البيت، غرفتان متقابلتان، بينهما وسط البيت ينسحب طويلا، لينتهي بزريبة البهائم، كان يشبه الصليب لمن يراه ويبدو وحيدا، تحيط به البيوت الخرسانية من كل جانب، بهت طلاء جدرانه بفعل الامطار التي اخالها تسقط عليه وحده، تأتي الغيمات سريعة متلاحقة، تتسابق كي تكون فوقة تماما، تنزل ماءها عليه.
أقول لزوجتي المطر خير، وأتساءل داخلي، هل تحب السماء هذا البيت؟!.
اشفق علي زوجتي وأولادي، كلما ساورني إحساس، أنه قد يسقط يوما ما ونحن نائمون، تلح علي ان استأجر شقة في البيت الخرساني المقابل، أوافق وأبقي حاجاتي الحميمة، حصيرة من البلاستيك، لمبة جاز ممتلئة دائما، وسادة محشوة بالقطن.
أحيانا، أصعد إلي سطحه وافترش الحصيرة، وأجلس ناقما علي هذه البيوت العالية التي احاطت به، فمنعتني رؤية ما حولي.
منذ فترة ليست بالبعيدة، وقعت في يدي خريطة للبلدة، وضعت سبابتي عليها ورحت أتحسس الخطوط والدوائر، تبينت موقعه، كان في وسط البلد تماما، كما يقولون... سرة البلد.
افتحه دائما واعتني به، هواؤه الرطب في الصيف، والدفء الذي يشعر به كل من يجلس فيه بالشتاء، عرفت لماذا يحب الانسان المساكن القريبة من الأرض، ولماذا أكره أنا الاماكن العالية والاسانسيرات.
وكلما انقطع النور، أهرول إليه، أوقد لمبة الجاز، أسحب الحصيرة البلاستيك وافترشها، اضع الوسادة تحت رأسي، افرد ذراعي، كل ذراع ناحية غرفة من غرفتيه، اشهق بكل قوة، اشم رائحة ابي وأمي.
كانوا يعرفون طقسي هذا فيأتين الواحدة تلو الاخري، سمر تنام علي ذراعي اليمني، سارة علي اليسري، فيما تدوس إسراء بقدميها الصغيرتين فوق اختيها، لتكبس علي صدري، فتتعالي ضحكاتهما، تماما مثلما كنت أفعل مع أبي، اختار صدره دائما لأنام عليه، متحاشيا لكزات اخوتي...
اقول لسمر:
هذه الغرفة التي عن يمينك، كانت للشتاء، بهذا الفرن. تحضر جدتك حزمتين من الحطب توقد فيهما النار، نتعارك علي من ينام فوق قبته الدافئة، وفي الصيف، ننام وسط البيت، أنا وجدك وأعمامك، أما عماتك وجدتك في غرفة الطحين.
وكان جدك يترك الباب مفتوحا، وفي يوم، مر علينا شيخ الخفراء ونحن نتكوم إلي جوار جدك، وكان هو يترجل في شوارع البلدة وعندما رآنا، وقف وقال ضاحكا... كان الله في عونك يابتنداوي.
لم يكن هناك نور، كنا نعيش علي هذه اللمبة التي ترينها الآن، كنت اسميها الملكة، تنظفها جدتك وتملؤها بالجاز، نذاكر عليها، نقضي حاجتنا بها ونلعب علي ضوئها الخارج من البيت.
كان الليل طويلا جدا، وكنت أحضر الراديو الصغير، مؤنسي الوحيد، استمع للسيرة الهلالية، وفي اليوم التالي، اجمع زملائي احكي لهم، مرة أكون »ابوزيد الهلالي« وأخري »الزناتي خليفة«..
تعرفين ياسمر، أول مرة أضيئت لمبة كهرباء في البلدة ونحن صغار ظللنا نهلل ونلعب حتي الصباح، هناك إلي جوار المحول القريب من طابونة »أبوطبل« بالكرة المصنوعة من شراب قديم محشو ببعض الشراميط وكلما انطفأت اللمبة، نصيح بصوت طفولي »إيد ياعم إيد واطفي بورسعيد«.
