بسرعة البرق انتشر الخبر في أجواء القرية .. الرجال أخذوا بعضهم البعض بالأحضان ووزعوا أكواب الشربات .. ملأوا جيوب الصغار بالحلوي وداروا في شوارع القرية يهللون ويرقصون ...
النساء أطلقن الزغاريد حتي بحت أصواتهن .. رقصن بفرح طاغ كما لو كانت ليلة العمر .. من كانت تلبس السواد علي عزيز عليها ، خلعته وارتدت أزهي أثوابها كيوم العيد .. ارتفعت أصوات التهاني :
- مبروك يا رجالة .. والله صبرنا ونلنا يا ولاد .. خمسة وعشرين سنة يا هوه واحنا بنحلم باليوم ده …
أسراب العصافير تجمعت فوق أشجار الصفصاف المتمايلة طربا ، وغردت مساء .. والله العظيم غردت مساء كما لم تغرد من قبل .. حمام القرية كله غادر أبراجه العالية محلقا في سماء القرية ، مكونا تشكيلات فنية رائعة …
الولد ( سليم ) صاحب الخبر ، حملوه علي الأعناق وداروا به في القرية .. فجأة ألقي أحدهم القنبلة : أنا قلبي بياكلني يا رجالة .. خايف يكون الواد ( سليم ) ضحك علينا .
( سليم ) أبو الأخبار- لم يأتهم يوما بخبر كاذب ، بل إنه يعرف الخبر قبل الحدث نفسه .. ما إن بدأ الشك ينهش قلوبهم حتي اتضحت الرؤية بعد أذان العشاء .
أتاهم صوت الشيخ ( مطاوع ) الذي طالما بغضوه ، كصوت العندليب هذه المرة في ميكروفون المسجد :
- أهالي البلد الكرام .. انتقل إلي رحمة الله تعالي مساء اليوم حضرة جناب العمدة الحاج ( طاهر أبو العز ) وسيتم تشييع الجنازة المهيبة غدا عقب صلاة الظهر ، ويهيب بكم ابنكم البار ( سعيد طاهر أبو العز ) أن تظهر القرية بصورة مشرفة أمام السادة المسئولين ورجال الإعلام والبقاء والدوام لله .
انطلقت الزغاريد من جديد ، كأنهم يسمعون الخبر لأول مرة .. الفقيد أفضاله علي الجميع .. نصف أراضي القرية استولي عليها غصبا .. عشرات الرجال الذين وقفوا في وجهه أدخلهم السجن بتهم ملفقة ، وآخرون أراحهم من الدنيا فاستقرت أجسادهم المهترئة من التعذيب في قاع البحر .. حتي النساء لم يسلمن من أذاه ، فكانت له معهن صولات وجولات .
قيل إن في حديقة قصره سراديب تحت الأرض يعذب فيها أعداءه وإن ثروته تملأ خزائن عدة بنوك داخل الدولة وخارجها .. في أيامه الأخيرة كان نجمه في تصاعد مستمر فأصبح مقربا من السلطات العليا وتصدرت أخباره كثيرا من الصحف القومية ونشرات الأخبار .
> > >
الاستعدادات كانت علي أكمل وجه .. الصوان الكبير والمقرئ الأشهر وكاميرات الفيديو ، والبرقيات أرسلت لكبار رجال الدولة .. في شرفة القصر المنيف وقف ( سعيد ) بجسده الضخم يصرخ في الخفراء بلا داع بصوت خلا تماما من الحزن ..
الخفراء يتحركون بسرعة وآلية وقلوبهم تنضح غيظا لأنهم الوحيدون المحرومون من إظهار فرحتهم ، فرددت قلوبهم بحرارة :
- الله يجحمه مطرح ما راح .
القرية لم تنم من شدة الفرح حتي الفجر .. في الصباح لم يذهب أحد إلي عمله .. فقط مكثوا يحلمون بالعهد الجديد..
لم يعرف أبو الأخبار كيف أتته الفكرة الجهنمية .. رحب الجميع بفكرته وضحكوا حتي استلقوا أرضا وهم يتخيلون المنظر ..
> > >
قبيل الظهر خرج الجثمان من قصر العمدة في تابوت فاخر ملفوف بعلم مصر ، فوق عربة تجرها الخيول المطهمة ويحرسها حشد من الخفراء في أبهي ملابسهم وكامل أسلحتهم .. استقبلهم الشيخ ( مطاوع ) علي باب المسجد .. وضعوا التابوت بجوار المنبر وجلسوا ..
