إنطون پاڤلوڤيچ چيخوف - القُبلة.. ت: عادل حبه

في الساعة الثامنة من مساء العشرين من شهر أيار، توقفت وحدة من اللواء المدفعي الاحتياطي في قرية ميستيچكي، الواقعة عند منتصف الطريق المؤدي إلى معسكرها الأصلي. وفي ظل الفوضى التي عمت القرية إثر وصول الوحدة، وفي الوقت الذي انشغل بعض الضباط بترتيب مواقع المدافع، وتجمع آخرون في الميدان المركزي للقرية بالقرب من باحة الكنيسة وهم ينصتون الى ضابط الإمداد، شوهد من بعيد رجل يرتدي ملابس غير عسكرية وممتطياً حصاناً عجيباً، وتوقف في الباحة الخلفية للكنيسة. كان الحصان قصير القامة وذا لون رمادي وله رقبة جميلة وذيل قصير، ولا يتحرك بشكل مستقيم، بل يتقدم الى الأمام وكأنه حيوان مصاب بالعمى. كان الحصان يرفع أقدامه القصيرة ويؤدي حركات راقصة وكأن فرداً ما يضربه على ساقه بالسوط. وعندما اقترب الموكب من الضباط، رفع الخيّال قبعته عن رأسه باحترام، وقال مخاطباً الضباط:"إن معالي اللواء فون رابك يدعوكم في هذه اللحظة لتناول الشاي على مائدته...".

عندها أدى الحصان حركة تعظيم، وبعد حركة موزونة تراجع قليلاً الى الوراء، ثم اختفى مباشرة في الباحة الخلفية للكنيسة.

في تلك اللحظات، التي كان الضباط يتوجه كلٌ منهم الى وحدته، بدا التبرم على وجوههم وراحوا يتمتمون:"ليذهب الى الجحيم، من أين طلّ علينا المدعو فون بابك ليدعونا الى جرعة من الشاي ونحن نهم بالتوجه لنأخذ قسطاً من النوم".

لقد استعاد الضباط من كل الوحدات الست ذكرى حادثة جرت لهم في العام الماضي عندما كانوا يجرون مناورات عسكرية. فقد دعاهم أحد الضباط القوزاق إلى وليمة شاي عند أحد الأعيان، وهو أحد الضباط المتقاعدين، الذي يمتلك عزبة كبيرة في أطراف معسكرهم. استقبلهم الكونت المضياف بما يتناسب ومقامهم، ولم يتردد في تقديم ما لذ وطاب من أنواع الأشربة والأطعمة. ولكن وبعد انتهاء العشاء، لم يسمح الكونت لضيوفه بمغادرة القصر إلى القرية، وأصر عليهم قضاء الليل عنده. على أي حال كانت كل تلك اللحظات التي قضوها مع المضيّف الجليل مؤنسة ولا يمكن أن يحلموا بتكرارها، مع استثناء واحد وحيد هو أن هذا الجنرال العسكري الطاعن في السن وقع تحت تأثير ضيوفه الشباب، بحيث أستمر يروي لهم حتى طلوع الفجر حكايات مثيرة عن ماضيه. وطاف الكونت بهم في كل الغرف الكبيرة، وعرض عليهم كل اللوحات والمجلدات القديمة والأسلحة النادرة، وقرأ لهم سطوراً من الرسائل التي تلقاها من شخصيات بارزة. جرى كل ذلك في وقت كان الضباط ينصتون إليه وهم يعانون من الإرهاق الشديد، ويحدقون في مضيفهم وهم يتمنون أن يصلوا إلى أسرّة نومهم. كانوا يخبئون تثائبهم بأكمام بدلاتهم العسكرية. وفي النهاية أصدر المضيّف العزيز أوامره بالانصراف، ولكن بعد فوات الأوان، حيث أصبح الوقت متأخراً لكي يتمتعوا بقسط من النوم.

بدا التساؤل على وجوه الضباط. هل أن فون رابك في النهاية هو من نفس طينة هذا الكونت؟ على أي حال لا فرق عندنا سواء أكان من نفس الطراز أم لا. بادر الضباط إلى استبدال ملابسهم العسكرية، ورتبوا أوضاعهم وراح الجميع يفتشون عن بيت هذا الرجل المحترم. قيل لهم في ساحة القرية أنه من أجل الوصول إلى بيت معاليه، ينبغي عليهم أن يمروا بالطريق السفلي الواقع خلف الكنيسة والمؤدي إلى النهر، وبعد أن يقطعوا الطريق الموازي لشاطئ النهر تصادفهم حديقة، وهناك يوجد ممر ضيق يؤدي مباشرة إلى البيت. كما أن بإمكانهم أن يسلكوا طريقاً آخراً ضيقاً يؤدي مباشرة إلى البيت، أو عليهم سلوك طريق علوي ثالث يؤدي مباشرة إلى البيت بعد طي مسافة نصف ميل من الكنيسة، وبعد الاستدارة يساراً عند مخازن الحبوب سيجدون أنفسهم أمام أبواب البيت. قرر الضباط سلوك الطريق العلوي.

