أمانى الجندى - الحب بين الإنس والجن فى التراث الشعبى

يأخذ الجِنّ أو الجِنِّيَة أشكالاً متعددة فى المعتقد الشعبي، ويتصور بعض الناس أن الجِنِّية تتشكل بصور قبيحة وأخرى جميلة حسب دورها فى الحكاية أو الرواية، فإذا كانت يعشقها الإنسان فهى جميلة الجميلات ، وإذا كانت تعشقه فهى قبيحة شريرة.

ويرتبط مسكن الجن فى المعتقد الشعبى بالماء، فهى تسكن مجارى المياه أو تعيش في جوارها، مثل ( الترع والمصارف والبحور الصغيرة التى تملأ القرى)، وكذلك تسكن أسفل الكبارى المظلمة، والقبور والتوابيت، أو السواقى القديمة والمصليات على شواطىء البحور، وتكون مفروشة بالقش ويكون لها سلمة أو سلمتان من الحجر، ينزل عليها الفرد ليتوضأ. وتسكن أيضا الأشجار القديمة والكبيرة مثل الجميز والتوت والسنط والصفصاف التى تنمو غالبا على المجارى المائية.
ويُسمى الرجل المتزوج من جِنِّيَة «مخاوي»، والسيدة المتزوجة من جِنِّي «مخاوية».

وفى المعتقد الشعبى تخاف الجِنِّيَة من بعض الحيوانات مثل ( الحمار ، والجمل)، وتقول للشخص الذى يركب حماراً أو جملاً :«لولا معاك الحافر لخليت دمك يسافر»، وسبب الخوف من الجمل كما ذكر المعتقد الشعبى أن تكوين جسم الجمل كله يقول "بسم الله الرحمن الرحيم"، كما أن الحيوانات تراها قبل الإنسان، وعندما يراها الحمار ينهق، وتخاف الجنِّيَة أيضا من الكلاب، فإذا أمسكت برجل إنسى فى الماء وسمعت صوت الكلاب تهرب وتتركه، وكذلك تخاف من إضاءة الأنوار أو إشعال الكبريت.

ويتشكل الجان أيضا فى صور مختلفة مثل الأرانب والماعز والقطط والسمك وهذه أشكال أليفة لا تؤذي، وهى سريعة التحول من شكل إلى آخر ولا تظهر إلا في الليل، وفى الأماكن المهجورة، كالبيوت والمقابر والسواقى والآبار، ومن الجان ما يخرج على هيئة عفريت، وهو يرتبط فى التصور الشعبى بالأشخاص الذين قتلوا فى حادث، ويخرج فى الأماكن المحببة إليه قبل وفاته، أو المكان الذى خرجت فيه روحه، ويخرج على هيئة مارد أو قط أسود أو أبيض أو أرنب بيضاء.

ويلعب الخيال الفردي دورا مؤثرا فى صياغة الأفكار، وتحديد ملامح العلاقة بين الإنسان والجان، إذ يستقبل الفرد بإرادته الحرة تلك الحكايات ويتمسك البعض بحقيقة حدوثها، والبعض يسقطها من الذاكرة. و تتخذ مستويات البث والتلقى لتلك الحكايات مسارات متعددة من القبول والتبني، عند كل فرد من أفراد الجماعة، إذ تتدخل التنشئة الثقافية حيناً، والمواقف الخاصة حيناً آخر فى المدى الذى يقبل تلك التصورات حول الجان ومواقفهم وتصرفاتهم وأشكالهم والطيبين منهم والأشرار، وقدراتهم المعرفية وإمكانية استفادة البشر من تلك القدرات، كذلك علاقتهم بأنفسهم وعلاقتهم بالبشر ، والنفع والضرر الذى يترتب على وجودهم والعلاقة بهم، الدور الذى يمكن أن يلعبوه فى فك الطلاسم وحل المشكلات.