الخفراء والشيخ ( مطاوع ) و( سعيد) ..
أذن الشيخ لصلاة الظهر وحان موعد الإقامة ولم يقرب أحد المسجد .. انتظروا ثم انتظروا .. حتي أوشك العصر أن يدخل .. أمر ( سعيد ) الخفراء باستطلاع الأمر .. وجدوا الناس متجمهرين علي القهاوي أمام التليفزيون يضحكون ويصخبون .. صرخ فيهم كبير الخفراء :
- جري إيه يا بلد ناقصة ؟!.. مش هتصلوا ع الراجل ؟
هبّ الجميع لافتراسه :
- لا يا سيدي .. مالناش مزاج .. عندك مانع ؟
- أنا قصدي يا رجالة مش هتصلوا الظهر ؟
- لا يا كلب سيدك .. يعني هو البعيد كان ركعها طول حياته بذمتك ؟
أرغي ( سعيد ) وأزبد وأوسع خفراءه ضربا وسبا ، أرسلهم مرات ومرات لأهالي البلد ، يعدون مرة ويهددون مرات .. والإجابة واحدة : - امش يا ابن الكلب قول لسيدك أعلي ما في خيل أبوه يركبه .
الغريب أن الخفراء كلما ذهبوا ، عادوا وقد نقصوا واحدا .. لم يبق منهم سوي كبيرهم الذي عرف أن سيده الجديد لن يسكت أبدا .. مضت الساعات والثلاثة داخل المسجد حول التابوت .. ( سعيد ) يفكر كيف ينقذ الموقف وماذا سيفعل بالملاعين أولاد الكلب ، و( مطاوع ) يعيد حساباته من جديد مفكرا في الكفة الراجحة ، وكبير الخفراء يرتجف رعبا من منظر سيده الجديد ويلعن سيده القديم :
- الله يلعنك .. مقرف حتي وأنت ميت .
فجأة صرخ ( سعيد ) في الشيخ (مطاوع ) أن يتبعه إلي القصر ..
> > >
أبو الأخبار جاء متخفيا إلي المسجد يشمشم عن أية أخبار ، فوجد التابوت في حراسة كبير الخفراء .. يا الله .. لم يمكث المرحوم في المسجد من قبل أكثر من خمس دقائق في الأعياد والمناسبات الرسمية ، والآن يقضي كل هذه الساعات في المسجد منتظرا دفنه !! .. عاد أبو الأخبار وقال لهم إن ابن المرحوم جنّ وترك جثة أبيه في المسجد ومضي ..
> > >
في الصباح الباكر استفاق الناس علي انقطاع الإرسال التليفزيوني فجأة والكثير من المارشات العسكرية والقرآن .. فغروا أفواههم وهم يتابعون المذيعة المتشحة بالسواد :
- حضرات السادة المشاهدين ..
ننتقل الآن إلي إذاعة خارجية علي الهواء مباشرة لإذاعة مراسم تشييع جنازة المغفور له ( طاهر أبو العز ) من قريته النموذجية الحزينة .
تابع أهل القرية مشهد الجنازة المهيبة بعيون غادرت محاجرها ورأوا الجثمان يغادر مسجدهم ويسير في شوارع قريتهم .. أي والله نفس المسجد وذات الشوارع !! ..
حوله مئات من المشيعين المتأنقين ومئات من قوات الأمن وسيارات المرسيدس السوداء ، يتقدمهم ( سعيد ) بوجهه المنفطر حزنا وخلفه كبير الخفراء والشيخ
( مطاوع ) شامخين برأسيهما .. تابعت المذيعة :
- وقد أعلنت سلطات عليا في البلاد تولي السيد ( سعيد ) ابن الفقيد مهام العمودية ابتداءً من اليوم ، كما صرح السيد ( سعيد ) أنه مستعد تماما رغم حزنه المروع لمباشرة مهام منصبه ، شاكرا أهالي قريته المخلصين الذين شيعوا الفقيد بكل هذا الحب والعرفان ، واعدا إياهم برد الجميل في أسرع وقت بإذن الله .
> > >
بالكاد جرّ الناس أنفسهم إلي دورهم ليرتمي كل منهم علي فراشه لائذا بالغطاء حتي رأسه رغم الطقس الملتهب .. انطفأت الأنوار تماما وأغلقت النوافذ .. انخرست الألسنة فلم ينبس أحد بحرف ..
