منصف الوهايبي - ملكة جمال العرب القدماء

تتوافر كتب الأخبار والأمثال القديمة على نصوص كثيرة ترسم صورة دقيقة لجمال المرأة، عند قدماء العرب، من حيث هو مثل أعلى وتتـّفق كلها في معاييره وعناصره. على أنّ ما يلفت الانتباه في أكثر قصص الحبّ، انصرافها إلاّ في ما ندر، إلى الصّورة العامّة الفضفاضة. وأمثلة ذلك أكثر من أن نلمّ بها في حيّز كهذا.

ومنها ما جاء في قصّة "مسعدة بن واثلة ورملـة بنـت أثيلة": "... فورد الماء يوما فصادف جارية على بعير تشدّ عقاله وهمّت بالنّزول، فلمّا رأته قالت: هل لك أن تكفيني كلفة التّعب؟ قال: وفيم تتعبين وماذا تطلبين؟ قالت: ملء هذه السّقاية. [قال مسعدة:] ورمت بـها إليّ. فلمّا ملأتها وهمّت أن تتناولها، شمّرت عن زندين كأنّما حجبت عظامهما بالبلّور الصّافي. ثمّ تناولت القربة فانكشف البرقع عن وجه كأنّما تستعير منه الشّمس الضّياء، فداخلني ما خشيت معه زهاق نفسي..." (مصارع العشاق)، أو ما جاء في وصف ليلى صاحبة المجنون "كان في بني عامر من بني الحريش جارية من أجمل النّساء وأحسنهنّ، لها عقل وأدب، يقال لـها ليلى..."، أو في قصّة يزيد بن معاوية وأرينب: "كانت أرينب بنت اسحاق من ربّات الجمال البارع والحسن الباهر والكمال والشّرف وكثرة المال...".

ولا وجه لهذا التّعميم ـ على ما نرجّح ـ سوى انصرافهم إلى متعة القصّ حيث القاصّ مأخوذ بقول "الحكاية" أكثر منه بالحكاية، أو لأنّ الشّعر يتكفّل بـهذا الوصف الدّقيق أكثر من النّثر ـ وكثيرا ما يرفد أحدهما الآخر في هـذا الـقصص ـ، أو لأنّهم مجمعون أو كالمجمعين على أنّ المثل الأعلى لجمال المرأة يتحقّق بتوافر صفات جسديّة معيّنة هي الجسم البضّ واللّون الابيض والوجه الصّبحي والعينان الواسعتان والحاجبان الدّقيقان المتقوّسان والخدّ الأسيل والصّدر العريض والنّهدان الضّخمان والبطن المطوي والكفل الناّتئ المرتفع والفخدان اللفّاوان والساّقان الممتلئتان.

صحيح أنّ الذّوق انصرف أكثر، تحت تأثير الإسلام وتمازج الأجناس، إلى المرأة البيضاء النـاّصعـة والبضّة المعتدلة القامة ذات الشّعر الأسود المسترسل، وأنّ ازدهار الحضارة في العصر العباّسي جعل الناس يميلون أكثر إلى المرأة المجدولة التي لا سمن في جسدها ولا ترهّل. و هي المرأة المثال التي جمع الجاحظ عناصر جمالها في قوله: " وأكثر البصراء بجواهر النّساء، الذين هم جهابذة النّقد، يقدّمون المجدولة، وهي التي بين السمينة والممشوقة، ولا بد من وجود القدّ وحسن التّجريد واعتدال المنكبين واستواء الظّهر، ولا بدّ أن تكون كاسية العظام بين الممتلئة والقضيفة، و لذلك قالوا: كأنّـها غصن بان أو قضيب خيزران و جدل عنان". و صحيح أنّ الذّائقة العربيّة في هذا العصر لم تعد تستسيغ كثيرا تشبيه المراة بالبقرة أو الظّبية و بالشّمس أو القمر، لانّ الجارية الفائقة الحسن، كما يقول الجاحظ "أحسن من البقرة وأحسن من الظّبية وأحسن من كلّ شيء شبّهت به، وكذلك قولهم كأنها القمر وكأنها الشّمس فالشّمس وإن كانت حسنة فأنها هي شيء واحد، و في وجه الإنسان الجميل وفي خلقه ضروب من الحسن الغريب و التّركيب العجيب، ومن يشكّ في أنّ عين الإنسان أحسن من عين الظبي والبقرة وأنّ الأمر بينهما متفاوت ". و لكن رغم هذا كلّه فإنّ الحنين إلى الجسد الأنثوي المضخّم لم يَخْبُ في الغزليّة العربيّة الإسلامية، حتى في منحاها الصّوفي، ولا في قصص الحبّ التي نحن بصددها. فإذا قالوا "أجمل النّساء" أو"أحسنهنّ" انصرف الخاطر إلى هذه الصّفات، دون حاجة إلى تفصيلها.

و كثيرا ما تقترن هذه الصّورة المرئيّـة بصور مستمدّة من المحسوسات أو من الظّاهر الماثل للحواسّ، كتشبيه الشّعر بأذناب الخيل والأنف بحدّ السّيف والعنق بإبريق الفضّة والنّهد بالرماّنة والكفل بكثيب الرّمل … و ربّما رأى البعض في هذه الصّور المقيّدة بالتّشبيه تقيّدا بحدود الظّواهر الحسّية والمرئيّـة ومباشرة للمعاني المادية، فهي تشبّه المادّي بالمادّي والحسّي بالحسّي، فلا تسبر غورا ولا تستشفّ ما وراء الظّواهر، وبالتّالي فإنّ جهد الخيال فيها معدوم أو يكاد أو هو خيال تصوّري يأخذ شيئا من المرئياّت وشيئا من المحسوسات ثمّ يركّب منها صورة.

صحيح أنّ صورة المرأة في هذه النّصوص موصولة العناصر بالمدركات الحسّية والظّواهر المرئيّة، إلاّ أنّ هذه المدركات وهذه الظواهر ـ على ما نتبيّنه استئناسا بقصص الحبّ ـ ليست "أشياء" تقبع على حافة النصّ أو تقف خارجه. وإنّما هي مكوّن من مكوّناته وعلامة من علاماته، من طبيعته تنبثق وإلى علاقاته تنشدّ. ومن هذا المنطلق يمكن تأويلها على أنها رموز وعلامات تحوي الصّورة المثال، فلا تكتسب معناها إلاّ إذا كانت موسومة بصفاتها، حتّى لكأنها لغتها الخاصّة.

إنّ التّشابيه التي تقوم عليها صورة الجسد المضخّم في القصيد الجاهلي، كتشبيه الأنف بحدّ السّيف والعنق بالإبريق والنّهد بالرماّنة والكفل بكثيب الرمل… تؤدّي ـ على ما نرجّح ـ وظيفة استعارة للعضو الغائب، لسببين: أوّلهما جسماني يتمثّل في نتوء هذه الأعضاء والأجسام و بروزها (حدّ السيف، الإبريق، الرماّنة، الكثيب ) وإن كانت لا تتماثل والعضو الغائب إلا على قاعدة هذا "الانفصام الاستيهامي" الذي ينشىء الاستعارة. وثانيهما لغوي، نكتفي بملاحظته، لأنّ تحليله يستلزم معرفة عميقة بعلم النّفس اللغوي، لا ندّعيها. وهو يتمثّل في توزّع أعضاء الجسد المضخّم في رموز ذكريّة وأنثويّة، وفي سيطرة الأولى على الثّانية من حيث العدد والتّواتر رغم انعدام إحصاء مضبوط يشمل النّصوص كلّها، ويؤكّد صحّة هذه الملاحظة.

إنّ معاينة الصّورة، من هذه الكوة، يمكن، إذا اكتملت لها الأدوات واستتبّت، أن تفضي إلى قراءة مختلفة تجمع بين الذّاتين: ذات العاشق وذات المعشوقة وجسد هذا وجسد تلك، ولا تقتصر على الثّاني فحسب . فالمرأة في هذه النّصوص ليست جسدا منفردا أو صورة قائمة بنفسها، وإنما هي في علاقة حميمة بجسد آخر و كلّ منهما لباس لصاحبه.يقول الأعشى(جاهلي) أدرك الإسلام ولم يسلم :

إذا ما الضّجيع ثنـــــا عطـــفـهــا ****
تثــنّــت فــكــانــت عــليــه لــبــاسـا

وفي القرآن:

"هـــنّ لبــــاس لــكم وأنــتم لبـــاس لــــهنّ".

إنّ فعل الحب بالمعنى الحسّي للكلمة، لا يغدو ممكنا، في مثل هذه النّصوص إلاّ من خلال "لعبة" لغويّة يحلّ فيها التّشبيه محلّ الاستعارة أو هو ينهض بها، وتتبادل فيها الرّموز والعلامات مواقعها وتتحوّل إلى دوالّ. وفي هذه اللعبة يتوارى جسد العاشق حينا ويتجلّى حينا آخر، يتوارى في جسد الأنثى ويتجلّى في سلسلة العلامات – الرّموز، أو التّشابيه – الاستعارات.

لكن أليس من اللاّفت أن تحتفي هذه النّصوص –إذا اقتصرت القراءة على ظاهر النصّ ولم تنـفذ إلى صميمه– بجسد المرأة وتشيح عن جسد الرجل؟ وهل يقف القارئ مدفوعا مصدودا فيسلّم بأنّ الجسد الأول حاضر وأنّ الثاني غائب؟ فيرجع انفصال العاشق عن جسده إلى مسلّمات ومصادرات عامّة أو إلى أسباب نفسيّة كخجل العربي القديم من جسده أو أسباب اجتماعية – أسطورية تبرز الرجل في صورة إله فهو يمثل الرّوح والعالم الرّوحي، وتبرز المرأة في صورة شيطان فهي تمثّل الجسد و العالم الأرضي؟ قد تستقيم هذه القراءة لو كان جسد العاشق غائبا حقاّ في كلّ هذه القصص. وكثير من الدّراسات والمقاربات النفسيّة والفلسفيّة تؤكّد أنّ للخجلان جسدا يتعذّر عليه بلوغه، إذ يفلت منه دائما فلا يتمكّن من احتوائه. ولذلك يلاحظ سارتر أنّ الخجلان يبذل جهده، بعد أن يدرك أن لا جدوى من محاولاته، لكي يلغي جسده، بالنّسبة إلى الغير، و تتملّكه الرغبة في ألاّ يكون له جسد وأن يكون غير مرئي". غير أن هذا التّـحليل، على براعته، لا يمكن الأخذ به في كلّ صور الحبّ عند العرب، بما في ذلك قصص الحبّ العذري التي يتحلّى فيها العاشق أو المعشوق أو كلاهما بالحياء، وهو عندهم من الصّفات المحمودة في المرأة خاصّة.

إنّ جسد المرأة في حالة حبّ أي في علاقة بجسد آخر. وهذا الآخر جسد العاشق يختفي وراء اللّغة، فلا يمكن رؤيته إلا من كوة إيحاءاتها ورموزها وتشابيهها واستعاراتها. فاللغة هي التي تشي به فتدلّ على مخبئه، وتشعر به وتكشف عن بنيته. وبالتاّلي فهو جسد يرى (بفتح الياء) وجسد يرى (بضم الياء). في هذا السّياق قد ينشأ سؤال: لماذا لا يعي هذا العاشق جسده في طقس الحب مثلما يعي جسد معشوقته؟ وما يسوّغ السّؤال أنّ كثيرا من هذه القصص، يسندها رواتها إلى هؤلاء العشّاق، بحيث يختفي السّارد، ويفسح المجال للشّخصيّة كي تحكي وتقصّ.

و قد ينجم سؤال آخر: ما هي الدّلالات التي ينطوي عليها هذا الجسد المذكّر أو صورة العاشق المتخفّي؟

إنّ الإجابة عن هذين السّؤالين، قد لا تتسنّى إلاّ باستقراء نماذج من هذه النّصوص التي تقوم على دمج المقدّس والمدنّس و الإعلاء من سلطة "الأنا" ومن حضورها المكثّف مثلما تقوم على رفض الامتثال لضغط المشاكلة ونسق القيم الثّابتة وخرق المكبوت أو اللامفكّر فيه، بعبارة المعاصرين. وهي تنضوي إلى ما يمكن أن نسمّيه "قصص الحبّ الحضري". والحقّ أنّ هذه النّصوص من الكثرة، بحيث يصعب أن نتتبّعها كلّها في هذا الحيّز الذي حدّدناه لمقتربنا. لذا نقتصر على قليل منها، وفيه غنى عن الإكثار. ومن هذا القليل القصص المنسوبة إلى المرقّش وامرئ القيس وسحيم عبد بني الحسحاس وعمر بن أبي ربيعة... وعسى أن يكون من الواضح أنّنا نجمع بين أهل الجاهليّة والمخضرمين والإسلاميّين في صدر الإسلام والعصر الأموي، لما لاحظناه، من آصرة قربى بين هذه القصص. وهي بمثابة "شجرة نسب" تؤلّف بين قصص الجاهليّة، وما جرى في مجراها من قصص القرن الأوّل والقرون اللاحقة عليه. أمّا تلك التي يفترق نسبها، ويتصرّم فيها إيقاع النّسبة والتّعلّق الرّابط بين القصص جميعها، فيمكن أن نفردها بعنصر خاصّ.

منصف الوهــايــبـي


.









maxresdefault.jpg
لوحة بعض من الحريم للرسام فابي فابيو
 
أعلى