"أنا عايزة أتطلق"..
على مائدة الغذاء، قالتها وهى تنظر إليه بعين لا ترجف من خلف سحابات شعرها الطويل. لم تواجهه عيناها ولكنه شعر ببرودها يتسرب إلى طبق الشوربة أمامه فتتجعد مكعبات البطاطس داخله كما تتكرمش حبيبات الأرز.
يريح رأسه على مسند المقعد بينما هى تقود السيارة ضاغطة على شفتيها لئلا تفلت منها الصرخات المعتادة.
ينظر من خلال النافذة إلى جانبه، على الرصيف الموازى للطريق يسير فتى فى ملابس عصرية أنيقة، يتحدث فى التليفون ويضحك بصوتٍ عال. لوهلة ظنه تامر، كاد يفتح زجاج النافذة وينادى عليه، هم فعلاً بضغط زر إنزال الزجاج.
"أنت كمان شفته؟"
نظر لها مرتاعاً. سالت دموعها على وجنتيها الصخريتين مع تدلى شلالات المخاط من فتحتى أنفها الصغيرين.
"عرفت ليه بقولك لازم نسيب بعض!"
***
فى جوف الليل، وعلى أنغام صوت أم كلثوم الحزين المتأوه، يتذكر كل ماحدث. هى لم تستمع بعد الحادث إلا لإذاعة القرآن الكريم.
"ولما ابننا يتألم بسببك أنت والأغانى بتاعتك؟"
"ابننا مش هيتعذب يا عايدة، ابننا فى الجنة."
تمر أمامه الأحداث فى شريط سريع ومتلاحق، يحمل قدراً من الإثارة والتشويق أفضل من أى فيلم أكشن قد صمم إعلانه التجارى من قبل. مصمم إعلانات تجارية دعائية للأفلام هو. قد يكون الأول فى مصر، وهو غالباً الأنجح. بعد موت تامر لم يقوَ على مواصلة عمله. سيطر عليه هاجس قهرى أنه كان يعد بروفة موت ابنه قبلها بكثير.
الليل
وحرقة الأهات فى عز الليل
وقسوة التنهيد
والوحده والتسهيد
ابتلع دمعة هربت من مقلته. لقد حاول أن يجعل من هذا الحادث سبيلاً لاقترابهما من بعضهما البعض. وكاد ينجح فى الليالى الأولى، عندما كانا ينامان معاً فى فراش تامر، يحتضنها بينما تحتضن هى الملاءة التى مازالت تحمل رائحته؛ أو دى كولون فخمة و رائحة الأرض المحروثة و دخان السجائر الخفيف. تنوح نواحاً قادماً من أحشائها ويتمزق آلاف المرات، لها ولتامر ولنفسه وللعالم. كان يعلم عن تامر مالا تعلمه هى، قصة حبه الخجول لساندى زميلته فى كورس الكمبيوتر، ولعه بإعلانات أبيه، وكراهيته للزحام وحفلات أمه الخيرية.
تذكر كيف كان تامر يفشل فى عقد رباط العنق مهما علمه، أخذته النوستالجيا إلى ليالى برائحة الشيشة والخبز المحمص والكولونيا المنعشة على شواطئ مارينا. سمع بأذنيه الضحكات العالية ورأى أمامه تامر يراقب ساندى بينما هى تميل على أخيها الأصغر متظاهرة بعدم ملاحظتها لنظراته. تذكر كيف كان يبتسم وقد غمره الدفء متخيلاً مظهرهما سوياً، تارة يراهما مغامرين فى صحراء كلهارى، وأحيان أخرى يشاهدهما وقد امتطيا ظهر حصان غير مروض وانطلقا إلى قرص الشمس الذى يلوح فى الأفق. يراهما وقد تخضبا باللون القرمزى فينتفض. تختفى ذكرياته الحالمة ويعود إلى ذهنه منظر تامر وقد غاص فى بحر دمائه الصقيلة. يتذكر كيف غاصت كفاه فى دماء ابنه وخرجتا لزجتين، مرتعشتين دونما توقف. لم يحاول حتى الاقتراب من جسد تامر إلا عندما كفنوه، يتذكر أنه عندما مزق الكفن طالعه وجه آخر غير وجه تامر الذى يعرفه، وجه شاحب ممصوص أسفل عينيه المسبلين هالات زرقاء وبنفسجية قبيحة، وحتى من أسفل الكتان الأبيض الذى يلتف حول الرقبة مازال القطع الهمجى واضحاً للعيان.
