير من الأحيان، مع الزمان والمكان والطبيعة والجسد، من خلال إجراءات زمنية صارمة دون أي تجاوز. فمثلاً: عملية بناء بيت للعبادة يتطلب اختيار عمال يتسمون بالكفاءة في أدائهم المهني، ونحن لا ننظر كثيراً إلى مستواهم الأخلاقي أو إلى معتقداتهم الدينية إلا بمقدار تأثير هذا في أدائهم المهني، أي أن عملية اختيار العمال تخضع لمعايير زمنية. ومع هذا، يظل الهدف النهائي من عملية بناء بيت العبادة إقامة الشعائر وليس الربح المادي، فالبناء وسيلة وليس غاية. وعناصر العلمنة موجودة في أي مجتمع في الهامش وفي حالة كمون، ويمكن أن تنتقل من الهامش إلى المركز (المرجعية) ومن الكمون إلى التحقق، إن ظهرت اللحظة التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية المواتية، وساد الجو الفكري المناسب.
3 ـ السلوك الانساني مركب لأقصى درجة، وما يحدده ليس العوامل الواضحة والبرامج المحددة وحسب. فدور العناصر الكامنة غير الواضحة وغير الواعية في تشكيل السلوك الانساني قوي، بل إنها في معظم الأحيان تكون أقوى كثيراً من العناصر الواضحة التي يمكن للانسان أن يستخدم إرادته ضدها، فيتحاشاها أو يحاصرها أو يحيدها.
4 ـ علاقة الدين المسيحي بالمجتمع الغربي علاقة مركبة، وسنجد أن القائلين بأن العلمانية ظاهرة مسيحية غربية وحسب قد أخذوا نصاً من العهد الجديد (اتركوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) وعمموا بناء عليه، بل افترضوا أن كل المسيحيين يسلكون حسب هذا النص. والواقع التاريخي مختلف تمام الاختلاف. فالعقيدة المسيحية لا يمكن اختزالها في هذا النص، وهي رؤية كاملة للكون شكلت الإطار المعرفي والحضاري الذي كان يتحرك داخله العالم الغربي لمدة طويلة، وكانت بمنزلة الأيديولوجية الحاكمة له في كل مجالات الحياة (وضمن ذلك مجالات قيصر). وظهور العلمانية في الغرب لا يرجع إلى فساد بعض رجال الدين، أو إلى الارتباط الوثيق بين مؤسسات الكنيسة (الكاثوليكية) ومؤسسات الإقطاع الغربي، أو إلى تعنت الكنيسة ورفضها الأعمى للثورة العلمية. فرغم أهمية هذه العناصر في اندلاع الثورات ضد الكنيسة إلا أننا نصور أن المسألة أعمق من ذلك بكثير، فهي مرتبطة بتحولات بنيوية عميقة في عالم الاقتصاد والسياسة، ثم في مجالات الحياة الأخرى، لم يدرك مَن ساهم في ظهورها ومَن تفاعل معها مدى تأثيرها في رؤية الانسان لنفسه ولله وللطبيعة. وهذه التحولات (لا الثورة ضد فساد رجال الدين وغيره من العناصر)، هي التي أدت إلى ظهور العلمانية. وكل المجتمعات الانسانية ليست بمنأى عن مثل هذه التحولات.
ومن ثم، فمن يدرس ظاهرة العلمانية باعتبارها مجموعة من الأفكار المحددة والممارسات الواضحة يتجاهل الكثير من جوانبها، وبالتالي، يفشل في رصدها. ومصطلح (علمانية) الذي لا يشير إلى هذه الجوانب هو دال قاصر عن الإحاطة بمدلوله. فالعلمانية ثمرة عمليات كثيرة متداخلة بعضها ظاهر واضح والآخر بنيوي كامن، وهي تشمل كل جوانب الحياة، العامة والخاصة، والظاهرة والباطنة. وقد تتم عمليات العلمنة من خلال الدولة المركزية، بمؤسساتها الرسمية، أو من خلال قطاع اللذة من خلال مؤسساته الخاصة، أو من خلال عشرات المؤسسات الأخرى (ومنها المؤسسات الدينية ذاتها)، أو من خلال أهم المنتجات الحضارية أو أتفهها.
