نقوس المهدي
كاتب
نقوس المهدي
- لا يمكن للشخص أن يكتب دون مخزون ثقافي
- القصة القصيرة محطة عبور نحو الكتابة الروائية
لم يعد أحد يحتفي بالقصة القصيرة. قلة باتت تهتم بالسرد أصلا. هل يحتفي أحد بالكتاب نفسه؟
في حقب تمتد من الستينيات وحتى التسعينيات، كانت القصة القصيرة تخلق "الأضواء" و"النجومية". كان كتاب القصة القصيرة نجوماً بالفعل. هذا الجنس الأدبي هو الذي خلق هالة لكتاب مثل عبدالجبار السحيمي، وإبراهيم بوعلو، وإدريس الخوري، ومحمد شكري، ومحمد زفزاف، ومبارك الدريبي، ومحمد الهرادي. كان الروائيون يضعون جانباً أعمالهم الروائية ليكتبون "القصة القصيرة"، وقتها كانت علامة التميز والتفرد والانتشار. الآن لا شيء سوى "الكساد". من يكتب قصة قصيرة، يكتب في أغلب الوقت لنفسه كما يقول المهتمون. لا أحد يبحث عن "مجموعة قصصية" على أرفف الكتب في المكتبات. إذ الكتاب نفسه يعاني. ما بين واحد إلى اثنين في المائة فقط في المغرب يقرؤون، كما أشار التقرير الصادم الذي نشرته المندوبية السامية للتخطيط، كم يا ترى نصيب القصة القصيرة من هذه النسبة المخجلة؟ القصاصون هم ضمير المجتمع. كيف أصبح المجتمع بدون ضمير؟
سؤال موجع، لكن في السؤال نفسه تكمن الإجابة. في هذا الملف نحاول أن نجد إجابة عن سبب "اندثار" القصة القصيرة.
*******
> ماذا يعني "قصاص بالنسبة لك.. هل تجد تعريفا جامعا؟
< بداية لابد من التساؤل عن حاجة الإنسان للقصص، ولأن الكلام كان سابقا للكتابة، ولأن هناك رغبة فطرية متأصلة في أعماق الإنسان للبوح والتعبير عن تجاربه، ولأن وضع الإنسان قد يتزامن مع واقعه، فقد يتزامن أيضا مع وعيه الطبقي الخاضع بالضرورة لخصوصيات أنماط الإنتاج التي يفرضها التطور التاريخي الحتمي، فقد برزت إرهاصات للحكي دشنتها الحفريات البدائية، وصولا إلى ثورة الكتابة كما هي عليه، وإن وجدت رسومات وكتابات الكهوف التي تعبر عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية لتلك الشعوب، رسومات وخطاطات تقول أشياء عديدة، مكنتنا من فك شفرة حياة الأسلاف، واستقراء حيثيات عيشهم، والنصوص الدينية، دون أن ننسى القرآن، تحفل بالعديد من أحسن القصص، وكتاب الليالي، وكليلة ودمنة، والمقامات، ورسالة الغفران، وقد ذكر الجاحظ في ما كتب عن جمهرة القصاصين في الأدب العربي القديم، من الذين نشطوا في البصرة وبغداد في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، فيما بين ابن عون قبل هذا، وهو من رجالات النصف الأول من القرن الثاني، كيف كان مسجد البصرة يغص بحلقات القصاص. وقد لا توجد تصنيفات وتعريفات محددة لكلمة قصاص، كما لا يوجد هناك كاتب جيد وآخر رديء، الكل يدلي بدلوه في معين الكتابة، لأن الكتابة هي لغة القاص بحد تعبير دي سوسور، والمعاني مطروحة على الطريق كما يقول عمرو بن بحر. واللغة كيان اجتماعي. وعملية الكتابة مجازفة وموهبة، إما أن تؤدي بصاحبها إلى ذرى المجد والشهرة، أو تهوي به إلى الحضيض. لا مجال للصدفة في تكوين القاص. والقاص السيئ نكتشفه من أول سطر. والكتابة الرديئة كالرائحة الكريهة في بدن الكائن لا يشمها صاحبها. والإنسان بحسب س. فرويد (يكاد لا ينفر من روائحه الخاصة). تحضرني بهذا المقام قولة لماهر شفيق فريد ضمن العدد 2 - المجلد الثاني لعام 1982 من مجلة فصول: "الأدباء من قديم قبيلة شكسة نكدة، تولع بالملاحاة والخصومة واللدد، وتفشو فيها أدواء النرجسية والسادية والمازوكية، وقد تتجاور في الصدر الواحد، وكثيرا ما تكون الغلبة فيها لهوى النفس على محبة الحق".
> - عندما نقول "القصة القصيرة" ما هو الانطباع الذي تتركه هاتان الكلمتان؟
< "الرواية تفوز بالنقاط. أما القصة القصيرة فتفوز بالضربة القاضية.."، بهذا الكلام الجميل ينتصر خوليو كورتاثار لجنس القصة القصيرة، التي يشكل السعي وراء مطلق الجمال والمتعة واللذة غايتها المثلى، في الوقت الذي تسعى فيه الفلسفة للبحث عن الحقيقة المطلقة، وهذا التقاطع والفصام الأزلي بين الفلسفة والأدب، أدى بالكتابة القصصية إلى مزج تفاصيل الحياة المعاشة بمشاعر إنسانية رقيقة وشفيفة، كنوع من فنون الحكي تقع أحداثه في زمن محدد ومضغوط، وتسعى بشعرية لغتها، وكثافة صورها، وجمالية أساليبها، للتعبير عن حالة من الحالات، ومواقف من المواقف الشخصية والإنسانية. وبناء على هذا، فإنه لا يمكن للشخص أن يكتب من دون التوفر على مخزون ثقافي كاف، كما لا يوجد مجتمع بدون نصوص قصصية تؤرخ له. الكتابة القصصية تحتاج للترتيب المنطقي للأحداث، قصد إعادة ترتيب المجتمع، لكن بطريقة سحرية تتحول عبرها اللغة إلى كيان. زمن الشعر هو زمن الثورة، فيما تشكل القصة زمن بناء المجتمع، لأننا إزاء محاكاة لما نشاهد أو نقرأ. أكثرية القصاصين لا يتجاوزون هذا الطور، بينما تحتاج الكتابة القصصية غالبا إلى كثير اشتغال عبر استحضار ترسانة من خيال وتكثيف وصور شعرية، وخصائص فنية وجمالية، يجب أن نتعلمها من كبار القصاصين العالميين.
