إبراهيم سبتي - المرهــوب

جَفلتُ لَحظةً، هي ذاتُها الأرض التي تَركتُها. البيوت متلاصقة كأن خوفا وشى بها.. أطاردُ لعنةَ حطت بين ساعات اجتررتها من سنوات غيبتي. وقفت انظر الى حطام قديم، بيت من أكوام القصب المخلوط بطين حري كان أبي يصنعه كما يصنع طاقيته من خيوط البريسم.. نهاري ليس كما نهار الآخرين حين اتخذت قراري المروع قبل عشرين سنة أو يزيد.. كان نهارا طويلا أطاح بمللي الفاجع.
في كل يوم، تتكرر ذات القصة التي حفظها من هب ودب / هكذا اعتقد / وصارت حاضرة بين الجدات والعجائز والصغار.. الابن الذي احرق عائلته النائمة وأمات الزرع والضرع، قصة حكيت هنا وانتشرت شئت أنا ام لم اشأ.. في الظهيرة تلتهي بها النساء تحت الهجير اللافح و في المساء يتدثر بها الرجال / هكذا اعتقد / واحدة تفاصيلها لا تتغير.
اسمعهم / يتراءى لي / ولا أتكلم.. يشيرون بأصابع مرتجفة نحوي، ابتسم ولا اقل شيئا.
في صيحة هلع حادة ومريعة، دنوت صبيا من البيوت المرتجفة تحت السنة لهب الحر اللاهب، تتمايل في عيني راقصة وأنا أحطُ آخر قدم لي في كوّتها الحارقة بعد ان أعياني البحث عن أجوبة لحيرتي.
بيوت الظهيرة ترتجف من الحر في منظر يوحي بالاتون المستعر في خدود القرية المحاذية لحلمي الطويل يوم شبت أكواخها واحترق كل شيء في داخلها ولم تنفع الدموع الهاطلة من عيون من مات حرقا وهي تذرف استرحاما..
يومها ماتت القصص واحترقت الأحلام ويبست الذكرى وتوقفت.
في حدود الحريق، ثمة من ظل واقفا ينظر مصعوقا من هول ما رآى.. افر أنا الصبي الفاعل، وتتدافع الأجسام الهائمة على وجوهها ليخمدوا ما استطاعوا.. تتلاقف الأيادي الخشنة دلاء الماء.. يتسابقون مع الموت !
هل انقلبت الأرض وزلزلت زلزالها تلك الساعة ؟ بريق العين يمسسه نعاس النهار..
وأنام خائفا.
النهار الملبد بشحنة موت مرير، ينتظر لقاء طال أمده، انها مفارقة الموت فوق أجساد مشاكسة تموت تحت لهيب نيران أباحت شواء الأشياء دون رحمة..
النيران تستعر من فوق أدعية الرفوف الجاثمة فوق رفوف ملأتها شقوق التقادم كأنها محفورة عنوة في باطنها..
كتاب الأدعية الوحيد المحترق، مغطى بجلدة سميكة مائلة الى الأسود المقفر، تفوح منها عطر تعاويذ امي المركونة من سنين.. متروكة لا تطالها سوى يد امي في المصائب حين تردد دامعة : وأسألك يا كريم باسمك العظيم وسلطانك العزيز، يا واهِبَ العطايا والرزق وَيا مُطْلِقَ الاُسارى في البر والبحر وَيا فَكّاكَ الرقاب مِنَ النار، حفظتها صغيرا ورددتها اكثر من أمي دون ان احل ألغازها... بيوت صغيرة هي كل ما ارتفع خجلا فوق ارض موحلة لزجة لا تساوي حبة عرق ساقطة من وجوه أعيتها الأزاميل فترفض بإباء وعناد ان تحمل بين جنباتها أجنة الحياة لم تتغير ابدا.. زرعها يموت صغيرا، بور في بور..
ينظر الصبي الواقف / في عز الظهيرة المغبرة / بدشداشته المخططة الشبيهة بجدران أكواخ ظلت متدافعة نحو الهروب من وقفة مملة، نهيق حمار لا يردعني ونقنقة دجاجة مذعورة فارة أمامي لا تمنعي.. انظر واجما اليهم واصب قنينة النفط على فرش الغرفة البالية لتلتهمها نيران الضحك والهزؤ من حياة أدنتها يوم قلت لهم :
جحيم في جحيم !
لم يلتفت الي احد، فكان الجحيم / كما أراه / يختلط بلعاب المضغ في فم والدي المتوثب للبقاء حيا ولا أمل يرجى منه للمغادرة..
صحت انا الصبي المنقوع بحيرتي :
ـ موت.. الحياة في هذا الجحيم، موت !!
لم يتنفس يومها احد.. فما الموت من فم صبي لاه.. حتى وثب ابي هاويا بلطمته على وجهي.. جحظت عينا امي ولازم الذعر وجهها. قفزت الى حضنها وتعلقت بذراعها.
فكان ما كان، نيران جهنم تتقافز أمامي وتتصاعد هابة من أنحاء البيت / الكوخ المتداعي / نحو الأكواخ المتلاصقة في نهار مغبر كما هو في كل يوم في صيف لا يعرف الصفاء.. ريح تنشر النار وانا ادمع من دخانها..
النار تذيب الأجساد !
اجلس على حجارة منسدلة من موضع قريب لصيق بجدار مقصى.. اعد صرخاتهم الذائبة في لجة السعير في موت مؤكد.. واحد، اثنان، ثلا......... ويتوقف العد. منظر النار الزاحف اتونها يحيلني الى فكرة الهرب فيما الهسيس يتلاشى وتعلق الرائحة في فضاء الدخان..
جحيم في جحيم.. نار في نار ! شواء..
اضحك طربا من عملي المشين..
فأغمض من غبار يلاحقني كما الرائحة الصاعدة من جوف البيوت.. شواء..
جسم لاحه الهزال فصار ريشة تتلاعب بها ريح، استرجع في رأسي فرحا :
فيم مات وفيم سيموت..
مخيلة انفلتت مني الى التيه البعيد كريشة في مهب ريح مغبرة لاذعة..
أتحركُ مقتربا من موت رأيته يوما في نوم كابوسي، لكني افقد بعض ذكراه.. سنوات مرت وجسم عابث في أصقاع الدنيا كغريب يبحث عن ضالة تعصر همومه المنقرضة أمال واهنة، أتقلب كسمكة أخرجوها من مائها. عشرون سنة او يزيد، ذات الحلم يفترسني كل نوم، وذات الرؤيا تصفقني وألوح بها خائفا كل صباح.. حلم متوحش.. عشرون مرن من عمر يتجرع حدثا لم يقع ولم أبح به لأحد.. كان كابوسا في ليلة غريبة، فأجدني مذنباً وأنا أقفُ فوقَ رابية صغيرة تَصعدُ من ارض مبتلة، مشغوفا بمشاهد ما زالت قائمة استقرت في راسي منذ ان غادرت متأزما، مكرها الى الأصقاع البعيدة .. أرى الناس تشير اليّ وارى عجوزا تشير اليَّ باكيةً تخرجُ من بيتٍ اعرفه.



* عن الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...