ولذا، فنحن نتحدث عن (العلمنة البنيوية الكامنة) ـ وهو مصطلح قمنا بسكه لوصف أهم أشكال العلمنة وأكثرها ظهوراً وشيوعاً ـ . وقد يكون من المفيد أن نبدأ بأن نذكر أنفسنا بحقيقة بديهية، وهي أن كل الأشياء المحيطة بنان المهم منها والتافه، تجسد نموذجاً حضارياً متكاملاً يحوي داخله إجابة عن الأسئلة الكلية النهائية. فإن كانت هذه الأشياء تجسد الرؤية العلمانية الشاملة، فإنها ستقوم بإعادة صياغة وجدان الناس وأحلامهم ورغباتهم (حياتهم الخاصة) وتعلمهم بشكل شامل كامل، دون أن يشعروا بذلك، من خلال عمليات تبلغ الغاية في التركيب والكمون.
وفي دراستنا في العالم العربي والاسلامي للعلمانية عادة ما نركز على التعريفات والمصطلحات المعجمية والمخططات الثقافية والممارسات الواضحة، وننسى أن العلمنة تتم من خلال منتجات حضارية يومية أو أفكار شائعة، وتحولات اجتماعية تبدو كلها في الظاهر بريئة أو مقطوعة الصلة بالعلمانية أو الإيمانية، ولكنها في واقع الأمر تخلق جواً خصباً مواتياً لانتشار الرؤية العلمانية الشاملة للكون، وتصوغ سلوك مَن يتبناها وتوجهه وجهة علمانية. وقد وصفنا مثل هذا المنتج الحضاري أو الأفكار أو التحولات التي تولد العلمانية (بشكل كامن) بأنها جزء عضوي لا يتجزأ من بنية هذا المنتج وهذه الأفكار وهذه التحولات لا تضاف إليه، ولا يمكن استخدام هذا المنتج أو تبني هذه الأفكار أو خوض هذه التحولات دون أن يجد الانسان نفسه متوجهاً توجاً علمانياً شاملاً، ولذا، سميناها (بنيوية). والصفات البنيوية عادة ما تكون كامنة، غير ظاهرة أو واضحة، وهي من الكمون والتخفي بحيث إن معظم مَن يتداولون نوعاً بعينه من المنتجات الحضارية، ويستبطنون الأفكار البريئة، ويعيشون في ظلال التحولات الانقلابية التي تؤدي إلى توليد الرؤية العلمانية ـ لا يدركون أثرها ولذا، سميناها (علمنة بنيوية كامنة). بل إن كثيراً ممن يساهمون في صنع هذه المنتجات وصياغة هذه الأفكار وإحداث هذه الانقلابات قد يفعلون ذلك وهم لا يدركون تضميناتها الفلسفية ودورها القوي في صياغة الإدراك والسلوك. ولذا، يمكن أن يكون هناك مجتمع يتبنى بشكل واضح ظاهر أيديولوجية دينية، أو رؤية علمانية جزئية، ولكن عمليات العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة من القوة بحيث إنها توجه المجتمع وجهة مغايرة تماماً لا يشعر بها أعضاء المجتمع أنفسهم.
ولنحاول أن نضرب بعض الأمثلة..
1 ـ التحولات الاجتماعية: من المعروف أن الاتحاد السوفيتي كان دولة تسيرها عقيدة علمانية شاملة، ذات طابع إلحادي مادي هجومي. أما الولايات المتحدة فهي ـ على العكس من هذا ـ تسمح بحرية العقيدة والتبشير والدعاية الدينية، كما أن عدد الكنائس في الولايات المتحدة كبير جداً. وحتى عهد قريب لم يكن بإمكان أحد أعضاء النخبة الحاكمة أن يجاهر بإلحاده (أو سلوكه الجنسي غير السوي، غير المقبول اجتماعياً) ويحتفظ بمنصبه في الوقت نفسه، ولا يزال هذا الوضع قائماً في كثير من الولايات. ولا يزال كثير من الساسة يحرصون على حضور الصلوات يوم الأحد، بل إن الدولار الأمريكي متوج بعبارة (نحن نثق بالإله).
