في مقهى مليئة بالسعال والدخان .. توزعت مصاطب من جذوع اشجار يابسة ، قطعها الناس في ايام الجوع ، عندما هبوا افواجا الى الاشجار الباسقة في الضواحي والطرقات ، بكل ما اوتوا من ادوات القطع ، يذبحون الجذوع الطرية ويهشمون السيقان المتدلية ، يجمعونها في زوايا منسية ، تجف ،يتساقط لحاؤها اكواما من القشور ، تضربه الشمس ، تتشقق من شدة الظمأ والريح .. كان الناس ياخذونها حطبا للتنور والتدفئة ، بعدما شح عليهم النفط والغاز ، لم تسلم تلك الجذوع من الدود الذي جاء مسربلا على شكل ارتال ينخرها .. من بقايا هذه الجذوع بنى ابو محمد مقهاه في فم الشارع المفتوح على المدينة .. مدثرا رأسها بصفائح صدئة كثيرة الثقوب ، يتداخل مع المقهى نهر المياه الآسنة التي تقذفها البيوت من ميازيب المجاري .. واطفال عراة يقضون اوقات مرحهم على حافة الجراثيم ، يصطادون الضفادع المختبئة من صراخ السيارات . في هذه المقهى جلس المتقاعدون وهم يركزون نظرهم على الشارع ، يتابعون الافواج المندفعة الى اعمالها ، يشمون روائح احلام شبابهم الضائعة ، لكنهم يتساءلون ، كيف العودة الى ذلك ؟ يقاومون رغبة البكاء التي تخنق حناجرهم وهم يعدون خطواتهم الاخيرة الى منزل الفناء .. احيانا تنساب على وجوههم قطرات ماء مالحة ،ترطب لحاهم البيض ، يتذوقونها بمرارة ليقذفوها بزفرات ساخنة ، واحيانا يبتسمون مثل عصافير ميتة ، وهم يجترون حديث متكرر لزمن غابر ، مشيعين بذلك خساراتهم وذكريات الاماكن المنسية ..
في دواخلهم خوف مستديم من موت مفاجئ ، بعد ان مد مستنقع المرض مياهه نحو اجسادهم الهزيلة ، وهم يرون ايامهم تمضي بلا لون ..اخذ المتقاعدون يتناقصون واحدا تلوالآخر ، يوما بعد يوم ، يغيب احدهم والى الابد ..مد اخطبوط الخوف اذرعه الى وجوههم المترقبة ودب البوار اليهم ، احسوا بنقطة الوصول الى المحطة الاخيرة .. في الحقيقة ان الخوف لم يات من الاسباب التي ذكرتها ، لكن جاء نتيجة من قام باخبارهم بتاريخ موتهم ، في مزحة فجة ، بعد ان استغل ابو تحسين هذا التناقص ..
وأخذ يخبرهم واحدا تلو الآخر بيوم رحيلهم .. ابو تحسين هذا رجل في العقد السادس من عمره ، اسمر اللون ن ربع القامة ، يضع نظارة طبية على عينيه ..، معروف للجميع بنكاته وسرعة بديهيته ، فكان محط انظارهم واحترامهم ، الا انه في هذا اليوم ، هذا اليوم بالذات تبدل راي الجميع فيه ، بعد ان ركز نظره في وجه ابي عقيل ، ذلك الرجل الذي امضى عمره في عربات القطار ، يقطع تذاكر المسافرين ، لكن حركاته النشطة لاتشي بانه معتل الصحة ، نظر اليه ابو تحسين مليا ، ثم قال بجدية :
_ مع الأسف ..سوف نفتقدك .. يا اباعقيل .. اننا لانراك بعد هذا الاسبوع ...
استغرب الجميع من هذا التصريح المفاجئ الخطير ، وكشفت وجوههم عن لثام الغموض ، فسأل احدهم مستفسرا
_ هل سيسافر ..؟ أم ..يرحل الى مكان آخر ؟
_ لا .. ابو عقيل لم يعش اكثر من هذه الايام الستة ..
قالها ابو تحسين جازما ، توقفت الاصوات والالوان عند تصريح ابو تحسين وهو ينذر احدهم بالموت القريب ، وعلى مفردة الموت سقطت ذاكرتهم في الظلام وارتجفت ايديهم الذابلة واصابها شلل مؤقت .
_ كيف عرفت ...؟
قالوها جميعا بفزع ..
_ أخبرني بذلك صديقي ملك الموت ..
