وحده والبيت، سران لم تهتكهما العيون المتطفلة ولا التكهنات أو تداعي السير، العجائز اللائذون بالصمت والشماتة وبلل الجدران، حين يرمقونه، تهب على ذاكرتهم ريح الأيام البعيدة، حيث شجرة اللبخ وأجسادهم المربوطة، ولسع الكرابيج، وبصات العيون المتفرجة من خلف المشربيات، وسماء الله العالية تحتوي صرخاتهم المكتومة وآهاتهم الطويلة، تلك التي يجفل منها العابرون، فيتفرقون في الدروب مبتعدين إلى أقصى درجة عن هذا الصراخ المتلاحق واللسع المرير .
المصابيح القديمة تبدد كتل الظلام القابعة في الحجرات الواسعة، تحتوي الأريكة جسده المتعب، يستسلم لهذا النمل الخفي وهو يخرج من قدميه المتعبتين تاركاً الجسد يستشعر راحة ما، راحة ستتوحد مع هذا العبق والطلاء القديم ولوحات لفنان مجهول، وصور العائلة على الجدران تبص بعيون لا تطرف.
الهواء الرطب يتسلل من فتحات المشربيات، ويلملم النهار بقايا الضوء وينسحب بعيداً متدحرجاً خلف الشاطىء البعيد .
ثمة حكايات بينه والأشياء، حين يوميء إلى الكرسي المقابل، ويدفع بيده شراباً قُدم له من يدٍ مختبئة، يهز رأسه على موسيقى لا وجود لها، ويبدي اندهاشاً لحكاية لا يسمعها أحد سواه، يحرك شفتيه بموشح قديم، وينتشى لرائحة الصندل والبخور والطلاء القديم المزركش، كل الأشياء من حوله تنتصب، صور العائلة، لوحات الجدران وأحصنتها وطيور النورس، موسيقى قديمة تنبعث من اسطوانات متهشمة متناثرة على السجاد، ترقص الأثواب المعلقة والصور الباهتة .
يقوم، هو الجسد المعبأ بالترانيم والتراتيل وتدفق الدم العفي في الشرايين، والوجه الشارب من العز البائد، ينتفض الآن مترعاً بالوجد والمجد والشوق، والأشياء حين تندفع إلى الصالة الكبيرة تدب الحياة في رحابة البيت، ينحني تحية للوفود التي أخذت أماكنها على الأرائك، وراحت تتابعه وقد بدأ رحلة الرقص، فدار كدبور على السجادة المزركشة، تاركاً لجسده الانطلاق والغوص في عمق الزمن والحكايا ودقات الدفوف وتلاحم الأشجار، والظل الممدود ،وصهيل الأفراس في الإسطبل، وبريق الخواتم وفصوصها الماس، والتحف والتماثيل، والقصائد المنطلقة من شفاه سكريات، ورش ماء الورد على واجهات المشربيات، وصواني الشركسية، واسطوانات الآنسة أم كلثوم وعبده الحامولي وصالح عبد الحي ومنيرة المهدية .
يتقدم الآن، يلقي عليهم التحايا، وها هو الليل يشقه سيف الوقت شطرين، حيث ستصل رقصة المساء إلى ذروة بهجتها .
فكل العائلات التي رحلت اكتملت الآن، أخذوا أماكنهم، حتى خادمهم الذي غرق معهم في الباخرة ها هو يقف بملابسه الجميلة وانحناءته المؤدبة، في انتظار إشارة .
تميل الطرابيش وتنفتل الشوارب، وبإشارة من الجدة يبدأ في توزيع الفناجين على الصينية المنقوشة بالذهب، واحدا فواحدا يأخذون ويشربون متلذذين، يقلبون الفناجين ويقرأونها .
وتشير الجدة بشموخها والرهبة الساكنة في عينيها :
ـ إبننا رشدي .. وسناء .
