ولد أحمد خيري سعيد بالقاهرة حوالي عام 1894 وتلقى تعاليمه بالمدارس المصرية؛ والتحق بمدرسة الطب في عام 1912، لم يحصل على ترخيص بـ "مهنة طبيب"
- التحق بغرفة "الصليب الأحمر" بالجيش الانكليزي خلال الحرب العالمية الأخيرة بوظيفة "مساعد طبيب" في ميدان فلسطين؛ وعاد إلى مصر بعد الهدنة. واشتغل خيري في الأدب وهو في المدرسة إلى جانب اشتغاله بالطب، فوضع رواية "الأسى" ولكنها صودرت من قلم المطبوعات إذ ذاك، ووضع بعدها مسرحية "بين الكاس والطاس" وقدمها إلى فرقة جورج أبيض وذلك في عام 1916.
وكان شغوفاً بالفنون الجميلة والشعر، فوضع كتاب "فن الشعر" لاشك في أنه الأول من نوعه، يحوي مقدمة عن الفنون الجميلة، وبحثاً في فن الشعر باعتباره مقسماً إلى خمسة أقسام، كما في الأدب الأغريقي، وهو ليرك (شعر غنائي)، ودراماتيك (التمثيلي)، وابيك (القصصي)، ثم الشعر الفلسفي، والشعر الوصفي؛ وطبق ذلك على الشعر العربي فوجد أنه ينقصه الشعر التمثيلي والقصصي بالمعنى المعروف في الياذة هوميروس أو سوفوكليس، إلا أنه وجد أن هناك بعضاً من القصائد تسود فيها الروح القصصية لاغير، منها قصيدة عمر بن أبي ربيعة التي تقول (أمن آل نعم أنت غاد فمبكر)، وذلك ليبرهن على أن الشعر العربي صالح لتأليف القصص الشعرية سواء كانت وجدانية أو تمثيلية أو قصصية. وأخرج خيري أيضاً كتاباً أطلق عليه اسم "عبث الشباب"، وذلك في سنة 1916. تحدث فيه بإسهاب عن أوضاع الكتابة في اللغة وتمرده على بعض الأساليب العربية العتيقة كما أنه حبذ الدعوة إلى الأدب المكشوف والإباحية، وذيل الكتاب ببحث عن الموسيقى العصرية وآخر عن رأيه في قصة مجنون ليلى. وإلى هنا ينتهي الدور الاول من حياة خيري الأدبية.
وانتهت الحرب العالمية الكبرى وأعلنت الهدنة وعاد خيري إلى وطنه بعد أداء خدمة "الصليب الأحمر"، وتفرغ لمطالعة العلوم الحديثة والأدب الروسي وأخذ في نظم الشعر والانتقاد الأدبي، وتعرف إذ ذاك على محمد تيمور فأخذا يبثان بين أصدقائهما الدعوة إلى "المدرسة الحديثة" وتعاليمها إلى أن أثمرت هذه الدعوة أخيراً. وكان خيري، ولايزال إلى اليوم، يدين بالمذهب البوهيمي والنزعة الأبيقورية، لا يعنى بملبسه ولا هندامه، ولا يعرف لجسمه عليه حقاً، بل لو طاوعته، لرأيت نفسك تذرع معه شوارع القاهرة حتى مطلع الفجر.
ومن أجل ذلك، سرت عدواه إلى المرحومين محمد تيمور ومحمد رشيد، فكثيراً ما كانا يشاركانه الطعام في الشارع ويتجولان برفقته في الأحياء الوطنية. وتصوَّر اثنين أحدهما من أعرق الأسر المصرية والثاني أحد أمناء القصر الملكي يرافقان خيري سعيد إلى مسرح "دار السلام" بحي سيدنا الحسين بالقاهرة ليقوموا بجولة انتقادية عن فن التمثيل هناك؟!! وأسس خيري بمساعدة آخرين جمعية أطلق عليها اسم "الكفر والإلحاد" ليس هنا مجال التحدث عن أغراضها، كما أنه كان أول من نادى بفكرة استبدال حروف الكتابة العربية بأخرى لاتينية وغيرها من الأفكار الجريئة التي لايقوى غيره على مصارحة الناس بها.