فقط صفرت الريح كثيرا جدا وكان صوتها كالعواء .. ماتت أشجار الصفصاف واقفة وفوقها كانت العصافير مبتلة مرتجفة تتمني ألا يطلع النهار .
النساء أطلقن الزغاريد حتي بحت أصواتهن .. رقصن بفرح طاغ كما لو كانت ليلة العمر .. من كانت تلبس السواد علي عزيز عليها ، خلعته وارتدت أزهي أثوابها كيوم العيد .. ارتفعت أصوات التهاني :
- مبروك يا رجالة .. والله صبرنا ونلنا يا ولاد .. خمسة وعشرين سنة يا هوه واحنا بنحلم باليوم ده …
أسراب العصافير تجمعت فوق أشجار الصفصاف المتمايلة طربا ، وغردت مساء .. والله العظيم غردت مساء كما لم تغرد من قبل .. حمام القرية كله غادر أبراجه العالية محلقا في سماء القرية ، مكونا تشكيلات فنية رائعة …
الولد ( سليم ) صاحب الخبر ، حملوه علي الأعناق وداروا به في القرية .. فجأة ألقي أحدهم القنبلة : أنا قلبي بياكلني يا رجالة .. خايف يكون الواد ( سليم ) ضحك علينا .
( سليم ) أبو الأخبار- لم يأتهم يوما بخبر كاذب ، بل إنه يعرف الخبر قبل الحدث نفسه .. ما إن بدأ الشك ينهش قلوبهم حتي اتضحت الرؤية بعد أذان العشاء .
أتاهم صوت الشيخ ( مطاوع ) الذي طالما بغضوه ، كصوت العندليب هذه المرة في ميكروفون المسجد :
- أهالي البلد الكرام .. انتقل إلي رحمة الله تعالي مساء اليوم حضرة جناب العمدة الحاج ( طاهر أبو العز ) وسيتم تشييع الجنازة المهيبة غدا عقب صلاة الظهر ، ويهيب بكم ابنكم البار ( سعيد طاهر أبو العز ) أن تظهر القرية بصورة مشرفة أمام السادة المسئولين ورجال الإعلام والبقاء والدوام لله .
انطلقت الزغاريد من جديد ، كأنهم يسمعون الخبر لأول مرة .. الفقيد أفضاله علي الجميع .. نصف أراضي القرية استولي عليها غصبا .. عشرات الرجال الذين وقفوا في وجهه أدخلهم السجن بتهم ملفقة ، وآخرون أراحهم من الدنيا فاستقرت أجسادهم المهترئة من التعذيب في قاع البحر .. حتي النساء لم يسلمن من أذاه ، فكانت له معهن صولات وجولات .
قيل إن في حديقة قصره سراديب تحت الأرض يعذب فيها أعداءه وإن ثروته تملأ خزائن عدة بنوك داخل الدولة وخارجها .. في أيامه الأخيرة كان نجمه في تصاعد مستمر فأصبح مقربا من السلطات العليا وتصدرت أخباره كثيرا من الصحف القومية ونشرات الأخبار .
> > >
الاستعدادات كانت علي أكمل وجه .. الصوان الكبير والمقرئ الأشهر وكاميرات الفيديو ، والبرقيات أرسلت لكبار رجال الدولة .. في شرفة القصر المنيف وقف ( سعيد ) بجسده الضخم يصرخ في الخفراء بلا داع بصوت خلا تماما من الحزن ..
الخفراء يتحركون بسرعة وآلية وقلوبهم تنضح غيظا لأنهم الوحيدون المحرومون من إظهار فرحتهم ، فرددت قلوبهم بحرارة :
- الله يجحمه مطرح ما راح .
القرية لم تنم من شدة الفرح حتي الفجر .. في الصباح لم يذهب أحد إلي عمله .. فقط مكثوا يحلمون بالعهد الجديد..
لم يعرف أبو الأخبار كيف أتته الفكرة الجهنمية .. رحب الجميع بفكرته وضحكوا حتي استلقوا أرضا وهم يتخيلون المنظر ..
> > >
قبيل الظهر خرج الجثمان من قصر العمدة في تابوت فاخر ملفوف بعلم مصر ، فوق عربة تجرها الخيول المطهمة ويحرسها حشد من الخفراء في أبهي ملابسهم وكامل أسلحتهم .. استقبلهم الشيخ ( مطاوع ) علي باب المسجد .. وضعوا التابوت بجوار المنبر وجلسوا ..
الخفراء والشيخ ( مطاوع ) و( سعيد) ..