وفي منتصف الطريق، أخذ الضباط يسأل بعضهم البعض:" ولكن من هو هذا الشخص؟ هل هو نفس الشخص الذي كان قائد فوج الفرسان في پليڤنا؟".

-"كلا ، لم يكن اسمه فون رابك، بل كان اسمه رابك ولكن بدون فون".

-" ما أروع الجو هنا".

وعند الوصول إلى أول مخزن من مخازن الحبوب، انقسم الضباط إلى فريقين؛ الأول سلك طريقاً مستقيماً واختفى عن الأنظار. أما الثاني فقد استدار يميناً واتجه مباشرة إلى بيت معاليه. توجّه الضباط صوب اليسار وأخذوا يتحدثون بهمس... اصطفت على طرفي الطريق مخازن للحبوب ذات سقوف حمراء مطلية بالإسفلت، كما يبدو. وكانت أشبه بالثكنات العسكرية في المدن الصغيرة. وعند نهاية الطريق بدت شبابيك معاليه تتوهج من شدة الإضاءة.

انبرى أحد الضباط قائلاً:"أيها السادة، إنها لدلائل تبعث على التفاؤل أن تسبقنا كلاب الصيد. بالتأكيد أنهم قد شمّوا رائحة الطعام من بعيد..".

تقدم الملازم لوبيتكو أمام الجميع، وهو رجل يتمتع بقامة فارعة وهيكل قوي، ولكنه لا يربي شارباً، بالرغم من تجاوزه الخامسة والعشرين ربيعاً. فلم تنبت أية شعرة على وجهه المدور الذي يدل على تغذيته الممتازة. كان الملازم معروفاً في الفوج على أنه يتمتع باستعداد غريب على التنبؤ برائحة النساء وشمّها من على مسافات بعيدة. أدار لوبيتكو وجهه وقال:"نعم ، يجب أن يكون هناك نساء أيضاً، إنني أحس ذلك بغريزتي الخاصة".

وعند عتبة البيت وقف معالي السيد فون رابك مستقبلاً الضباط. كان رجلاً جذاباً وفي حدود الستين من عمره، ويرتدي ملابس غير عسكرية. وفي أثناء مصافحته للضباط الواحد تلو الآخر، عبر عن سروره وسعادته لتلبيتهم الدعوة. إلا أنه استماحهم العذر بسبب عدم دعوتهم إلى المبيت في الليلة الماضية، وعزا ذلك إلى أن إثنتين من أخواته مع أطفالهن، إلى جانب بعض أخوته وعدد من جيرانه قد قدموا لزيارته، بحيث لم يعد في البيت أية غرفة خالية لاستقبالهم.

صافح الجنرال كل ضيف من ضيوفه على إنفراد، وقدم الاعتذار لهم مصحوباً بإبتسامة مناسبة. ولكن بدا الضيق على محياه بنفس القدر الذي بدا على محيا الكونت في السنة السابقة. فلم تخرج دعوة الضباط عن إطار الواجبات الاجتماعية والأدبية. شعر الضباط، وهم يطأون بأقدامهم السجاد الناعم المفروش على السلم المؤدي إلى الطابق العلوي وينصتون إلى حديث المضيّف، بأنهم قد دعوا فقط لكي لا يفسر عدم دعوتهم على أنه ضرب من السلوك غير اللائق. كما شعر الضباط، وهم يشاهدون الخدم يضيئون بسرعة المصابيح في الرواق السفلي والغرف، بأن حضورهم قد أثار الفوضى والارتباك في البيت. فقد كان من غير المعتاد أيضاً حضور تسعة عشر ضابطاً في البيت في الوقت الذي تتجمع فيه الأخوات وأبنائهم والأخوان والجيران ربما للمشاركة في احتفال عائلي.

وعند مدخل غرفة الضيافة، لاحظ الضباط وجود امرأة مُسنّة ووقورة ذات حاجبين أسودين ووجه ممدود شبيه بوجه الملكة إيوجين. وانبرت هذه المرأة قائلة، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة جميلة ومَلَكِية، عن اعتذارها لعدم استضافتهم والمبيت عندهم في هذه الليلة. وبدت، وعبر ابتسامتها الجميلة والمثيرة التي انطبعت على شفتيها حيثما يقع نظرها على هذا الضيف أو ذاك، أنها قد التقت بالعديد من الضباط في حياتها، ولو أنها لا تتمتع الآن بالمزاج والصبر السابقين. فليس هناك ما يضطرها إلى الترحيب بالضيوف أو تعتذر لهم سوى التزامها بقواعد الأدب والمكانة الاجتماعية.