شعر بحركة وراءه فالتفت. شعرها مشعث ومنفوش حول وجهها المنتفخ. شفتاها داكنتان بسبب عضها لهما المستمر حتى أثناء النوم. فتح فمه لها محاولاً الكلام، شهق فجأة وبلا إنذار مال على الأرض وارتعش إذ انتابته نوبة حادة من البكاء. لم يشعر بشيء وهى تتلقفه بين ذراعيها كما كانت تفعل مع تامر فى طفولته، ولم يحتمى بها من خطر ذكرياته السوداء، شعر بأن الحاجز الذى شيدته هى قد نجح فى التفريق بينهما. وإذ التقط أنفاسه مابين الشهيق والزفير، قال لها بلسان متهدج "عندك حق يا عايدة، عندك حق. أنا مش طايق أعيش هنا. أحنا لازم نتطلق."
****
عندما قابلت عايدة هاشم، وقعت فى غرامه بسبب رائحته.
فى حياتها لم تشم رائحة طيبة مثل هذه. عطر الجسد الدسم كان فى هاشم مجرد طيف خفيف من الأولد سبايس والسجائر والطين المبتل. عندما تلقاها بين ذراعيه أول مرة بكت؛ ليست ارتعاشة حب، ولكن من جمال الرائحة. رجل طيب الأنفاس، عطر الجسد كهاشم لا بد وأن يكون رجلاً جميلاً، فكرت وقتها. وعندما تزوجا كانت تعاشره برقة من كانت تخاف لهذه الرائحة أن تختفى وتنفد.
أنجبت تامر، ومن اللحظة الأولى أدركت بأنها لن تنجب سواه. رغم إصرار هاشم إلا أنها صممت على قرارها. سيجعلا من هذا الولد كل حياتيهما، وسيحيطاه بالرعاية والحب الكاملين. وكبر تامر، وأعطته هى وهاشم كل ما لديهما من الحب والحنان الممزوجين بالحسم والانضباط. كولاج من لون العينين الفيروزى والرائحة الزكية والرومانسية كان تامر، وبموته لم يعد لأى من تلك الموجودات معنى.
تنظر إلى هاشم، وهو غارق فى دخان سجائره وأغانى أم كلثوم. تكاد تبكى غيظاً وقهراً. تعنفه وتذهب لتشغل القرآن بصوت عبد الباسط –كما كانت تفعل لتهدئة تامر فى صغره- فتتمازج آهات أم كلثوم بتجويد عبد الباسط فى سيمفونية عجيبة تتشكل حروفها الموسيقية لتكون اسم تامر.
****
جلسا متقاربين على منضدة الكافيتريا. هى بتايورها الأسود ونظارتها الجوتشى الفاخرة، وهو بخاتمه الذهبى اللامع ورباط عنقه نصف المعقود.
"بتاكل كويس؟"
"الحمد لله."
"تحب تيجى تتغدى عندي..."
نظر لوجه عايدة المتجهم، دقق فى ملامحها، لم يجد فيها أى لمحة من لمحات عايدة التى وقع فى غرامها زمان. ابتسم فى مرارة مثبتاً عينيه فى عينيها، تخيل أول مرة صارحها بالحب على شاطئ "بيانكي"، كانت يومها ترتدى مايوه تركواز وقد ازدانت حوافه بنقوش موف رائعة الجمال. كان لعينيها يومها بريق أخاذ، أشبه ببريق عينى تامر عندما صارحه برغبته فى دراسة الفن بدلاً من الاقتصاد، كما كان هو وعايدة يتمنيان.
"عارفة، كل أب وكل أم بيقولو إن ابنهم أخد أحسن مافيهم، بس دى حقيقة، تامر، أخد أحلى مافيكى وفيا."
خفضت رأسها وسالت دموعها من أسفل النظارة السوداء. سهم هو قليلاً ثم وقع نظره على كفيها. لم يثر مرآهما بلا خواتم فى نفسه أى أسى. لكنه شعر بالاختناق. امتدت أصابعه إلى رباط العنق، جذبه فى شدة فانفك، محرراً أزرار ياقة قميصه السكرى من الخيوط التى تكبلها للقماش. ألقى برباط العنق على الأرض ثم همس لعايدة وهو يحاول ألا ينظر فى اتجاه معين.
"أنا لازم أمشى، سلام يا عايدة."
هتفت، "أنا مسافرة لندن عند هالة!"
رفع عينيه. وقفت عايدة أمامه وقد اختفت نظراتها المتهمة وراء زجاج النظارة الداكن. أعطاها ظهره وسار بعيداً. فى أعماقه تمنى لو عاد أدراجه وجذبها فى عناق مبتل. لكنه خاف إن التفت أن يرى فى وجهها ما تبقى من تامر، أو ألا يرى سوى ما تبقى منه هو.