(ما أرانا نقول إلا رجيعا / ومعادا من قولنا مكرورا)
كعب بن زهير
> - كيف هو حال السرد في المغرب من وجهة نظرك؟
< السرد المغربي بخير وبحالة جيدة، وإن كان المغرب حديث عهد بهذه الفنون، إذ لم تظهر القصة القصيرة بالمغرب إلا في حدود النصف الثاني من القرن العشرين، ويرجع الفضل في هذه الحالة للأصوات الرائعة والصادقة التي يمثلها جمهرة من المناضلين العصاميين الحقيقيين في مجال الفكر، الذي أثثوا المشهد الإبداعي ورفدوه بأجمل وأبدع السرود التي تضاهي في بهائها وقوتها وجماليتها ما ينشر في الشرق العربي، واستطاعوا انتزاع الاعتراف بالمغرب كبلد مبدع منفتح على العديد من الحضارات والثقافات، ونشطت بموجب هذا التطور حركة النشر، وصدرت العديد من المجموعات القصصية. في وقت لم تكد تتجاوز فيه الإصدارات القصصية أصابع اليد الواحدة.
> - مرت القصة بعدة مراحل من القصة الطويلة إلى القصيرة ثم الأقصوصة، وأخيرا الومضة القصصية، كيف ترى هذا الأمر؟
< عرفت القصة العربية في تعريفها الأكاديمي الراهن في بدايات القرن العشرين، وشهدت عدة تحولات نوعية على يد عدة أجيال ابتداء من محاولات جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، ومصطفى لطفي المنفلوطي، واليازجي، وأحمد فارس الشدياق وإن كان يميل للأسلوب المقامي، ومن بعدهم جاء جيل إبراهيم عبد القادر المازني، وعباس محمود العقاد، وجودة السحار، ويحيى حقي، وطه حسين، ومارون عبود، ومحمود تيمور، ثم المساهمات الجادة على يد يوسف الشاروني، وإحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ، ومحمود البدوي، ويوسف إدريس، ويوسف السباعي، ثم جاء جيل الكبار ليفجروا ثورة في الكتابة القصصية منهم إدوار الخراط، وجمال الغيطاني، وأحمد هاشم الشريف، وعبد الحكيم قاسم، ويحيى الطاهر عبد الله، وسهيل إدريس، وحنا مينا، وزكريا ثامر، وهاني الراهب، ومحمد حافظ رجب الذي قال: "نحن جيل بلا أساتذة"، هذا الجيل العصامي الجميل الذي دشن لحساسية جديدة وراقية في القصة القصيرة العربية، ساهمت منابر مجلات "الهلال"، و"القصة"، و"الأديب"، و"الآداب"، و"العربي"، و"الكاتب المصري"، و"غاليري 68"، ومواقف وغيرها من الدوريات في إعلاء صوتها. فيما يخص المغرب، عرفت القصة القصيرة نشوءها عبر بدايات خجولة ومحتشمة، واستوت على يد عبد المجيد بن جلون، وعبد الكريم غلاب، ومحمد السطاتي، ومحمد إبراهيم بوعلو، وخناثة بنونة، ومحمد زفزاف، ومحمد شكري، ومحمد عز الدين التازي، ومبارك ربيع، ورفيقة الطبيعة (زينب فهمي) التي سكتت في زمن مبكر، وأحمد الصفريوي باللغة الفرنسية. وبرأيي المتواضع، فقد حافظت القصة القصيرة منذ نشأتها على مقوماتها الفنية، على يد كوكبة كبيرة من القصاصين والقاصات من مختلف الحساسيات والمدارس والتيارات الذين استطاعوا نحت مسار قصصي مغربي بمواصفات كونية، له ملامحه المغربية الصرفة، بينما نشاهد هذا الصرح الإبداعي الجميل يتراجع ويتهاوى أمام الغزو الكاسح "للققجيين" ومناصري القصة الومضة أو القصة الشذرة وما بينهما كأسهل الحلول للشهرة، وقد عملت هذه التخريجات الهجينة المعتمدة على تقنيات التقطيع واللصق، وكتابة "الإس إم إس" أساسا، على تخريب البناء المعماري للقصة القصيرة كفن سام ونبيل يحافظ على كيان اللغة وسؤددها وجمالياتها، وتشويه اللغة وتفريغها من جمالياتها عبر اللجوء للنكتة واللغز وغير ذلك من الأساليب الأخرى، دون الإغفال بأن القصة القصيرة جدا والومضة تحتاجان إلى تكثيف ومواصفات خاصة، قد لا يفقهها العديد ممن يستسهلون هذا الصنف الإبداعي، والذين لا يمتلكون قدرا ثقافيا كافيا يؤهلهم للكتابة، فيما نجد بأن هذه الصنوف من الكتابة قد ظهرت على يد مبدعين حقيقيين بأميركا اللاتينية وأوربا كشكل من أشكال التجريب، وأداة تعبيرية مناسبة لراهن اجتماعي متشعب التعقيد، بحد تعبير أنخيل ملدوندو أستيفيد من بويرتوريكو في مقاله "جدارة القصة القصيرة جداً". ولم تظهر على الشكل البائس الذي تنكتب عليه حاليا على يد بعض الكتبة في بلادنا العربية. - لم يعد أحد يحتفي بالقص القصيرة. قلة باتت تهتم بالسرد أصلا. هل يحتفي أحد بالكتاب نفسه؟ في حقب تمتد من الستينيات وحتى التسعينيات، كانت القصة القصيرة تخلق "الأضواء" و"النجومية". كان كتاب القصة القصيرة نجوماً بالفعل. هذا الجنس الأدبي هو الذي خلق هالة لكتاب مثل عبدالجبار السحيمي، وإبراهيم بوعلو، وإدريس الخوري، ومحمد شكري، ومحمد زفزاف، ومبارك الدريبي، ومحمد الهرادي. كان الروائيون يضعون جانباً أعمالهم الروائية ليكتبوا "القصة القصيرة"، وقتها كانت علامة التميز والتفرد والانتشار. الآن لا شيء سوى "الكساد". من يكتب قصة قصيرة، يكتب في أغلب الوقت لنفسه كما يقول المهتمون. لا أحد يبحث عن "مجموعة قصصية" على أرفف الكتب في المكتبات. إذ الكتاب نفسه يعاني ما بين واحد إلى اثنين في المائة فقط في المغرب يقرؤون، كما أشار التقرير الصادم الذي نشرته المندوبية السامية للتخطيط، كم يا ترى نصيب القصة القصيرة من هذه النسبة المخجلة؟ القصاصون هم ضمير المجتمع. كيف أصبح المجتمع بدون ضمير؟ سؤال موجع، لكن في السؤال نفسه تكمن الإجابة. في هذا الملف نحاول أن نجد إجابة عن سبب "اندثار" القصة القصيرة.