عندما دخل الضباط إلى غرفة الطعام الكبيرة، شوهد عشرة أو أثني عشرة سيد وسيدة في سن الشيخوخة ومن الشباب جالسين عند نهاية الطاولة، وهم مشغولين بارتشاف أقداح الشاي. ووقف خلفهم عدد من السادة الذين يصعب تشخيصهم بسبب كثافة الدخان المنبعث من تدخين السجائر. ولاح بينهم شاب ذو قوام نحيف وشعر يميل إلى الاحمرار ويتمتع بصوت جهوري وأنف مدبب ويتحدث باللغة الإجليزية. ومن خلال الباب ومن وراء هذه المجموعة، لاحت غرفة مضاءة يتوسطها أثاث بلون أزرق.

وهنا لعلع صوت الجنرال الذي كان يسعى إلى أن يظهر بمظهر السرور:"ايها السادة الأعزاء، إن عددكم كثير، ولذا يصعب علي أن أعرّفكم على بعضكم فرداً فرداً. أرجو أن تقوموا بالتعرف على بعضكم دون أية تشريفات رسمية".

شرع الضباط بالجلوس حول طاولة الشاي، وبدت على وجوه بعضهم مظاهر الجد، وعلى سيماء آخرين ضحكات مصطنعة مصحوبة بالتظاهر بمشاعر من السرور على قدر الإمكان، وهم ينكسون رؤوسهم ويؤدون آيات الاحترام للضيوف الآخرين. وكان من بينهم النقيب ريابوڤيچ الأكثر إحساساً بالعذاب من الجميع. أنه رجل قصير القامة ويضع نظارات على عينيه وذو كتف عريض ولحية تشبه لحية الوشق(أبو الريش). وفي الوقت الذي كانت ترتسم على وجوه رفاقه التجهم، وتعلو على محيا الآخرين الضحكة، بدا ريابوڤيچ، بلحيته المدببة ونظارته، الأكثر خجلاً وتواضعاً من بين كل أفراد الفوج.

في البداية وأثناء دخول ريابوڤيچ إلى غرفة الطعام والجلوس حول طاولة تناول الشاي، لفتت انتباهه الوجوه و الأشياء الموجودة في الغرفة، إضافة إلى الألبسة والأبخرة المتصاعدة من أقداح الشاي ودوارق البراندي والنقوش الجصية على الجدران. كل هذه المشاهد اندمجت بعضها ببعض لتثير شعوراً غريباً لدى كل من يدخل الغرفة. ولم يُستثن ريابوڤيچ من هذا الشعور الذي تراوح بين الارتباك والميل نحو إخفاء رأسه. إنه على شاكلة الخطيب الذي يقف لأول مرة أمام الجمهور، فقد كان يستعرض كل من يشاهده دون أن يتولد لديه أي استنباط مهم. ويطلق الفيزيولوجيون على هذه الحالة ظاهرة "العمى الروحي". وبعد مدة قصيرة اعتاد ريابوڤيچ على من جلس بجواره وتجاوز مرحلة العمى الروحي، وبدء مرحلة التفحص في الحاضرين. وبما أنه إنسان خجول ويبتعد عن تجمعات الناس، فإن أول ما أثار انتباهه هو الشىء الذي ينقصه ويعاني منه العذاب، أي الشجاعة الخارقة التي يتمتع بها من تعرف عليهم حديثاً. إن كل من فون رابك وزوجته والسيدتين العجوزتين والسيدة الشابة التي ترتدي ثوباً وردياً والشاب ذا اللحية القرمزية التي تشبه الريش، والذي كما يبدو إبن فون رابك، كانوا قد احتلوا أماكنهم بمهارة فائقة، وكأنهم قد تدربوا على ذلك قبل الشروع بالحفل. وشرعوا على الفور بالانخراط في نقاش حاد بحيث كان من المتعذر على الضيوف التملص منه. وعبّرت سيدة شابة، ترتدي ثوباً بلون زهرة الآس، بانفعال عن أن الخدمة في وحدة المدفعية هي أسهل بكثير من الخدمة في وحدة المشاة، في حين كان فون رابك والسيدات المسنات يعبرن عن رأي مخالف تماماً. كان الحديث الدائر بين هؤلاء أشبه بتبادل موجة من الرعد من الكلمات. وراح ريابوڤيچ يراقب بدقة السيدة الشابة ذات الثوب الملون بلون زهرة الآس. استمر النقاش الحار حول الموضوع المختلف عليه، والذي كان غريباً على ريابوڤيچ ومثيراً للملل، ولاحظ كيف كانت الابتسامة المصطنعة ترتسم على شفة السيدة الشابة ولكن سرعان ما تختفي. وانخرط فون رابك وعائلته وبمهارة الضباط في هذا النقاش. وتخلل هذا النقاش النظر إلى الأقداح والأفواه كي يطمئن المضيفون على أن الجميع يرتشفون الشاي، وإن السكر متوفر بما فيه الكفاية، أو يستفسرون عن سبب عدم تناول بعض الضيوف قطعات الكيك أو عدم شرب البراندي. وكلما ازدادت نظرات ريابوڤيچ وإصغائه، ازداد معها الإنضباط المدهش لهذه العائلة المنافقة.