أذن الشيخ لصلاة الظهر وحان موعد الإقامة ولم يقرب أحد المسجد .. انتظروا ثم انتظروا .. حتي أوشك العصر أن يدخل .. أمر ( سعيد ) الخفراء باستطلاع الأمر .. وجدوا الناس متجمهرين علي القهاوي أمام التليفزيون يضحكون ويصخبون .. صرخ فيهم كبير الخفراء :
- جري إيه يا بلد ناقصة ؟!.. مش هتصلوا ع الراجل ؟
هبّ الجميع لافتراسه :
- لا يا سيدي .. مالناش مزاج .. عندك مانع ؟
- أنا قصدي يا رجالة مش هتصلوا الظهر ؟
- لا يا كلب سيدك .. يعني هو البعيد كان ركعها طول حياته بذمتك ؟
أرغي ( سعيد ) وأزبد وأوسع خفراءه ضربا وسبا ، أرسلهم مرات ومرات لأهالي البلد ، يعدون مرة ويهددون مرات .. والإجابة واحدة : - امش يا ابن الكلب قول لسيدك أعلي ما في خيل أبوه يركبه .
الغريب أن الخفراء كلما ذهبوا ، عادوا وقد نقصوا واحدا .. لم يبق منهم سوي كبيرهم الذي عرف أن سيده الجديد لن يسكت أبدا .. مضت الساعات والثلاثة داخل المسجد حول التابوت .. ( سعيد ) يفكر كيف ينقذ الموقف وماذا سيفعل بالملاعين أولاد الكلب ، و( مطاوع ) يعيد حساباته من جديد مفكرا في الكفة الراجحة ، وكبير الخفراء يرتجف رعبا من منظر سيده الجديد ويلعن سيده القديم :
- الله يلعنك .. مقرف حتي وأنت ميت .
فجأة صرخ ( سعيد ) في الشيخ (مطاوع ) أن يتبعه إلي القصر ..
> > >
أبو الأخبار جاء متخفيا إلي المسجد يشمشم عن أية أخبار ، فوجد التابوت في حراسة كبير الخفراء .. يا الله .. لم يمكث المرحوم في المسجد من قبل أكثر من خمس دقائق في الأعياد والمناسبات الرسمية ، والآن يقضي كل هذه الساعات في المسجد منتظرا دفنه !! .. عاد أبو الأخبار وقال لهم إن ابن المرحوم جنّ وترك جثة أبيه في المسجد ومضي ..
> > >
في الصباح الباكر استفاق الناس علي انقطاع الإرسال التليفزيوني فجأة والكثير من المارشات العسكرية والقرآن .. فغروا أفواههم وهم يتابعون المذيعة المتشحة بالسواد :
- حضرات السادة المشاهدين ..
ننتقل الآن إلي إذاعة خارجية علي الهواء مباشرة لإذاعة مراسم تشييع جنازة المغفور له ( طاهر أبو العز ) من قريته النموذجية الحزينة .
تابع أهل القرية مشهد الجنازة المهيبة بعيون غادرت محاجرها ورأوا الجثمان يغادر مسجدهم ويسير في شوارع قريتهم .. أي والله نفس المسجد وذات الشوارع !! ..
حوله مئات من المشيعين المتأنقين ومئات من قوات الأمن وسيارات المرسيدس السوداء ، يتقدمهم ( سعيد ) بوجهه المنفطر حزنا وخلفه كبير الخفراء والشيخ
( مطاوع ) شامخين برأسيهما .. تابعت المذيعة :
- وقد أعلنت سلطات عليا في البلاد تولي السيد ( سعيد ) ابن الفقيد مهام العمودية ابتداءً من اليوم ، كما صرح السيد ( سعيد ) أنه مستعد تماما رغم حزنه المروع لمباشرة مهام منصبه ، شاكرا أهالي قريته المخلصين الذين شيعوا الفقيد بكل هذا الحب والعرفان ، واعدا إياهم برد الجميل في أسرع وقت بإذن الله .
> > >
بالكاد جرّ الناس أنفسهم إلي دورهم ليرتمي كل منهم علي فراشه لائذا بالغطاء حتي رأسه رغم الطقس الملتهب .. انطفأت الأنوار تماما وأغلقت النوافذ .. انخرست الألسنة فلم ينبس أحد بحرف ..
فقط صفرت الريح كثيرا جدا وكان صوتها كالعواء .. ماتت أشجار الصفصاف واقفة وفوقها كانت العصافير مبتلة مرتجفة تتمني ألا يطلع النهار .