< - هل يمكن أن تسمي بعض كتاب القصة في المغرب يشدون الانتباه؟
> هناك العديد من الأسماء الجديرة بالاحترام منهم من قضى نحبه وترك بصماته واضحة على المنجز القصصى بالمغرب، ولا يمكن بأي حال من الأحوال التطرق لتاريخ القصة المغربية وازدهارها دون ذكر أسماء ممن رحلوا إلى دار البقاء من الرواد محمد زفزاف، محمد شكري، مبارك الدريبي، محمد بيدي، عبد الجبار السحيمي، ومنهم ما يزال يواظب بشكل جميل وفعال على إثراء هذا المشهد الأدبي الرائع ومنهم على الخصوص عبد الكريم غلاب، أحمد بوزفور، محمد برادة، محمد أنقار، أبو يوسف طه. دون أن ننسى طبعا أسماء الجيل الجديد من الغبن أن نذكر بعضهم ونترك جلهم.
< القارئ يتجه نحو الرواية أكثر من المجموعات القصصية، أو الدواوين الشعرية، كيف تفسر هذه الظاهرة؟
> منطقيا قد تكون القصة القصيرة محطة عبور نحو الكتابة الروائية، فأغلب الروائيين بدأوا مشوارهم كقصاصين، باعتبار القصة القصيرة رافدا من روافد الرواية، لكن لا نستطيع الجزم برأي في غياب إحصائيات دقيقة عن الموضوع، في بلد يصنف كإحدى الدول الأضعف تداولا ومقروئية للكتاب في العالم، واندثار المكتبات، وتحويلها لمتاجر ومقاهي ومطاعم وبازارات، والقارئ الحالي قليل الصبر على متابعة الكتاب والرواية، ويلجأ في الغالب إلى الأخبار المختصرة والمواد القصيرة والنصوص المختزلة، خاصة في ظل اكتساح تقنيات الاتصال الحديثة، ولا أدل على ذلك من تفشي ظاهرة ما يسمى بالقصة القصيرة جدا بين عموم المتأدبين، والتي كان الانترنيت أحد الأسباب وراء انتشارها، مع ضرورة الإقرار بتفاوت القيمة الفنية لهذا الصنف القصصي الذي أصبح مغريا لسهولته وفراغه من السمات الجمالية والفنية، حيث امتدت نية التخريب لدى جيل هذه المرحلة الذي استهوته المغامرة. < - هل تعتقد أن للملتقيات الأدبية دوراً في تطوير القصة أم أنها مجرد مناسبات للعلاقات العامة والاجتماعية؟ > مجمل اللقاءات الأدبية ظاهرة صحية، وتقوم بما تعجز عنه أو تتقاعس عنه الوزارة الوصية ودوائرها التابعة لها بكل عدتها وعتادها وميزانياتها وأطقمها البشرية واللوجيستيكية، وقد لعبت هذه الملتقيات الثقافية دورا أساسيا في تطوير وإثراء المشهد الأدبي بتشجيعها للمبدعين، وإقامة المسابقات الثقافية، وطبع المؤلفات، وإنجاز دراسات أكاديمية حول القصة، ومواكبة ما ينشر من المجموعات القصصية بالنقد والتحليل، هذا دون أن ننسى دورها في ربط العلاقات الوطيدة بين الأدباء ومد جسور التعارف بين مختلف الحساسيات. < إلى أي مدى نجح الناقد المغربي في ترقية التجربة القصصية، وما مدى تأثيره فيها؟ > الناقد ليس دوما كاتبا فاشلا كما يدعي الأدباء، النقد كتابة ثانية للنصوص، وبدونه لا تستقيم، والنصوص الإبداعية منبع للتأويلات والقراءات، لذا على الكاتب أن يموت حتى لا يفسد على القارئ لذة النص، في زمن مضى يرجع إلى عقد السبعينات ظهرت في المغرب موجة من النقد الجاد، الشيء الذي أهله ليكون مصدر إشعاع وانبعاث لنقد أدبي حداثي وعلمي على المستوى العربي، بحكم اطلاع الأدباء المغاربة على مختلف النقود الغربية المكتوبة خاصة بالفرنسية لرولان بارث، ولوسيان غولدمان، ألان روب غرييه، غاستون باشلار، جان جينيت، جاك دريدا، بروب، جريماس، تودوروف، ونظمت بالمناسبة ملتقيات عربية على مستوى عال بمباركة اتحاد كتاب المغرب، مبادرات لم نعد نسمع عنها شيئا، بعد أن اضطلعت بالمهمة الجمعيات الثقافية، وأصبح هذا الاتحاد الذي كان من أهم وأقوى اتحادات الكتاب العرب إلى تجمع شبه رسمي يخضع لإملاءات حزبية وخلافات وحسابات ضيقة، وغير بعيد عن الثقافة المؤسساتية عرفت الساحة الأدبية إصدارات تهتم بالنقد تأليفا وترجمة، الشيء الذي كان له الأثر الكبير على النقد المغربي، دون أن ننسى الدراسات النقدية المتنوعة على صفحات مجلات أنفاس، أقلام، آفاق، الثقافة الجديدة، الزمان المغربي،عيون المقالات، البديل، والملحق الثقافي لجريدتي العلم والاتحاد الاشتراكي، والتي كان للقصة الحظ الأوفر من هذه النقود، قبل أن يطولها قانون المنع الجائر، وكان للدراسات النقدية التي أنجزها أحمد اليبوري، محمد برادة، عبد الرحيم العلام، البشير الوادنوني، عبد الفتاح كيليطو، نجيب العوفي، حميد الحميداني في التقعيد لنقد قصصي غير مجامل وواعد.