وبعد أن تم ارتشاف الشاي، توجه الضباط إلى غرفة الجلوس. ولم تخن لوبيتكو غريزته في الواقع. فلقد شوهد الكثير من الفتيات والسيدات الشابات المتزوجات في الدعوة. ولم يلبث أن لوحظ الملازم "كلب الصيد" واقفاً إلى جانب فتاة في غاية الجمال ذات شعر مجعد وفستان أسود. كان واقفاً وقفة الشجعان وكأنه مستندٌ على سيف غير مرئي. وعلت وجه الملازم ابتسامة مثيرة، وكان يحرك كتفيه بدلع. ومن المحتمل أنه كان يثرثر بحكايات قد لا تثير الآخرين، وبدا ذلك واضحاً من ردود فعل الفتاة ذات الشعر المجعد التي كانت ترد بلطف، بصوتها الجميل على محدثها وتحدق فيه، أو أن تردد بين الحين والآخر عبارة" هكذا إذن في الواقع!!". ولو كان "كلب الصيد" يتمتع بقدر كاف من الفطنة لأدرك أن هذه العبارة المتكررة لا تدل إلاّ على أن الفتاة ليس لها أي اهتمام حقيقي به. في تلك اللحظات صدح صوت البيانو. واخترقت معزوفة الفالس الحزين نوافذ الغرفة مما أثار في ذاكرة الحضور، بدليل أو بدون دليل، فصل الربيع وأحد ليالي شهر آيار. كان الجميع يشم رائحة الورد وزهور الآس وأوراق الحور الفتية. وبدا على ريابوڤيچ تأثير البراندي الذي شربه قبل حين، ولكنه راح يتظاهر بتأثير الموسيقى، وألقى نظرة من النافذة إلى الخارج، وأبتسم وعاد إلى التحديق في حركة الفتيات وشعر أن روائح الورد وزهر الآس لا تأتي من الخارج ، بل من وجوه الفتيات ولباسهن.

دعا ابن فون رابك أحدى الفتيات النحيفات إلى ميدان الرقص، ودار مرة أو مرتين حول الغرفة الكبيرة. أما لوبيتكو الذي أدارت الخمرة رأسه فقد طار باتجاه الشابة ذات الفستان الآسي وشرع بالدوران معها في غرفة الجلوس....ولوحظ ريابوڤيچ واقفاً إلى جانب الباب ولم يشارك في الرقص، بل اكتفى بمشاهدة الحاضرين. فهو لم يرقص طوال عمره ولو لمرة واحدة مع امرأة، ولم يلف بيده خصر سيدة محترمة. في الواقع كان ريابوڤيچ شديد الفرح والحبور وهو يرى رجلاً قد تأبط خصر فتاة لا يعرفها، وعرّض كتفه كي يصبح سنداً لهذه الفتاة. إنه لا يستطيع أداء نفس الدور، فهذا يخرج عن نطاق شجاعته. لقد آن الأوان كي يحسد أقرانه على هذه الشجاعة، في الوقت الذي كان يشعر بمرارة التحقير لنفسه جراء ضعفه هذا. إن إدراكه لواقع كونه جباناً وإنه شخص مثير للملل وذو خصر عريض ولحية مدببة تشبة لحية الحمار يجعله يحس بالإحباط. ولكن مع مرور الوقت اعتاد على كبت مشاعره الداخلية، ولم يعد يحسد أقرانه وهو يراهم يرقصون ويتحدثون بصوت عال. ولكنه مع ذلك كان يشعر بالحزن في دواخله.