الرشيقة تعدل من ثوبها وتقوم بوجهها المستدير وعينيها الواسعتين، ذراعاه المفرودتان تأخذانها، تلك التي ماتت في حادثة، كانا قد أوشكا على إتمام الزفاف، فرقتهما البواخر والأوامر والأماكن، حين جاء أمر المغادرة وداست لأول مرة أقدام لا يرغبون في دخولها هذا البيت، ودحرجوا الأشياء عن أماكنها، تلك الأشياء التي وضِعت ورصت بعناية، كل على حسب مكانته وذكراه واليد التي قدمته أو وضعته .
ووقف في وجههم، قالها لهم صراحة : (خذوا كل شيء واتركوني وهذا البيت، إني أحب مصر ولن أرحل ) .
وأصر، حتى عندما سحبوا الخيول والسيارات وعلب المجوهرات لم يتحرك من على هذه الأريكة ، فقط امتلأت المطفأة أمامه بسجائره الفاخرة التي شربها ربما لآخر مرة، وأغلق الباب خلفهم في عنف، وتركوه هنا وجاءه خبر غرقهم في الباخرة، وظل وحيداً يقاسي آلام الفرقة والجوع والتطفل على الأسر الفقيرة الباقية .
هي بين يديه الآن ـ سناء ـ خفيفة كطيف ، كالظل يحملها، ويرقصان، والموسيقى حين تنطلق من الأسطوانات المتهشمة المتناثرة على الأرض تعيد ترتيب الأشياء، إندفاعها، إنسجامها، والجالسون على الأرائك تهامسوا وحكوا وتمايلوا، وهما يدوران كظلين تحت المصابيح الشاحبة والشمعدانات الصدئة، العرق حين يسيل على الوجه الأحمر يزداد إشراقاً، يروح ويجيء وسط تصفيق المقاعد والجدارن والصور وخشب الصندل والعيون التي تلاحقه باستحسان ودقات الأرجل على الأرض الخشبية، الذراعان مفرودتان والجسد الممتلئ يدور،
والزمن قد توقف عند الساعة القديمة، هو لا يريده أن يتحرك، لا يريد أن يتذكر الرحيل أو الحادثة أو وحدته بين هذه الجدران .. فقط هي بين يديه يرقصان وسط العائلة .
والليل .. لا ليل، ملتهبٌ هو الجسد الهائم في رقة الطقاطيق وشدو الموشحات، فليحملها إذن على حصانه الأبيض ويمرقان بين الزروع الوسيعة والهواء البكر الندي .
لا يدري كم من الوقت مَر وهي بين يديه، هينة، عذبة، دافئة، رقيقة كليل صيفي، تحتويه على فرُش السندس والوجد والارتحال .
لقد بدأ الضوء يدخل الآن من فتحات المشربيات، يحمل النسمات الصاقعة وصوت العصافير بالخارج، ويصافح بيد بيضاء هذه البراويز المعلقة على الجدران، نفس الوجوه الصامتة والشوارب المفتولة والطرابيش المائلة على الجباه، والمقاعد على هيئتها، غارقة في الصمت، فارغة من الأجساد والدفء ،الفناجين ممتلئة بالهواء والتراب الناعم، متبعثرة على السجادة اللدنة، يعبئها الضوء فتبدو نمنماتها واضحة ورسوماتها متقشرة، تنسحب الأجساد وتستقر في البراويز صامتة .
والجسد، ذلك الملتهب بالحمرة والانسجام وانطلاق الروح في عالم الوجد، يروح ويجيء وسط الصالة العريضة، وما يزال هو الهائم يستشعر وقع التصفيق في أذنيه، وهي برقتها ودفئها بين يديه .
ـ صباح خيرات .
قالها النهار البكر المنسلخ من عتمة الليل، ودغدغ بحفنة من الضوء عينيه المسدلتين الهائمتين، وأطلق في فضاء البيت عصفوراً، دار فزعاً وتخبط وعاد إلى واجهة المشربية .