< - ثمة عدد من المسابقات القصصية هل يجد فيها القاص جدوى وإضافة؟
> تسعى المسابقات القصصية المحكمة التي تنظم بين الفينة والأخرى من طرف هيئات وطنية أو عربية إلى خلخلة المشهد القصصي الوطني والعربي، وتحريك الركود الثقافي، وقد يجد القاص بالتالي في هذه المسابقات ذات الحس التنافسي فرصة سانحة لاختبار قدراته الإبداعية والاحتكاك بحساسيات أخرى مغايرة، مثل أفراس الرهان، حقيقة هناك العديد من مثل هكذا مبادرات حسنة يضطلع بها بعض ذوي النوايا الطيبة والغيورين على الشأن الثقافي وواقع اللغة العربية، بإجراء هذه المسابقات القصصية، وطبع بعض المجموعات على نفقتهم، وهذه سنة حميدة من شأنها تشجيع الطاقات الشابة، وانتشالها من الظل، والدفع بها إلى الأمام.
< - لماذا لا يهتم الكاتب والقاص المغربي بالفضاءات المكانية، كما هو الشأن لقصاصين وروائين عرب وأجانب؟
> أعتقد أن السؤال يدعو للحديث عن علاقة القاص بالأمكنة، ومدى تطابق هذه الفرضية مع القصة القصيرة المغربية، إسوة بما نلمسه في العديد من الأعمال العربية والغربية، التي تعالقت فيها أسماء أدباء بمدن وأمكنة وفضاءات معينة بدءا من جيمس جويس ووفائه لدبلن، ولورنس داريل وكفافيس وادوار الخراط بالإسكندرية، ونجيب محفوظ بالقاهرة وحواريها ومقاهيها، وحنا مينا باللاذقية، ومحمد خضير بالبصرة، وأخرى ببيروت وبغداد وغيرها، هكذا يأخذك الكاتب من يديك ويتجول بك بحذاقة الدليل السياحي، وتعرفنا بالصدفة على أماكن دون أن نزورها أو نعقد موعدا مع أهلها، في القصة المغربية القصيرة نادرا ما نجد طيف الأمكنة بين النصوص قلة قليلة لا تتعدى أصابع اليد نسجوا جسورا بينهم وبين مدنهم محمد شكري أول هؤلاء حيث ارتبط بمدينته طنجة، وعبد المجيد بن جلون وأحمد بناني بفاس، أحمد شماعو بمدينة سلا، مبارك الدريبي بأحياء القنيطرة، محمد الخضر الريسوني بتطوان، غير هذا لا نكاد نعثر في مجمل القصص المغربية على أثر واضح لمؤلف حافظ على الحبل السري الذي يربط بينه وبين مدينته، وضعف هذا الوفاء يعود إلى الحياة غير القارة لهؤلاء، وتنقلهم الدائم بين مدن كثيرة بحكم العمل مما يتعذر عليهم نسج علاقة حميمية بالأمكنة، والكتاب المذكورون على سبيل التمثيل قضوا جل حياتهم بمدنهم دون أن يفارقوها، وقد ألف الباحث مصطفى يعلى كتابا فريدا ومتميزا يعالج " ظاهرة المحلية بالسرد المغربي خصوصيات المجتمع المحلي في نصوص القصاصين المغاربة الرواد."
< البعض يقول إن القاصات المغربيات تتسم أعمالهن بالغموض والسريالية، ما مدى دقة هذا التوصيف؟
> القاصات كشأن المبدعات المغربيات عموما يكتبن بتحد ظاهر، وكتاباتهن لا تُعبر عن إحساسهن في ما يكتبنه بسبب التسلط المجتمعي والعنف والقهر الذي يعانينه في مجتمع منغلق ومتخلف، ولا تكاد كتاباتهن تخرج عن مطارحة قضايا الدفاع عن حرية وحقوق المرأة والتسلط الذكوري والطفولة، وتكريس للمسائل الأخلاقية والاجتماعية والهموم الصغيرة، أشياء بديهية غير ذات قيمة تكرر نفسها ولا تكاد تستهوي القارئ المتمرس، لهذا فالقليل منهن على وفرتهن، استطعن أن يرقين بنصوصهن القصصية إلى المستوى المطلوب من الجودة والجدة، بينما تتسم تلك النصوص بالغموض والعبثية وليس السوريالية، لأن السوريالية كمدرسة فنية راقية لها رموزها وأدواتها وعوالمها وفضاءاتها ولغتها وتاريخها المجيد، هناك أسماء قليلة لكاتبات يكتبن بجدية وعمق، مثل ربيعة ريحان، لطيفة باقا، مريم بن بخثة، حنان درقاوي، زهرة زيراوي، زهور كرام، رجاء الطالبي، الزهرة رميج، لكن هناك أقلام تافهة تتسم بالضحالة مما ساهم في محدودية انتشارهن عربيا، بالرغم من أن عمر التجربة القصصية النسوية، يحسب بتاريخ صدور أول مجموعة قصصية نسوية لخناتة بنونة في مجموعتها الرائدة "ليسقط الصمت" سنة 1967 ، بمقابل أول إصدار رجالي الذي بدأ حوالي 1945.