وعندما بدء الرقص الرباعي، توجه فون رابك صوب من لم يشارك في الرقص، ودعا ضابطين شابين إلى ممارسة لعبة البيليارد. قبل الضابطان دعوته وخرجا من غرفة الضيافة. ولم يكن ريابوڤيچ مشغولاً بشئ، وفضّل المشاركة في الضجة التي عمت الجميع. وانتقلوا من غرفة الضيافة إلى غرفة صغيرة، ثم إلى رواق ضيق ذي سقف زجاجي ، ثم ولجوا غرفة يجلس عند مدخلها ثلاثة من الخدم يغمرهم النعاس، ولكنهم هبوا من مكانهم عند قدوم الضيوف. وأخيراً وبعد المرور بعدد من الغرف الأخرى، وصل فون رابك والضباط إلى غرفة صغيرة تتوسطها منضدة البيليارد وشرعوا باللعب.

وقف ريابوڤيچ عند حافة منضدة البيليارد وهو الذي لم يمارس أية لعبة سوى لعبة الورق، وأخذ ينظر بدون إهتمام إلى اللاعبين. فتح اللاعبون أزرار الصدرة وشرعوا بالدوران حول منضدة البليارد ماسكين بأيديهم عصي اللعبة وهم يتبادلون النوادر والكلمات غير المفهومة.

ولم يعر اللاعبون أي إهتمام به سوى أنهم بين الحين والآخر يصدّونه بسواعدهم بالصدفة أو يصطدم بعصي البيليارد، ويديرون وجوههم ليعتذروا منه مرددين كلمة "عفواً". وقبل أن ينتهي الدور الأول من اللعبة، فقد ريابوڤيچ صبره وانتابه شعور بأنه كائن زائد، وما هو إلا شخص معرقل للعب هؤلاء. ولم يكن أمامه من خيار سوى العودة إلى غرفة الضيوف والخروج من غرفة البيليارد. وفي طريق عودة ريابوڤيچ إلى غرفة الضيافة، حدث له حادث صغير. فبعد أن قطع مسافة قليلة انتبه إلى أنه يسير في الاتجاه الخاطئ. فهو يتذكر جيداً أنه في طريق العودة إلى غرفة الضيافة فلا بد أن يواجه اؤلئك الخدم الذي غلب عليهم النعاس. ولكنه مر بخمس أو ست غرف ولم ير الهياكل المتعبة لهؤلاء وكأنهم قد اختفوا عن الأنظار. والآن وبعد أن أدرك الخطأ، عاد القهقرى من جديد واستدار إلى اليمين. عندها وجد نفسه في غرفة صغيرة مظلمة لم يعرج عليها عند توجهه إلى غرفة البيليارد. وبعد توقف قصير هناك، وبإرادة ثابتة قام بفتح أولى الأبواب التي واجهته ثم دخل في غرفة مظلمة كلياً. ولم يكن بإمكانه تشخيص أي شئ سوى بصيص النور المنبعث من شقوق الباب. وكان يرد إلى مسمعه من الجانب الآخر من الباب لحن المازوركا. وكانت النوافذ هنا مفتوحة على شاكلة النوافذ في غرفة الضيافة. وكان بالإمكان التمتع باستنشاق روائح أوراق السرو والورد وأزهار الياس بشكل جيد.

تسمّر ريابوڤيچ في مكانه وبتردد ...وفي تلك اللحظة وعلى حين غرة، طرق سمعه وقع خطوات متسارعة وخربشة الألبسة والأنفاس المتقطعة لأحدى النساء مع عبارات تذمر تقول "وأخيراً جئت!!"، وامتدت بدون تردد يد نسائية ناعمة ذات رائحة عطرة وأحاطت بعنقه، ولاصقت خدها خده بحرارة وطرق سمعه صوت القبلة. ولكن في تلك اللحظة انبعث من حنجرة السيدة التي قبّلها صراخ خفيف،. وبدا لريابوڤيچ أنها قد تراجعت بشدة مصحوبة بإنزجار عميق. أما هو فكان على وشك أن يصرخ هو الآخر، وهرول صوب المكان الذي جاء منه.

وعندما عاد ريابوڤيچ إلى غرفة الضيافة كان قلبه ينبض بعنف، ويداه ترتجفان بحيث اضطر إلى إخفائهما. في البداية طغى عليه ويؤنبه شعور من الخجل والرعب من احتمال إطلاع الحضور جميعاً على أنه قد حُشر قبل لحظة في أحضان أمرأة قبلته وأحتضنته. وغاص ريابوڤيچ في دواخله، وراح يحدق فيما حوله بقلق شديد. ولكن بعد أن أطمئن بأن الغالبية كانت منهمكة في الرقص وتبادل الأحاديث، انتابه انفعال جديد لم يجرّّبه طوال سنوات حياته. وتفاعلت في دواخله عوارض غريبة كانت تتراكم... وبدا له وكأن عنقه قد دهنت بمرهم بتلك الأنامل الناعمة ذات الرائحة العطرة التي طوقته قبل لحظات. وأحس بلسعة برد وارتعاش غير محسوس على خده وقرب قمة شاربه حيث تلقى تلك القبلة من المرأة الغريبة، لسعة برد أشبه بقطرة النعناع على جلده، بحيث أنه كلما حك جلده أحس بلسعة أشد برودة. وانتابه شعور متراكم غير مفهوم من قمة رأسه وحتى أخمص قدميه وأخذ يزداد قوة وقوة.