وخلال عام 1920 انتقلت "المدرسة الحديثة" إلى قهوة راديوم بشارع عماد الدين - مهبط الوحي والالهام!! - لتشرف على سير الفن وحركة المسرح، وشعرت الجماعة أنه لايمكن أن تحقق أغراضها خاصة فيما يتعلق منها بنقد المسرح، إلا إذا كانت هناك صحيفة تكون "لسان حالها" ووقع اختيارها على مجلة "السفور" التي يصدرها عبد الحميد حمدي، وهي المجلة الوحيدة التي لها نزعة أدبية في مصر ذلك الوقت، وابتاعوها بمبلغ خمسين جنيهاً مصرياً، لتكون رسول دعوتهم التجديدية، وظهرت وعلى صفحاتها بحوث اجتماعية وأدبية ونقدية شتى، كما ظهرت على صفحاتها أيضاً القصة المصرية، وتولى خيري قسم الترجمة بها، كما أخذ المرحوم محمد تيمور ينشر بها محاكمات وهمية لمؤلفي الروايات المسرحية. ولعل من الخير أن نذكر أن خيري أصدر قبل ذلك جريدة "الشباب" في محتدم الثورة المصرية، وكان يصدرها ويحررها إذ ذاك بمساعدة جماعته في بيت تيمور باشا.
وأراد خيري السفر إلى ألمانيا ليتمّم دراسة الطب هناك، وفيما هو يتأهب لذلك، إذ جاءه المرحوم الصوفاني بك وفاوضه في أن يشتغل محرراً بجريدة "الأمة" وتديّن خيري مذ ذلك الوقت بمذهب "الحزب الوطني"، غير أنه للأسف لم يمكث بجريدة "الأمة" زمناً طويلاً حتى أغلقت، فالتحق بجريدة "اللواء المصري" وكان حظه منه كسابقتها فإنه تسبب في إغلاقها عقب ذلك بمناسبة مقال شديد اللهجة كتبه عن غاندي وحركة المقاومة السلبية في الهند. وفي أواخر عام 1924 اجتمع خيري وجماعته في منزل محمود طاهر لاشين، ورأى أن يفكروا في إظهار جريدة أدبية اسمها "الفجر" وأن يدفع كل واحد منهم مبلغاً من المال كحصة تأسيس، وتم لهم ما أرادوا، وظهرت الفجر في أول مارس سنة 1925 تحمل على صدرها شارة "الهدم والبناء" وتدعوا إلى الاستقلال الفكري وخلق أدب جديد، كما أخذت على عاتقها الاعتناء بالقصة المصرية وتهذيبها وكان للقصة المصرية صفحة تحتلها أسبوعياً منها. وأخفق مشروع جريدة "الفجر" بعد شهور، فقد توفي محمد تيمور وكذا محمد رشيد والتحق زكي طليمات ببعثة فن التمثيل بفرنسا وسافر حسين فوزي إلى أوروبا وتفرغ علام لعمله بمسرح رمسيس.
وظل خيري على حاله، فاشتغل محرراً بجريدة "الأخبار" لسان حال الحزب الوطني ورأى أن يصدرها على نسق "السياسة" في بدء ظهورها، فكان لها صفحات أدبية وأخرى علمية وتاريخية وزراعية ...إلخ، ثم ترك "الأخبار" بعد موت صاحبها ليلتحق بجريدة "كوكب الشرق" ثم جريدة "اليوم" فجريدة "الوادي" إلى أن اشتغل أخيراُ بـ "دار الهلال" حيث لايزال هناك يرأس تحرير مجلة "الهلال" الشهري حتى يومنا هذا. وخيري صحفي مخلص لفنه، لايعرف جسمه طعم الراحة أبداً، ولذا فتراه متداعي الأركان، لايعتني بهندامه أبداً، فهو في ملبسه "كرنفال" متجانس الألوان.
حدث أن طلبت إليه مجلة "الهلال" كتابة عشرين صفحة من صفحاتها وذلك لانقطاع محرريها، وكان الوقت الثامنة مساء، وحددت له السابعة من صبيحة اليوم التالي ليوافيها بما يكتب، فما زال يكد ويجد حتى انتهى من كتابة المطلوب، وكان من نصيبه أن دس له صاحبها عشرة جنيهات مكافأة له على عمله. وحدث أيضاً أن تخلف بعض منضدي الحروف في "جريدة الوادي" في اليوم الذي كان يتولى تحريرها، فما زال يكتب ويجمع الحروف ويصحح المسودات حتى خرجت "الوادي" في موعدها تماماً.