حوار أجراه خالد أبجيك
الخميس, 18 ديسمبر 2014
------------------
المهدي نقوس من مواليد قرية سيدي أحمد باليوسفية عام 1953. قاص وشاعر. عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فرع اليوسفية. له العديد من المقالات منشورة في صحف ومجالات عربية ووطنية. شارك بعدة ملتقيات أدبية في مختلف مدن المغرب. صدرت له مجموعتان قصصيتان الأولى بعنوان "صنائع من نوبة عراق العجب"، والثانية موسومة بـ"...إلخ"، في انتظار نشر عدة أعمال أخرى بين شعر وقصة ومقالات نقدية
- لا يمكن للشخص أن يكتب دون مخزون ثقافي
- القصة القصيرة محطة عبور نحو الكتابة الروائية
لم يعد أحد يحتفي بالقصة القصيرة. قلة باتت تهتم بالسرد أصلا. هل يحتفي أحد بالكتاب نفسه؟
في حقب تمتد من الستينيات وحتى التسعينيات، كانت القصة القصيرة تخلق "الأضواء" و"النجومية". كان كتاب القصة القصيرة نجوماً بالفعل. هذا الجنس الأدبي هو الذي خلق هالة لكتاب مثل عبدالجبار السحيمي، وإبراهيم بوعلو، وإدريس الخوري، ومحمد شكري، ومحمد زفزاف، ومبارك الدريبي، ومحمد الهرادي. كان الروائيون يضعون جانباً أعمالهم الروائية ليكتبون "القصة القصيرة"، وقتها كانت علامة التميز والتفرد والانتشار. الآن لا شيء سوى "الكساد". من يكتب قصة قصيرة، يكتب في أغلب الوقت لنفسه كما يقول المهتمون. لا أحد يبحث عن "مجموعة قصصية" على أرفف الكتب في المكتبات. إذ الكتاب نفسه يعاني. ما بين واحد إلى اثنين في المائة فقط في المغرب يقرؤون، كما أشار التقرير الصادم الذي نشرته المندوبية السامية للتخطيط، كم يا ترى نصيب القصة القصيرة من هذه النسبة المخجلة؟ القصاصون هم ضمير المجتمع. كيف أصبح المجتمع بدون ضمير؟
سؤال موجع، لكن في السؤال نفسه تكمن الإجابة. في هذا الملف نحاول أن نجد إجابة عن سبب "اندثار" القصة القصيرة.
*******
> ماذا يعني "قصاص بالنسبة لك.. هل تجد تعريفا جامعا؟
< بداية لابد من التساؤل عن حاجة الإنسان للقصص، ولأن الكلام كان سابقا للكتابة، ولأن هناك رغبة فطرية متأصلة في أعماق الإنسان للبوح والتعبير عن تجاربه، ولأن وضع الإنسان قد يتزامن مع واقعه، فقد يتزامن أيضا مع وعيه الطبقي الخاضع بالضرورة لخصوصيات أنماط الإنتاج التي يفرضها التطور التاريخي الحتمي، فقد برزت إرهاصات للحكي دشنتها الحفريات البدائية، وصولا إلى ثورة الكتابة كما هي عليه، وإن وجدت رسومات وكتابات الكهوف التي تعبر عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية لتلك الشعوب، رسومات وخطاطات تقول أشياء عديدة، مكنتنا من فك شفرة حياة الأسلاف، واستقراء حيثيات عيشهم، والنصوص الدينية، دون أن ننسى القرآن، تحفل بالعديد من أحسن القصص، وكتاب الليالي، وكليلة ودمنة، والمقامات، ورسالة الغفران، وقد ذكر الجاحظ في ما كتب عن جمهرة القصاصين في الأدب العربي القديم، من الذين نشطوا في البصرة وبغداد في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، فيما بين ابن عون قبل هذا، وهو من رجالات النصف الأول من القرن الثاني، كيف كان مسجد البصرة يغص بحلقات القصاص. وقد لا توجد تصنيفات وتعريفات محددة لكلمة قصاص، كما لا يوجد هناك كاتب جيد وآخر رديء، الكل يدلي بدلوه في معين الكتابة، لأن الكتابة هي لغة القاص بحد تعبير دي سوسور، والمعاني مطروحة على الطريق كما يقول عمرو بن بحر. واللغة كيان اجتماعي. وعملية الكتابة مجازفة وموهبة، إما أن تؤدي بصاحبها إلى ذرى المجد والشهرة، أو تهوي به إلى الحضيض. لا مجال للصدفة في تكوين القاص. والقاص السيئ نكتشفه من أول سطر. والكتابة الرديئة كالرائحة الكريهة في بدن الكائن لا يشمها صاحبها. والإنسان بحسب س. فرويد (يكاد لا ينفر من روائحه الخاصة). تحضرني بهذا المقام قولة لماهر شفيق فريد ضمن العدد 2 - المجلد الثاني لعام 1982 من مجلة فصول: "الأدباء من قديم قبيلة شكسة نكدة، تولع بالملاحاة والخصومة واللدد، وتفشو فيها أدواء النرجسية والسادية والمازوكية، وقد تتجاور في الصدر الواحد، وكثيرا ما تكون الغلبة فيها لهوى النفس على محبة الحق".
> - عندما نقول "القصة القصيرة" ما هو الانطباع الذي تتركه هاتان الكلمتان؟
< "الرواية تفوز بالنقاط. أما القصة القصيرة فتفوز بالضربة القاضية.."، بهذا الكلام الجميل ينتصر خوليو كورتاثار لجنس القصة القصيرة، التي يشكل السعي وراء مطلق الجمال والمتعة واللذة غايتها المثلى، في الوقت الذي تسعى فيه الفلسفة للبحث عن الحقيقة المطلقة، وهذا التقاطع والفصام الأزلي بين الفلسفة والأدب، أدى بالكتابة القصصية إلى مزج تفاصيل الحياة المعاشة بمشاعر إنسانية رقيقة وشفيفة، كنوع من فنون الحكي تقع أحداثه في زمن محدد ومضغوط، وتسعى بشعرية لغتها، وكثافة صورها، وجمالية أساليبها، للتعبير عن حالة من الحالات، ومواقف من المواقف الشخصية والإنسانية. وبناء على هذا، فإنه لا يمكن للشخص أن يكتب من دون التوفر على مخزون ثقافي كاف، كما لا يوجد مجتمع بدون نصوص قصصية تؤرخ له. الكتابة القصصية تحتاج للترتيب المنطقي للأحداث، قصد إعادة ترتيب المجتمع، لكن بطريقة سحرية تتحول عبرها اللغة إلى كيان. زمن الشعر هو زمن الثورة، فيما تشكل القصة زمن بناء المجتمع، لأننا إزاء محاكاة لما نشاهد أو نقرأ. أكثرية القصاصين لا يتجاوزون هذا الطور، بينما تحتاج الكتابة القصصية غالبا إلى كثير اشتغال عبر استحضار ترسانة من خيال وتكثيف وصور شعرية، وخصائص فنية وجمالية، يجب أن نتعلمها من كبار القصاصين العالميين.
