نقوس المهدي
كاتب
* أخبار أبي نواس
حدثني علي بن حرب أخو محمد بن حرب بن خالد بن المهزم، قال: حدثني أخي محمد بن حرب- وكان بين الأخوين قريب من خمسين سنة- أن أبا نواس- واسمه الحسن بن هانئ، ويكنى أبا علي- ولد بالأهواز، بالقرب من الجبل المقطوع المعروف براهبان سنة تسع وثلاثين ومائة، ومات ببغداد سنة خمس وتسعين ومائة، وكان عمره خمساً وخمسين سنة، ودفن في مقابر الشونيزي في تل اليهود، ومات في بيت خمارة كان يألفها. وكانت أمه أهوازية يقال لها جلبان من بعض مدن الأهواز يقال لها نهر بيري وأبوه من جند مروان بن محمد، من أهل دمشق، مولى لآل الحكم بن الجراح من بني سعد العشيرة، وكان قدم الأهواز أيام مروان بن محمد لرباط الخيل، فتزوج جلبان فأولدها عدة، منهم أبو نواس وأخواه أبو محمد وأبو معاذ، وكان أبو معاذ يؤدب ولد فرج الرخجي، ومات والدهم هانئ، وأبو نواس صغير، فنقلته أمه إلى البصرة وهو ابن ست سنين، فأسلمته إلى الكتاب، فلما ترعرع خرج إلى الأهواز، فانقطع إلى والبة بن الحباب الشاعر، وكان والبة يومئذ مقيماً بالأهواز عند ابن عمه النجائي وهو واليها، فأدبه وخرجه. وكان أبو نواس وضيئاً صبيحاً. فعشقه والبة وأعجب به، وعُني بتأديبه حتى خرج منه ما خرج. ولما مات والبة لزم خلفاً الأحمر وكان خلف أشعر أهل وقته وأعلمهم، فحمل عنه علماً كثيراً وأدباً واسعاً، فخرج واحد زمانه في ذلك، وحدثني ناس عن أبي نواس أنه قال: ما ظنكم برجل لم يقل الشعر حتى روى دواوين ستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى فما ظنكم بالرجال? وحدثت عن ابن مرزوق عن أبي هفان قال: كان أبو نواس آدب الناس وأعرفهم بكل شعر، وكان مطبوعاً، لا يستقصي، ولا يحلل شعره، ولا يقوم عليه، ويقوله على السُّكر كثيراً فشعره متفاوت، لذلك يوجد فيه ما هو في الثريا جودة وحسناً قوة، وما هو في الحضيض ضعفاً وركاكة، وكان مع كثرة أدبه وعلمه خليعاً ماجناً وفتي شاطراً، وهو في جميع ذلك حلو ظريف، وكان يسحر الناس لظرفه وحلاوته وكثرة ملحه، وكان أسخى الناس، لا يحفظ ماله ولا يمسكه، وكان شديد التعصب لقحطان علي عدنان، وله فيهم أشعار كثيرة، يمدحهم ويهجو أعداءهم، وكان يُتهم برأي الخوارج، فمما يروى له في تفضيل اليمن والافتخار بهم قوله: لست لدار عفت وغيرها ضربان من قطرها وحاصبها
وفي هذه القصيدة يقول: فنحن أرباب ناعط ولنا صنعاء والمسك في محاربها
ودان أذواؤنا البرية من معترها رغبة وراهبها
وكان منا الضحاك يعبده ال خابل والوحش في مسار بها
ونحن إذ فارس تُدافع به رام قسطنا على مرازبها
حتى جمعنا إليه مملكة يجتمع الطرف في مواكبها
وفاظ قابوس في سلاسلنا سنين سبعاً وفت لحاسبها
ويوم ساتيدما ضربنا بني ال أصفر والموت في كتائبها
فافخر بقحطان غير مكتئب فحاتم الجود من مناقبها
إذ لاذ برويز عند ذاك بنا والحرب تُمرى بكف حالبها
يذب عنه بنو قبيصة بال خطى والشهب من قواضبها
ولا ترى فارساً كفارسها إذ زالت الهام عن مناكبها
عمرو وقيس والأشتران وزي دُ الخيل أُسْدٌ لدى ملاعبها
واهج نزاراً وأفر جلدتها وهتك الستر عن مثالبها
واحبب قريشاً لحب أحمدها واشكر لها الجزل من مواهبها
إن قريشاً إذا هي انتسبت كان لنا الشطر من مناسبها
فأم مهدي هاشم أم مو سى الخير منا فافخر وسامِ بها
بل مل إلى الصيد من أشاعثها والسادة الغر من مهالبها
أما تميم فغير راحضة ما شلشل العبد في شواربها
أول مجد لها وآخرهإن ذكر المجدُ قوس حاجيها
وقيس عيلان لا أريد لها من المخازي سوى مُحاربها
وإن أكل الأيور موبقها ومطلق من لسان عائبها
وما لبكر بن وائل عصم إلا بحمقائها وكاذبها
ولم تعف كلبها بنو أسد عبيدُ عيرانة وراكبها
وتغلب تندب الطلول ولم تثأر قتيلاً على ائبها
نيكتْ بأدنى المهور أختُهُمُ قسراً ولم يدم أنف خاطبها
وأصبحت قاسط وإخوتها تدّخر الفَسْوَ في حقائبها
قال المؤلف لهذا الكتاب عبد الله بن المعتز: أنشدني المبرد هذه القصيدة وفسر لي هذا التفسير: ناعط. أحد مخاليف اليمن. وقوله: ودان أذواؤنا، أي التبايعة ملوك حمير، مثل ذي يزن وذي كلاع وذي أصبح. وهكذا كثير في حمير، وتجمع على أذواء وذوين ومن ذلك قول الكميت: فلا أعني بذاكم أسفليكم لكني أريد به الذوينا
وأما قوله: دان أذواونا، فغنه يقال: فلان في دين فلان أي طاعته وقيل: لئن حللت بود في بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدكُ
يعني طاعة عمرو. وأما قوله: وكان منا الضحاك. فإن الضحاك كان رجً بعيد الصوت، كثير العجائب، والعجم تدعيه، وذلك حق، وكان اسمه بالفارسية أزدها، ومعناه: الشين لأنه كان شريراً ردياً، فعربته العرب فقالت: الضحاك، وإما كانت أمه قحطانية، فادعته اليمن لذلك، والعرب تزعم والعجم أيضاً أن الجن كانت تطيعه وأن الوحش كانت تألفه وتأنس به، فذلك قوله: وكان منا الضحاك يعبده ال خابل والوحش في مساربها
يعني بالخابل الجن. وأما قوله: قسطنا على مرازبها، فإنه يقال: قسط، إذا جار. وأقسط: إذا عدل. وإما أراد بذلك قصة بهرام جور، واستعانته بالنعمان حد أبي النعمان الأصغر، حين زَوتِ الفرس عنه الملك لما مات أبوه، وولوا ابن عمه. وقصة ذلك تطول. وليس شرط كتابنا ذلك إذ قد قدمنا. وقوله: ضربنا بني الأصفر، هم الروم. وقوله: والحرب تمري، يشبهها كما تستدر الناقة والشاة إذا حُلبت ولهذا قصة كانت في أمر أبرويز وملك الروم يطول شرحها، وكان أبرويز استعان بإياس ابن قبيصة الطائي. وأما قوله: فحاتم الجود من مناقبها، يعني حاتماً الطائي وأما فرسانهم الذين ذكرهم فعمرو بن معدي كرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المُرادي، والاشتران، فهما مالك بن الحارث الأشتر النخعي صاحب علي بن أبي طالب عليه السلام، وابنه إبراهيم بن الأشتر قاتل عبيد الله بن زياد. وقوله: زيد الخيل فإنه يعني به زيد الخيل الطائي ومهلهلاً أباه، وكانا سيدي قومهما، وأما قوله: وأفر جلدتها فإنه يقال في الفساد: أفريت، وفي الإصلاح: فريت. وقال بعضهم: في الشر والخير جميعاً فريت وأفريت. وأما قوله: فأم مهدي هاشم فإنه يعني أم موسى بنت منصور الحميرية، وهي أم المهدي بن المنصور أمير المؤمنين. وأما قوله الأشاعث فإنه من كندة وهم ولد الأشعث بن قيس ومنزلهم الكوفة. والمهالبة من العتيك ومحلهم البصرة أما قوله: أما تميم فغير راحضة ما شلشل العبد في شواربها
فإنه أراد أبا سُواج، وخبره مشهور مع صرد بن جمرة، وهو الذي يهجو به عمر بن لجا والأخطل جريراً وقومه. وقال ابن لجا: تُمسح يربوع سبالاً لئيمة بها من مني العبد رطب ويابسُ
فما ألبس الله امرأ فوق جلده من اللؤم إلا ما الكليبي لابسُ
عليهم ثياب اللوم لا يخلعونها سرابيل في أعناقهم وبرانسُ
وقال الأخطل حين عيره جرير بشرب الخمر: تعيب الخمر وهي شراب كسرى ويشرب قومك العجب العجيبا
مني العبد عبد أبي سواجٍ أحق من المدامة أن تعيبا
وقوله: قوس حاجبها يعني . حاجب بن زرارة بن عُدس بن زيد، وكان دفع قوسه تذكرة بذمته إلى حشّ، وهو عامل كسرى على السواد وأطراف بوادي العبر، حين رعت بنو تميم ولفهم السواد، وضمن حاجبٌ لكسرى ألا يعيثوا ففي ذلك يقول حاجب: ربينا ابن ماء المزن وابني مُحرق إلى أن بدت منهم لحى وشواربُ
ثلاثة أملاك رُبُوا في حجورنا على مضر صلنا بهم لا التكاذُبُ
وأقسّم حش لا يسالم واحداً من الناس حتى يرهم القوس حاجب
وأما قوله: سوى محاربها، فإنه محارب بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر، وفيهم ضعة، والعرب تضرب بهم المثل، قال القطامي: فلما تنازعنا الحديث سألتها من الحي? قالت معشرٌ من محاربِ
من المشتوين القِد مما تراهم جياعاً وعيش الناس ليس بناضب
وأما قوله: وإن أكل الأيور مُوبقها، فهذا شيء يعاب به بنو فزارة، وذلك أن نفراً منهم كانوا في سفر، فجاعوا، وأخذوا غرمول حمارٍ فاشتووه وأكلوه.
وأما قوله: لم تعف كلبها بنو أسد. فإن للكلب أيضاً حديثاً مع بني أسد نحو حديث الأير مع بني فزارة، وأما قوله: وما لبكر بن وائل عصم إلا بحمقائها وكاذبها
فإنه يريد بالكاذب مسيلمة، وكان من بني حنيفة، والحمقاء هبنقة القيسي من بني قيس بن ثعلبة، وهو رجل منهم، كان يضرب المثل بحمقه، وإنما أراد بأحمقها لأن فعلاء لا يكون إلا للمؤنث. فمنعه الوزن فلحن وله مثل هذا التهجم كثير.
وأما قوله: وأصبحت قاسط وإخوتها تدخر الفَسْوَ في حقائبها
فإن إخوتها عبد القيس، وهي تُسَبُّ بالفساء، قال الشاعر: وعبد القيس مصفر لحاها كأن فُسَاءَها قِطع الضبابِ
ولهذا الخبر أيضاً حديث يطول، وهذا آخر تفسير هذه القصيدة.
وكان أبو نواس لشدة عصبيته لقحطان يقول في هذا المعنى كثيراً وهو القائل: إذا ما تميمي أتاك مفاخراً فقل: عد عن ذا كيف أكلك للضب
تفاخر أولد الملوك سفاهة وبولك يجري فوق ساقك والكعب
وهو القائل أيضاً: دع الأطلال تسفيها الجنوب وتبلي عهد جدتها الخطوبُ
وخل لراكب الوجناء أرضاً تخب بها النجيبة والنجيبُ
ولا تأخذ عن الأعراب لهواً ولا عيشاً فعيشهمُ جديبُ
دع الألبان يشربها رجالٌ رقيق العيش بيتهم غريبُ
بأرض نبتها عشرٌ وطلحٌ وأكثر صيدها كلب وذيبُ
إذا راب الحليب فبل عليه ولا تحرج فما في ذاك حُبُ
فأطيب منه صافيةٌ شَمولٌ يطوف بكأسها ساق لبيبُ
أعاذلتي خلا رُشدي قديماً فشقى الآن جيبك لا أتوب
فذاك العيش لا شجر البوادي وذاك العيش لا اللبن الحليب
فأين البدو من إيوان كسرى وأين من الميادين الزروب
تُعيرني الذنوب، وأي حُر من الفتيان ليس له ذنوب
ومما ذكر من خصال أبي نواس المحمودة، ما حدثني به أحمد بن أبي عامر قال: حدثني سلمان شحطة. قال: كان أبو نواس عالماً فقيهاً، عارفاً بالأحكام والفتيا، بصيراً بالاختلاف، صاحب حفظ. ونظر ومعرفة بطرق الحديث، يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وقد تأدب بالبصرة، وهي يومئذ أكثر بلاد الله علماً وفقهاً وأدباً، وكان أحفظ لأشعار القدماء والمخضرمين وأوائل الإسلاميين والمحدثين.