منقول
- التحق بغرفة "الصليب الأحمر" بالجيش الانكليزي خلال الحرب العالمية الأخيرة بوظيفة "مساعد طبيب" في ميدان فلسطين؛ وعاد إلى مصر بعد الهدنة. واشتغل خيري في الأدب وهو في المدرسة إلى جانب اشتغاله بالطب، فوضع رواية "الأسى" ولكنها صودرت من قلم المطبوعات إذ ذاك، ووضع بعدها مسرحية "بين الكاس والطاس" وقدمها إلى فرقة جورج أبيض وذلك في عام 1916.
وكان شغوفاً بالفنون الجميلة والشعر، فوضع كتاب "فن الشعر" لاشك في أنه الأول من نوعه، يحوي مقدمة عن الفنون الجميلة، وبحثاً في فن الشعر باعتباره مقسماً إلى خمسة أقسام، كما في الأدب الأغريقي، وهو ليرك (شعر غنائي)، ودراماتيك (التمثيلي)، وابيك (القصصي)، ثم الشعر الفلسفي، والشعر الوصفي؛ وطبق ذلك على الشعر العربي فوجد أنه ينقصه الشعر التمثيلي والقصصي بالمعنى المعروف في الياذة هوميروس أو سوفوكليس، إلا أنه وجد أن هناك بعضاً من القصائد تسود فيها الروح القصصية لاغير، منها قصيدة عمر بن أبي ربيعة التي تقول (أمن آل نعم أنت غاد فمبكر)، وذلك ليبرهن على أن الشعر العربي صالح لتأليف القصص الشعرية سواء كانت وجدانية أو تمثيلية أو قصصية. وأخرج خيري أيضاً كتاباً أطلق عليه اسم "عبث الشباب"، وذلك في سنة 1916. تحدث فيه بإسهاب عن أوضاع الكتابة في اللغة وتمرده على بعض الأساليب العربية العتيقة كما أنه حبذ الدعوة إلى الأدب المكشوف والإباحية، وذيل الكتاب ببحث عن الموسيقى العصرية وآخر عن رأيه في قصة مجنون ليلى. وإلى هنا ينتهي الدور الاول من حياة خيري الأدبية.
وانتهت الحرب العالمية الكبرى وأعلنت الهدنة وعاد خيري إلى وطنه بعد أداء خدمة "الصليب الأحمر"، وتفرغ لمطالعة العلوم الحديثة والأدب الروسي وأخذ في نظم الشعر والانتقاد الأدبي، وتعرف إذ ذاك على محمد تيمور فأخذا يبثان بين أصدقائهما الدعوة إلى "المدرسة الحديثة" وتعاليمها إلى أن أثمرت هذه الدعوة أخيراً. وكان خيري، ولايزال إلى اليوم، يدين بالمذهب البوهيمي والنزعة الأبيقورية، لا يعنى بملبسه ولا هندامه، ولا يعرف لجسمه عليه حقاً، بل لو طاوعته، لرأيت نفسك تذرع معه شوارع القاهرة حتى مطلع الفجر.
ومن أجل ذلك، سرت عدواه إلى المرحومين محمد تيمور ومحمد رشيد، فكثيراً ما كانا يشاركانه الطعام في الشارع ويتجولان برفقته في الأحياء الوطنية. وتصوَّر اثنين أحدهما من أعرق الأسر المصرية والثاني أحد أمناء القصر الملكي يرافقان خيري سعيد إلى مسرح "دار السلام" بحي سيدنا الحسين بالقاهرة ليقوموا بجولة انتقادية عن فن التمثيل هناك؟!! وأسس خيري بمساعدة آخرين جمعية أطلق عليها اسم "الكفر والإلحاد" ليس هنا مجال التحدث عن أغراضها، كما أنه كان أول من نادى بفكرة استبدال حروف الكتابة العربية بأخرى لاتينية وغيرها من الأفكار الجريئة التي لايقوى غيره على مصارحة الناس بها.