(ما أرانا نقول إلا رجيعا / ومعادا من قولنا مكرورا)
كعب بن زهير
> - كيف هو حال السرد في المغرب من وجهة نظرك؟
< السرد المغربي بخير وبحالة جيدة، وإن كان المغرب حديث عهد بهذه الفنون، إذ لم تظهر القصة القصيرة بالمغرب إلا في حدود النصف الثاني من القرن العشرين، ويرجع الفضل في هذه الحالة للأصوات الرائعة والصادقة التي يمثلها جمهرة من المناضلين العصاميين الحقيقيين في مجال الفكر، الذي أثثوا المشهد الإبداعي ورفدوه بأجمل وأبدع السرود التي تضاهي في بهائها وقوتها وجماليتها ما ينشر في الشرق العربي، واستطاعوا انتزاع الاعتراف بالمغرب كبلد مبدع منفتح على العديد من الحضارات والثقافات، ونشطت بموجب هذا التطور حركة النشر، وصدرت العديد من المجموعات القصصية. في وقت لم تكد تتجاوز فيه الإصدارات القصصية أصابع اليد الواحدة.
> - مرت القصة بعدة مراحل من القصة الطويلة إلى القصيرة ثم الأقصوصة، وأخيرا الومضة القصصية، كيف ترى هذا الأمر؟
< عرفت القصة العربية في تعريفها الأكاديمي الراهن في بدايات القرن العشرين، وشهدت عدة تحولات نوعية على يد عدة أجيال ابتداء من محاولات جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، ومصطفى لطفي المنفلوطي، واليازجي، وأحمد فارس الشدياق وإن كان يميل للأسلوب المقامي، ومن بعدهم جاء جيل إبراهيم عبد القادر المازني، وعباس محمود العقاد، وجودة السحار، ويحيى حقي، وطه حسين، ومارون عبود، ومحمود تيمور، ثم المساهمات الجادة على يد يوسف الشاروني، وإحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ، ومحمود البدوي، ويوسف إدريس، ويوسف السباعي، ثم جاء جيل الكبار ليفجروا ثورة في الكتابة القصصية منهم إدوار الخراط، وجمال الغيطاني، وأحمد هاشم الشريف، وعبد الحكيم قاسم، ويحيى الطاهر عبد الله، وسهيل إدريس، وحنا مينا، وزكريا ثامر، وهاني الراهب، ومحمد حافظ رجب الذي قال: "نحن جيل بلا أساتذة"، هذا الجيل العصامي الجميل الذي دشن لحساسية جديدة وراقية في القصة القصيرة العربية، ساهمت منابر مجلات "الهلال"، و"القصة"، و"الأديب"، و"الآداب"، و"العربي"، و"الكاتب المصري"، و"غاليري 68"، ومواقف وغيرها من الدوريات في إعلاء صوتها. فيما يخص المغرب، عرفت القصة القصيرة نشوءها عبر بدايات خجولة ومحتشمة، واستوت على يد عبد المجيد بن جلون، وعبد الكريم غلاب، ومحمد السطاتي، ومحمد إبراهيم بوعلو، وخناثة بنونة، ومحمد زفزاف، ومحمد شكري، ومحمد عز الدين التازي، ومبارك ربيع، ورفيقة الطبيعة (زينب فهمي) التي سكتت في زمن مبكر، وأحمد الصفريوي باللغة الفرنسية. وبرأيي المتواضع، فقد حافظت القصة القصيرة منذ نشأتها على مقوماتها الفنية، على يد كوكبة كبيرة من القصاصين والقاصات من مختلف الحساسيات والمدارس والتيارات الذين استطاعوا نحت مسار قصصي مغربي بمواصفات كونية، له ملامحه المغربية الصرفة، بينما نشاهد هذا الصرح الإبداعي الجميل يتراجع ويتهاوى أمام الغزو الكاسح "للققجيين" ومناصري القصة الومضة أو القصة الشذرة وما بينهما كأسهل الحلول للشهرة، وقد عملت هذه التخريجات الهجينة المعتمدة على تقنيات التقطيع واللصق، وكتابة "الإس إم إس" أساسا، على تخريب البناء المعماري للقصة القصيرة كفن سام ونبيل يحافظ على كيان اللغة وسؤددها وجمالياتها، وتشويه اللغة وتفريغها من جمالياتها عبر اللجوء للنكتة واللغز وغير ذلك من الأساليب الأخرى، دون الإغفال بأن القصة القصيرة جدا والومضة تحتاجان إلى تكثيف ومواصفات خاصة، قد لا يفقهها العديد ممن يستسهلون هذا الصنف الإبداعي، والذين لا يمتلكون قدرا ثقافيا كافيا يؤهلهم للكتابة، فيما نجد بأن هذه الصنوف من الكتابة قد ظهرت على يد مبدعين حقيقيين بأميركا اللاتينية وأوربا كشكل من أشكال التجريب، وأداة تعبيرية مناسبة لراهن اجتماعي متشعب التعقيد، بحد تعبير أنخيل ملدوندو أستيفيد من بويرتوريكو في مقاله "جدارة القصة القصيرة جداً". ولم تظهر على الشكل البائس الذي تنكتب عليه حاليا على يد بعض الكتبة في بلادنا العربية. - لم يعد أحد يحتفي بالقص القصيرة. قلة باتت تهتم بالسرد أصلا. هل يحتفي أحد بالكتاب نفسه؟ في حقب تمتد من الستينيات وحتى التسعينيات، كانت القصة القصيرة تخلق "الأضواء" و"النجومية". كان كتاب القصة القصيرة نجوماً بالفعل. هذا الجنس الأدبي هو الذي خلق هالة لكتاب مثل عبدالجبار السحيمي، وإبراهيم بوعلو، وإدريس الخوري، ومحمد شكري، ومحمد زفزاف، ومبارك الدريبي، ومحمد الهرادي. كان الروائيون يضعون جانباً أعمالهم الروائية ليكتبوا "القصة القصيرة"، وقتها كانت علامة التميز والتفرد والانتشار. الآن لا شيء سوى "الكساد". من يكتب قصة قصيرة، يكتب في أغلب الوقت لنفسه كما يقول المهتمون. لا أحد يبحث عن "مجموعة قصصية" على أرفف الكتب في المكتبات. إذ الكتاب نفسه يعاني ما بين واحد إلى اثنين في المائة فقط في المغرب يقرؤون، كما أشار التقرير الصادم الذي نشرته المندوبية السامية للتخطيط، كم يا ترى نصيب القصة القصيرة من هذه النسبة المخجلة؟ القصاصون هم ضمير المجتمع. كيف أصبح المجتمع بدون ضمير؟ سؤال موجع، لكن في السؤال نفسه تكمن الإجابة. في هذا الملف نحاول أن نجد إجابة عن سبب "اندثار" القصة القصيرة.