وقد أفرد الخيال الشعبى مساحات واسعة من التصورات حول امكانية زواج الإنس والجان، هذا الزواج الذى يسعى البشر من خلاله إلى اقتراب مأمول ومصالحة واجبة، لعله يُحقق التعايش ويصد الأذى المجهول، فتأتى تلك التصورات بحكايات حول حدوث الزواج والموقف الذي أدى إليه، ورغبة الطرف الآخر /الجنى فى إتمام الزيجة، والإلحاح فى الطلب ، والرضوخ إلى المطلوب، وأوقات اللقاء بين الزوجين واختفاء الإنسى وانتقاله إلى عالم الجان، وإنجاب الأطفال، إنه عالم لا يعرف البشر سواه، إنه خيال الواقع وواقع الخيال، والأساطير نفسها صياغات بشرية، خيرون، وأشرار، يتخاصمون ويتقاتلون ويتحابون ويتزاوجون ويتوالدون، ثم يستكملون نواقص الحياة كما يراها البشر.

ومن الموتيفات المهمة المتكررة فى قصص الخوارق تلك التى تحفل بها الأساطير العربية، مثل حكايات الحب، ولسنا نعنى هذا الحب بين إنسان وإنسانة، فهذ اللون لا يوجد فى الأساطير وحدها، بل نعنى نوعا بذاته من الحب، هو ذلك الحب الذى ينشأ بين واحدة من الإنس والجن، أو بين واحدة من الجن وإنسي، وهذا اللون الغريب من الحب أليف عند كُتَّاب الخوارق والأساطير، ويرد بكثرة شديدة فى مواضع عديدة من «ألف ليلة وليلة»، ومن سيرة «سيف بن ذى يزن» وغيرهما .

ويبدو من هذا أن حكاية حب الجِنِّية لإنسي، والعكس، كانت شيئا مألوفا فى مأثورات عامة، ولعل فى هذه الإشارة إلى التزاوج بين الجان والإنس اقترابا من زواج الآلهة والناس فى الأساطير الإغريقية، أو لعلها محاولة لتفسير سر الجمال الفائق الذى تتمتع به بعض النسوة بنسبته إلى هجين من العالمين عالم السماء وعالم الأرض. و نراه أيضا فى قصة «الصعلوك الثاني» فى حكاية «الحمَّال والثلاث بنات»، وكذلك فى قصة «أبى محمد الكسلان»، وقصة «حسن البصري وزوجته الجِنِّية صاحبة الثوب الريشي»، وقصة «بدر باسم وزوجته جِنِّية البحر »، وقصة «السمندل»، وغيرها كثير في قصة «سيف الملوك وبديعة الجمال»، حيث يلقى «سيف الملوك» «دولت خاتون»، وهى إِنسِيَّة أحبها جِنِّي فارتفع بها بعيدا عن دنيا الإنس، وما أكثر «الجميلات اللواتى أحبهن عفاريت» فى «ألف ليلة وليلة» فارتفعوا بهن إلى آفاق السماء، أو اغتصبهن فى أعماق الأرض فجعلهن بعيدات عن أهل الأرض، وكذلك الأمر في سيرة «سيف بن ذى يزن» وتلونها. تقول الراحلة الدكتور «سهير القلماوي» فى هذا الصدد : «وكما نجد الجنِّي يخطف الإنسية التى أحبها فيبعدها عن العالم الإنسي، فكذلك نجد إشارة بعيدة إلى جِنِّيَة أحبت رجلاً من الإنس فسجنته فى جبل الثكلى الذى يصادفنا فى قصة «أنس الوجود والورد فى الأكمام».

وتقابلنا أيضا فى «ألف ليلة وليلة» حكاية «التاجر والعفريت» فى قصة «التاجر والكلبين»، إذ تعشقه جِنِّية فتظهر له في صورة إنسية فقيرة ويعطف عليها ويتزوجها ثم تنقذه من الموت ومن كيد أخويه.