وخلال عام 1920 انتقلت "المدرسة الحديثة" إلى قهوة راديوم بشارع عماد الدين - مهبط الوحي والالهام!! - لتشرف على سير الفن وحركة المسرح، وشعرت الجماعة أنه لايمكن أن تحقق أغراضها خاصة فيما يتعلق منها بنقد المسرح، إلا إذا كانت هناك صحيفة تكون "لسان حالها" ووقع اختيارها على مجلة "السفور" التي يصدرها عبد الحميد حمدي، وهي المجلة الوحيدة التي لها نزعة أدبية في مصر ذلك الوقت، وابتاعوها بمبلغ خمسين جنيهاً مصرياً، لتكون رسول دعوتهم التجديدية، وظهرت وعلى صفحاتها بحوث اجتماعية وأدبية ونقدية شتى، كما ظهرت على صفحاتها أيضاً القصة المصرية، وتولى خيري قسم الترجمة بها، كما أخذ المرحوم محمد تيمور ينشر بها محاكمات وهمية لمؤلفي الروايات المسرحية. ولعل من الخير أن نذكر أن خيري أصدر قبل ذلك جريدة "الشباب" في محتدم الثورة المصرية، وكان يصدرها ويحررها إذ ذاك بمساعدة جماعته في بيت تيمور باشا.
وأراد خيري السفر إلى ألمانيا ليتمّم دراسة الطب هناك، وفيما هو يتأهب لذلك، إذ جاءه المرحوم الصوفاني بك وفاوضه في أن يشتغل محرراً بجريدة "الأمة" وتديّن خيري مذ ذلك الوقت بمذهب "الحزب الوطني"، غير أنه للأسف لم يمكث بجريدة "الأمة" زمناً طويلاً حتى أغلقت، فالتحق بجريدة "اللواء المصري" وكان حظه منه كسابقتها فإنه تسبب في إغلاقها عقب ذلك بمناسبة مقال شديد اللهجة كتبه عن غاندي وحركة المقاومة السلبية في الهند. وفي أواخر عام 1924 اجتمع خيري وجماعته في منزل محمود طاهر لاشين، ورأى أن يفكروا في إظهار جريدة أدبية اسمها "الفجر" وأن يدفع كل واحد منهم مبلغاً من المال كحصة تأسيس، وتم لهم ما أرادوا، وظهرت الفجر في أول مارس سنة 1925 تحمل على صدرها شارة "الهدم والبناء" وتدعوا إلى الاستقلال الفكري وخلق أدب جديد، كما أخذت على عاتقها الاعتناء بالقصة المصرية وتهذيبها وكان للقصة المصرية صفحة تحتلها أسبوعياً منها. وأخفق مشروع جريدة "الفجر" بعد شهور، فقد توفي محمد تيمور وكذا محمد رشيد والتحق زكي طليمات ببعثة فن التمثيل بفرنسا وسافر حسين فوزي إلى أوروبا وتفرغ علام لعمله بمسرح رمسيس.
وظل خيري على حاله، فاشتغل محرراً بجريدة "الأخبار" لسان حال الحزب الوطني ورأى أن يصدرها على نسق "السياسة" في بدء ظهورها، فكان لها صفحات أدبية وأخرى علمية وتاريخية وزراعية ...إلخ، ثم ترك "الأخبار" بعد موت صاحبها ليلتحق بجريدة "كوكب الشرق" ثم جريدة "اليوم" فجريدة "الوادي" إلى أن اشتغل أخيراُ بـ "دار الهلال" حيث لايزال هناك يرأس تحرير مجلة "الهلال" الشهري حتى يومنا هذا. وخيري صحفي مخلص لفنه، لايعرف جسمه طعم الراحة أبداً، ولذا فتراه متداعي الأركان، لايعتني بهندامه أبداً، فهو في ملبسه "كرنفال" متجانس الألوان.
حدث أن طلبت إليه مجلة "الهلال" كتابة عشرين صفحة من صفحاتها وذلك لانقطاع محرريها، وكان الوقت الثامنة مساء، وحددت له السابعة من صبيحة اليوم التالي ليوافيها بما يكتب، فما زال يكد ويجد حتى انتهى من كتابة المطلوب، وكان من نصيبه أن دس له صاحبها عشرة جنيهات مكافأة له على عمله. وحدث أيضاً أن تخلف بعض منضدي الحروف في "جريدة الوادي" في اليوم الذي كان يتولى تحريرها، فما زال يكتب ويجمع الحروف ويصحح المسودات حتى خرجت "الوادي" في موعدها تماماً.
منقول