< - هل يمكن أن تسمي بعض كتاب القصة في المغرب يشدون الانتباه؟
> هناك العديد من الأسماء الجديرة بالاحترام منهم من قضى نحبه وترك بصماته واضحة على المنجز القصصى بالمغرب، ولا يمكن بأي حال من الأحوال التطرق لتاريخ القصة المغربية وازدهارها دون ذكر أسماء ممن رحلوا إلى دار البقاء من الرواد محمد زفزاف، محمد شكري، مبارك الدريبي، محمد بيدي، عبد الجبار السحيمي، ومنهم ما يزال يواظب بشكل جميل وفعال على إثراء هذا المشهد الأدبي الرائع ومنهم على الخصوص عبد الكريم غلاب، أحمد بوزفور، محمد برادة، محمد أنقار، أبو يوسف طه. دون أن ننسى طبعا أسماء الجيل الجديد من الغبن أن نذكر بعضهم ونترك جلهم.
< القارئ يتجه نحو الرواية أكثر من المجموعات القصصية، أو الدواوين الشعرية، كيف تفسر هذه الظاهرة؟
> منطقيا قد تكون القصة القصيرة محطة عبور نحو الكتابة الروائية، فأغلب الروائيين بدأوا مشوارهم كقصاصين، باعتبار القصة القصيرة رافدا من روافد الرواية، لكن لا نستطيع الجزم برأي في غياب إحصائيات دقيقة عن الموضوع، في بلد يصنف كإحدى الدول الأضعف تداولا ومقروئية للكتاب في العالم، واندثار المكتبات، وتحويلها لمتاجر ومقاهي ومطاعم وبازارات، والقارئ الحالي قليل الصبر على متابعة الكتاب والرواية، ويلجأ في الغالب إلى الأخبار المختصرة والمواد القصيرة والنصوص المختزلة، خاصة في ظل اكتساح تقنيات الاتصال الحديثة، ولا أدل على ذلك من تفشي ظاهرة ما يسمى بالقصة القصيرة جدا بين عموم المتأدبين، والتي كان الانترنيت أحد الأسباب وراء انتشارها، مع ضرورة الإقرار بتفاوت القيمة الفنية لهذا الصنف القصصي الذي أصبح مغريا لسهولته وفراغه من السمات الجمالية والفنية، حيث امتدت نية التخريب لدى جيل هذه المرحلة الذي استهوته المغامرة. < - هل تعتقد أن للملتقيات الأدبية دوراً في تطوير القصة أم أنها مجرد مناسبات للعلاقات العامة والاجتماعية؟ > مجمل اللقاءات الأدبية ظاهرة صحية، وتقوم بما تعجز عنه أو تتقاعس عنه الوزارة الوصية ودوائرها التابعة لها بكل عدتها وعتادها وميزانياتها وأطقمها البشرية واللوجيستيكية، وقد لعبت هذه الملتقيات الثقافية دورا أساسيا في تطوير وإثراء المشهد الأدبي بتشجيعها للمبدعين، وإقامة المسابقات الثقافية، وطبع المؤلفات، وإنجاز دراسات أكاديمية حول القصة، ومواكبة ما ينشر من المجموعات القصصية بالنقد والتحليل، هذا دون أن ننسى دورها في ربط العلاقات الوطيدة بين الأدباء ومد جسور التعارف بين مختلف الحساسيات. < إلى أي مدى نجح الناقد المغربي في ترقية التجربة القصصية، وما مدى تأثيره فيها؟ > الناقد ليس دوما كاتبا فاشلا كما يدعي الأدباء، النقد كتابة ثانية للنصوص، وبدونه لا تستقيم، والنصوص الإبداعية منبع للتأويلات والقراءات، لذا على الكاتب أن يموت حتى لا يفسد على القارئ لذة النص، في زمن مضى يرجع إلى عقد السبعينات ظهرت في المغرب موجة من النقد الجاد، الشيء الذي أهله ليكون مصدر إشعاع وانبعاث لنقد أدبي حداثي وعلمي على المستوى العربي، بحكم اطلاع الأدباء المغاربة على مختلف النقود الغربية المكتوبة خاصة بالفرنسية لرولان بارث، ولوسيان غولدمان، ألان روب غرييه، غاستون باشلار، جان جينيت، جاك دريدا، بروب، جريماس، تودوروف، ونظمت بالمناسبة ملتقيات عربية على مستوى عال بمباركة اتحاد كتاب المغرب، مبادرات لم نعد نسمع عنها شيئا، بعد أن اضطلعت بالمهمة الجمعيات الثقافية، وأصبح هذا الاتحاد الذي كان من أهم وأقوى اتحادات الكتاب العرب إلى تجمع شبه رسمي يخضع لإملاءات حزبية وخلافات وحسابات ضيقة، وغير بعيد عن الثقافة المؤسساتية عرفت الساحة الأدبية إصدارات تهتم بالنقد تأليفا وترجمة، الشيء الذي كان له الأثر الكبير على النقد المغربي، دون أن ننسى الدراسات النقدية المتنوعة على صفحات مجلات أنفاس، أقلام، آفاق، الثقافة الجديدة، الزمان المغربي،عيون المقالات، البديل، والملحق الثقافي لجريدتي العلم والاتحاد الاشتراكي، والتي كان للقصة الحظ الأوفر من هذه النقود، قبل أن يطولها قانون المنع الجائر، وكان للدراسات النقدية التي أنجزها أحمد اليبوري، محمد برادة، عبد الرحيم العلام، البشير الوادنوني، عبد الفتاح كيليطو، نجيب العوفي، حميد الحميداني في التقعيد لنقد قصصي غير مجامل وواعد.