وحسب هذا الانطباع الأولي، كان لابد أن يكون الاتحاد السوفيتي أكثر علمانية من الولايات المتحدة. ولكن العكس في تصوري هو الصحيح! فالولايات المتحدة أكثر البلاد علمنة بلا منازع. وهذا يعود إلى مركب من الأسباب، من أهمها التغيرات البنيوية الضخمة (التي ليس لها نظير في أي مجتمع). فهناك عمليات التصنيع والتمدن (بالإنجليزية: إربانيزيشن urbanization، أي (انتشار نمط الحياة في المدن) )، والتي تؤدي إلى الهجرة من القرية إلى المدينة، وإلى تركيز البشر في رقعة محدودة، وظهور أشكال جديدة من التضامن غير الأشكال القبلية أو القروية أو الأسرية، وتسارع إيقاع الحياة، وتفكك الأسرة، وظهور مؤسسات حكومية تضطلع بكثير من أدوار مؤسسة الأسرة، وانتشار المصنع (والسوق) كوحدات أساسية ومركزية، وتهميش القيم الأخلاقية والانسانية والدينية، وهيمنة أخلاقيات السوق وقوانين البيع والشراء والعرض والطلب على الوجدان الأمريكي. هذه التطورات البنيوية تولد استعداداً ذهنياً ونفسياً لدى المواطن للتعامل مع الواقع بشكل هندسي آلي كمي، كما تخلق التربة الخصبة التي ينمو فيها الإيمان بأن الواقع (وضمن ذلك كثير من جوانب السلوك الانسان) إن هو إلا مادة نسبية منفصلة عن القيمة توظف لتعظيم اللذة وزيادة المنفعة المادية، وبأن القيم الأخلاقية نسبية، وبأن البقاء للأصلح. أي أن بنية المجتمع نفسها تولد رؤية معرفية أخلاقية علمانية شاملة (بغض النظر عن نطاق الدعاية الإلحادية الصريحة). ولو درسنا معدلات التصنيع والتمدن في الولايات المتحدة لوجدناها أعلى بكثير من نظيرتها في الاتحاد السوفيتي، وسنجد أنه رغم شراسة الدعاية الإلحادية في الاتحاد السوفيتي فإن فعاليتها في عملية العلمنة أقل بكثير من فعاليات عمليات التصنيع والتمدن.
2 ـ الأفكار التي تبدو محايدةً بريئةً:
كثير من الأفكار التي تبدو محايدة بريئة تماماً، لا علاقة لها بأية أيديولوجية. تضمر في واقع الأمر الرؤية العلمانية. ففكرة الانسان الطبيعي، والعودة إلى بساطة الطبيعة (التي عادة ما يتم الخلط بينها وبين مفهوم الفطرة)، والقول بوحدة العلوم وتبني النماذج الموضوعية أو العقلية المادية (التي عادة ما يتم الخلط بينها وبين مفهوم العقل ذي المرجعية الدينية)، وفكرة نهاية التاريخ، والمنظومات الحلولية، وخطاب التمركز حول الأنثى ـ هي في تصوري الأساس الصلب للرؤية العلمانية الشاملة (ومن أهم تجلياتها في الوقت نفسه). ومع هذا، فإن كثيرين ممن قاموا بالترويج لهذه الأفكار ولغيرها لم يدركوا النماذج الكامنة وراءها.
3 ـ المنتجات الحضارية اليومية:
تُعَد المنتجات الحضارية المألوفة البريئة من أهم آليات العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة. ولنضرب مثلاً بـ(التي شيرت T-Shirt) الذي يرتديه أي طفل أو رجل وقد كتب عليه مثلاً (اشرب كوكاكولا). إن الرداء الذي كان يوظف في الماضي لستر عورة الإنسان ولوقايته من الحر والبرد، وربما للتعبير عن الهوية، قد وظف في حالة (التي شيرت) بحيث أصبح الإنسان مساحة، لا خصوصية لها، غير متجاوزة لعالم الحواس والطبيعة/ المادة. ثم توظف هذه المساحة في خدمة شركة الكوكاكولا (على سبيل المثال)، وهي عملية توظيف تفقد المرء هويته وتحيده، بحيي يصبح منتجاً بائعاً (الصدر كمساحة) ومستهلكاً للكوكاكولا (هذا مع العلم بأن الكوكاكولا ليست محرمة)، أي أن (التي شيرت) أصبح آلية كامنة من آليات العلمنة. ومع هذا لا يمكن القول بأن الكثيرين يدركون ذلك.