* القصة الفائزة بالمركز الأول فى مسابقة المواهب
على مائدة الغذاء، قالتها وهى تنظر إليه بعين لا ترجف من خلف سحابات شعرها الطويل. لم تواجهه عيناها ولكنه شعر ببرودها يتسرب إلى طبق الشوربة أمامه فتتجعد مكعبات البطاطس داخله كما تتكرمش حبيبات الأرز.
يريح رأسه على مسند المقعد بينما هى تقود السيارة ضاغطة على شفتيها لئلا تفلت منها الصرخات المعتادة.
ينظر من خلال النافذة إلى جانبه، على الرصيف الموازى للطريق يسير فتى فى ملابس عصرية أنيقة، يتحدث فى التليفون ويضحك بصوتٍ عال. لوهلة ظنه تامر، كاد يفتح زجاج النافذة وينادى عليه، هم فعلاً بضغط زر إنزال الزجاج.
"أنت كمان شفته؟"
نظر لها مرتاعاً. سالت دموعها على وجنتيها الصخريتين مع تدلى شلالات المخاط من فتحتى أنفها الصغيرين.
"عرفت ليه بقولك لازم نسيب بعض!"
***
فى جوف الليل، وعلى أنغام صوت أم كلثوم الحزين المتأوه، يتذكر كل ماحدث. هى لم تستمع بعد الحادث إلا لإذاعة القرآن الكريم.
"ولما ابننا يتألم بسببك أنت والأغانى بتاعتك؟"
"ابننا مش هيتعذب يا عايدة، ابننا فى الجنة."
تمر أمامه الأحداث فى شريط سريع ومتلاحق، يحمل قدراً من الإثارة والتشويق أفضل من أى فيلم أكشن قد صمم إعلانه التجارى من قبل. مصمم إعلانات تجارية دعائية للأفلام هو. قد يكون الأول فى مصر، وهو غالباً الأنجح. بعد موت تامر لم يقوَ على مواصلة عمله. سيطر عليه هاجس قهرى أنه كان يعد بروفة موت ابنه قبلها بكثير.
الليل
وحرقة الأهات فى عز الليل
وقسوة التنهيد
والوحده والتسهيد
ابتلع دمعة هربت من مقلته. لقد حاول أن يجعل من هذا الحادث سبيلاً لاقترابهما من بعضهما البعض. وكاد ينجح فى الليالى الأولى، عندما كانا ينامان معاً فى فراش تامر، يحتضنها بينما تحتضن هى الملاءة التى مازالت تحمل رائحته؛ أو دى كولون فخمة و رائحة الأرض المحروثة و دخان السجائر الخفيف. تنوح نواحاً قادماً من أحشائها ويتمزق آلاف المرات، لها ولتامر ولنفسه وللعالم. كان يعلم عن تامر مالا تعلمه هى، قصة حبه الخجول لساندى زميلته فى كورس الكمبيوتر، ولعه بإعلانات أبيه، وكراهيته للزحام وحفلات أمه الخيرية.
تذكر كيف كان تامر يفشل فى عقد رباط العنق مهما علمه، أخذته النوستالجيا إلى ليالى برائحة الشيشة والخبز المحمص والكولونيا المنعشة على شواطئ مارينا. سمع بأذنيه الضحكات العالية ورأى أمامه تامر يراقب ساندى بينما هى تميل على أخيها الأصغر متظاهرة بعدم ملاحظتها لنظراته. تذكر كيف كان يبتسم وقد غمره الدفء متخيلاً مظهرهما سوياً، تارة يراهما مغامرين فى صحراء كلهارى، وأحيان أخرى يشاهدهما وقد امتطيا ظهر حصان غير مروض وانطلقا إلى قرص الشمس الذى يلوح فى الأفق. يراهما وقد تخضبا باللون القرمزى فينتفض. تختفى ذكرياته الحالمة ويعود إلى ذهنه منظر تامر وقد غاص فى بحر دمائه الصقيلة. يتذكر كيف غاصت كفاه فى دماء ابنه وخرجتا لزجتين، مرتعشتين دونما توقف. لم يحاول حتى الاقتراب من جسد تامر إلا عندما كفنوه، يتذكر أنه عندما مزق الكفن طالعه وجه آخر غير وجه تامر الذى يعرفه، وجه شاحب ممصوص أسفل عينيه المسبلين هالات زرقاء وبنفسجية قبيحة، وحتى من أسفل الكتان الأبيض الذى يلتف حول الرقبة مازال القطع الهمجى واضحاً للعيان.