كلهم صعقوا .. تحرك الخوف في دواخلهم بقوة ، ورسم ملامحه على الوجوه ، بعد ان اشعل حريقا في الجذوع اليابسة ، انسلوا مذعورين ، وفرغت المقهى من زبائنها .. في الاسبوع التالي وبعد ستة ايام بالضبط ، نصبت سرادق العزاء على روح العق ابي عقيل ، هذا الحادث هز الجميع ..وأخذ المتقاعدون يخشون الاقتراب من ابي تحسين لئلا يخبر احدهم بيوم وفاته ، فكانوا يفرون من المكان الذي يتواجد فيه ، حتى اصبحت المقهى فارغة منهم ، طالما ابو تحسين جالسا في مقاعدها الامامية ، وهم يتهامسون بعيدا فيما بينهم عن هذا الحدث الجلل ..
_ كيف عرف ابو تحسين ذلك ..؟
_ ربما تنبأ ...
_ أو جاءه صوت من السماء ..
_ لعله رأى رؤية في المنام ..
_ لماذا لم تكن صدفة ...؟
_ اية صدفة ، وهو الذي كان جازما في كلامه ...
اهتزت القواعد الثابتة لجلسة المتقاعدين ، وأخذ كل واحد منهم يبتعد عن ابي تحسين مسافات بعيدة ، خاصة ابا عباس وابا ضرغام ، حيث قال بالامس .. انكما لاتبقيان احياء لاستلام حصتكما النقدية من النفط ، بعد ان شاع في المدينة خبر يقول ان الحكومة سوف توزع حصصا للمواطنين من ايرادات النفط ..اخذا في اوقات متأخرة من اليل ينسلان من اسؤتهما ويقذفان جسديهما في الشارع يصطحبهما الارق الذي لازمهما ، لقد ايقظ ابو تحسين في دواخلهم شعورا مخيفا ، ان يزورهما ملك الموت وهما مستلقيان على فراشهما ، ينبغي ان يكونا حذرين ومستعدين لمواجهته ، لكن كيف مواجهته بهذين الجسمين الهزيلين اللذين غزاهما المرض وسنوات التعب ، لاوجود لنبتة كلكامش في هذه المدينة الغافية ، يرجعان خائبين ، منهكين ..الى فراشهما الباردين اللذين تفوح منهما رائحة الاكفان ..
* * *
على غير عادته ، كان ابو محمد صاحب المقهى يوزع ضحكات عريضة في كل ارجاء المقهى ، من دون سبب واضح ، يدندن بمقاطع من اغنية ريفية بانتشاء ، ينثر تحاياه على المارة بسخاء ، كان سعيدا على غير عادته التي اعتدناها ان نراه دوما عابسا ، جديا ن نتيجة العبء الثقيل الذي يحمله ، فهو اب لبنات سبع وزوج لأمراة مريضة ، كلنا اثارنا الفضول لمعرفة سبب هذا الفرح المفاجئ الذي اصاب ابا محمد ..
_ ابو محمد ... خير ان شاء الله ..نراك فرحا ..
قالها ابو ضرغام وهو يداري عكازه جنب المقعد المصنوع من جذع شجرة منخور ..
_ كيف لا افرح ..وابو تحسين مريض .. مرضا شديدا أقعده الفراش ..
_ صحيح .. بشرك الله بالخير ..
صاح ابو عباس منتشيا ...
_ ان شاء الله ..لايقوم منها سالما ..ونخلص ..
قالها ابو فائز ضاحكا ..
_ كلكم تبتعدون عن المقهى كلما رايتموه جالسا فيها ..لقد كان تاثيره كبيرا على رزقي ..
قالها ابو محمد وهو يوزع اقداح الشاي على الجالسين ..
فجأة .. التفت احدهم الى الشارع .. حيث ابو تحسين جاء ماشيا وهو يعدل نظارته الطبية السميكة ، كانه يفتش عن احد ..التفت الرجل الى اصدقائه الذين ما زالوا في غبطة الخبر السعيد .. تبادل النظرات معهم ، ودون كلام اشار الى الجهة التي جاء منها ابو تحسين ، ساد صمت مفاجئ ، واخذ الجالسون يتبادلون نظرات مبهمة ن وهم يرتعدون خوفا من ان يخبر احدهم بتاريخ موته ..
_ السلام عليكم ..
_ عليكم السلام ... اهلا ابا تحسين ...
_ قالوا ..انك مريض ..
_ نعم ..كنت مريضا ..وقد جاءني ملك الموت ، وقلت له ان ابا تحسين الذي تقصده في الزقاق الآخر ..لقد تشابهت الاسماء عليه ...
في اليوم التالي شاع خبر وفاة ابي تحسين العامل في العيادة الشعبية والساكن في الزقاق الخلفي لبيت ابي تحسين صاحب النظارات الطبية ..لم يبق في المقهى غير ابي تحسين والمقاعد المصنوعة من جذوع الشجر ..فارغة ..حيث فر الجميع من هذا النحس الذي اصابهم ، انقلب كل شيء في دواخلهم ، اصبحوا يغتاضون من اصغر المواضيع حتى صاحب المقهى لم يعد يهتم برزقه ، واخذ يقضي معظم ايامه في زيارات الاضرحة المقدسة ن عله يبعد الشر عنه ن اخذ الجميع يعد ايامه ن ينتظر يوم رحيله ن واضحى ابو تحسين ملك الموت على الارض ، يمشي مرحا ، يفتش عمن يخبره بيومه الموعود ..في احد الايام تصدى اليه احدهم وقال له :
_ اخبرت ابني بما تقوم به ، وسوف يحاسبك اشد الحساب ان ...