كما راوده شعور بأنه بحاجة ماسة إلى الرقص والثرثرة والعدو حول الحديقة والضحك بصوت عال وعال... لقد نسي أن لديه قامة منحنية وشخصية تبعث على الملل ولحية تشبه لحية الحمار و"مظهر مهلهل"( وفي الواقع إن هذه الأوصاف حول مظهره قد بدرت من بعض النساء وبهمس وسمعها بمحض الصدفة). في أثناء ذلك مرت به السيدة فون رابك، وبادرها ريابوڤيچ بابتسامة ودّية مما دعا السيدة فون رابك إلى التوقف ونظرت إليه نظرة استفسار، وبادرها بالقول:" لقد دخل بيتكم قلبي وأعجبني".

وأوضحت السيدة فون رابك أن البيت كان يعود لأبيها، ثم بادرت ريابوڤيچ بسؤال حول فيما إذا مازال والديه على قيد الحياة، وهل أنه يخدم في الجيش منذ مدة طويلة، ولماذا هو على هذه الدرجة من النحافة؟ .. وعدد من أسئلة مشابهة. وبعد أن تلقت الإجابات استمرت بالسير على طريقها. وبعد هذا الحديث مع سيدة البيت أضحت ابتسامته أكثر وداً من السابق وأخذ يحلم بأنه محاط ببشر لا مثيل لهم.

أثناء تناول العشاء، كان ريابوڤيچ يأكل ويشرب بشكل لا إرادي كل ما كان يقدم له، وكان يسعى بدون الإصغاء إلى أحد أن يوضح الحادثة التي تعرض لها. كانت تلك الحادثة تنطوي على أسرار رومانسية، ولكن توضيحها لم يكن بالأمر اليسير. فمن المحتمل أن رتبت فتاة شابة مع شخص موعداً في هذه الغرفة المظلمة، وبقيت تنتظره لفترة طويلة مما أدى إلى إصابتها بعارض عصبي وانفعال وقامت بما قامت به مع ريابوڤيچ بدلاً من الشخص المقصود. ولربما يعود ذلك إلى أنه عندما دخل الغرفة المظلمة كانت الحيرة والتردد مسلطة عليه ووقف بدون حراك، وهذا ما يؤدي إلى مثل سوء الفهم هذا، فهو ينم عن أنه هو الآخر كان بانتظار أحد ما. هكذا كان ريابوڤيچ يوضح الأمور مع نفسه.

وبتعجب طرح ريابوڤيچ على نفسه السؤال التالي:"ولكن على أي حال من كانت هذه السيدة؟". وهنا بدأ يدقق في وجوه السيدات الحاضرات وراح يدور بوجهه في كل زوايا الغرفة...وأخذ يفكر مع نفسه:"لابد أنها سيدة شابة،لأن السيدات المسنات لا يقدمن على مثل هذه اللقاءات. إنها سيدة بالتأكيد، فهذا واضح من خشخشة الملابس ورائحة عطرها". وقعت عينا ريابوڤيچ على وجه سيدة شابة ذات فستان بلون زهرة الآس، وفكر مع نفسه وعبر عن إعجابه بجاذبيتها. كانت تتميز بأكتاف وأيادي جميلة، وجهها يعبر عن الذكاء والفطنة وصوتها يسحر القلب. نظر ريابوڤيچ إليها وهو يتمنى أن تكون هذه السيدة وليس غيرها هي السيدة المقصودة.... وفي هذا الوقت ضحكت السيدة ضحكة مصطنعة، وبانت التجاعيد على أنفها الطويل بحيث بدت أكبر سناً بنظر ريابوڤيچ. وبعد ذلك دارت عيناه إلى فتاة ذات شعر مجعد ومرتدية فستان أسود. كانت أكثر شباباً وبساطة وأقل حيلة من سابقتها. تميزت بجبين جميل ورشفت كأسها بذوق جميل. تمنى ريابوڤيچ الآن أن تكون الفتاة الشابة هي السيدة المتوقعة... ولكن لم يطل الأمر عليه لأن وجها كان عريضاً مما دفعه إلى النظر إلى سيدة أخرى.

