انتصف الليل، وأصبح أكثر عتمة وبرودة، النجوم فى أوج تلألئها الشوارع فارغة إلا من بعض الحيوانات الليلية، وفتاة واحدة تسير.
دخلت الفتاة إلى المقهى المجاور لمقابر عائلتها، وجلست فى مكانها المعتاد، بجانب زجاج الشرفة المغلق و المتسخ بعض الشىء، وكما تفعل دائماً، فردت أوراقها على المنضدة، وأخرجت من حقيبتها بعض الشموع وعلبة كبريت، حيث تعودت انقطاع التيار الكهربى فى كل زيارة لها، لم تشعر بالخوف يوماً أو بالحنين كما الآن!.
بدأت تشعر بخطأ زيارتها فى ذلك الوقت المتأخر، خاصةً وأن المقهى فارغ حتى من العمال، و لكنها -كما تعودت- تأتى وتجد آلة القهوة مجهزة ومملؤة بالماء والمسحوق البنى وما عليها سوى "صبّها".
****
جلست وبدأت فى كتابة خطاباتها، وكانت رسالتها تلك الليلة لجدتها التى رحلت منذ أسبوعين.
"إلى الغائبة التى تركت بدلاً من صوتها، سكون، ومن حضورها فراغ، وبدلاً من ضوء حنانها، عتمة مثل عتمة الليل فى برد الشتاء القارس ووحدته.
سلامٌ عليكِ وعلى من يؤنس وحدتك فى أرضك الأبدية تحت التراب المرشوش فوق جسدك الطاهر.. إليكِ ستي".
***
"ستى يا ستى اشتقتلك يا ستى، علّى صوتك صوتك بعيد.. جايى من الكرم جايى من التفاح..صوتك حامل شمس وفيى لون التين والزيتون..ايـــــــــــــــــــــه ..وريحة الطيّون يا ستي.
***
بدأ صوت فيروز يتردد فى الفضاء الواسع ، تاركاً مساحة فارغة فى ذهنها لتملأها سريعاً بصور ذكريات الطفولة السعيدة، فشردت وتذكرت جدتها وملامح بشرتها البيضاء، قصر قامتها وامتلائها.
تذكرت أيضاً ماكينة الخياطة التى لم تفارق بيت جدتها والتى طالما صنعت لها ولإخوتها فساتين ملونة فى طفولتهم، وعاصرت كل حدث مهم فى حياتهم، فمرة تكافئهم مريلات بنية اللون لارتدائها فى أول عام لهم بالمدرسة، أو قبعات من الصوف تقيهم برد الشتاء، وكثيراً من الجوارب ذات الورود الحمراء والتى كانت تُحيّكها الجدة لجميع أطفال الحى.
عند تذكرها تلك التفاصيل امتلأت عينيها بالدموع وبدأت فى التساقط تباعاً، وأكملت الموسيقى المشهد بجملة "بذكر الليالى الطويلة وأنا طفلة بالزمان.. وقصص الشتا يحكى لى صوتك اللى كله أمان..إيـــــه يا ستى".
ومثل تذكر فيروز، تذكرت هى تفاصيل أكثر عن جدتها، فأكملت كتابة رسالتها "مازلت أسمع همهمات صوتِك الرقيق وأنتِ تحكى لى الكثير من القصص كى أستطيع النوم بلا خوف، أتذكر أيام الجمعة، والتى كانت العائلة تتحلق فيها حولك، يتحدث الكبار عن كل ما يتعلق بالحياة والأمل، وننطلق نحن الصغار، إلى سطح البيت للعب والجرى، لنجد بعد إرهاقنا، أطباق كبيرة من المعكرونة الشهية فى انتظارنا، تعويضاً عما فقدناه من طاقة فى مشاكستنا، وقولك المعتاد "انتهوا من طعامكم كى نذهب لإطعام الطيور"، أتعلمين؟ كنا نعتبر تلك الجملة بمثابة مكافآة أخرى لنا من مكافآتك يا ستى".