يبص الآن، هو الجامح في فضاء الصالة، حيث الأشياء غارقة في الصمت، مكسوة بالتراب والهسيس، فيرقد متعباً بين فناجينه والاسطوانات القديمة المتهشمة والأشياء المتبعثرة ، تلك الأشياء التي سيعيد ترتيبها عندما يستيقظ .
المصابيح القديمة تبدد كتل الظلام القابعة في الحجرات الواسعة، تحتوي الأريكة جسده المتعب، يستسلم لهذا النمل الخفي وهو يخرج من قدميه المتعبتين تاركاً الجسد يستشعر راحة ما، راحة ستتوحد مع هذا العبق والطلاء القديم ولوحات لفنان مجهول، وصور العائلة على الجدران تبص بعيون لا تطرف.
الهواء الرطب يتسلل من فتحات المشربيات، ويلملم النهار بقايا الضوء وينسحب بعيداً متدحرجاً خلف الشاطىء البعيد .
ثمة حكايات بينه والأشياء، حين يوميء إلى الكرسي المقابل، ويدفع بيده شراباً قُدم له من يدٍ مختبئة، يهز رأسه على موسيقى لا وجود لها، ويبدي اندهاشاً لحكاية لا يسمعها أحد سواه، يحرك شفتيه بموشح قديم، وينتشى لرائحة الصندل والبخور والطلاء القديم المزركش، كل الأشياء من حوله تنتصب، صور العائلة، لوحات الجدران وأحصنتها وطيور النورس، موسيقى قديمة تنبعث من اسطوانات متهشمة متناثرة على السجاد، ترقص الأثواب المعلقة والصور الباهتة .
يقوم، هو الجسد المعبأ بالترانيم والتراتيل وتدفق الدم العفي في الشرايين، والوجه الشارب من العز البائد، ينتفض الآن مترعاً بالوجد والمجد والشوق، والأشياء حين تندفع إلى الصالة الكبيرة تدب الحياة في رحابة البيت، ينحني تحية للوفود التي أخذت أماكنها على الأرائك، وراحت تتابعه وقد بدأ رحلة الرقص، فدار كدبور على السجادة المزركشة، تاركاً لجسده الانطلاق والغوص في عمق الزمن والحكايا ودقات الدفوف وتلاحم الأشجار، والظل الممدود ،وصهيل الأفراس في الإسطبل، وبريق الخواتم وفصوصها الماس، والتحف والتماثيل، والقصائد المنطلقة من شفاه سكريات، ورش ماء الورد على واجهات المشربيات، وصواني الشركسية، واسطوانات الآنسة أم كلثوم وعبده الحامولي وصالح عبد الحي ومنيرة المهدية .
يتقدم الآن، يلقي عليهم التحايا، وها هو الليل يشقه سيف الوقت شطرين، حيث ستصل رقصة المساء إلى ذروة بهجتها .
فكل العائلات التي رحلت اكتملت الآن، أخذوا أماكنهم، حتى خادمهم الذي غرق معهم في الباخرة ها هو يقف بملابسه الجميلة وانحناءته المؤدبة، في انتظار إشارة .
تميل الطرابيش وتنفتل الشوارب، وبإشارة من الجدة يبدأ في توزيع الفناجين على الصينية المنقوشة بالذهب، واحدا فواحدا يأخذون ويشربون متلذذين، يقلبون الفناجين ويقرأونها .
وتشير الجدة بشموخها والرهبة الساكنة في عينيها :
ـ إبننا رشدي .. وسناء .
الرشيقة تعدل من ثوبها وتقوم بوجهها المستدير وعينيها الواسعتين، ذراعاه المفرودتان تأخذانها، تلك التي ماتت في حادثة، كانا قد أوشكا على إتمام الزفاف، فرقتهما البواخر والأوامر والأماكن، حين جاء أمر المغادرة وداست لأول مرة أقدام لا يرغبون في دخولها هذا البيت، ودحرجوا الأشياء عن أماكنها، تلك الأشياء التي وضِعت ورصت بعناية، كل على حسب مكانته وذكراه واليد التي قدمته أو وضعته .