كان هو البيت الوحيد المفتوح بالشارع، كل من يطلب حاجة تكون في الاستطاعة، من تسأل عن كبريت، جاز، ملح، سكر، كيلة ذرة أو قمح حتي الحصاد، لم تكن جدتك ترد أحدا، جدتك ياسمر الذي كان أبوها، يعلق صرة طعام في فرع الشجرة التي تظلل علي بهائمه يتركها يوميا ممتلئة بالخبز والجبن والقشدة، لأبناء الليل وعابري السبيل، كانوا يقولون له، إترك بهائمك ياعم شرقاوي، سنحرسهم لك، لاتذهب بهم إلي البيت آخر النهار..
قالت لي جدتك.... تركهم مرات كثيرة.
وكانت إذا دخلت عليها واحدة تطلب شيئا ومعها طفل صغير وتكون جدتك تطبخ علي الكانون الذي اشرت لك عن مكانه، ترفع غطاء الحلة وتعطي الصغير ولو كانت تطبخ اللحم.
لن أنسي أبدا ياسمر، البائع الجوال وكان يحمل علي ظهره المحني لفافات من القماش يبيعها، وكان المطر غزيرا، لم يجد الا هذا البيت، دخل وأنزل حاجته، جاءت له جدتك بالطعام والشاي، أكل ودعا لها ولأهل البيت، ترك حاجته اسبوعا كاملا ثم عاد واخذها.
أحكي ولا أعرف ان كانت تفهم أم لا، لكني كلما نظرت إلي عينيها ترتطم دهشتها بعيني.
هي عادتي، عندما ينقطع النور، ينهار سد الحكايات، فتنطلق بلا ترتيب محلقة تحت سقف البيت، حمامات بيضاء للذكري، تبدد الخوف، وتؤصل الحنين.
يأتي النور فجاءة كعادتها، تقوم سمر من علي ذراعي، تجري إلي التليفزيون تفتش عن قناة الكرتون ثم تعود صائحة وهي تصفق بيديها، تنادي أختيها، ياسارة.. يإسراء... الأوط والفار... الأوط والفار...
تقومان من علي ذراعي وصدري، اضحك من تخبطهما اللين بالجدار، يتركوني وحدي، كالبيت، كلمبة الجاز التي كدت أقوم لأطبطب عليها، نائما علي ظهري وفاردا ذراعي كالمصلوب.
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 05 - 2010
أقول لزوجتي المطر خير، وأتساءل داخلي، هل تحب السماء هذا البيت؟!.
اشفق علي زوجتي وأولادي، كلما ساورني إحساس، أنه قد يسقط يوما ما ونحن نائمون، تلح علي ان استأجر شقة في البيت الخرساني المقابل، أوافق وأبقي حاجاتي الحميمة، حصيرة من البلاستيك، لمبة جاز ممتلئة دائما، وسادة محشوة بالقطن.
أحيانا، أصعد إلي سطحه وافترش الحصيرة، وأجلس ناقما علي هذه البيوت العالية التي احاطت به، فمنعتني رؤية ما حولي.
منذ فترة ليست بالبعيدة، وقعت في يدي خريطة للبلدة، وضعت سبابتي عليها ورحت أتحسس الخطوط والدوائر، تبينت موقعه، كان في وسط البلد تماما، كما يقولون... سرة البلد.
افتحه دائما واعتني به، هواؤه الرطب في الصيف، والدفء الذي يشعر به كل من يجلس فيه بالشتاء، عرفت لماذا يحب الانسان المساكن القريبة من الأرض، ولماذا أكره أنا الاماكن العالية والاسانسيرات.
وكلما انقطع النور، أهرول إليه، أوقد لمبة الجاز، أسحب الحصيرة البلاستيك وافترشها، اضع الوسادة تحت رأسي، افرد ذراعي، كل ذراع ناحية غرفة من غرفتيه، اشهق بكل قوة، اشم رائحة ابي وأمي.
كانوا يعرفون طقسي هذا فيأتين الواحدة تلو الاخري، سمر تنام علي ذراعي اليمني، سارة علي اليسري، فيما تدوس إسراء بقدميها الصغيرتين فوق اختيها، لتكبس علي صدري، فتتعالي ضحكاتهما، تماما مثلما كنت أفعل مع أبي، اختار صدره دائما لأنام عليه، متحاشيا لكزات اخوتي...