< - ثمة عدد من المسابقات القصصية هل يجد فيها القاص جدوى وإضافة؟
> تسعى المسابقات القصصية المحكمة التي تنظم بين الفينة والأخرى من طرف هيئات وطنية أو عربية إلى خلخلة المشهد القصصي الوطني والعربي، وتحريك الركود الثقافي، وقد يجد القاص بالتالي في هذه المسابقات ذات الحس التنافسي فرصة سانحة لاختبار قدراته الإبداعية والاحتكاك بحساسيات أخرى مغايرة، مثل أفراس الرهان، حقيقة هناك العديد من مثل هكذا مبادرات حسنة يضطلع بها بعض ذوي النوايا الطيبة والغيورين على الشأن الثقافي وواقع اللغة العربية، بإجراء هذه المسابقات القصصية، وطبع بعض المجموعات على نفقتهم، وهذه سنة حميدة من شأنها تشجيع الطاقات الشابة، وانتشالها من الظل، والدفع بها إلى الأمام.
< - لماذا لا يهتم الكاتب والقاص المغربي بالفضاءات المكانية، كما هو الشأن لقصاصين وروائين عرب وأجانب؟
> أعتقد أن السؤال يدعو للحديث عن علاقة القاص بالأمكنة، ومدى تطابق هذه الفرضية مع القصة القصيرة المغربية، إسوة بما نلمسه في العديد من الأعمال العربية والغربية، التي تعالقت فيها أسماء أدباء بمدن وأمكنة وفضاءات معينة بدءا من جيمس جويس ووفائه لدبلن، ولورنس داريل وكفافيس وادوار الخراط بالإسكندرية، ونجيب محفوظ بالقاهرة وحواريها ومقاهيها، وحنا مينا باللاذقية، ومحمد خضير بالبصرة، وأخرى ببيروت وبغداد وغيرها، هكذا يأخذك الكاتب من يديك ويتجول بك بحذاقة الدليل السياحي، وتعرفنا بالصدفة على أماكن دون أن نزورها أو نعقد موعدا مع أهلها، في القصة المغربية القصيرة نادرا ما نجد طيف الأمكنة بين النصوص قلة قليلة لا تتعدى أصابع اليد نسجوا جسورا بينهم وبين مدنهم محمد شكري أول هؤلاء حيث ارتبط بمدينته طنجة، وعبد المجيد بن جلون وأحمد بناني بفاس، أحمد شماعو بمدينة سلا، مبارك الدريبي بأحياء القنيطرة، محمد الخضر الريسوني بتطوان، غير هذا لا نكاد نعثر في مجمل القصص المغربية على أثر واضح لمؤلف حافظ على الحبل السري الذي يربط بينه وبين مدينته، وضعف هذا الوفاء يعود إلى الحياة غير القارة لهؤلاء، وتنقلهم الدائم بين مدن كثيرة بحكم العمل مما يتعذر عليهم نسج علاقة حميمية بالأمكنة، والكتاب المذكورون على سبيل التمثيل قضوا جل حياتهم بمدنهم دون أن يفارقوها، وقد ألف الباحث مصطفى يعلى كتابا فريدا ومتميزا يعالج " ظاهرة المحلية بالسرد المغربي خصوصيات المجتمع المحلي في نصوص القصاصين المغاربة الرواد."
< البعض يقول إن القاصات المغربيات تتسم أعمالهن بالغموض والسريالية، ما مدى دقة هذا التوصيف؟
> القاصات كشأن المبدعات المغربيات عموما يكتبن بتحد ظاهر، وكتاباتهن لا تُعبر عن إحساسهن في ما يكتبنه بسبب التسلط المجتمعي والعنف والقهر الذي يعانينه في مجتمع منغلق ومتخلف، ولا تكاد كتاباتهن تخرج عن مطارحة قضايا الدفاع عن حرية وحقوق المرأة والتسلط الذكوري والطفولة، وتكريس للمسائل الأخلاقية والاجتماعية والهموم الصغيرة، أشياء بديهية غير ذات قيمة تكرر نفسها ولا تكاد تستهوي القارئ المتمرس، لهذا فالقليل منهن على وفرتهن، استطعن أن يرقين بنصوصهن القصصية إلى المستوى المطلوب من الجودة والجدة، بينما تتسم تلك النصوص بالغموض والعبثية وليس السوريالية، لأن السوريالية كمدرسة فنية راقية لها رموزها وأدواتها وعوالمها وفضاءاتها ولغتها وتاريخها المجيد، هناك أسماء قليلة لكاتبات يكتبن بجدية وعمق، مثل ربيعة ريحان، لطيفة باقا، مريم بن بخثة، حنان درقاوي، زهرة زيراوي، زهور كرام، رجاء الطالبي، الزهرة رميج، لكن هناك أقلام تافهة تتسم بالضحالة مما ساهم في محدودية انتشارهن عربيا، بالرغم من أن عمر التجربة القصصية النسوية، يحسب بتاريخ صدور أول مجموعة قصصية نسوية لخناتة بنونة في مجموعتها الرائدة "ليسقط الصمت" سنة 1967 ، بمقابل أول إصدار رجالي الذي بدأ حوالي 1945.
حوار أجراه خالد أبجيك
الخميس, 18 ديسمبر 2014
------------------
المهدي نقوس من مواليد قرية سيدي أحمد باليوسفية عام 1953. قاص وشاعر. عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فرع اليوسفية. له العديد من المقالات منشورة في صحف ومجالات عربية ووطنية. شارك بعدة ملتقيات أدبية في مختلف مدن المغرب. صدرت له مجموعتان قصصيتان الأولى بعنوان "صنائع من نوبة عراق العجب"، والثانية موسومة بـ"...إلخ"، في انتظار نشر عدة أعمال أخرى بين شعر وقصة ومقالات نقدية
التعديل الأخير: