أنمار رحمة الله - اللعنة..

لم يصدق الجالسُ في غرفته وحيداً،أن الوقت مرَّ من أمامه من دون أن يفعل شيئاً أو يحرك ساكناً. حين لم يتبقَ إلا ليلة وحيدة تفصل بينه وبين الموت، ذالك المخلوق الداكن المخيف، الذي تهابه الكائنات، وتكره لقاءه الأرواح. تساءل وهو يحك خدَه برفق عن شيئين يلحّان عليه،الشيء الأول موعد مهم يتكرر عليه كل ليلة نسي تماماً ملامحه،مع من..؟ وأين..؟ ولماذا..؟ والشيء الثاني نسيانه لاسم المرأة التي دخلت غرفته، ووضعت أمامه طبق طعامه البسيط،حاول مناداتها باسمها،ولكن لسانه تخاذل كما تخاذل من قبل عدة أشهر حين أراد أن ينادي على رجل مرَّ من أمام دكانه في السوق الكبير(أنا اعرفه جيداً ..إنه صديق قديم) هكذا تمتم ولما يئس من استحضار اسمه جلس متحيراً في سبب نسيانه،ثم عاد إلى حياته اليومية غير مكترث، مادامت الدنيا تعطيه كولد مدلل، وما دام الدكان ينثر على رأسه النقود بلا حساب أو مشقة، مع انه يعيش عيشة المليق مع كل الثروة الكبيرة المختفية في بواطنه وسره. ولكن تحيره زاد هذه المرة وصار مقلقاً لما نسي أي الورقتين النقديتين عليه أن يرجعها إلى متبضّع ريفي. وقف طويلاً ينظر إلى العملتين اللتين بدتا متشابهتين في نظره، مما دفعه لسؤال المتبضع: (ماذا اُرجِعُ لك..؟).
لم يزرْ طبيباً في حياته؛ مبرراً أن النقود لا يجب إحراقها في تنّور الأطباء، ولم يساعد فقيراً في يوم لاعتقاده أن الفقراء لهم ربٌّ يعطيهم. قليلُ الأكل لا يحب التبذير، من البيت إلى الدكان يروح ويرجع مشْياً حتى لو كان الجو ساخناً كالجمر أو بارداً كالثلج. الشيئان الوحيدان اللذان عكـّرا مزاجه/ أرهقاه وأتعباه، المٌ والتواءات يتربصان به كل حين، ونسيانه للحاجات والأسماء والذكريات التي عاشها، حين بدأ يتسلل الأخير إلى غرفة ذاكرته كاللص في الليل الدليم، ولم يدع له صغيرة من ذكرياته إلا وسرقها،تاركاً الكبيرات إلى موعد آخر ومناسبة أفضل. النهر الذي تمدد على شريطه الرملي الناعم سنيناً عديدة، نسي اسمه أيضاً، وحين أراد استذكاره في مجلس كبير، صمت..لأنه خشي ضحكات الأصحاب والجلّاس،حتى انه نسي اسم صديق له، سرقه النهر ذات صيف،حين كانوا صبية يسبحون،وعبثاً حاول استحضار اسمه/ لقبه/ أو حتى ملامحه التي بدأت تذوب من على جدار ذاكرته المتآكل، كما تذوب الأصباغ الرديئة، والمصيبة الأشد انه يذكر دفعة واحدة حين لا يريد التذكر وينسى حين يكون محتاجاً للذاكرة، فيظل يبحث عن التّذكار كما يبحث المدمن عن شيء يخرس صراخ إدمانه.
أخيراً اقتنع بوجوب الذهاب إلى الطبيب الذائع الصيت، التقط أفضل الملابس عنده وكأنه سيشارك في حفل زفاف، فرّشَ أسنانه الصفر، واقفل الباب خلفه متجهاً صوب الشارع المؤدي إلى عيادة الطبيب.بعد إنهاء الطبيب لفحوصاته اخبره أن المزيد ينتظره وستنتهي الفحوصات كاملة بعد أسبوع (دكتور...عندي سؤال آخر) هكذا نبس مخاطباً الطبيب كما يُخاطبُ المتسول المارّة، فرد عليه الطبيب(نعم ماهو...؟). فعاجله العجوز ذو الشعر الأشيب(يداهمني النسيان بشكل غريب ولا اعرف لماذا..؟!).
رفع الطبيب رأسه ناحية وجه المراجع النحيل، وطلب منه التوجه إلى طبيب آخر كتب اسمه على ورقة صغيرة ألقاها أمامه ببرود.
مرّ الأسبوع حاملاً كساعي البريد رسائل تنذر بالمفاجآت والأخبار، لم يصدقْ وهو يطالع الطبيبَ يقرأ عليه علّته كما يقرأ الحاكم حكمَ الإعدام على المتهم.(أنت مصاب بمرض خبيث... ومؤكد لنا علمياً وفاتك بعد شهر.. أو شهر وعدة أيام).