وقل الشيء نفسه عن المنزل.. فهو ليس أمراً محايداً أو بريئاً، كما قد يتراءى للمرء لأول وهلة. فهو عادة ما يجسد رؤية للكون تؤثر في سلوك مَن يعيش فيه شاء أم أبى. لذا، فحينما يصبح المنزل ملياً وظيفياً (غربياً أو دولياً)، يهدف إلى تحقيق الكفاءة في الحركة والأداء ولا يكترث بالخصوصية والأسرار ـ فإنه يصبح هو الآخر مثل (التي شيرت) خِلواً من الشخصية والعمق. وأثاث مثل هذا المنزل عادة وظيفي (عملي - غربي - حديث)، يلفظ أية خصوصية باسم الوظيفية والبساطة، ولكن البساطة هنا تعني في الواقع غياب الخصوصية.
ولنتخيل الآن إنساناً يلبس (التي شيرت)، ويسكن في منزل وظيفي بُني ربما على طريقة البريفاب Pre-fab (الكتل الصماء سابقة الإعداد)، ويأكل طعاماً وظيفياً (هامبورجر - تيك أواي تم طبخه بطريقة نمطية)، ويشرب كوكاكولا، وينام على سرير وظيفي، ويعيش في مدينة شوارعها فسيحة، عليه أن يجري بسيارته (المستوردة) فيها بسرعة مائة ميل في الساعة، بل قد يهرول إلى المسجد (أو الكنيسة) حينما يحين وقت الصلاة ـ تُرى .. ألن يتحول مثل هذا الانسان إلى إنسان وظيفي متكيف لا توجد في حياته خصوصية أو أسرار، إنسان قادر على تنفيذ كل ما يصدر إليه من أوامر دون أن يثير أية تساؤلات أخلاقية أو فلسفية؟! قد يقيم هذا الانسان الوظيفي الصلاة في مواقيتها، ولك كل ما حوله خلق له بيئة معادية لإدراك مفهوم القيمة المتجاوزة وجدواها!
والعلمنة البنيوية الكامنة هذه، من خلال أبسط الأشياء، لا تتم على مستوى البيئة الاجتماعية والمادية البرّانية، وإنما تتغلغل لتصل إلى باطن الإنسان، إلى مستوى عالم الأحلام والرغبات .. وهنا سيأتي دور الصور البريئة. فصديقنا الوظيفي، إن أراد أن يزجي أوقات فراغه .. فإنه سيستمع إلى أغنية لا تحدثه إلا عن الحب الرومانسي المستحيل، وعن المعبودة التي تصبح المطلق بالنسبة له (ولذا، فالأغنية تستخدم المصطلح الديني، والمفردات الدينية، رغم أنها موجهة للحبيبة الظالمة!)، وسيشاهد فيلماً أمريكياً يقوم بعلمنة وجدانه ورغباته، فالموقف الأساسي في معظم هذه الأفلام هو بطل لا يدين بأية مرجعيات أخلاقية (سوى القوة والعنف والسرعة)، يقع في حب فتاة جميلة هي البطلة (ولعل كلمة (حب) هنا كلمة 0متخلفة) قليلاً، فهو في الواقع (يشتهيها) وحسب، وعلى استعداد أن (يتعايش) معها!). وتظهر بعض الصعوبات التي يتجاوزها البطل الدارويني، ويفوز بما يشتهي وينغمس في الإشباع الفوري. ولا يختلف هذا عن الكارتون المسمى (توم وجيري) حيث يقوم الفأر اللذيذ الماكر باستخدام كل الحيل (التي لا يمكن الحكم عليها أخلاقياً، فهي لذيذة وذكية وناجحة) للقضاء على خصمه القط الغبي ثقيل الظل. ولنلاحظ أن القيم المستخدمة هنا قيم نسبية نفسية وظيفية برجماتية، لا علاقة لها بالخير أو الشر، قيم تشير إلى نفسها وحسب، ولا تفرق بين الظاهر والباطن. كما أن الصراع بين الإثنين لا ينتهي، إذ بدأ ببداية الفيلم ولا ينتهي بنهايته. فالعالم، حسب رؤية هذا الكارتون الكامنة، إن هو إلا غابة داروينية مليئة بالذئاب التي تلبس ثياب القط والفأر: توم وجيري. وقد أثبتت إحدى الدراسات أن أفلام توم وجيري هذه أكبر آلية لنقل فكرة حسم المشاكل عن طريق العنف للأطفال.