كان يفكر مع نفسه:"من الصعب الحدس. إذا ما أخذنا أكتاف وأيادي السيدة ذات الفستان الملون بلون زهر الآس، وأضفناها إلى جبين الفتاة ذات الشعر المجعد، فماذا سيتشكل..".

لقد تبلورت في ذهنه تركيبة لها تصوّر له الفتاة التي قبّلها، هذا التصوير هو الذي دفعه كي يبحث في أطراف الغرفة من أجل العثور عليها ولكن بدون جدوى.

بعد أن تم تناول العشاء تسرب الجميع وهم سكارى بتأثير المشروبات الكحولية إلى المدخل الخارجي لتأدية واجب التوديع وكان الضباط في المقدمة. وعاد فون رابك وعقيلته وكررا من جديد الاعتذار لعدم قدرتهما على استضافتهم للمبيت هذه الليلة في البيت. وردد فون رابك العبارة التالية:"إنني سعيد بلقائكم"، ولكنها هذه المرة خرجت من فوهه بشكل أكثر صدقاً، لربما لأن البشر اعتادوا أن يكونوا أكثر سلاسة عندما يودّعون ضيوفهم، وبشكل أكثر صدقاً وبدون مجاملات، مقارنة عند استقبال هؤلاء الضيوف. واستطرد فون رابك قائلاً:"إنني في غاية السعادة. أتمنى أن تصلوا إلى مقصدكم بسلام! استريحوا وبدون مجاملة! من أي طريق تريدون الذهاب؟ من الطريق العلوي؟ لا، اسلكوا طريق الحديقة، فالطريق السفلي أقرب لكم".

استمر الضباط في السير عبر طريق الحديقة. فبعد الأنوار الساطعة والضجيج، هاهم يخترقون حديقة مظلمة للغاية ويطبق عليها السكون. وقطعوا الطريق حتى البوابة وهم صامتون. كان الجميع في حالة من السكر والمرح والنشوة. ولكن الظلام والسكون دفعهم، لدقيقة، إلى الغور في التفكير. ومن المحتمل إن نفس الفكرة التي دارت في ذهن ريابوڤيچ تشغل أذهان الآخرين: في نهاية المطاف هل سيأتي ذلك اليوم الذي يمتلكوا فيه بيتاً كبيراً وعائلة وحديقة، شأنهم في ذلك شأن فون رابك، أو أنهم سيقومون أيضاً باستقبال الضيوف، ولو من باب الرياء، ويضيّفونهم بالأطعمة والأشربة ويؤمّنون كل ما يجلب رضاهم؟ عندما خرج الجميع من باب الحديقة، شرعوا بالحديث بصوت عال والضحك بدون سبب. إنهم الآن يمرون في طريق ضيق ينحدر إلى النهر ثم يستمر بموازاته وسط الأدغال وتحت ظلال أغصان أشجار الصفصاف المتهدلة. وكان من الصعب تحديد شاطئ النهر والطريق الضيق الموازي له، وغاب الطرف الآخر من الشاطئ في ظلام الليل الدامس. لقد إنعكست نجوم الليل المتلألئة على سطح ماء النهر هنا وهناك، وتأرجح تصوير هذه النجوم وهي تتهشم جراء سيل المياه مما يدل على أن المياه تجري بسرعة. ساد الهدوء المكان، وسُمع من الجانب الآخر من النهر صوت آهات حزينة صادرة من طير الزقزاق الناعس، في حين وقف على الأدغال القريبة بلبل يغرد بصوت عال ولا يعير أهمية للضباط الذين مروا به. وقف الضباط للحظات قرب الأدغال وهزوا أغصانها دون أن يتوقف البلبل عن تغريده. صاح أحد الضباط قائلاً:" أي رفيق هذا!! لقد وقفنا إلى جانبه دون أن يعير لنا أدنى اهتمام. أنه ذو فطرة دنيئة". في نهاية الطريق، وصلوا إلى ممر ضيق مرتفع يمر بالقرب من ميدان الكنيسة وينتهي بجادة عريضة. تعب الضباط من طول المسيرة وجلسوا وولّعوا سگائرهم. في الجانب الآخر من ضفة النهر لاح بصيص شعلة من النار حولها الضباط إلى مادة للتسلية والحديث عن ماهية هذه الشعلة؟. هل حقاً إنها صادرة من خيم بعض العابرين أم هي أنوار صادرة من نوافذ أحد البيوت أو أي شىء آخر.. حدّق ريابوڤيچ هو الآخر بشعلة النار وبدت له أنها تغمز وتبتسم له وكأنها تكرار لتلك القبلة التي طُبعت على شفتيه. وعندما وصل ريابوڤيچ إلى محل إقامتهم، غيّر ملابسه بسرعة وتسلل إلى الفراش. كان يقيم معه كل من لوبيتكو والملازم مرزلياكوف، وهو رجل هادئ الطبع وقليل الكلام ومعروف بين أقرانه بأنه ضابط متعلم ويستطيع أن يطالع نشرة "رسالة أوربا" التي ترافقه أينما حل. نزع لوبيتكو ملابسه، وشرع بالتخطي في طول الغرفة وعرضها بشكل يدل على ارتباكه مما دعاه إلى طلب قنينة من البيرة. أما مرزلياكوف فقد ذهب إلى فراشه، وشرع بقراءة "رسالة أوربا" على ضوء الشمعة المستقرة بالقرب من وسادته.