ضحك ابو تحسين بملء شدقيه وقال:
_ ان تحدث انبك بشئ ..سوف اضيف اسمه الى قائمتكم التي احضرتها الى ملك الموت ...
رجعت مدينتي كسابق عهدها معلفا لخيول الملك ، ولم تعد الافواج المندفعة الى اعمالها محملة بامنيات يوم مشرق ..فقط ..ملك الموت الذي تلبس ابا تحسين ، يطوف في الازقة وحيدا يلفه الصــمت والســكون .....
في دواخلهم خوف مستديم من موت مفاجئ ، بعد ان مد مستنقع المرض مياهه نحو اجسادهم الهزيلة ، وهم يرون ايامهم تمضي بلا لون ..اخذ المتقاعدون يتناقصون واحدا تلوالآخر ، يوما بعد يوم ، يغيب احدهم والى الابد ..مد اخطبوط الخوف اذرعه الى وجوههم المترقبة ودب البوار اليهم ، احسوا بنقطة الوصول الى المحطة الاخيرة .. في الحقيقة ان الخوف لم يات من الاسباب التي ذكرتها ، لكن جاء نتيجة من قام باخبارهم بتاريخ موتهم ، في مزحة فجة ، بعد ان استغل ابو تحسين هذا التناقص ..
وأخذ يخبرهم واحدا تلو الآخر بيوم رحيلهم .. ابو تحسين هذا رجل في العقد السادس من عمره ، اسمر اللون ن ربع القامة ، يضع نظارة طبية على عينيه ..، معروف للجميع بنكاته وسرعة بديهيته ، فكان محط انظارهم واحترامهم ، الا انه في هذا اليوم ، هذا اليوم بالذات تبدل راي الجميع فيه ، بعد ان ركز نظره في وجه ابي عقيل ، ذلك الرجل الذي امضى عمره في عربات القطار ، يقطع تذاكر المسافرين ، لكن حركاته النشطة لاتشي بانه معتل الصحة ، نظر اليه ابو تحسين مليا ، ثم قال بجدية :
_ مع الأسف ..سوف نفتقدك .. يا اباعقيل .. اننا لانراك بعد هذا الاسبوع ...
استغرب الجميع من هذا التصريح المفاجئ الخطير ، وكشفت وجوههم عن لثام الغموض ، فسأل احدهم مستفسرا
_ هل سيسافر ..؟ أم ..يرحل الى مكان آخر ؟
_ لا .. ابو عقيل لم يعش اكثر من هذه الايام الستة ..
قالها ابو تحسين جازما ، توقفت الاصوات والالوان عند تصريح ابو تحسين وهو ينذر احدهم بالموت القريب ، وعلى مفردة الموت سقطت ذاكرتهم في الظلام وارتجفت ايديهم الذابلة واصابها شلل مؤقت .
_ كيف عرفت ...؟
قالوها جميعا بفزع ..
_ أخبرني بذلك صديقي ملك الموت ..
كلهم صعقوا .. تحرك الخوف في دواخلهم بقوة ، ورسم ملامحه على الوجوه ، بعد ان اشعل حريقا في الجذوع اليابسة ، انسلوا مذعورين ، وفرغت المقهى من زبائنها .. في الاسبوع التالي وبعد ستة ايام بالضبط ، نصبت سرادق العزاء على روح العق ابي عقيل ، هذا الحادث هز الجميع ..وأخذ المتقاعدون يخشون الاقتراب من ابي تحسين لئلا يخبر احدهم بيوم وفاته ، فكانوا يفرون من المكان الذي يتواجد فيه ، حتى اصبحت المقهى فارغة منهم ، طالما ابو تحسين جالسا في مقاعدها الامامية ، وهم يتهامسون بعيدا فيما بينهم عن هذا الحدث الجلل ..
_ كيف عرف ابو تحسين ذلك ..؟
_ ربما تنبأ ...
_ أو جاءه صوت من السماء ..
_ لعله رأى رؤية في المنام ..
_ لماذا لم تكن صدفة ...؟
_ اية صدفة ، وهو الذي كان جازما في كلامه ...