****
انتهت الأغنية، وجاءت أغنية أخرى لفيروز تقول:
يا ستّى.. يا ستّى ويا ستّى
غاب القمر جيتى إنتِ
غاب القمر ونجومو
وضوّيتى علينا إنتِ
***
كانت الأشجار خضراء، والطيور تملأ البيت ضجيج، والأطفال يركضون إلى ذلك المبنى الذى تسكنه جدة تشبه الجنيات الطيبات.. وكان القمر مازال بدراً ينير سطح البناية مُبشراً بمواسم الحب والأمل الطويلة، ولكن تغير الحال الآن، لم تعد هناك طيوراً وسقطت أوراق الأشجار ، الأطفال أصبحوا رجالاً أقوياء، وغاب القمر.. غاب القمر عن سماء ذلك البيت وغابت الجدة أيضا"ً.
****
لم تستطع الفتاة استكمال رسالتها أو التذكر أكثر من ذلك، حيث قطع النور فجأة، وغاب فترة من الوقت.. لم تشعل هى الشمع التى أحضرته معها فقد أصرت تلك الليلة على أن تتماسك.
عاد النور فجأة مثلما أنطفأ، ومثلما توقعت الفتاة، لم تجد الرسالة التى كتبتها لجدتها المتوفاة حديثاً، فذلك ما حدث بالضبط مع رسائلها لأمها، وتكرر نفس الشىء الآن مع "ستّها"، وتذكرت حينها جملة تركتها لها والدتها فى ورقة قبل موتها "إذا شعرتى بالحنين إلى، تعالى إلى قبرى، اكتبى لى مشاعرك فى ورقةٍ بيضاء ناصعة، سوف آتى إليكِ يا حبيبتى مسرعة، سينطفىء النور وسأنير أنا برسالتك، سأحتضنك وأرحل.
وكأن جدتها أتت، تشعر بأنفاسها الهادئة، تشعر بذراعيها يضمانها، تأخذ رسالتها وتختفى.
دخلت الفتاة إلى المقهى المجاور لمقابر عائلتها، وجلست فى مكانها المعتاد، بجانب زجاج الشرفة المغلق و المتسخ بعض الشىء، وكما تفعل دائماً، فردت أوراقها على المنضدة، وأخرجت من حقيبتها بعض الشموع وعلبة كبريت، حيث تعودت انقطاع التيار الكهربى فى كل زيارة لها، لم تشعر بالخوف يوماً أو بالحنين كما الآن!.
بدأت تشعر بخطأ زيارتها فى ذلك الوقت المتأخر، خاصةً وأن المقهى فارغ حتى من العمال، و لكنها -كما تعودت- تأتى وتجد آلة القهوة مجهزة ومملؤة بالماء والمسحوق البنى وما عليها سوى "صبّها".
****
جلست وبدأت فى كتابة خطاباتها، وكانت رسالتها تلك الليلة لجدتها التى رحلت منذ أسبوعين.
"إلى الغائبة التى تركت بدلاً من صوتها، سكون، ومن حضورها فراغ، وبدلاً من ضوء حنانها، عتمة مثل عتمة الليل فى برد الشتاء القارس ووحدته.
سلامٌ عليكِ وعلى من يؤنس وحدتك فى أرضك الأبدية تحت التراب المرشوش فوق جسدك الطاهر.. إليكِ ستي".
***
"ستى يا ستى اشتقتلك يا ستى، علّى صوتك صوتك بعيد.. جايى من الكرم جايى من التفاح..صوتك حامل شمس وفيى لون التين والزيتون..ايـــــــــــــــــــــه ..وريحة الطيّون يا ستي.
***
بدأ صوت فيروز يتردد فى الفضاء الواسع ، تاركاً مساحة فارغة فى ذهنها لتملأها سريعاً بصور ذكريات الطفولة السعيدة، فشردت وتذكرت جدتها وملامح بشرتها البيضاء، قصر قامتها وامتلائها.