شعر بحركة وراءه فالتفت. شعرها مشعث ومنفوش حول وجهها المنتفخ. شفتاها داكنتان بسبب عضها لهما المستمر حتى أثناء النوم. فتح فمه لها محاولاً الكلام، شهق فجأة وبلا إنذار مال على الأرض وارتعش إذ انتابته نوبة حادة من البكاء. لم يشعر بشيء وهى تتلقفه بين ذراعيها كما كانت تفعل مع تامر فى طفولته، ولم يحتمى بها من خطر ذكرياته السوداء، شعر بأن الحاجز الذى شيدته هى قد نجح فى التفريق بينهما. وإذ التقط أنفاسه مابين الشهيق والزفير، قال لها بلسان متهدج "عندك حق يا عايدة، عندك حق. أنا مش طايق أعيش هنا. أحنا لازم نتطلق."
****
عندما قابلت عايدة هاشم، وقعت فى غرامه بسبب رائحته.
فى حياتها لم تشم رائحة طيبة مثل هذه. عطر الجسد الدسم كان فى هاشم مجرد طيف خفيف من الأولد سبايس والسجائر والطين المبتل. عندما تلقاها بين ذراعيه أول مرة بكت؛ ليست ارتعاشة حب، ولكن من جمال الرائحة. رجل طيب الأنفاس، عطر الجسد كهاشم لا بد وأن يكون رجلاً جميلاً، فكرت وقتها. وعندما تزوجا كانت تعاشره برقة من كانت تخاف لهذه الرائحة أن تختفى وتنفد.
أنجبت تامر، ومن اللحظة الأولى أدركت بأنها لن تنجب سواه. رغم إصرار هاشم إلا أنها صممت على قرارها. سيجعلا من هذا الولد كل حياتيهما، وسيحيطاه بالرعاية والحب الكاملين. وكبر تامر، وأعطته هى وهاشم كل ما لديهما من الحب والحنان الممزوجين بالحسم والانضباط. كولاج من لون العينين الفيروزى والرائحة الزكية والرومانسية كان تامر، وبموته لم يعد لأى من تلك الموجودات معنى.
تنظر إلى هاشم، وهو غارق فى دخان سجائره وأغانى أم كلثوم. تكاد تبكى غيظاً وقهراً. تعنفه وتذهب لتشغل القرآن بصوت عبد الباسط –كما كانت تفعل لتهدئة تامر فى صغره- فتتمازج آهات أم كلثوم بتجويد عبد الباسط فى سيمفونية عجيبة تتشكل حروفها الموسيقية لتكون اسم تامر.
****
جلسا متقاربين على منضدة الكافيتريا. هى بتايورها الأسود ونظارتها الجوتشى الفاخرة، وهو بخاتمه الذهبى اللامع ورباط عنقه نصف المعقود.
"بتاكل كويس؟"
"الحمد لله."
"تحب تيجى تتغدى عندي..."
نظر لوجه عايدة المتجهم، دقق فى ملامحها، لم يجد فيها أى لمحة من لمحات عايدة التى وقع فى غرامها زمان. ابتسم فى مرارة مثبتاً عينيه فى عينيها، تخيل أول مرة صارحها بالحب على شاطئ "بيانكي"، كانت يومها ترتدى مايوه تركواز وقد ازدانت حوافه بنقوش موف رائعة الجمال. كان لعينيها يومها بريق أخاذ، أشبه ببريق عينى تامر عندما صارحه برغبته فى دراسة الفن بدلاً من الاقتصاد، كما كان هو وعايدة يتمنيان.
"عارفة، كل أب وكل أم بيقولو إن ابنهم أخد أحسن مافيهم، بس دى حقيقة، تامر، أخد أحلى مافيكى وفيا."
خفضت رأسها وسالت دموعها من أسفل النظارة السوداء. سهم هو قليلاً ثم وقع نظره على كفيها. لم يثر مرآهما بلا خواتم فى نفسه أى أسى. لكنه شعر بالاختناق. امتدت أصابعه إلى رباط العنق، جذبه فى شدة فانفك، محرراً أزرار ياقة قميصه السكرى من الخيوط التى تكبلها للقماش. ألقى برباط العنق على الأرض ثم همس لعايدة وهو يحاول ألا ينظر فى اتجاه معين.
"أنا لازم أمشى، سلام يا عايدة."
هتفت، "أنا مسافرة لندن عند هالة!"
رفع عينيه. وقفت عايدة أمامه وقد اختفت نظراتها المتهمة وراء زجاج النظارة الداكن. أعطاها ظهره وسار بعيداً. فى أعماقه تمنى لو عاد أدراجه وجذبها فى عناق مبتل. لكنه خاف إن التفت أن يرى فى وجهها ما تبقى من تامر، أو ألا يرى سوى ما تبقى منه هو.
* القصة الفائزة بالمركز الأول فى مسابقة المواهب