وحدثني محمد بن أحمد القصار قال: حدثني يوسف بن الداية
قال: قال لي أبو نواس: أحفظ. سبعمائة أرجوزة، وهي عزيزة في أيدي الناس، سوى المشهورة عندهم، وكان لزم بعد والبة بن الحباب خلفاً الأحمر، وكان خلف نسيج وحده في الشعر، فلما فرغ أبو نواس من إحكام هذه الفنون تفرغ للنوادر والمجون والمُلح، فحفظ منها شيئاً كثيراً حتى صار أغزر الناس، ثم أخذ في قول الشعر، فبرز على أقرانه، وبرع على أهل زمانه. ثم اتصل بالوزراء والأشراف، فجالسهم وعاشرهم، فتعلم منهم الظرف النظافة. فصار مثلاً في الناس، وأحبه الخاصة والعامة، وكان يهرب من الخلفاء والملوك بجهده ويلام على ذلك فيقول: إنما يصبر على مجالسة هؤلاء الفحول المنقطعون، الذين لا ينبعثون ولا ينطقون إلا بأمرهم، الله لكأني على النار إذا دخلت عليهم، حتى أنصرف إلى إخواني ومن أشاربه، ولأني إذا كنت عندهم فلا أملك من أمري شيئاً.
وحدثني إسماعيل بن حرب قال: أخبرني سعد بن خزيم قال: قال جعفر البرمكي لسعيد بن وهب: أين تأدب أبو نواس? قال: ببلد البصرة.
وحدثني أبو عمرو عن أبي دعامة قال: قال أبو عمرو الشيباني لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الرفث لاحتججنا بشعره لنه مُحكم القول.
ومن أخبار أبي نواس مع أبانٍ اللاحقي ما حدثني به القاسم بن داوود قال: حدثني ابن أبي المنذر قال: كان اللاحقي شاعراً ظريفاً يمدح البرامكة، وكان مخصوصاً من بينهم بجعفر لا يكاد يفارقه، وكانت البرامكة، إذا أرادوا تفرقة مال على الشعراء ولوه ذلك، فأُمر له بمال يفرقه فيهم، وكان كثيراً له خطر، ففرقه وأمر لأبي نواس بدرهم ناقص، وأرسل إليه: إني قد أعطيت كل شاعر على قدره، وهذا مقدارك. فوجد عليه أبو نواس، فلما قال اللاحقي قصيدته الحائية التي يصف فيها نفسه ويلفق فيها عند جعفر بن يحيى وهي هذه القصيدة: أنا من حاجة الأمير وكنز من كنوز الأمير ذو أرباحِ
كاتب حاسب أديب خطيب ناصح راجح على النصاحِ
شاعر مفلق أخف من الري شة مما تكون تحت الجناح
لو رآني الأمير عاين مني شمريا كالجُلجل الصياح
لحية سبطة وأنف طويل واتقاد كشعلة المصباح
لسنت بالمفرط الطويل ولا بالمُ ستكن المجحدر الدحداح
أيمن الناس طائراً يوم صيد لغدوٍّ دُعيت أم لرواح
أبصر الناس بالجوارح والأكلُ ب والخرد الصباح الملاح
وبلغ أبا نواس هذه القصيدة فقال: والله لأعرفنه نفسه، وأنشأ يقول: إن أولى بخسة الحظ مني للمسمى بالجلجل الصياحِ
فبلوا منه حين غنى لديهم أخرس الصوت غير ذي إفصاح
ثم بالريش شبه النفس في الخف ة مما يكون تحت الجناح
فإذا الشم من شماريخ رضوى عنده خفة نوى السباح
لم يكن فيك غير شيئين مما قلت من بعد خلقك الدحداح
لحية سبطة وأنف طويل وهباء سواهما في الرياح
فيك ما يحمل الملوك على الخُر ق ويُزري بالسيد الجحجاح
فيك تيه وفيك عُجبٌ شديد وطماحٌ يفوق كل طماح
باردُ الطرف مظلم الكذب تيا هٌ معيد الحديث غث المُزاح
فلما انتهى الشعر إلى اللاحقي سقط في يده، وعلم أنه إن بلغ ذلك البرامكة أُسقط عندهم، وندم على ما كان منه، فبعث إلى أبى نواس: أن لا تذعها ولك حكمك، فبعث إلى أبي نواس: أن لا تُذعها ولك حكمك، فبعث إليه يقول: لو أعطيتني الدنيا ما كان بد من إذاعتها، فاصبر على حرارة كيها، واعرف قدرك، قال: فلما سمع جعفر شعر أبي نواس في اللاحقي قال: والله لقد قرفه بخمس خلال لا تقبله السفلة على واحدة منها، فكيف تقبله الملوك? فقيل له: يا سيدنا إنه كذب عليه. فتمثل يقول: قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً فما اعتذارك من شيء إذا قيلا
وصار أبان بعد ذلك لبي نواس كالعبد، لا يلقاه ولا يُذكر له إلا يجله وحدثني إبراهيم بن الخصيب قال: أخبرني ابن أبي المنذر قال:
إنما نفق شعر أبي نواس على الناس لسهولته وحسن ألفاظه، وهو مع ذلك كثير البدائع، والذي يراد من الشعر هذان.
وحدثني محمد بن زياد بن محمد عن أبي هفان قال: قال لي أبو نواس: الشره في الطعام دناءة، وفي الأدب مروءة، وكل من حرص على شيء فاستكثر منه سكن حرصه وقرت عينه غير الأدب، فإنه كلما ازداد منه صاحبه ازداد حرصا عليه وشهوة له ودخولاً فيه.
حدثني أحمد بن سلمان قال: حدثني اليؤيؤ قال: سمعت أبا نواس يقول: لا ضيعة على أديب حيث توجه، فإنه يجالس أشراف الناس وملوكهم في كل بلد يرده، وما قُرن شيء إلى شيء أحسن من عقل إلى أدب.
حدثني علي بن إسحاق قال حدثني ابن أبي خلصة قال: رأيت أبا نواس واقفاً بالجسر، ومعه غلام وجارية، لم أر أحسن منهما، وهو على حمار فاره، فقل: يا أبا على ما وقوفك? وما هذان معك? قال: إن الخصيب حملني على هذا الحمار، ووهب لي هذا الغلام وهذه الجارية، فكيف تراهما: قلت: ما يصلحان إلا للملوك. قال: صدقت ولكنها نعمة فيكشخني فيها، فهل عندك من رأى? قلت: تجعل الجارية في منزل الثقات من إخوانك، فتزورها إن شئت. قال: أخاف أن أسترعي الذئب. وافترقنا، ثم التقينا بعد أيام، فقال لي: شاورناك في أمرهما فما فتحت لنا باباً، وإني لما فارقتك ازدحم الرأي على لساني وقلبي. فقلت: ما صنعت? قال: زوجت الغلام بالجارية، فصرت أكشخنة فيها. فقلت: إن الشيء كان حلالاً لك فجعلته حراماً. فقال: يا أحمق أفي الحلال شاورناك أم قلنا لك: ما الرأي? فقلت: عليك لعنة الله ما أهداك إلى كل آبدةٍ! ومما لأبي نواس من شعره البصريّ: عفا المصلي وأقوت الكُثُبُ مني فالمربدان فاللبب
والمسجد الجامع المروءة والدين عفا فالصحان فالرحب
منازلٌ قد عمرتها يفعاً حتى بدا في عذارى الشهب
في فتيه كالسيوف هزهم شرخُ شباب وزانهم أدب
ثُمَّت راب الزمانُ فاقتسموا أيدي سبا في البلاد فأنشبعوا
ويزعم البغداديون أنها من شعره الذي قاله ببغداد، وأخلق به أن يكون ببغداد يبكي إخوانه أهل البصرة، لنه يقول فيها: لما تيقنت أن روحتهمْ ليس لها ما حييت منقلبُ
أبليت صبراً لم يبله أحد واقتسمتني مآرب شُعب
ومن شعره البصري السائر قوله: ودار ندامي عطلوها فأدلجوا بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى وأضغاث ريحان جنى ويابس
حبست بها صحبي وجددت عهدهم وإني على أمثال هاتيك حابس
أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً ويوماً له يوم الترحل خامس
تدور علينا الراح في عسجدية حبتها بألوان التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها مَهاً تدريها بالقسي الفوارس
فللراح مازُرت عليه جيوبها وللماء ما دارت عليه القلانس
حدثني المنقري عن يوسف بن الداية قال: كنت وأبو نواس وجماعة من إخواننا نطوف في شهر رمضان إذا أفطرنا كل ليلة، فمررنا ليلة بمسجد السلولي وابنه يصلي بالناس التراويح، وكان من أصبح الخلق وأحسنهم وجهاً ، فضرب بأبي نواس وقال: لست أبرح حتى يفرغ مجلسنا، وكانت ليلة ختمة، فلما قرأ: أرأيت الذي يكذب بالدين قال أبو نواس: وَفَرَا مُعلناً ليصدع قلبي والهوى يصدع الفؤاد العزوما
أرأيت الذي يكذب بالدين فذاك الذي يدعُ اليتيما
حدثني إبراهيم بن حرب الكوفي قال: حدثني ابن الداية قال: اجتمع أبو نواس ومسلم بن الوليد والخليع وجماعة من العراء في مجلس، فقال بعضهم: أيكم يأتيني ببيت شعر فيه آية من القرآن وله حكمه? فأخذوا يفكرون فيه، فبادر أبو نواس فقال: وفتية في مجلس وجوههم ريحانهم قد أمِنوا الثقيلا
دانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا
فتعجبوا وأفحموا ولم يأت أحد منهم بشيء. قال محمد بن عبد الوهاب: فسمعت بعد ذلك بمدة بيتاً لدعبل استحسنته وهو: ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنينا
حدثني نصر بن محمد قال: أخبرني ابن أبي شقيقة الوراق قال: كان يجتمع الشعراء في دكان أبيه ببغداد وإن أبا العتاهية حضرهم يوماً، فتناول دفتراً ووقع على ظهره ينشد: أيا عجبا كيف يُعصى الإل هُ أم كيف يجحده الجاحدُ
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبداً شاهدُ
وفي كل شيء له آيةٌ تدل على أنه واحد
فلما كان من الغد جاء أبو نواس، فجلس فتحدث ساعة، ووقعت عينه على ذلك الدفتر، وقرأ الأبيات. فقال: من صاحبها? لوددت أنها لي بجميع شعري: فقلنا، أبو العتاهية، فكتب تحتها سبحان من خلق الخل ق من ضعيف مَهين
فساقه من قرارٍ إلى قرار مَكين
يحول خلقاً فخلقاً في الحجب دون العيون
فلما كان من الغد جاء أبو العتاهية وقال: لمن هذه الأبيات? لوددت أنها لي بجميع شعري، فقلنا: أبو نواس. وتعجبنا من اتفاق قوليهما.
وحدثني أبو النجم قال: بلغني أن أبا نواس وهو في الكتاب وكان مليحاً صبيحاً- مرت به صبية وضيئة الوجه، فمازحته ساعة، ثم رمت إليه بتفاحة معضضة وانصرفت فقال: شجر التفاح لا خفت القحل لا ولا زلت لغايات المثل
تقبل الطيب إذا علت به وبها من غير طيب محتمل
وعدتني قبلة من سيدي فتقاضت سيدي حين فعل
ليس ذاك العض من عيب لها إنما ذاك سؤال للقبل
ويقال أن الذي رغب فيه والبة بن الحباب حتى أخذه غلاماً فأدبه وخرجه هذه الأبيات. وقيل أيضاً: إن الذي بعث أبا نواس على صحبة والبة وأرغبه فيه بيتا والبة وهما همذان: ولها ولا ذنب لها حب كأطراف الرماح
في القلب يجرح دائماً فالقلب مجروح النواحي
فإنه استحسنهما وجزلهما ورغب في الشعر. وهذا لعمري كلام دونه السحر.
حدَّثني أبو يعقوب إسحاق بن سيار قال: حدَّثني عامة أصحاب أبي نواس منهم عبد الله بن أحمد بن حرب المعروف بأبي هفان قالوا: بني للمخلوع مجلس لم تر العرب والعجم مثله، قد صور فيه كل التصاوير، وذهب سقفه وحيطانه وأبوابه، وعلقت على أبوابه ستور معصفرة مذهبة، وفرش بمثل ذلك الفرش، فلما فرغ من جميع أسبابه، وعرف ذلك، اختار له يوماً، وتقدم بأن يؤمر الندماء والشعراء بالحضور غدوة ذلك اليوم ليصطحبوا معه فيه، فلم يتخلف أحد، وكان فيمن حضر أبو نواس، فدخلوا فرأوا أسا لم يروا مثله قط ولم يسمعوا به، من إيوان مشرف فائح فاسح، يسافر فيه البصر، وجعل كالبيضة بياضاً، ثم ذهب بالإبريز المخالف بينه باللازوردذي أبواب عظام ومصاريع غلاظ تتلألأ فيها مسامير الذهب، قد قمعت رءوسها بالجوهر النفيس، وقد فرش بفرش كأنها صبغ الدم، منقش بتصاوير الذهب وتماثيل العقبان ونضد فيه العنبر الأشهب والكافور المصعد وعجين المسك وصنوف الفاكهة والشمامات والتزايين، فدعوا وأثنوا عليه، وأخذوا مجالسهم على مراتبهم عنده، ومنزلتهم منه، ثم أقبل عليهم فقال: إني أحببت أن أفرغ متعة هذا المجلس معكم، وأصطبح فيه بكم، وقد ترون حسنه، فلا تنغصوني ذلك بالتكلف، ولا تكدروا سروري بالتحفظ، ولكن انبسطوا وتحدثوا وتبذلوا، فما العيش إلا في ذلك. فقالوا: يا أمير المؤمنين، بالطائر الميمون والكوكب السعدي والجد الصاعد والأمر العالي والظفر والفوز، ووفقت يا أمير المؤمنين، وفقت ولم تزل موفقاً. ثم لما طعموا أتي بالشراب كأنه الزعفران، أصغي من وصال المعشوق، وأطيب ريحاً من نسيم المحبوب، وقام سقاة كالبدور، بكئوس كالنجوم، فطافوا عليهم وعملت الستائر بمزاهرها فشربوا معه من صدر نهارهم إلى آخره، في مذاكرة كقطع الرياض، ونشيد كالدر المفصل بالعقبان، وسماع يحيي النفوس ويزيد الأعمار، فلما كان آخر النهار دعا بعشرة آلاف دينار في صواني، فأمر فنثرت عليهم فانتهبوها، والشراب بعد يدور عليهم بالكبير والصغير، من الصرف والممزوج، وليس يمنع أحد منهم مما يريد، ولا يكره على ما يأباه، وكان جيد الشراب، فصبروا معه إلى أن سكر فنام، ونام جميع من في المجلس عند ذلك إلا أبا نواس فإنه ثبت مكانه فشرب وحده، فلما كان السحر دنا من محمد فقال: يا أمير المؤمنين. قال: لبيك يا خير الندامى. فقال أبو نواس: يا سيد العالمين، أما ترى رقة هذا النسيم، وطيب هذه الشمال، وبرد هذا السحر، وصحة هذا الهواء المعتدل والجو الصافي، وبهيج هذه الأنوار? فلما سمع محمد وصفه استوى جالساً وقال: يا أبا نواس، ما بي للشرب موضع، ولا للسهر مكان، وقد بسطتني بمنثور وصفك فنشطني بمنظومه للشرب. فأنشأ يقول: نبه نديمك قد نعس يسقيك كأساً في الغلس
صرفاً كأن شعاعها في كف شاربها قبس
تذر الفتى وكأنما بلسانه منها خرس
يدعى فيرفع رأسه فإذا استقل به نكس
يسقيكها ذو قرطق يلهي ويؤذي من حبس
خنث الجفون كأنه ظبي الرياض إذا نعس
أضحى الإمام محمد للدين نوراً يقتبس
ورث الخلافة خمسة وبخير سادسهم سدس
تبكي البدور لضحكه والسيف يضحك إن عبس
فارتاح المخلوع ودعا بالشراب فشرب معه.
ومما يختاره أهل الفهم من شعر أبي نواس كثير، كما أن الرديء ينفونه من شعره، ولكن نورد من ذلك ما لم يشتهر عند العوام، وندع ما قد اشتهر، فإن رائيته في الخصيب: أجارة بيتينا أبوك غيور وميسور ما يرجى لديك عسير
وإن كانت من قلائده موجودة عند كل إنسان، وليست كميميته التي لا تقصر عنها حسناً وجودة، وهي مع ذلك لا يعرفها إلا الخواص وهي هذه: يا دار ما فعلت بك الأيام لم تبق فيك بشاشة تستام
عرم الزمان على الذين عهدتهم بك قاطنين وللزمان عرام
أيام لا أغشي لأهلك منزلاً إلا مراقبة عليّ ظلام
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم وأسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه وإذا عصارة كل ذاك أثام
وتجشمت بي هول كل تنوقه هوجاء فيها جرأة إقدام
تذر المطي وراءها فكأنها صف تقدمهن وهي إمام
وإذا المطي بنا بلغن محمداً فظهورهن على الرجال حرام
قربننا من خير من وطي الحصا فلها علينا حرمة وذمام
رفع الحجاب لناظري فبدا به ملك تقطع دونه الأوهام
كالبدر مشتمل بنور خلافة لبس الشباب بملكه الإسلام
سبط البنان إذا احتبى بنجاده غمر الجماجم والسماط قيام
ملك إذا اقتسر الأمور مضى به رأيٌ يفل السيف وهو حسام
داوي به الله القلوب من الجوى حتى برئن وما بهن سقام
أصبحت يا ابن زبيدة ابنة جعفر أملاً لعقد حباله استحكام
فبقيت للعلم الذي يهدي به وتقاعست عن يومك الأيام
ومن ذلك قوله أيضاَ: يا من يبادلني عشقاً بسلوان أم من يصير لي شغلاً بإنسان
كيما أكون له عبداً يقارضني وصلاً بوصل وهجراناً بهجران
إذا التقينا لصلح بعد معتبة لم نفترق دون موعود يلقيان
أقول والعيس تعروري الفلاة بنا سعر الأزمة من مثني ووحدان
لذات لوث عفرناه عذافرة كأن تضبيرها تضبير بنيان
يا ناق لا تسأمي أو تبلغي ملكاً تقبيل راحته والركن سيان
م خير من يمشي على قدم ممن برى الله من إنس ومن جان
مقابل بين أملاك تفضله ولادتان من المنصور ثنتان
مد الإله عليه ظل مملكة أضحى القصي بها كالأقرب الداني
تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها خلقاً وخلقاً كما حذ الشراكان
إن يمسك القطر لم تمسك مواهبه ولي عهد يداه تستهلان
هذا الذي قدم الله القضاء به ألا يكون له في فضله ثاني
هو الذي امتحن الله القلوب به عما يجمجمن من كفر وإيمان
وإن قوماً رجوا إبطال حقكم أمسوا من الله في سخط وعصيان
لن يدفعوا حقكم إلا بدفعهم ما أنزل الله من آي وقرآن
وإن الله سيفاً فوق هامهم بكف أبلج لا غمر ولا واني
يستيقظ الموت منه عند هزته فالموت من نائم فيه ويقظان
حدثني محمد بن عبد الأعلى القرشي قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: قال الأصمعي: ما رأيت أنجب من البرامكة رجالاً وأطفالاً، ولا أشرف منهم أحوالاً، ما أعلم أني حضرت يحيى والفضل وجعفراً إلا انصرفت عنهم ولإخواني بالحباء الجزيل. ثم قال: طرب الفضل بن يحيى إلى مذاكرتي، فأتاني رسوله، وكان يوماً بارداً ذا صر وقر. فقال: أجب الوزير. فمضيت معه، فلما دخلت عليه إذا هو في بهو له. قد فرش بالسمور، وهو في دست منه، وعلى ظهره دواج سمور أشهب، مبطن بخز، وبين يديه كانون فضة، فوقه أثفية ذهب، في وسطها تمثال أسد رابض، في عينيه ياقوتتان تتوقدان، وفوق الصينية إبريق زجاج فرعوني، وكأس كأنها جوهرة محفورة، تسع رطلاً، لا أظنها يفي بها مال كثير، وهو على سرير من عاج، وأنا على ثياب قطن. فسلمت عليه فرد السلام وقال لي: يا أصمعي. ليس هذا من ثياب هذا اليوم. قلت: أصلح الله الوزير. إنما يلبس الرجل ما يجد، فقال: يا غلام ألق عليه شيئاً من الوبر. فأتيت بمثل ما عليه فلبسته حتى الجورب، ثم أتي بخوان لم أدر ما جنسه، غير أني تحيرت في جنسه، وبصفحة مشمسة، فيها لون من مخ الطير، فتناولنا منها.
ثم تتابعت الألوان، فأكلت من جميع ما حضر، ألا والذي اصطفى محمداً صلى الله عليه وآله بالرسالة ما عرفت منها لوناً واحداً، إلا أني لم آكل في الدنيا شيئاً يدانيها قط لذة وطيباً عند خليفة ولا ملك. ثم رفع الخوان، وأتينا بألوان من الطيب، فغسلنا أيدينا، وكنت كلما استعملت من لوناً ظننته أطيب ما في الدنيا من عطر فاخر، حتى إذا استعملت غيره زاده عليه طيباً، فلما فرغنا من ذلك إذا غلام قد أقبل معه جام بلور فيه غالية، قد ازرقت بكثرة العنبر، فتناولنا بملعقة من الذهب حتى نضحناه، فصرت كأني جمرة، ثم قال: أسقنا، فسقاه رطلاً وسقاني مثله، فما تجاوز والله لهاتي حتى كدت أطير فرحاً وسروراً، وصرت في مسلاخ ابن عشرين طرباً. ودبت الشربة فخثرت ما بين الذؤابة والنعل، وكأن دبي الجراد يثب ما بين أحشائي وثباً، فلم أتمالك أن قلت: قاتل الله أبا نواس حيث يقول: إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى دعا همه صدره برحيل
فقال الفضل: هذا البيت له? قلت: نعم يا سيدي، قال: وليس إلا هذا البيت الواحد? قلت: أعز الله الوزير، هي أبيات، قال: هاتها، فأنشدته: وخيمة ناطور برأس منيفة تهم يدا من رامها بزليل
حططنا بها الأثقال فل هجيرة عبور رية تذكى بغير فتيل
نأيت قليلاً ثم فاءت بمزقة من الظل في رث الأباء ضئيل
كأنا لديها بين عطفي نعامة جفا زورها عن مبرك ومقيل
حلبت لأصحابي بها درة الصبا بصفراء من ماء الكروم شمول
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى دعا همه صدره برحيل
فلما توفي الليل جنحاً من الدجى تصابيت واستجملت غير جميل
وأصبحت ألحي السكر والسكر محسن ألا رب إحسان عليك ثقيل
كفى حزناً أن الجواد مقتر عليه ولا معروف عند بخيل
سأبغي الغنى إما نديم خليفة يقيم سواء، أو مخيف سبيل
بكل فتى لا يستطار جنانه إذا نوه الزحفان باسم قتيل
ليخمس مال الله في كل فاجر وذي بطنة للطيبات أكول
أم تر أن المال عون على الندى وليس جواد معدم كبخيل
قال: قاتله الله ما أشعره، يا غلام: أثبتها. ثم قال: أما والله لو لا قاله الناس فيه ما فارقني، ولكن إذا فكرت فيه وجدت الرجل ماجناً خليعاً متهتكاً ألوفاً لحانات الخمارين فأترك نفعه لضره. فقلت: أصلح الله الوزير إنه مع ذلك بمكان من الأدب، ولقد جالسته في مجالس كثيرة، قد ضمت ذوي فنون من الأدباء والعلماء، فما تجاروا في شيء من فنونهم إلا جاراهم فيه، ثم برز عليهم، وهو من الشعر بالمحل الذي قد علمته، أليس هو القائل: ذكرتم من الترحال يوماً فغمنا فلو قد فعلتم صبح الموت بعضنا
زعمتم بأن البين يحزنكم. نعم سيحزنكم حزناً ولا مثل حزننا
تعالوا نقارعكم ليحقق عندكم من أشجى قلوباً أم من أسخن أعينا
أطال قصير الليل يا رحم عندكم? فإن قصير الليل قد طال عندنا
ومن يعرف الليل الطويل وهمه من الناس إلا من تنجم أو أنا
خليون من أوجاعنا يعذلوننا يقولون: لو لم يعب بالحب لانثني
يقومون في الأقوام يحكون فعلنا سفاهة أحلام وسخرية بنا
فلو شاء ربي لابتلاهم بمثل ما اب تلانا فكانوا لا علينا ولا لنا
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد هواك لعل الفضل يجمع بيننا
مير رأيت المال في حجراته مهيناً ذليل النفس بالضيم موقنا
ذا ضن رب المال ثوب جوده بحي على مال الأمير وأذنا
وللفضل أجرا مقدما من ضبارم إذا لبس الدرع الحصينة واكتنى
إليك أبا العباس من دون من مشى عليها امتطينا الحضرمي الملسنا
قلائص لم تعرف كلالاً على الوجى ولم تدر ما قرع الفنيق ولا الهنا
قال الفضل: قد عرفتك أنه لو لا ما هو بسبيله من هذا الفتك ما فاتني قربه ومعاشرته، ثم قال: يا غلام، احمل إليه ألف دينار، فقلت للرسول: أعلمه أن الأصمعي عند الوزير. فتبسم وقال: يا غلام، وإلى بيت أبي سعيد ألف دينار.
***
* أخبار بكر بن النطاح ويكنى أبا وائل
حدَّثني أبو مالك السعدي قال: حدَّثني سعيد بن المثنى قال: قال يزيد بن مزيد: وجه إلى أمير المؤمنين الرشيد ذات ليلة في وقت يرتاب فيه البريء فذهبت ألبس ثيابي فعاجلني الرسول، فمضيت إليه، فلما مثلت بين يديه قال: يا يزيد، من الذي يقول: ومن يفتقر منا يعش بحسامه ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
ونحن وصفنا دون كل قبيلة بشدة بأس في الكتاب المنزل
قلت: والذي أكرمك بالخلافة ما أعرفه. قال: فمن الذي يقول: فإن يك جد القوم فهر بن مالك فحسبي فخراً فخر بكر بن وائل
ولكنهم فازوا بإرث أبيهم وكنا على أمر من الأمر باطل
فقلت: لا وحقك يا أمير المؤمنين ما أعرفه. قال: بلى. أتظن يا يزيد أني أوطئك فراشي وبساطي، وأقلدك أمري. وأنا لا أعرف سرائرك ومخباتك? والله إن عيوني عليك حتى في فراشك، فلا تجعلن على نفسك سلطانا، هذا جلف من أجلاف ربيعة آويته عندك، ومكنته من مجلسك، فقال ما قال: فأتني به حتى أعرفه نفسه ليعلم أن ربيعة ليست كقريش. قال: فانصرفت وأحضرت بكر بن النطاح، فأعلمته القصة، وأمرت له بألفي درهم. وكان له عندي ديوان فأسقطته، وقلت له: الحق بالجزيرة، فخرج إليها، فلم يزل مستتراً بها حتى مات الرشيد، فرددته وزدت في عطائه ونزله.
قال: وحدثت أن بكراً لما ورد على أبي دلف وقد مدحه، دعا به وقال: أنشدني، فأنشده، حتى إذا بلغ الموضع الذي يستمنحه فيه ويسأله قال: فأين ما قلت: ومن يفتقر منّا يعش بحسامه ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
فخجل بكر وأطرق ملياً، ثم قال: يا أيها الأمير، لو كان تحتي فرس من خيلك وفي يدي قناة من رماحك، وتقلدت سيفاً من سيوفك. لما قمت هذا المقام. قال: فدعا بجميع ما ذكره، وهميان فيه خمسمائة دينار ثم قال: امض فصدق قولك بفعلك.
فخرج من بين يديه. وأخذ طريق همذان يريد الجزيرة، فلما كان على مسيرة ثلاث من الكرج، استقبله مال عظيم قد حمل إلى أبي دلف من بعض نواحي أعماله، ومعه فرسان من رجاله، فشد عليهم، فقتل بعضهم، وهزم الباقين، واستولى على المال فذهب به. فلما بلغ الخبر أبا دلف ضحك وقال: لا نلوم إلا أنفسنا. نحن بعثناه على ذلك.
ومما يختار من شعره قوله لأبي دلف: فكفك قوس والندى وتر لها وسهمك فيه اليسر فارم به عسري
وقوله أيضاً: ولقد طلبنا في البلاد فلم نجد أحداً سواك إلى المكارم ينسب
ومن طريف الشعر وبديعه قوله لأبي دلف: نادي نداك فاتوا هم إذا امرا ن يدعوا فاهبا كل مستمع
زوروا الأمير وبيت الله تنتفعوا فاختار وجهك فينا كل منتفع
أراد قول الله عز وجل: "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً" ومما يستحسن أيضاً له قوله: ليس الفتى بجماله وكماله إنّ الجواد بماله يدعى الفتى
ويستحسن أيضاً قوله: فتى لا يراعي جاره هفواته ولا حكمه في النائبات غريب
حليم إذا ما الجهل أذهل أهله عن الحلم، مغشي الفناء نجيب
ومما يختار له قوله أيضاً: أهدي إليك نصيحتي ومودتي قبل اللقاء شواهد الأرواح
وعلى القلوب من القلوب دلائل بالود قبل تشاهد الأشباح
ومما يختار له أيضاً: لو كان خلفك أو أمامك هائباً أحداً سواك لهابك المقدار
ومن قلائد وأمهات قصائده قوله: وليلة جمع لم أبت ناسياً لكم وحين أفاض الناس من عرفات
ولم تنسنيك البيض بالخيف من منيّ وقد رحن أرسالاً إلى الجمرات
فطوفن بالبيت العتيق لياليا وزرن فناء البيت العرصات
كأن الدمى أشربن درعاً أوانس بدون لنا في العز والحبرات
يغيب الدجى ما لم يغبن ويختفي إذا كن منه الدهر مختفيات
جمعن جمالاً في كمال مبرز وسددن سلطانا على النظرات
فزودني شوقاً إليك، وحسرة عليك إلى ما بي من الحسرات
ذهبت بديباج الجمال ووشيه وصرن بما خلفت محتفيات
تطاول ليلي بالحجاز ولم أزل وليلي قصير آمن الغدوات
فيا حبذا بر العراق وبحرها وما يجتنى فيه من الثمرات
كفى حزناً ما تحمل الأرض دونها لنا من ذرا الأجيال والفلوات
أبا مريم قيلوا بعسفان ساعة وروحوا على اسم الله والبركات
ومروا على قبر النبي وأكثروا عليه من التسليم والصلوات
وتلقاء مجدٍ فاستحثوا ركابكم ولا تغفلوا فالحبس في الغفلات
إذا الغمرات استقبلتنا وأمعنت ففي خوضها المنجى من الغمرات
تجاهل عبد الله والعلم ظنه على عالم بالمرءذي الجهلات
ألست الخليع الجامع الرأس والذي يرد الصبا عودا على البدآت
وما زال لي إلفاً وأنساً وصاحباً أخاً دون إخواني وأهل ثقاتي
تناجت بما في قلبه عصيبة يمر لها حر على اللهوات
نديم ملوك يحملون تدللي حنيناً إلى الفتيان والفتيات
متى تشتمل بكر على بدارها أبت واثقاً بالجود والنجدات
وفي أسد والنمر أبناء قاسط أمان من الأيام والغيرات
وإن ذوي الإقدام والصبر والنهي لإخواننا ذهل على اللزبات
وإن تشتمل قيس عليّ وتغلب أبت واثقاً بالمال والثروات
وكم من مقام في ضبيعة معمر يضاف إلى الأشراف والسروات
وفي أكلب تلاد وطارف بعيد من التقصير والتبرات
وما الفتك إلا في ربيعة والغنى وذب عن الأحساب والحرمات
وقاد زمام الجاهلية منهم مناجيب سباقون في الجلبات
وقادوا جيوشاً أولا بعد أول أقر لها عاد بكثر أداة
مفاتيح أبواب الندى بأكفنا فسؤالنا يدعون بالشهوات
ذا هلك البكري كان تراثه سنان وسيفٌ قاضب الشفرات
ولم يدعوا من مال كسرى وجنده على الأرض شيئاً بعد طول بيات
إذا لم يسلطنا القضاء على العدا منوا وابتلوا من خوفنا بخفات
وكل قتيل من ربيعة ينتمي إلى حسب صعب المناكب عات
وأول ما اختطوا اليمامة واحتووا قصوراً وأنهاراً خلال نبات
وعاجت على البحرين منهم عصابة حمتها بأعلام لها وسمات
وهم منعوا ما بين حلوان غيرة إلى الدرب درب الروم ذي الشرقات
وأما بنو عيسى فماه ديارهم إلى ما حوت جو من القريات
بنو حرة أدت أسوداً ضوارياً على الحرب وهابين للبدرات
على أعظم بالرايحان ودايه مقدسة تحت التراب رفات
قفا واسألاها إن أجابت وجربا أبا دلف في شأنها الحسنات
فتى ما أقل السيف والرمح مخرجعداه من الدنيا بغير بيات
هو الفاضل المنصور والراية التي أدارت على الأعداء كأس ممات
أذاق الردى جلويه في خيل فارس ونصراً فصاروا أعظما نخرات
وما اعتورت فرسان قحطان قبله على أحد في السر والجهرات
عدت خيله حمر النحور وخيلهم مخضبة الأكفال والربلات
وصبح صبحاً عسقلان بعسكر بكى منه أهل الروم بالعبرات
سعى غير وان عن عقيل وما سلا ولم يعد عن حرمان فالسلوات
فبيتهم بالنار حتى تفرقوا على الحصن بالقتلى أشد بيات
وجاس تخومات البلاد مصمماً على أهلها بالخيل والغزوات
نفى الكرد عن شعبي نهاوند بعدما سقى فرض القربان بالرفقات
وأورد ماء البشر بالبيض فارتوت وعلّ رماحا من دم نهلات
ولم يثنه عن شهر زور مصيفها وورد أجاج الشرب غير فرات
ومن همذان قارعته كتيبة فآبت بطير النحس النكبات
وبالحرشان استنزل القوم وحده يخرون للأذقان والجبهات
ولم ينج منه طالب قبل طالب وقد أوسعا في الطعن هاك وهات
بدين أمير المؤمنين ورأيه ندين وننفي الشك الشبهات
فكل قبيل من معد وغيرها يرى قاسماً نوراً لدى الظلمات
ولو لم يكن موت لكان مكانه أبو دلف يأتي على النسمات
أبا دلف أوقعت عشرين وقعة وأفنيت أهل الأرض في السنوات
تركت طريق الموت بالسيف عامراً تخرقه القتلى بغير وفاة
صبرت لأن الصبر منك سجية على غدرات الدهر ذي الغدرات
إلى أن رفعت السيف والرمح بعدما سموت فنلت النجم بالسموات
ولبيت هارون الخليفة إذ دعا فألفيته في الله خير موات
فأمنت سرباً خائفاً ورددته وألفت عجلاً بعد طول شتات
أعدت اللحا فوق العصا فجمعتها وقد صيروا عجم العصا عبرات
وألبست نعماك الفقير وغيره وأتبعت براً واصلاً بصلات
فعزك مقرون بعلم وسؤدد وجودك مقرون بصدق عدات
وما افتقدت منك القبائل ساعة جواداً يبذ الرمح حلف هبات
ومالك ظللتنا منك بالخير نعمة جعلت لها أمثالها أخوات
بسطت الغنى والفتك والخير والندى بشدة إقدام وحسن أناة
أبو دلف أفنى صفاتي مديحه وإني ليكفي الناس بعض صفاتي
به ارتد ملك كاد يودي وأسبغت على آل عيسى أفضل النعمات
بني قاسم مجداً رفيعاً بيوته وشاد بيوت المجد بالعزمات
وأشبه عيسى في نداه وبأسه وفي حبّه الإفضال والصدقات
وأشبه إدريس الذي حد سيفه تشب به النيران في الفلوات
كأن جياد المقليين في الوغى جهنم ذات الغيظ الزفرات
أبوه عمير قاد أبناء وائل إلى العز الكشاف للكربات
بنو دلف بالفضل أولى لأنهم معادن أيقان بما هو آت
كأن غمام العز حشو أكفهم إذا طبق الآفاق بالديمات
هذا البيت أقرت الشعراء قاطبة أنه لا يكون وراءه حسن ولا جودة معنى، على أن القصيدة كلها نمط واحد دونه الديباج.