ونجد أيضا هذه الحكاية، حيث يقول القاص: «ظل وحش الفلا فى سيره حتى أشرف على مدينة عالية الأسوار، أبواب المدينة كلها مُغلقة، وأهل المدينة يقفون على الأسوار وهم يبكون بدموع غزار، وقد لبسوا السواد كمن فقد أعز الأهل والأولاد، ورأى خارج المدينة خيمة منصوبة، وهى مزركشة تدل على أن بداخلها عروسا، وذهب «وحش الفلا» إلى الخيمة ينظر ما فيها، وقد أخذ منه العجب مأخذه، وما أن اقترب من الخيمة، وأزاح بيده الباب حتى بهره جمال العروس وقد جلست وحدها تبكى وتندب حظها، وكانت العروس جميلة كأجمل ما تكون النساء فقال «وحش الفلا»:

«ما يبكيك يا أجمل ما فى الدنيا ..؟» فقالت له: «أنا أيها الشاب المليح بنت ملك وسلطان وقد تزوجنى عفريت من الجان»، ولما رفعت العروس رأسها التقت أعينهما فى نظرة اعقبتها ألف حسرة وقد رأى لها خالاً أخضر على خدها مثل الذى على خده فسألها : «كيف كان هذا الحال؟» فقالت : «اعلم يا سيدى أن اسمى «شامة بنت الملك أفراح»، وهذه أسوار مدينتي، وهؤلاء أهلى وأقاربي»، فلما سمع «وحش الفلا» هذا وعرف أنها «شامة بنت الملك أفراح» الذى رباه وهو صغير، عزم على تخليصها بقوة الملك المعبود ويخلصها الملك سيف بأن يضرب العفريت بسوط مطلسم فيقطع يده بينما تبدأ علاقة الحب بين شامة وسيف. ومن الموضوعات المهمة أيضا حكايات الخوارق فى الأساطير الشعبية وزيارة عالم الجان ، وهو غالبا ما يكون فى أعماق البحر ،حيث توجد مدن كاملة، وحياة شبيهة بحياة الناس، وحين يعود البطل من رحلته فى عالم الجن يحس أنه لم يقض إلا دقائق معدوات رغم أن الرحلة تستغرق زمنا طويلا. ويمكننا أن نحدد حكايات العشق بين الجن والإنس بأنها من الحكايات الشعبية التى عاشت فى الأدب العربى قبل السير وعاشت فى الأدب الغربى قبل الملاحم. أما فى الأدب الشعبى العربى فهذه الحكايات تعكس أحلاما قديمة لتطلعات الفرد العربى فى تخلصه من بعض العوامل التى تعوق حصوله على ما يريد من مجد وسؤدد حيث يستطيع الأنسى الحصول على ابنة العالم المجهول ذات القدرات الخارقة.

وقصص «العشق بين الإنس والجان» سواء منها ما جاء فى «السير الشعبية» أو فى «ألف ليلة وليلة» أو فى «كتب الأخبار والأدب»، ترمز فى الغالب إلى هذا الشوق عند الإنسان فى الامتزاج بالمجهول الذى يسيطر عليه ويفوقه فى قدراته وامكانياته.

وعالم الحب بين «الإنس والجان» ملىء بالطرائف الشائقة، تفنن القصاصون فى إبرازها وتناولها. لعل أهمها «أحلام شهرزاد» للدكتور «طه حسين» الذى جعل القصة المحورية فى روايته تدور حول «عشق ملوك الجان» لأميرة مستعصية لا تريد أن تخضع لحكم القوة أو للتهديد بها . وترسبت هذه الموتيفة فى الحكايات الشعبية المعاصرة فى عالمنا العربى والتى تظهر فى الإيمان بأن بعض الناس «يخاوون» أو يتزوجون من جِنِّيَات، يمكنوهم من معرفة الغيب وشفاء الأمراض وقراءة الطالع، وهى الأساس الذى يعتمد عليه الكثير من الدجالين فى ايهام العامة بقدراتهم السحرية.

ولعل الشبيه لهذا على المستوى العالمى ما تؤمن به جمعيات كثيرة فى مختلف انحاء العالم وإن اختلف الاطار الذى يوضع فيه هذا المعتقد ، ولكن يعود فى نسجه العالم إلى ما تخيله الإنسان، وما حاول أن يتبينه فى أدبه الشعبى وأساطيره من وحدة بين عالمه المادى وبين العالم المجهل الذى يحيط به، سواء كان هذا هو عالم الآلهة عند الإغريق، أو عالم الجن فى الأدب الشعبى العربى، أو عالم الأرواح عند مثل الجماعات التى أشرنا إليها.


.
الحب بين الإنس والجن فى التراث الشعبى
د. أمانى الجندى
 
أعلى