ووقف في وجههم، قالها لهم صراحة : (خذوا كل شيء واتركوني وهذا البيت، إني أحب مصر ولن أرحل ) .
وأصر، حتى عندما سحبوا الخيول والسيارات وعلب المجوهرات لم يتحرك من على هذه الأريكة ، فقط امتلأت المطفأة أمامه بسجائره الفاخرة التي شربها ربما لآخر مرة، وأغلق الباب خلفهم في عنف، وتركوه هنا وجاءه خبر غرقهم في الباخرة، وظل وحيداً يقاسي آلام الفرقة والجوع والتطفل على الأسر الفقيرة الباقية .
هي بين يديه الآن ـ سناء ـ خفيفة كطيف ، كالظل يحملها، ويرقصان، والموسيقى حين تنطلق من الأسطوانات المتهشمة المتناثرة على الأرض تعيد ترتيب الأشياء، إندفاعها، إنسجامها، والجالسون على الأرائك تهامسوا وحكوا وتمايلوا، وهما يدوران كظلين تحت المصابيح الشاحبة والشمعدانات الصدئة، العرق حين يسيل على الوجه الأحمر يزداد إشراقاً، يروح ويجيء وسط تصفيق المقاعد والجدارن والصور وخشب الصندل والعيون التي تلاحقه باستحسان ودقات الأرجل على الأرض الخشبية، الذراعان مفرودتان والجسد الممتلئ يدور،
والزمن قد توقف عند الساعة القديمة، هو لا يريده أن يتحرك، لا يريد أن يتذكر الرحيل أو الحادثة أو وحدته بين هذه الجدران .. فقط هي بين يديه يرقصان وسط العائلة .
والليل .. لا ليل، ملتهبٌ هو الجسد الهائم في رقة الطقاطيق وشدو الموشحات، فليحملها إذن على حصانه الأبيض ويمرقان بين الزروع الوسيعة والهواء البكر الندي .
لا يدري كم من الوقت مَر وهي بين يديه، هينة، عذبة، دافئة، رقيقة كليل صيفي، تحتويه على فرُش السندس والوجد والارتحال .
لقد بدأ الضوء يدخل الآن من فتحات المشربيات، يحمل النسمات الصاقعة وصوت العصافير بالخارج، ويصافح بيد بيضاء هذه البراويز المعلقة على الجدران، نفس الوجوه الصامتة والشوارب المفتولة والطرابيش المائلة على الجباه، والمقاعد على هيئتها، غارقة في الصمت، فارغة من الأجساد والدفء ،الفناجين ممتلئة بالهواء والتراب الناعم، متبعثرة على السجادة اللدنة، يعبئها الضوء فتبدو نمنماتها واضحة ورسوماتها متقشرة، تنسحب الأجساد وتستقر في البراويز صامتة .
والجسد، ذلك الملتهب بالحمرة والانسجام وانطلاق الروح في عالم الوجد، يروح ويجيء وسط الصالة العريضة، وما يزال هو الهائم يستشعر وقع التصفيق في أذنيه، وهي برقتها ودفئها بين يديه .
ـ صباح خيرات .
قالها النهار البكر المنسلخ من عتمة الليل، ودغدغ بحفنة من الضوء عينيه المسدلتين الهائمتين، وأطلق في فضاء البيت عصفوراً، دار فزعاً وتخبط وعاد إلى واجهة المشربية .
يبص الآن، هو الجامح في فضاء الصالة، حيث الأشياء غارقة في الصمت، مكسوة بالتراب والهسيس، فيرقد متعباً بين فناجينه والاسطوانات القديمة المتهشمة والأشياء المتبعثرة ، تلك الأشياء التي سيعيد ترتيبها عندما يستيقظ .