إذا زرتهم في كل عام تباشروا ولم يغفلوا الإلطاف والنفحات
فكم أصلحوا حالي وأسنوا جوائزي وأجروا على البذل والنفقات
وإني على ما في يدي من حبائهم كمعن ومثلي طلحة الطلحات
فمنية قومي أن أخلد فيهم ومنية أعدائي نفاد حياتي
أنا الشاعر المملي على ألف كاتب ويسبق إملائي سريع فرات
فأبدي ولا أروي لخلق قصيدة وأحسب إبليساً لحسن وراتي
حدثني علي بن حرب أخو محمد بن حرب بن خالد بن المهزم، قال: حدثني أخي محمد بن حرب- وكان بين الأخوين قريب من خمسين سنة- أن أبا نواس- واسمه الحسن بن هانئ، ويكنى أبا علي- ولد بالأهواز، بالقرب من الجبل المقطوع المعروف براهبان سنة تسع وثلاثين ومائة، ومات ببغداد سنة خمس وتسعين ومائة، وكان عمره خمساً وخمسين سنة، ودفن في مقابر الشونيزي في تل اليهود، ومات في بيت خمارة كان يألفها. وكانت أمه أهوازية يقال لها جلبان من بعض مدن الأهواز يقال لها نهر بيري وأبوه من جند مروان بن محمد، من أهل دمشق، مولى لآل الحكم بن الجراح من بني سعد العشيرة، وكان قدم الأهواز أيام مروان بن محمد لرباط الخيل، فتزوج جلبان فأولدها عدة، منهم أبو نواس وأخواه أبو محمد وأبو معاذ، وكان أبو معاذ يؤدب ولد فرج الرخجي، ومات والدهم هانئ، وأبو نواس صغير، فنقلته أمه إلى البصرة وهو ابن ست سنين، فأسلمته إلى الكتاب، فلما ترعرع خرج إلى الأهواز، فانقطع إلى والبة بن الحباب الشاعر، وكان والبة يومئذ مقيماً بالأهواز عند ابن عمه النجائي وهو واليها، فأدبه وخرجه. وكان أبو نواس وضيئاً صبيحاً. فعشقه والبة وأعجب به، وعُني بتأديبه حتى خرج منه ما خرج. ولما مات والبة لزم خلفاً الأحمر وكان خلف أشعر أهل وقته وأعلمهم، فحمل عنه علماً كثيراً وأدباً واسعاً، فخرج واحد زمانه في ذلك، وحدثني ناس عن أبي نواس أنه قال: ما ظنكم برجل لم يقل الشعر حتى روى دواوين ستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى فما ظنكم بالرجال? وحدثت عن ابن مرزوق عن أبي هفان قال: كان أبو نواس آدب الناس وأعرفهم بكل شعر، وكان مطبوعاً، لا يستقصي، ولا يحلل شعره، ولا يقوم عليه، ويقوله على السُّكر كثيراً فشعره متفاوت، لذلك يوجد فيه ما هو في الثريا جودة وحسناً قوة، وما هو في الحضيض ضعفاً وركاكة، وكان مع كثرة أدبه وعلمه خليعاً ماجناً وفتي شاطراً، وهو في جميع ذلك حلو ظريف، وكان يسحر الناس لظرفه وحلاوته وكثرة ملحه، وكان أسخى الناس، لا يحفظ ماله ولا يمسكه، وكان شديد التعصب لقحطان علي عدنان، وله فيهم أشعار كثيرة، يمدحهم ويهجو أعداءهم، وكان يُتهم برأي الخوارج، فمما يروى له في تفضيل اليمن والافتخار بهم قوله: لست لدار عفت وغيرها ضربان من قطرها وحاصبها
وفي هذه القصيدة يقول: فنحن أرباب ناعط ولنا صنعاء والمسك في محاربها
ودان أذواؤنا البرية من معترها رغبة وراهبها
وكان منا الضحاك يعبده ال خابل والوحش في مسار بها
ونحن إذ فارس تُدافع به رام قسطنا على مرازبها
حتى جمعنا إليه مملكة يجتمع الطرف في مواكبها
وفاظ قابوس في سلاسلنا سنين سبعاً وفت لحاسبها
ويوم ساتيدما ضربنا بني ال أصفر والموت في كتائبها
فافخر بقحطان غير مكتئب فحاتم الجود من مناقبها
إذ لاذ برويز عند ذاك بنا والحرب تُمرى بكف حالبها
يذب عنه بنو قبيصة بال خطى والشهب من قواضبها
ولا ترى فارساً كفارسها إذ زالت الهام عن مناكبها
عمرو وقيس والأشتران وزي دُ الخيل أُسْدٌ لدى ملاعبها
واهج نزاراً وأفر جلدتها وهتك الستر عن مثالبها
واحبب قريشاً لحب أحمدها واشكر لها الجزل من مواهبها
إن قريشاً إذا هي انتسبت كان لنا الشطر من مناسبها
فأم مهدي هاشم أم مو سى الخير منا فافخر وسامِ بها
بل مل إلى الصيد من أشاعثها والسادة الغر من مهالبها
أما تميم فغير راحضة ما شلشل العبد في شواربها
أول مجد لها وآخرهإن ذكر المجدُ قوس حاجيها
وقيس عيلان لا أريد لها من المخازي سوى مُحاربها
وإن أكل الأيور موبقها ومطلق من لسان عائبها
وما لبكر بن وائل عصم إلا بحمقائها وكاذبها
ولم تعف كلبها بنو أسد عبيدُ عيرانة وراكبها
وتغلب تندب الطلول ولم تثأر قتيلاً على ائبها
نيكتْ بأدنى المهور أختُهُمُ قسراً ولم يدم أنف خاطبها
وأصبحت قاسط وإخوتها تدّخر الفَسْوَ في حقائبها
قال المؤلف لهذا الكتاب عبد الله بن المعتز: أنشدني المبرد هذه القصيدة وفسر لي هذا التفسير: ناعط. أحد مخاليف اليمن. وقوله: ودان أذواؤنا، أي التبايعة ملوك حمير، مثل ذي يزن وذي كلاع وذي أصبح. وهكذا كثير في حمير، وتجمع على أذواء وذوين ومن ذلك قول الكميت: فلا أعني بذاكم أسفليكم لكني أريد به الذوينا
وأما قوله: دان أذواونا، فغنه يقال: فلان في دين فلان أي طاعته وقيل: لئن حللت بود في بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدكُ
يعني طاعة عمرو. وأما قوله: وكان منا الضحاك. فإن الضحاك كان رجً بعيد الصوت، كثير العجائب، والعجم تدعيه، وذلك حق، وكان اسمه بالفارسية أزدها، ومعناه: الشين لأنه كان شريراً ردياً، فعربته العرب فقالت: الضحاك، وإما كانت أمه قحطانية، فادعته اليمن لذلك، والعرب تزعم والعجم أيضاً أن الجن كانت تطيعه وأن الوحش كانت تألفه وتأنس به، فذلك قوله: وكان منا الضحاك يعبده ال خابل والوحش في مساربها
يعني بالخابل الجن. وأما قوله: قسطنا على مرازبها، فإنه يقال: قسط، إذا جار. وأقسط: إذا عدل. وإما أراد بذلك قصة بهرام جور، واستعانته بالنعمان حد أبي النعمان الأصغر، حين زَوتِ الفرس عنه الملك لما مات أبوه، وولوا ابن عمه. وقصة ذلك تطول. وليس شرط كتابنا ذلك إذ قد قدمنا. وقوله: ضربنا بني الأصفر، هم الروم. وقوله: والحرب تمري، يشبهها كما تستدر الناقة والشاة إذا حُلبت ولهذا قصة كانت في أمر أبرويز وملك الروم يطول شرحها، وكان أبرويز استعان بإياس ابن قبيصة الطائي. وأما قوله: فحاتم الجود من مناقبها، يعني حاتماً الطائي وأما فرسانهم الذين ذكرهم فعمرو بن معدي كرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المُرادي، والاشتران، فهما مالك بن الحارث الأشتر النخعي صاحب علي بن أبي طالب عليه السلام، وابنه إبراهيم بن الأشتر قاتل عبيد الله بن زياد. وقوله: زيد الخيل فإنه يعني به زيد الخيل الطائي ومهلهلاً أباه، وكانا سيدي قومهما، وأما قوله: وأفر جلدتها فإنه يقال في الفساد: أفريت، وفي الإصلاح: فريت. وقال بعضهم: في الشر والخير جميعاً فريت وأفريت. وأما قوله: فأم مهدي هاشم فإنه يعني أم موسى بنت منصور الحميرية، وهي أم المهدي بن المنصور أمير المؤمنين. وأما قوله الأشاعث فإنه من كندة وهم ولد الأشعث بن قيس ومنزلهم الكوفة. والمهالبة من العتيك ومحلهم البصرة أما قوله: أما تميم فغير راحضة ما شلشل العبد في شواربها
فإنه أراد أبا سُواج، وخبره مشهور مع صرد بن جمرة، وهو الذي يهجو به عمر بن لجا والأخطل جريراً وقومه. وقال ابن لجا: تُمسح يربوع سبالاً لئيمة بها من مني العبد رطب ويابسُ
فما ألبس الله امرأ فوق جلده من اللؤم إلا ما الكليبي لابسُ
عليهم ثياب اللوم لا يخلعونها سرابيل في أعناقهم وبرانسُ
وقال الأخطل حين عيره جرير بشرب الخمر: تعيب الخمر وهي شراب كسرى ويشرب قومك العجب العجيبا
مني العبد عبد أبي سواجٍ أحق من المدامة أن تعيبا
وقوله: قوس حاجبها يعني . حاجب بن زرارة بن عُدس بن زيد، وكان دفع قوسه تذكرة بذمته إلى حشّ، وهو عامل كسرى على السواد وأطراف بوادي العبر، حين رعت بنو تميم ولفهم السواد، وضمن حاجبٌ لكسرى ألا يعيثوا ففي ذلك يقول حاجب: ربينا ابن ماء المزن وابني مُحرق إلى أن بدت منهم لحى وشواربُ
ثلاثة أملاك رُبُوا في حجورنا على مضر صلنا بهم لا التكاذُبُ
وأقسّم حش لا يسالم واحداً من الناس حتى يرهم القوس حاجب
وأما قوله: سوى محاربها، فإنه محارب بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر، وفيهم ضعة، والعرب تضرب بهم المثل، قال القطامي: فلما تنازعنا الحديث سألتها من الحي? قالت معشرٌ من محاربِ
من المشتوين القِد مما تراهم جياعاً وعيش الناس ليس بناضب
وأما قوله: وإن أكل الأيور مُوبقها، فهذا شيء يعاب به بنو فزارة، وذلك أن نفراً منهم كانوا في سفر، فجاعوا، وأخذوا غرمول حمارٍ فاشتووه وأكلوه.
وأما قوله: لم تعف كلبها بنو أسد. فإن للكلب أيضاً حديثاً مع بني أسد نحو حديث الأير مع بني فزارة، وأما قوله: وما لبكر بن وائل عصم إلا بحمقائها وكاذبها
فإنه يريد بالكاذب مسيلمة، وكان من بني حنيفة، والحمقاء هبنقة القيسي من بني قيس بن ثعلبة، وهو رجل منهم، كان يضرب المثل بحمقه، وإنما أراد بأحمقها لأن فعلاء لا يكون إلا للمؤنث. فمنعه الوزن فلحن وله مثل هذا التهجم كثير.
وأما قوله: وأصبحت قاسط وإخوتها تدخر الفَسْوَ في حقائبها
فإن إخوتها عبد القيس، وهي تُسَبُّ بالفساء، قال الشاعر: وعبد القيس مصفر لحاها كأن فُسَاءَها قِطع الضبابِ
ولهذا الخبر أيضاً حديث يطول، وهذا آخر تفسير هذه القصيدة.
وكان أبو نواس لشدة عصبيته لقحطان يقول في هذا المعنى كثيراً وهو القائل: إذا ما تميمي أتاك مفاخراً فقل: عد عن ذا كيف أكلك للضب
تفاخر أولد الملوك سفاهة وبولك يجري فوق ساقك والكعب
وهو القائل أيضاً: دع الأطلال تسفيها الجنوب وتبلي عهد جدتها الخطوبُ
وخل لراكب الوجناء أرضاً تخب بها النجيبة والنجيبُ
ولا تأخذ عن الأعراب لهواً ولا عيشاً فعيشهمُ جديبُ
دع الألبان يشربها رجالٌ رقيق العيش بيتهم غريبُ
بأرض نبتها عشرٌ وطلحٌ وأكثر صيدها كلب وذيبُ
إذا راب الحليب فبل عليه ولا تحرج فما في ذاك حُبُ
فأطيب منه صافيةٌ شَمولٌ يطوف بكأسها ساق لبيبُ
أعاذلتي خلا رُشدي قديماً فشقى الآن جيبك لا أتوب
فذاك العيش لا شجر البوادي وذاك العيش لا اللبن الحليب
فأين البدو من إيوان كسرى وأين من الميادين الزروب
تُعيرني الذنوب، وأي حُر من الفتيان ليس له ذنوب
ومما ذكر من خصال أبي نواس المحمودة، ما حدثني به أحمد بن أبي عامر قال: حدثني سلمان شحطة. قال: كان أبو نواس عالماً فقيهاً، عارفاً بالأحكام والفتيا، بصيراً بالاختلاف، صاحب حفظ. ونظر ومعرفة بطرق الحديث، يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وقد تأدب بالبصرة، وهي يومئذ أكثر بلاد الله علماً وفقهاً وأدباً، وكان أحفظ لأشعار القدماء والمخضرمين وأوائل الإسلاميين والمحدثين.