تذكرت أيضاً ماكينة الخياطة التى لم تفارق بيت جدتها والتى طالما صنعت لها ولإخوتها فساتين ملونة فى طفولتهم، وعاصرت كل حدث مهم فى حياتهم، فمرة تكافئهم مريلات بنية اللون لارتدائها فى أول عام لهم بالمدرسة، أو قبعات من الصوف تقيهم برد الشتاء، وكثيراً من الجوارب ذات الورود الحمراء والتى كانت تُحيّكها الجدة لجميع أطفال الحى.
عند تذكرها تلك التفاصيل امتلأت عينيها بالدموع وبدأت فى التساقط تباعاً، وأكملت الموسيقى المشهد بجملة "بذكر الليالى الطويلة وأنا طفلة بالزمان.. وقصص الشتا يحكى لى صوتك اللى كله أمان..إيـــــه يا ستى".
ومثل تذكر فيروز، تذكرت هى تفاصيل أكثر عن جدتها، فأكملت كتابة رسالتها "مازلت أسمع همهمات صوتِك الرقيق وأنتِ تحكى لى الكثير من القصص كى أستطيع النوم بلا خوف، أتذكر أيام الجمعة، والتى كانت العائلة تتحلق فيها حولك، يتحدث الكبار عن كل ما يتعلق بالحياة والأمل، وننطلق نحن الصغار، إلى سطح البيت للعب والجرى، لنجد بعد إرهاقنا، أطباق كبيرة من المعكرونة الشهية فى انتظارنا، تعويضاً عما فقدناه من طاقة فى مشاكستنا، وقولك المعتاد "انتهوا من طعامكم كى نذهب لإطعام الطيور"، أتعلمين؟ كنا نعتبر تلك الجملة بمثابة مكافآة أخرى لنا من مكافآتك يا ستى".
****
انتهت الأغنية، وجاءت أغنية أخرى لفيروز تقول:
يا ستّى.. يا ستّى ويا ستّى
غاب القمر جيتى إنتِ
غاب القمر ونجومو
وضوّيتى علينا إنتِ
***
كانت الأشجار خضراء، والطيور تملأ البيت ضجيج، والأطفال يركضون إلى ذلك المبنى الذى تسكنه جدة تشبه الجنيات الطيبات.. وكان القمر مازال بدراً ينير سطح البناية مُبشراً بمواسم الحب والأمل الطويلة، ولكن تغير الحال الآن، لم تعد هناك طيوراً وسقطت أوراق الأشجار ، الأطفال أصبحوا رجالاً أقوياء، وغاب القمر.. غاب القمر عن سماء ذلك البيت وغابت الجدة أيضا"ً.
****
لم تستطع الفتاة استكمال رسالتها أو التذكر أكثر من ذلك، حيث قطع النور فجأة، وغاب فترة من الوقت.. لم تشعل هى الشمع التى أحضرته معها فقد أصرت تلك الليلة على أن تتماسك.
عاد النور فجأة مثلما أنطفأ، ومثلما توقعت الفتاة، لم تجد الرسالة التى كتبتها لجدتها المتوفاة حديثاً، فذلك ما حدث بالضبط مع رسائلها لأمها، وتكرر نفس الشىء الآن مع "ستّها"، وتذكرت حينها جملة تركتها لها والدتها فى ورقة قبل موتها "إذا شعرتى بالحنين إلى، تعالى إلى قبرى، اكتبى لى مشاعرك فى ورقةٍ بيضاء ناصعة، سوف آتى إليكِ يا حبيبتى مسرعة، سينطفىء النور وسأنير أنا برسالتك، سأحتضنك وأرحل.
وكأن جدتها أتت، تشعر بأنفاسها الهادئة، تشعر بذراعيها يضمانها، تأخذ رسالتها وتختفى.