اهتزت القواعد الثابتة لجلسة المتقاعدين ، وأخذ كل واحد منهم يبتعد عن ابي تحسين مسافات بعيدة ، خاصة ابا عباس وابا ضرغام ، حيث قال بالامس .. انكما لاتبقيان احياء لاستلام حصتكما النقدية من النفط ، بعد ان شاع في المدينة خبر يقول ان الحكومة سوف توزع حصصا للمواطنين من ايرادات النفط ..اخذا في اوقات متأخرة من اليل ينسلان من اسؤتهما ويقذفان جسديهما في الشارع يصطحبهما الارق الذي لازمهما ، لقد ايقظ ابو تحسين في دواخلهم شعورا مخيفا ، ان يزورهما ملك الموت وهما مستلقيان على فراشهما ، ينبغي ان يكونا حذرين ومستعدين لمواجهته ، لكن كيف مواجهته بهذين الجسمين الهزيلين اللذين غزاهما المرض وسنوات التعب ، لاوجود لنبتة كلكامش في هذه المدينة الغافية ، يرجعان خائبين ، منهكين ..الى فراشهما الباردين اللذين تفوح منهما رائحة الاكفان ..
* * *
على غير عادته ، كان ابو محمد صاحب المقهى يوزع ضحكات عريضة في كل ارجاء المقهى ، من دون سبب واضح ، يدندن بمقاطع من اغنية ريفية بانتشاء ، ينثر تحاياه على المارة بسخاء ، كان سعيدا على غير عادته التي اعتدناها ان نراه دوما عابسا ، جديا ن نتيجة العبء الثقيل الذي يحمله ، فهو اب لبنات سبع وزوج لأمراة مريضة ، كلنا اثارنا الفضول لمعرفة سبب هذا الفرح المفاجئ الذي اصاب ابا محمد ..
_ ابو محمد ... خير ان شاء الله ..نراك فرحا ..
قالها ابو ضرغام وهو يداري عكازه جنب المقعد المصنوع من جذع شجرة منخور ..
_ كيف لا افرح ..وابو تحسين مريض .. مرضا شديدا أقعده الفراش ..
_ صحيح .. بشرك الله بالخير ..
صاح ابو عباس منتشيا ...
_ ان شاء الله ..لايقوم منها سالما ..ونخلص ..
قالها ابو فائز ضاحكا ..
_ كلكم تبتعدون عن المقهى كلما رايتموه جالسا فيها ..لقد كان تاثيره كبيرا على رزقي ..
قالها ابو محمد وهو يوزع اقداح الشاي على الجالسين ..
فجأة .. التفت احدهم الى الشارع .. حيث ابو تحسين جاء ماشيا وهو يعدل نظارته الطبية السميكة ، كانه يفتش عن احد ..التفت الرجل الى اصدقائه الذين ما زالوا في غبطة الخبر السعيد .. تبادل النظرات معهم ، ودون كلام اشار الى الجهة التي جاء منها ابو تحسين ، ساد صمت مفاجئ ، واخذ الجالسون يتبادلون نظرات مبهمة ن وهم يرتعدون خوفا من ان يخبر احدهم بتاريخ موته ..
_ السلام عليكم ..
_ عليكم السلام ... اهلا ابا تحسين ...
_ قالوا ..انك مريض ..
_ نعم ..كنت مريضا ..وقد جاءني ملك الموت ، وقلت له ان ابا تحسين الذي تقصده في الزقاق الآخر ..لقد تشابهت الاسماء عليه ...
في اليوم التالي شاع خبر وفاة ابي تحسين العامل في العيادة الشعبية والساكن في الزقاق الخلفي لبيت ابي تحسين صاحب النظارات الطبية ..لم يبق في المقهى غير ابي تحسين والمقاعد المصنوعة من جذوع الشجر ..فارغة ..حيث فر الجميع من هذا النحس الذي اصابهم ، انقلب كل شيء في دواخلهم ، اصبحوا يغتاضون من اصغر المواضيع حتى صاحب المقهى لم يعد يهتم برزقه ، واخذ يقضي معظم ايامه في زيارات الاضرحة المقدسة ن عله يبعد الشر عنه ن اخذ الجميع يعد ايامه ن ينتظر يوم رحيله ن واضحى ابو تحسين ملك الموت على الارض ، يمشي مرحا ، يفتش عمن يخبره بيومه الموعود ..في احد الايام تصدى اليه احدهم وقال له :
_ اخبرت ابني بما تقوم به ، وسوف يحاسبك اشد الحساب ان ...
ضحك ابو تحسين بملء شدقيه وقال:
_ ان تحدث انبك بشئ ..سوف اضيف اسمه الى قائمتكم التي احضرتها الى ملك الموت ...
رجعت مدينتي كسابق عهدها معلفا لخيول الملك ، ولم تعد الافواج المندفعة الى اعمالها محملة بامنيات يوم مشرق ..فقط ..ملك الموت الذي تلبس ابا تحسين ، يطوف في الازقة وحيدا يلفه الصــمت والســكون .....