وحدثني محمد بن أحمد القصار قال: حدثني يوسف بن الداية
قال: قال لي أبو نواس: أحفظ. سبعمائة أرجوزة، وهي عزيزة في أيدي الناس، سوى المشهورة عندهم، وكان لزم بعد والبة بن الحباب خلفاً الأحمر، وكان خلف نسيج وحده في الشعر، فلما فرغ أبو نواس من إحكام هذه الفنون تفرغ للنوادر والمجون والمُلح، فحفظ منها شيئاً كثيراً حتى صار أغزر الناس، ثم أخذ في قول الشعر، فبرز على أقرانه، وبرع على أهل زمانه. ثم اتصل بالوزراء والأشراف، فجالسهم وعاشرهم، فتعلم منهم الظرف النظافة. فصار مثلاً في الناس، وأحبه الخاصة والعامة، وكان يهرب من الخلفاء والملوك بجهده ويلام على ذلك فيقول: إنما يصبر على مجالسة هؤلاء الفحول المنقطعون، الذين لا ينبعثون ولا ينطقون إلا بأمرهم، الله لكأني على النار إذا دخلت عليهم، حتى أنصرف إلى إخواني ومن أشاربه، ولأني إذا كنت عندهم فلا أملك من أمري شيئاً.
وحدثني إسماعيل بن حرب قال: أخبرني سعد بن خزيم قال: قال جعفر البرمكي لسعيد بن وهب: أين تأدب أبو نواس? قال: ببلد البصرة.
وحدثني أبو عمرو عن أبي دعامة قال: قال أبو عمرو الشيباني لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الرفث لاحتججنا بشعره لنه مُحكم القول.
ومن أخبار أبي نواس مع أبانٍ اللاحقي ما حدثني به القاسم بن داوود قال: حدثني ابن أبي المنذر قال: كان اللاحقي شاعراً ظريفاً يمدح البرامكة، وكان مخصوصاً من بينهم بجعفر لا يكاد يفارقه، وكانت البرامكة، إذا أرادوا تفرقة مال على الشعراء ولوه ذلك، فأُمر له بمال يفرقه فيهم، وكان كثيراً له خطر، ففرقه وأمر لأبي نواس بدرهم ناقص، وأرسل إليه: إني قد أعطيت كل شاعر على قدره، وهذا مقدارك. فوجد عليه أبو نواس، فلما قال اللاحقي قصيدته الحائية التي يصف فيها نفسه ويلفق فيها عند جعفر بن يحيى وهي هذه القصيدة: أنا من حاجة الأمير وكنز من كنوز الأمير ذو أرباحِ
كاتب حاسب أديب خطيب ناصح راجح على النصاحِ
شاعر مفلق أخف من الري شة مما تكون تحت الجناح
لو رآني الأمير عاين مني شمريا كالجُلجل الصياح
لحية سبطة وأنف طويل واتقاد كشعلة المصباح
لسنت بالمفرط الطويل ولا بالمُ ستكن المجحدر الدحداح
أيمن الناس طائراً يوم صيد لغدوٍّ دُعيت أم لرواح
أبصر الناس بالجوارح والأكلُ ب والخرد الصباح الملاح
وبلغ أبا نواس هذه القصيدة فقال: والله لأعرفنه نفسه، وأنشأ يقول: إن أولى بخسة الحظ مني للمسمى بالجلجل الصياحِ
فبلوا منه حين غنى لديهم أخرس الصوت غير ذي إفصاح
ثم بالريش شبه النفس في الخف ة مما يكون تحت الجناح
فإذا الشم من شماريخ رضوى عنده خفة نوى السباح
لم يكن فيك غير شيئين مما قلت من بعد خلقك الدحداح
لحية سبطة وأنف طويل وهباء سواهما في الرياح
فيك ما يحمل الملوك على الخُر ق ويُزري بالسيد الجحجاح
فيك تيه وفيك عُجبٌ شديد وطماحٌ يفوق كل طماح
باردُ الطرف مظلم الكذب تيا هٌ معيد الحديث غث المُزاح
فلما انتهى الشعر إلى اللاحقي سقط في يده، وعلم أنه إن بلغ ذلك البرامكة أُسقط عندهم، وندم على ما كان منه، فبعث إلى أبى نواس: أن لا تذعها ولك حكمك، فبعث إلى أبي نواس: أن لا تُذعها ولك حكمك، فبعث إليه يقول: لو أعطيتني الدنيا ما كان بد من إذاعتها، فاصبر على حرارة كيها، واعرف قدرك، قال: فلما سمع جعفر شعر أبي نواس في اللاحقي قال: والله لقد قرفه بخمس خلال لا تقبله السفلة على واحدة منها، فكيف تقبله الملوك? فقيل له: يا سيدنا إنه كذب عليه. فتمثل يقول: قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً فما اعتذارك من شيء إذا قيلا
وصار أبان بعد ذلك لبي نواس كالعبد، لا يلقاه ولا يُذكر له إلا يجله وحدثني إبراهيم بن الخصيب قال: أخبرني ابن أبي المنذر قال:
إنما نفق شعر أبي نواس على الناس لسهولته وحسن ألفاظه، وهو مع ذلك كثير البدائع، والذي يراد من الشعر هذان.
وحدثني محمد بن زياد بن محمد عن أبي هفان قال: قال لي أبو نواس: الشره في الطعام دناءة، وفي الأدب مروءة، وكل من حرص على شيء فاستكثر منه سكن حرصه وقرت عينه غير الأدب، فإنه كلما ازداد منه صاحبه ازداد حرصا عليه وشهوة له ودخولاً فيه.
حدثني أحمد بن سلمان قال: حدثني اليؤيؤ قال: سمعت أبا نواس يقول: لا ضيعة على أديب حيث توجه، فإنه يجالس أشراف الناس وملوكهم في كل بلد يرده، وما قُرن شيء إلى شيء أحسن من عقل إلى أدب.
حدثني علي بن إسحاق قال حدثني ابن أبي خلصة قال: رأيت أبا نواس واقفاً بالجسر، ومعه غلام وجارية، لم أر أحسن منهما، وهو على حمار فاره، فقل: يا أبا على ما وقوفك? وما هذان معك? قال: إن الخصيب حملني على هذا الحمار، ووهب لي هذا الغلام وهذه الجارية، فكيف تراهما: قلت: ما يصلحان إلا للملوك. قال: صدقت ولكنها نعمة فيكشخني فيها، فهل عندك من رأى? قلت: تجعل الجارية في منزل الثقات من إخوانك، فتزورها إن شئت. قال: أخاف أن أسترعي الذئب. وافترقنا، ثم التقينا بعد أيام، فقال لي: شاورناك في أمرهما فما فتحت لنا باباً، وإني لما فارقتك ازدحم الرأي على لساني وقلبي. فقلت: ما صنعت? قال: زوجت الغلام بالجارية، فصرت أكشخنة فيها. فقلت: إن الشيء كان حلالاً لك فجعلته حراماً. فقال: يا أحمق أفي الحلال شاورناك أم قلنا لك: ما الرأي? فقلت: عليك لعنة الله ما أهداك إلى كل آبدةٍ! ومما لأبي نواس من شعره البصريّ: عفا المصلي وأقوت الكُثُبُ مني فالمربدان فاللبب
والمسجد الجامع المروءة والدين عفا فالصحان فالرحب
منازلٌ قد عمرتها يفعاً حتى بدا في عذارى الشهب
في فتيه كالسيوف هزهم شرخُ شباب وزانهم أدب
ثُمَّت راب الزمانُ فاقتسموا أيدي سبا في البلاد فأنشبعوا
ويزعم البغداديون أنها من شعره الذي قاله ببغداد، وأخلق به أن يكون ببغداد يبكي إخوانه أهل البصرة، لنه يقول فيها: لما تيقنت أن روحتهمْ ليس لها ما حييت منقلبُ
أبليت صبراً لم يبله أحد واقتسمتني مآرب شُعب
ومن شعره البصري السائر قوله: ودار ندامي عطلوها فأدلجوا بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى وأضغاث ريحان جنى ويابس
حبست بها صحبي وجددت عهدهم وإني على أمثال هاتيك حابس
أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً ويوماً له يوم الترحل خامس
تدور علينا الراح في عسجدية حبتها بألوان التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها مَهاً تدريها بالقسي الفوارس
فللراح مازُرت عليه جيوبها وللماء ما دارت عليه القلانس
حدثني المنقري عن يوسف بن الداية قال: كنت وأبو نواس وجماعة من إخواننا نطوف في شهر رمضان إذا أفطرنا كل ليلة، فمررنا ليلة بمسجد السلولي وابنه يصلي بالناس التراويح، وكان من أصبح الخلق وأحسنهم وجهاً ، فضرب بأبي نواس وقال: لست أبرح حتى يفرغ مجلسنا، وكانت ليلة ختمة، فلما قرأ: أرأيت الذي يكذب بالدين قال أبو نواس: وَفَرَا مُعلناً ليصدع قلبي والهوى يصدع الفؤاد العزوما
أرأيت الذي يكذب بالدين فذاك الذي يدعُ اليتيما
حدثني إبراهيم بن حرب الكوفي قال: حدثني ابن الداية قال: اجتمع أبو نواس ومسلم بن الوليد والخليع وجماعة من العراء في مجلس، فقال بعضهم: أيكم يأتيني ببيت شعر فيه آية من القرآن وله حكمه? فأخذوا يفكرون فيه، فبادر أبو نواس فقال: وفتية في مجلس وجوههم ريحانهم قد أمِنوا الثقيلا
دانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا
فتعجبوا وأفحموا ولم يأت أحد منهم بشيء. قال محمد بن عبد الوهاب: فسمعت بعد ذلك بمدة بيتاً لدعبل استحسنته وهو: ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنينا
حدثني نصر بن محمد قال: أخبرني ابن أبي شقيقة الوراق قال: كان يجتمع الشعراء في دكان أبيه ببغداد وإن أبا العتاهية حضرهم يوماً، فتناول دفتراً ووقع على ظهره ينشد: أيا عجبا كيف يُعصى الإل هُ أم كيف يجحده الجاحدُ
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبداً شاهدُ
وفي كل شيء له آيةٌ تدل على أنه واحد
فلما كان من الغد جاء أبو نواس، فجلس فتحدث ساعة، ووقعت عينه على ذلك الدفتر، وقرأ الأبيات. فقال: من صاحبها? لوددت أنها لي بجميع شعري: فقلنا، أبو العتاهية، فكتب تحتها سبحان من خلق الخل ق من ضعيف مَهين
فساقه من قرارٍ إلى قرار مَكين
يحول خلقاً فخلقاً في الحجب دون العيون
فلما كان من الغد جاء أبو العتاهية وقال: لمن هذه الأبيات? لوددت أنها لي بجميع شعري، فقلنا: أبو نواس. وتعجبنا من اتفاق قوليهما.
وحدثني أبو النجم قال: بلغني أن أبا نواس وهو في الكتاب وكان مليحاً صبيحاً- مرت به صبية وضيئة الوجه، فمازحته ساعة، ثم رمت إليه بتفاحة معضضة وانصرفت فقال: شجر التفاح لا خفت القحل لا ولا زلت لغايات المثل
تقبل الطيب إذا علت به وبها من غير طيب محتمل
وعدتني قبلة من سيدي فتقاضت سيدي حين فعل
ليس ذاك العض من عيب لها إنما ذاك سؤال للقبل
ويقال أن الذي رغب فيه والبة بن الحباب حتى أخذه غلاماً فأدبه وخرجه هذه الأبيات. وقيل أيضاً: إن الذي بعث أبا نواس على صحبة والبة وأرغبه فيه بيتا والبة وهما همذان: ولها ولا ذنب لها حب كأطراف الرماح
في القلب يجرح دائماً فالقلب مجروح النواحي
فإنه استحسنهما وجزلهما ورغب في الشعر. وهذا لعمري كلام دونه السحر.