وأعتقد أن أهم آليات العلمنة البنيوية الكامنة في العالم هي الإعلانات التليفزيونية الظريفة بالغة البراءة! وهي إعلانات تروج رؤية للعالم عمادها الجنس والاستهلاك باعتبارهما القيمتين العظميين. كما أن هوليوود لعبت دوراً جوهرياً في علمنة وجدان سكان الكرة الأرضية، وبخاصة من خلال أفلامها البريئة غير الفاضحة، مثل أفلام رعاة البقرة المسماة (الويسترن Western) أو (الكوبوي Cowboy) وأفلام الحرب، فالرؤية العلمانية الشاملة كامنة فيها، بشكل يصعب على الانسان اكتشافه. وأفلام الويسترن بالذات تنقل لنا رؤية علمانية داروينية إمبريالية عنصرية بشعة متحيزة ضدنا.
وما قولكم في هذه النجمة السينمائية المغمورة (أو الساطعة) التي تحدثنا عن ذكريات طفولتها، وفلسفتها في الحياة، وعدد المرات التي تزوجت فيها، وخبراتها المتنوعة مع أزواجها أو مع عشاقها من الأثرياء وصغار السن، ثم تتناقل الصحف هذه الأخبار وكأنها الحكمة كل الحكمة؟! .. أليس هذا أيضاً علمنة للوجدان والأحلام، إذ تتحول النجمة إلى مصدر للقيمة ويصبح أسلوب حياتها القدوة التي تحتذى، وتصبح أقوالها المرجعية النهائية؟! والمسكينة لا علاقة بها بأية مرجعية، ولا أية قيمة، ولا أية مطلقية، إذ أن رؤيتها للعالم محصورة بحدود جسدها ـ الذي قد يكون رائعاً، ولكنه ولا شك محدود ونسبي ـ . كما أن خبراتها مع أزواجها وعشاقها (رغم أنها قد تكون مثيرة) لا تصلح أساساً لرؤية معرفية أخلاقية (إلا إذا كانت رؤية علمانية شاملة عدمية ترى أن كل الأمور نسبية). ومع هذا تصر الصحف التي تبرز آراء هذه النجمة ومفاتنها، على أن كلماتها لا تقل في حكمتها عن آراء أحكم الحكماء وأعمق الفلاسفة. وإذا أخذنا الحكمة من أفواه نجمات السينما والراقصات وملكات الجاذبية الجنسية، فستكون حكمة لها طابعها الخاص الذي لا يمكن أن يوصف بالروحانية أو الأخلاقية أو ما شابه من أوصاف تقليدية عتيقة! وقد يكون وصف أقوال هذه النجمة بأنها (منافية للأخلاق) أو (للذوق العام) وصفاً دقيقاً، ولكنه مع هذا لا يبين الدور الذي تلعبه النجمة وأفكارها في إعادة صياغة رؤية الانسان لنفسه وتصوره لذاته وللكون بشكل غير واع ـ ربما منج انبها ومن جانب المتلقي معاً ـ .
وما يهمنا في كل هذا هو أن نشير إلى أن بعض المنتجات الحضارية التي قد تبدو بريئة تماماً تؤثر في وجداننا وتعيد صياغة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم، إذ أن أولئك الذين يشاهد أطفالهم توم وجيري، ويرتدون التيشيرت، ويشاهدون الأفلام الأمريكية (إباحية كانت أم غير إباحية)، ويتابعون أخبار وفضائح النجوم ويتلقفونها، ويشاهدون كماً هائلاً من الإعلانات التي تغويهم بمزيد من الاستهلاك، ويهرعون بسياراتهم من عملهم لمحلات الطعام الجاهز وأماكن الشراء الشاسعة ـ يجدون أنفسهم يسلكون سلوكاً ذا توجه علماني شامل، ويستبطنون ـ عن غير وعي ـ مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات هي في جوهرها علمانية شاملة دون أية دعاية صريحة أو واضحة .. وربما كان بعضهم لا يزال يقيم الصلاة في مواقيتها ويؤدي الزكاة!
ونظراً لأن البعض لا يدرك أشكال العلمنة البنيوية الكامنة هذه، فإنه لا يرصدها. ولذا، يخفق في تحديد مستويات العلمنة الحقيقية. وعلى هذا، فقد يصنف بلد باعتباره إسلامياً (مثلاً) لأن دستوره هو الشريعة الاسلامية، مع أن معدلات العلمنة فيه قد تكون أعلى من بلد دستوره ليس بالضرورة إسلامياً ولكن معظم سكانه لا يزالون بمنأى عن آليات العلمنة البنيوية الكامنة التي أشرنا إليها.
د. عبدالوهاب المسيري
*المصدر : العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة /ج1