اقول لسمر:
هذه الغرفة التي عن يمينك، كانت للشتاء، بهذا الفرن. تحضر جدتك حزمتين من الحطب توقد فيهما النار، نتعارك علي من ينام فوق قبته الدافئة، وفي الصيف، ننام وسط البيت، أنا وجدك وأعمامك، أما عماتك وجدتك في غرفة الطحين.
وكان جدك يترك الباب مفتوحا، وفي يوم، مر علينا شيخ الخفراء ونحن نتكوم إلي جوار جدك، وكان هو يترجل في شوارع البلدة وعندما رآنا، وقف وقال ضاحكا... كان الله في عونك يابتنداوي.
لم يكن هناك نور، كنا نعيش علي هذه اللمبة التي ترينها الآن، كنت اسميها الملكة، تنظفها جدتك وتملؤها بالجاز، نذاكر عليها، نقضي حاجتنا بها ونلعب علي ضوئها الخارج من البيت.
كان الليل طويلا جدا، وكنت أحضر الراديو الصغير، مؤنسي الوحيد، استمع للسيرة الهلالية، وفي اليوم التالي، اجمع زملائي احكي لهم، مرة أكون »ابوزيد الهلالي« وأخري »الزناتي خليفة«..
تعرفين ياسمر، أول مرة أضيئت لمبة كهرباء في البلدة ونحن صغار ظللنا نهلل ونلعب حتي الصباح، هناك إلي جوار المحول القريب من طابونة »أبوطبل« بالكرة المصنوعة من شراب قديم محشو ببعض الشراميط وكلما انطفأت اللمبة، نصيح بصوت طفولي »إيد ياعم إيد واطفي بورسعيد«.
كان هو البيت الوحيد المفتوح بالشارع، كل من يطلب حاجة تكون في الاستطاعة، من تسأل عن كبريت، جاز، ملح، سكر، كيلة ذرة أو قمح حتي الحصاد، لم تكن جدتك ترد أحدا، جدتك ياسمر الذي كان أبوها، يعلق صرة طعام في فرع الشجرة التي تظلل علي بهائمه يتركها يوميا ممتلئة بالخبز والجبن والقشدة، لأبناء الليل وعابري السبيل، كانوا يقولون له، إترك بهائمك ياعم شرقاوي، سنحرسهم لك، لاتذهب بهم إلي البيت آخر النهار..
قالت لي جدتك.... تركهم مرات كثيرة.
وكانت إذا دخلت عليها واحدة تطلب شيئا ومعها طفل صغير وتكون جدتك تطبخ علي الكانون الذي اشرت لك عن مكانه، ترفع غطاء الحلة وتعطي الصغير ولو كانت تطبخ اللحم.
لن أنسي أبدا ياسمر، البائع الجوال وكان يحمل علي ظهره المحني لفافات من القماش يبيعها، وكان المطر غزيرا، لم يجد الا هذا البيت، دخل وأنزل حاجته، جاءت له جدتك بالطعام والشاي، أكل ودعا لها ولأهل البيت، ترك حاجته اسبوعا كاملا ثم عاد واخذها.
أحكي ولا أعرف ان كانت تفهم أم لا، لكني كلما نظرت إلي عينيها ترتطم دهشتها بعيني.
هي عادتي، عندما ينقطع النور، ينهار سد الحكايات، فتنطلق بلا ترتيب محلقة تحت سقف البيت، حمامات بيضاء للذكري، تبدد الخوف، وتؤصل الحنين.
يأتي النور فجاءة كعادتها، تقوم سمر من علي ذراعي، تجري إلي التليفزيون تفتش عن قناة الكرتون ثم تعود صائحة وهي تصفق بيديها، تنادي أختيها، ياسارة.. يإسراء... الأوط والفار... الأوط والفار...
تقومان من علي ذراعي وصدري، اضحك من تخبطهما اللين بالجدار، يتركوني وحدي، كالبيت، كلمبة الجاز التي كدت أقوم لأطبطب عليها، نائما علي ظهري وفاردا ذراعي كالمصلوب.
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 05 - 2010