حدَّثني أبو يعقوب إسحاق بن سيار قال: حدَّثني عامة أصحاب أبي نواس منهم عبد الله بن أحمد بن حرب المعروف بأبي هفان قالوا: بني للمخلوع مجلس لم تر العرب والعجم مثله، قد صور فيه كل التصاوير، وذهب سقفه وحيطانه وأبوابه، وعلقت على أبوابه ستور معصفرة مذهبة، وفرش بمثل ذلك الفرش، فلما فرغ من جميع أسبابه، وعرف ذلك، اختار له يوماً، وتقدم بأن يؤمر الندماء والشعراء بالحضور غدوة ذلك اليوم ليصطحبوا معه فيه، فلم يتخلف أحد، وكان فيمن حضر أبو نواس، فدخلوا فرأوا أسا لم يروا مثله قط ولم يسمعوا به، من إيوان مشرف فائح فاسح، يسافر فيه البصر، وجعل كالبيضة بياضاً، ثم ذهب بالإبريز المخالف بينه باللازوردذي أبواب عظام ومصاريع غلاظ تتلألأ فيها مسامير الذهب، قد قمعت رءوسها بالجوهر النفيس، وقد فرش بفرش كأنها صبغ الدم، منقش بتصاوير الذهب وتماثيل العقبان ونضد فيه العنبر الأشهب والكافور المصعد وعجين المسك وصنوف الفاكهة والشمامات والتزايين، فدعوا وأثنوا عليه، وأخذوا مجالسهم على مراتبهم عنده، ومنزلتهم منه، ثم أقبل عليهم فقال: إني أحببت أن أفرغ متعة هذا المجلس معكم، وأصطبح فيه بكم، وقد ترون حسنه، فلا تنغصوني ذلك بالتكلف، ولا تكدروا سروري بالتحفظ، ولكن انبسطوا وتحدثوا وتبذلوا، فما العيش إلا في ذلك. فقالوا: يا أمير المؤمنين، بالطائر الميمون والكوكب السعدي والجد الصاعد والأمر العالي والظفر والفوز، ووفقت يا أمير المؤمنين، وفقت ولم تزل موفقاً. ثم لما طعموا أتي بالشراب كأنه الزعفران، أصغي من وصال المعشوق، وأطيب ريحاً من نسيم المحبوب، وقام سقاة كالبدور، بكئوس كالنجوم، فطافوا عليهم وعملت الستائر بمزاهرها فشربوا معه من صدر نهارهم إلى آخره، في مذاكرة كقطع الرياض، ونشيد كالدر المفصل بالعقبان، وسماع يحيي النفوس ويزيد الأعمار، فلما كان آخر النهار دعا بعشرة آلاف دينار في صواني، فأمر فنثرت عليهم فانتهبوها، والشراب بعد يدور عليهم بالكبير والصغير، من الصرف والممزوج، وليس يمنع أحد منهم مما يريد، ولا يكره على ما يأباه، وكان جيد الشراب، فصبروا معه إلى أن سكر فنام، ونام جميع من في المجلس عند ذلك إلا أبا نواس فإنه ثبت مكانه فشرب وحده، فلما كان السحر دنا من محمد فقال: يا أمير المؤمنين. قال: لبيك يا خير الندامى. فقال أبو نواس: يا سيد العالمين، أما ترى رقة هذا النسيم، وطيب هذه الشمال، وبرد هذا السحر، وصحة هذا الهواء المعتدل والجو الصافي، وبهيج هذه الأنوار? فلما سمع محمد وصفه استوى جالساً وقال: يا أبا نواس، ما بي للشرب موضع، ولا للسهر مكان، وقد بسطتني بمنثور وصفك فنشطني بمنظومه للشرب. فأنشأ يقول: نبه نديمك قد نعس يسقيك كأساً في الغلس
صرفاً كأن شعاعها في كف شاربها قبس
تذر الفتى وكأنما بلسانه منها خرس
يدعى فيرفع رأسه فإذا استقل به نكس
يسقيكها ذو قرطق يلهي ويؤذي من حبس
خنث الجفون كأنه ظبي الرياض إذا نعس
أضحى الإمام محمد للدين نوراً يقتبس
ورث الخلافة خمسة وبخير سادسهم سدس
تبكي البدور لضحكه والسيف يضحك إن عبس
فارتاح المخلوع ودعا بالشراب فشرب معه.
ومما يختاره أهل الفهم من شعر أبي نواس كثير، كما أن الرديء ينفونه من شعره، ولكن نورد من ذلك ما لم يشتهر عند العوام، وندع ما قد اشتهر، فإن رائيته في الخصيب: أجارة بيتينا أبوك غيور وميسور ما يرجى لديك عسير
وإن كانت من قلائده موجودة عند كل إنسان، وليست كميميته التي لا تقصر عنها حسناً وجودة، وهي مع ذلك لا يعرفها إلا الخواص وهي هذه: يا دار ما فعلت بك الأيام لم تبق فيك بشاشة تستام
عرم الزمان على الذين عهدتهم بك قاطنين وللزمان عرام
أيام لا أغشي لأهلك منزلاً إلا مراقبة عليّ ظلام
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم وأسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه وإذا عصارة كل ذاك أثام
وتجشمت بي هول كل تنوقه هوجاء فيها جرأة إقدام
تذر المطي وراءها فكأنها صف تقدمهن وهي إمام
وإذا المطي بنا بلغن محمداً فظهورهن على الرجال حرام
قربننا من خير من وطي الحصا فلها علينا حرمة وذمام
رفع الحجاب لناظري فبدا به ملك تقطع دونه الأوهام
كالبدر مشتمل بنور خلافة لبس الشباب بملكه الإسلام
سبط البنان إذا احتبى بنجاده غمر الجماجم والسماط قيام
ملك إذا اقتسر الأمور مضى به رأيٌ يفل السيف وهو حسام
داوي به الله القلوب من الجوى حتى برئن وما بهن سقام
أصبحت يا ابن زبيدة ابنة جعفر أملاً لعقد حباله استحكام
فبقيت للعلم الذي يهدي به وتقاعست عن يومك الأيام
ومن ذلك قوله أيضاَ: يا من يبادلني عشقاً بسلوان أم من يصير لي شغلاً بإنسان
كيما أكون له عبداً يقارضني وصلاً بوصل وهجراناً بهجران
إذا التقينا لصلح بعد معتبة لم نفترق دون موعود يلقيان
أقول والعيس تعروري الفلاة بنا سعر الأزمة من مثني ووحدان
لذات لوث عفرناه عذافرة كأن تضبيرها تضبير بنيان
يا ناق لا تسأمي أو تبلغي ملكاً تقبيل راحته والركن سيان
م خير من يمشي على قدم ممن برى الله من إنس ومن جان
مقابل بين أملاك تفضله ولادتان من المنصور ثنتان
مد الإله عليه ظل مملكة أضحى القصي بها كالأقرب الداني
تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها خلقاً وخلقاً كما حذ الشراكان
إن يمسك القطر لم تمسك مواهبه ولي عهد يداه تستهلان
هذا الذي قدم الله القضاء به ألا يكون له في فضله ثاني
هو الذي امتحن الله القلوب به عما يجمجمن من كفر وإيمان
وإن قوماً رجوا إبطال حقكم أمسوا من الله في سخط وعصيان
لن يدفعوا حقكم إلا بدفعهم ما أنزل الله من آي وقرآن
وإن الله سيفاً فوق هامهم بكف أبلج لا غمر ولا واني
يستيقظ الموت منه عند هزته فالموت من نائم فيه ويقظان
حدثني محمد بن عبد الأعلى القرشي قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: قال الأصمعي: ما رأيت أنجب من البرامكة رجالاً وأطفالاً، ولا أشرف منهم أحوالاً، ما أعلم أني حضرت يحيى والفضل وجعفراً إلا انصرفت عنهم ولإخواني بالحباء الجزيل. ثم قال: طرب الفضل بن يحيى إلى مذاكرتي، فأتاني رسوله، وكان يوماً بارداً ذا صر وقر. فقال: أجب الوزير. فمضيت معه، فلما دخلت عليه إذا هو في بهو له. قد فرش بالسمور، وهو في دست منه، وعلى ظهره دواج سمور أشهب، مبطن بخز، وبين يديه كانون فضة، فوقه أثفية ذهب، في وسطها تمثال أسد رابض، في عينيه ياقوتتان تتوقدان، وفوق الصينية إبريق زجاج فرعوني، وكأس كأنها جوهرة محفورة، تسع رطلاً، لا أظنها يفي بها مال كثير، وهو على سرير من عاج، وأنا على ثياب قطن. فسلمت عليه فرد السلام وقال لي: يا أصمعي. ليس هذا من ثياب هذا اليوم. قلت: أصلح الله الوزير. إنما يلبس الرجل ما يجد، فقال: يا غلام ألق عليه شيئاً من الوبر. فأتيت بمثل ما عليه فلبسته حتى الجورب، ثم أتي بخوان لم أدر ما جنسه، غير أني تحيرت في جنسه، وبصفحة مشمسة، فيها لون من مخ الطير، فتناولنا منها.
ثم تتابعت الألوان، فأكلت من جميع ما حضر، ألا والذي اصطفى محمداً صلى الله عليه وآله بالرسالة ما عرفت منها لوناً واحداً، إلا أني لم آكل في الدنيا شيئاً يدانيها قط لذة وطيباً عند خليفة ولا ملك. ثم رفع الخوان، وأتينا بألوان من الطيب، فغسلنا أيدينا، وكنت كلما استعملت من لوناً ظننته أطيب ما في الدنيا من عطر فاخر، حتى إذا استعملت غيره زاده عليه طيباً، فلما فرغنا من ذلك إذا غلام قد أقبل معه جام بلور فيه غالية، قد ازرقت بكثرة العنبر، فتناولنا بملعقة من الذهب حتى نضحناه، فصرت كأني جمرة، ثم قال: أسقنا، فسقاه رطلاً وسقاني مثله، فما تجاوز والله لهاتي حتى كدت أطير فرحاً وسروراً، وصرت في مسلاخ ابن عشرين طرباً. ودبت الشربة فخثرت ما بين الذؤابة والنعل، وكأن دبي الجراد يثب ما بين أحشائي وثباً، فلم أتمالك أن قلت: قاتل الله أبا نواس حيث يقول: إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى دعا همه صدره برحيل
فقال الفضل: هذا البيت له? قلت: نعم يا سيدي، قال: وليس إلا هذا البيت الواحد? قلت: أعز الله الوزير، هي أبيات، قال: هاتها، فأنشدته: وخيمة ناطور برأس منيفة تهم يدا من رامها بزليل
حططنا بها الأثقال فل هجيرة عبور رية تذكى بغير فتيل
نأيت قليلاً ثم فاءت بمزقة من الظل في رث الأباء ضئيل
كأنا لديها بين عطفي نعامة جفا زورها عن مبرك ومقيل
حلبت لأصحابي بها درة الصبا بصفراء من ماء الكروم شمول
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى دعا همه صدره برحيل
فلما توفي الليل جنحاً من الدجى تصابيت واستجملت غير جميل
وأصبحت ألحي السكر والسكر محسن ألا رب إحسان عليك ثقيل
كفى حزناً أن الجواد مقتر عليه ولا معروف عند بخيل
سأبغي الغنى إما نديم خليفة يقيم سواء، أو مخيف سبيل
بكل فتى لا يستطار جنانه إذا نوه الزحفان باسم قتيل
ليخمس مال الله في كل فاجر وذي بطنة للطيبات أكول
أم تر أن المال عون على الندى وليس جواد معدم كبخيل
قال: قاتله الله ما أشعره، يا غلام: أثبتها. ثم قال: أما والله لو لا قاله الناس فيه ما فارقني، ولكن إذا فكرت فيه وجدت الرجل ماجناً خليعاً متهتكاً ألوفاً لحانات الخمارين فأترك نفعه لضره. فقلت: أصلح الله الوزير إنه مع ذلك بمكان من الأدب، ولقد جالسته في مجالس كثيرة، قد ضمت ذوي فنون من الأدباء والعلماء، فما تجاروا في شيء من فنونهم إلا جاراهم فيه، ثم برز عليهم، وهو من الشعر بالمحل الذي قد علمته، أليس هو القائل: ذكرتم من الترحال يوماً فغمنا فلو قد فعلتم صبح الموت بعضنا
زعمتم بأن البين يحزنكم. نعم سيحزنكم حزناً ولا مثل حزننا
تعالوا نقارعكم ليحقق عندكم من أشجى قلوباً أم من أسخن أعينا
أطال قصير الليل يا رحم عندكم? فإن قصير الليل قد طال عندنا
ومن يعرف الليل الطويل وهمه من الناس إلا من تنجم أو أنا
خليون من أوجاعنا يعذلوننا يقولون: لو لم يعب بالحب لانثني
يقومون في الأقوام يحكون فعلنا سفاهة أحلام وسخرية بنا
فلو شاء ربي لابتلاهم بمثل ما اب تلانا فكانوا لا علينا ولا لنا
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد هواك لعل الفضل يجمع بيننا
مير رأيت المال في حجراته مهيناً ذليل النفس بالضيم موقنا
ذا ضن رب المال ثوب جوده بحي على مال الأمير وأذنا
وللفضل أجرا مقدما من ضبارم إذا لبس الدرع الحصينة واكتنى
إليك أبا العباس من دون من مشى عليها امتطينا الحضرمي الملسنا
قلائص لم تعرف كلالاً على الوجى ولم تدر ما قرع الفنيق ولا الهنا
قال الفضل: قد عرفتك أنه لو لا ما هو بسبيله من هذا الفتك ما فاتني قربه ومعاشرته، ثم قال: يا غلام، احمل إليه ألف دينار، فقلت للرسول: أعلمه أن الأصمعي عند الوزير. فتبسم وقال: يا غلام، وإلى بيت أبي سعيد ألف دينار.