لم يكن له ولد يحمله من باب العيادة متكئاً على ذراعه، ولم يكن له صديق يواسيه في أعظم محنة تصيب الإنسان.لم يجد في تلك اللحظة غير أن الطبيب انتصب واقفا ً،وتقدم نحوه مطبطباً على كتفه النحيل المتعب، وواضعاً في كفه بعض العبارات المواسية كما توضع النقود في كف أي مستعطٍ رخيص. حاول الوقوف والانتصاب على قدميه الراعشتين، ناضل من اجل استجماع فتات شجاعته ووقاحةٍ ونزقٍ قديم. حاول ولكن عبثاً يحاول في مواجهة هذا الإعصار الذي عنوانه الحتف. خرج من العيادة كما يخرج اللاعب الخاسر من صالة القمار، متجهاً إلى منزله، فلفتت انتباهه اللافتة التي زار طبيبها عن علته الأخرى. الطبيب الذي ابلغه انه مصاب بـ (الزهايمر) وانه على وشك أن يفقد ذاكرته نصفها أو ربعها... وإذا كان ذو فال سيء، فأنه سيفقدها كلها. يالهذه النكبات التي تتوالى على الإنسان،هذا المخلوق اللدن الضعيف. فقدان للذاكرة ومرض فتّاك.. اي والله.. فال سيء..) قال جملته هذه معزّياً نفسه التي باتت مهتاجة ومتحيّرة.
الدكان المقفل شاهدٌ على انعدام العمل والاستمرار،والمنزل الصامت شاهد آخر على انتظار عاصفة ترعد بالقدر. نسي كم لديه من نقود، ونسي أسماء أهله وأقاربه، نسي اسم المدينة التي يسكنها منذ ثمانين عاماً، ونسي أين يقع الشارع الفلاني والسوق الفلاني والعطار الفلاني والحلاق الفلاني.
نسي أسماء الألوان وأسماء الطيور والحيوانات، نسي أسماء الخضروات وأسعارهن وطعمهن، نسي أسماء الرؤساء الذين حكموه منذ سنين، حين هتف بأسمائهم مراراً وصفق ولعلع خوفاً وطمعاً. نسي اسم زوجته... زوجته التي وضعت أمامه للتو طبق طعامه البسيط،وخرجت تندب حظها وقدرها حزينة ومتألمة.
نسي حتى اسمه، هذا الصديق الوفي الذي التصق به طوال فترة عمره،نسي تاريخه الطويل وذكرياته الماضية وألف حكاية وحادثة وقصة. نسي كل شيء إلا الموت...
الموت الزاحفُ نحوه كأفعى سوداء كبيرة، اقترب إليه ليبلعه غير آبه لكبره أو صغره ومكانته وعقله وجهله، فالبشر في عين الموت متساوون على طاولة الوليمة المقدسة. يلفت انتباهه الشباك المفتوح، وصورة الريح التي ترسمها الستارة الخفيفة المتحركة،وضوء خافت للقمر يدخل بلا استئذان كأي عصفور يملأه الفضول. الجو يميل إلى البرد، قشعريرته تثبت هذا. شفتاه ترتعشان/ يداه النحيلتان لا تقويان على إعانته في أن يرفع جثته التي تزن كيس طحين. هناك شيء يخطف على عينيه من بعيد، قترب منه على مهل،(من ..؟من هناك..؟) يخاطبه بهلع وذهول، الموت لا يتكلم، نه يسرق بحزم سَكيْن. رؤساء العصابات واللصوص والذئاب لا يتكلمون، لسيف الذي يذبح الشعراء والأزهار والربيع لا يتكلم.اللون الأسود الذي تتشح به النسوة والفاتحة والتراب لا يتكلم. اله من منجل كبير يحصد الرؤوس..!
ياله من سفر طويل تزدحم في محطّاته حقائبُ الأعمال الصغيرة والكبيرة..!
ذاكرة فارغة نظيفة ورجل نحيل شاحب وحيد، كلّ ما تبقى في تلك الغرفة القديمة الدبقة صيفاً، لعسيمةً شتاءً ثوان وينتهي آخر مشهد في مسرحية استمرت ثمانين عاماً، وان وينقض الوحش على فريسته معربداً مستلذا بها وبدمها السائل الدافق.
حدّق بشغف وهو ينظر إلى الساعة وقد تعرف على الوقت، نها الساعة (....) لقد حان وقت موعده المتكرر حين يخرج إلى المقهى ليلاقي صديقه(....) ويلعبان الطاولي،في شارع (.....)،الجو بارد فنحن في شهر (.....)، عليه أن يلبس معطفه الذي أتى به من دولة (.....) في أخر سفرة له.
نده على زوجته: فلانة...فلانة..) دخلت عليه زوجته مدهوشة فاستعجلها هاتفاً، (أحضري المعطف)، ركت الغرفة وخرجت تصفق بيديها عجباً. هض على مهل وارتدى معطفه الذي أتت به الزوجة بعد برهة وخرج يضرب الأرض بقدمه، اسياً وراءه ضيفاً ثقيلاً، ان من المتفق أن يغادر معه قبل دقائق معدودة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...