***
* أخبار بكر بن النطاح ويكنى أبا وائل
حدَّثني أبو مالك السعدي قال: حدَّثني سعيد بن المثنى قال: قال يزيد بن مزيد: وجه إلى أمير المؤمنين الرشيد ذات ليلة في وقت يرتاب فيه البريء فذهبت ألبس ثيابي فعاجلني الرسول، فمضيت إليه، فلما مثلت بين يديه قال: يا يزيد، من الذي يقول: ومن يفتقر منا يعش بحسامه ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
ونحن وصفنا دون كل قبيلة بشدة بأس في الكتاب المنزل
قلت: والذي أكرمك بالخلافة ما أعرفه. قال: فمن الذي يقول: فإن يك جد القوم فهر بن مالك فحسبي فخراً فخر بكر بن وائل
ولكنهم فازوا بإرث أبيهم وكنا على أمر من الأمر باطل
فقلت: لا وحقك يا أمير المؤمنين ما أعرفه. قال: بلى. أتظن يا يزيد أني أوطئك فراشي وبساطي، وأقلدك أمري. وأنا لا أعرف سرائرك ومخباتك? والله إن عيوني عليك حتى في فراشك، فلا تجعلن على نفسك سلطانا، هذا جلف من أجلاف ربيعة آويته عندك، ومكنته من مجلسك، فقال ما قال: فأتني به حتى أعرفه نفسه ليعلم أن ربيعة ليست كقريش. قال: فانصرفت وأحضرت بكر بن النطاح، فأعلمته القصة، وأمرت له بألفي درهم. وكان له عندي ديوان فأسقطته، وقلت له: الحق بالجزيرة، فخرج إليها، فلم يزل مستتراً بها حتى مات الرشيد، فرددته وزدت في عطائه ونزله.
قال: وحدثت أن بكراً لما ورد على أبي دلف وقد مدحه، دعا به وقال: أنشدني، فأنشده، حتى إذا بلغ الموضع الذي يستمنحه فيه ويسأله قال: فأين ما قلت: ومن يفتقر منّا يعش بحسامه ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
فخجل بكر وأطرق ملياً، ثم قال: يا أيها الأمير، لو كان تحتي فرس من خيلك وفي يدي قناة من رماحك، وتقلدت سيفاً من سيوفك. لما قمت هذا المقام. قال: فدعا بجميع ما ذكره، وهميان فيه خمسمائة دينار ثم قال: امض فصدق قولك بفعلك.
فخرج من بين يديه. وأخذ طريق همذان يريد الجزيرة، فلما كان على مسيرة ثلاث من الكرج، استقبله مال عظيم قد حمل إلى أبي دلف من بعض نواحي أعماله، ومعه فرسان من رجاله، فشد عليهم، فقتل بعضهم، وهزم الباقين، واستولى على المال فذهب به. فلما بلغ الخبر أبا دلف ضحك وقال: لا نلوم إلا أنفسنا. نحن بعثناه على ذلك.
ومما يختار من شعره قوله لأبي دلف: فكفك قوس والندى وتر لها وسهمك فيه اليسر فارم به عسري
وقوله أيضاً: ولقد طلبنا في البلاد فلم نجد أحداً سواك إلى المكارم ينسب
ومن طريف الشعر وبديعه قوله لأبي دلف: نادي نداك فاتوا هم إذا امرا ن يدعوا فاهبا كل مستمع
زوروا الأمير وبيت الله تنتفعوا فاختار وجهك فينا كل منتفع
أراد قول الله عز وجل: "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً" ومما يستحسن أيضاً له قوله: ليس الفتى بجماله وكماله إنّ الجواد بماله يدعى الفتى
ويستحسن أيضاً قوله: فتى لا يراعي جاره هفواته ولا حكمه في النائبات غريب
حليم إذا ما الجهل أذهل أهله عن الحلم، مغشي الفناء نجيب
ومما يختار له قوله أيضاً: أهدي إليك نصيحتي ومودتي قبل اللقاء شواهد الأرواح
وعلى القلوب من القلوب دلائل بالود قبل تشاهد الأشباح
ومما يختار له أيضاً: لو كان خلفك أو أمامك هائباً أحداً سواك لهابك المقدار
ومن قلائد وأمهات قصائده قوله: وليلة جمع لم أبت ناسياً لكم وحين أفاض الناس من عرفات
ولم تنسنيك البيض بالخيف من منيّ وقد رحن أرسالاً إلى الجمرات
فطوفن بالبيت العتيق لياليا وزرن فناء البيت العرصات
كأن الدمى أشربن درعاً أوانس بدون لنا في العز والحبرات
يغيب الدجى ما لم يغبن ويختفي إذا كن منه الدهر مختفيات
جمعن جمالاً في كمال مبرز وسددن سلطانا على النظرات
فزودني شوقاً إليك، وحسرة عليك إلى ما بي من الحسرات
ذهبت بديباج الجمال ووشيه وصرن بما خلفت محتفيات
تطاول ليلي بالحجاز ولم أزل وليلي قصير آمن الغدوات
فيا حبذا بر العراق وبحرها وما يجتنى فيه من الثمرات
كفى حزناً ما تحمل الأرض دونها لنا من ذرا الأجيال والفلوات
أبا مريم قيلوا بعسفان ساعة وروحوا على اسم الله والبركات
ومروا على قبر النبي وأكثروا عليه من التسليم والصلوات
وتلقاء مجدٍ فاستحثوا ركابكم ولا تغفلوا فالحبس في الغفلات
إذا الغمرات استقبلتنا وأمعنت ففي خوضها المنجى من الغمرات
تجاهل عبد الله والعلم ظنه على عالم بالمرءذي الجهلات
ألست الخليع الجامع الرأس والذي يرد الصبا عودا على البدآت
وما زال لي إلفاً وأنساً وصاحباً أخاً دون إخواني وأهل ثقاتي
تناجت بما في قلبه عصيبة يمر لها حر على اللهوات
نديم ملوك يحملون تدللي حنيناً إلى الفتيان والفتيات
متى تشتمل بكر على بدارها أبت واثقاً بالجود والنجدات
وفي أسد والنمر أبناء قاسط أمان من الأيام والغيرات
وإن ذوي الإقدام والصبر والنهي لإخواننا ذهل على اللزبات
وإن تشتمل قيس عليّ وتغلب أبت واثقاً بالمال والثروات
وكم من مقام في ضبيعة معمر يضاف إلى الأشراف والسروات
وفي أكلب تلاد وطارف بعيد من التقصير والتبرات
وما الفتك إلا في ربيعة والغنى وذب عن الأحساب والحرمات
وقاد زمام الجاهلية منهم مناجيب سباقون في الجلبات
وقادوا جيوشاً أولا بعد أول أقر لها عاد بكثر أداة
مفاتيح أبواب الندى بأكفنا فسؤالنا يدعون بالشهوات
ذا هلك البكري كان تراثه سنان وسيفٌ قاضب الشفرات
ولم يدعوا من مال كسرى وجنده على الأرض شيئاً بعد طول بيات
إذا لم يسلطنا القضاء على العدا منوا وابتلوا من خوفنا بخفات
وكل قتيل من ربيعة ينتمي إلى حسب صعب المناكب عات
وأول ما اختطوا اليمامة واحتووا قصوراً وأنهاراً خلال نبات
وعاجت على البحرين منهم عصابة حمتها بأعلام لها وسمات
وهم منعوا ما بين حلوان غيرة إلى الدرب درب الروم ذي الشرقات
وأما بنو عيسى فماه ديارهم إلى ما حوت جو من القريات
بنو حرة أدت أسوداً ضوارياً على الحرب وهابين للبدرات
على أعظم بالرايحان ودايه مقدسة تحت التراب رفات
قفا واسألاها إن أجابت وجربا أبا دلف في شأنها الحسنات
فتى ما أقل السيف والرمح مخرجعداه من الدنيا بغير بيات
هو الفاضل المنصور والراية التي أدارت على الأعداء كأس ممات
أذاق الردى جلويه في خيل فارس ونصراً فصاروا أعظما نخرات
وما اعتورت فرسان قحطان قبله على أحد في السر والجهرات
عدت خيله حمر النحور وخيلهم مخضبة الأكفال والربلات
وصبح صبحاً عسقلان بعسكر بكى منه أهل الروم بالعبرات
سعى غير وان عن عقيل وما سلا ولم يعد عن حرمان فالسلوات
فبيتهم بالنار حتى تفرقوا على الحصن بالقتلى أشد بيات
وجاس تخومات البلاد مصمماً على أهلها بالخيل والغزوات
نفى الكرد عن شعبي نهاوند بعدما سقى فرض القربان بالرفقات
وأورد ماء البشر بالبيض فارتوت وعلّ رماحا من دم نهلات
ولم يثنه عن شهر زور مصيفها وورد أجاج الشرب غير فرات
ومن همذان قارعته كتيبة فآبت بطير النحس النكبات
وبالحرشان استنزل القوم وحده يخرون للأذقان والجبهات
ولم ينج منه طالب قبل طالب وقد أوسعا في الطعن هاك وهات
بدين أمير المؤمنين ورأيه ندين وننفي الشك الشبهات
فكل قبيل من معد وغيرها يرى قاسماً نوراً لدى الظلمات
ولو لم يكن موت لكان مكانه أبو دلف يأتي على النسمات
أبا دلف أوقعت عشرين وقعة وأفنيت أهل الأرض في السنوات
تركت طريق الموت بالسيف عامراً تخرقه القتلى بغير وفاة
صبرت لأن الصبر منك سجية على غدرات الدهر ذي الغدرات
إلى أن رفعت السيف والرمح بعدما سموت فنلت النجم بالسموات
ولبيت هارون الخليفة إذ دعا فألفيته في الله خير موات
فأمنت سرباً خائفاً ورددته وألفت عجلاً بعد طول شتات
أعدت اللحا فوق العصا فجمعتها وقد صيروا عجم العصا عبرات
وألبست نعماك الفقير وغيره وأتبعت براً واصلاً بصلات
فعزك مقرون بعلم وسؤدد وجودك مقرون بصدق عدات
وما افتقدت منك القبائل ساعة جواداً يبذ الرمح حلف هبات
ومالك ظللتنا منك بالخير نعمة جعلت لها أمثالها أخوات
بسطت الغنى والفتك والخير والندى بشدة إقدام وحسن أناة
أبو دلف أفنى صفاتي مديحه وإني ليكفي الناس بعض صفاتي
به ارتد ملك كاد يودي وأسبغت على آل عيسى أفضل النعمات
بني قاسم مجداً رفيعاً بيوته وشاد بيوت المجد بالعزمات
وأشبه عيسى في نداه وبأسه وفي حبّه الإفضال والصدقات
وأشبه إدريس الذي حد سيفه تشب به النيران في الفلوات
كأن جياد المقليين في الوغى جهنم ذات الغيظ الزفرات
أبوه عمير قاد أبناء وائل إلى العز الكشاف للكربات
بنو دلف بالفضل أولى لأنهم معادن أيقان بما هو آت
كأن غمام العز حشو أكفهم إذا طبق الآفاق بالديمات
هذا البيت أقرت الشعراء قاطبة أنه لا يكون وراءه حسن ولا جودة معنى، على أن القصيدة كلها نمط واحد دونه الديباج.
إذا زرتهم في كل عام تباشروا ولم يغفلوا الإلطاف والنفحات
فكم أصلحوا حالي وأسنوا جوائزي وأجروا على البذل والنفقات
وإني على ما في يدي من حبائهم كمعن ومثلي طلحة الطلحات
فمنية قومي أن أخلد فيهم ومنية أعدائي نفاد حياتي
أنا الشاعر المملي على ألف كاتب ويسبق إملائي سريع فرات
فأبدي ولا أروي لخلق قصيدة وأحسب إبليساً لحسن وراتي