وبينما كان ريابوڤيچ يحدق في سقف الغرفة التي علاها الدخان، راح يفكر بـ"تلك المرأة... ومن تكون؟". إنه يشعر ولحد الآن بأن عنقه مازال مدهوناً بالمرهم، ومازلت لسعة البرد تمس شفتيه، تلك اللسعات الشبيهة بقطرات النعناع المتساقطة على الجلد. كانت تدور في مخيلته كتفي ويدي الفتاة الشابة ذات الفستان الياسي، والجبين والعينان المفعمتان بالود للفتاة ذات الشعر المجعد بفستانها الأسود، وتلك القامات والألبسة والبروشات التي تزين النهود. كان يسعى إلى أن يبقي تركيزه على هذه التصاوير، إلاّ أنها سرعان ما تبعثرت وغابت في طي النسيان. وفي الوقت الذي كان ريابوڤيچ يحاول تجميع كل تلك القصاصات عندما يلجأ المرء إلى إغماض عينيه، سمع وقع أقدام مسرعة، وخشخشة فستان نسائي وصوت قبلة. وانتابه فرح غامر قطعه النادل الذي عاد ليخبره بعدم استطاعته العثور على البيرة. غمرت لوبيتكو حالة من الإرتباك، وشرع من جديد يتخطى في طول الغرفة وعرضها. و توقف أمام ريابوڤيچ ثم أمام مرزلياكوف وقال:"هل يمكن أن يطلق عليه لقب أحمق؟ فإلى أي حد يصبح الإنسان أحمقاً بحيث يغدو غير قادر على توفير البيرة". ثم تابع لوبيتكو بانفعال واضح:"هل هو إنسان سافل؟ وعلق مرزلياكوف وهو يتابع تحديقه في جريدة " رسالة أروبا" قائلاً:"من الطبيعي أنه ليس بإمكاننا العثور على بيرة هنا". وإثر ذلك أصيب لوبيتكو بالهيجان وقال:"عجيب! أهكذا تفكر؟ ليغفر لي الرب لكوني لا أستطيع أن أوفر لكم البيرة والنساء عندما يرميني على سطح القمر! الآن سأذهب وأجدها .. وإذا ما عدت خالي الوفاض فيحق عند ذلك أن تنعتونني بالحيال".

قضى لوبيتكو وقتاً طويلاً في ارتداء ملابسه واحتذاء جزمته الضخمة. وبدون أن ينبس بكلمة، ولّع سيگارته ودخنها حتى أعقابها وذهب. وخلال توقفه لفترة قصيرة في الرواق أخذ يدمدم مع نفسه قائلاً:"رابك، گرابك، لابك. إن خروج الإنسان بمفرده أمر يدعو إلى الملل. اللعنة على الجميع! ريابوڤيچ .. هل لديك مزاج للتمشي؟ ها". عاد لوبيتكو بعد أن لم يتلق أي جواب، ونزع ثيابه بهدوء وتمدد على فراشه. صدرت عن مرزلياكوف آهة، ووضع "رسالة أوربا" جانباً وأطفأ الشمعة.

في الظلمة ولّع لوبيتكو سيگارته وقال بهمس:" هكذا إذن".

دسّ ريابوڤيچ رأسه تحت البطانية، وجمع نفسه مثل الكومة، وراح يجمع التصاوير المتحركة والسابحة في ذهنه من أجل أن يركّبها ببعض ليحصل على تصوير متكامل. إلاّ أنه فشل في ذلك، وبعد حين غط في نومه. كان أخر تصور تبلور في مخيلته هو أن شخصاً ما يداعبه وهذا ما أدخل السرور إلى نفسه، ورغم أنه عمل استثنائي وأحمق إلا أنه يثير المسرة لديه. ولم يتحرر من هذه التصورات حتى وهو غاط في نومه. وعندما استيقظ من النوم، لم يبق أي أثر للمشاعر التي لازمته في اليوم السابق. وأخذ ينظر بشوق وحماس إلى شعاع الشمس الذي بان فجر ذلك اليوم كالذهب، ويتنصت إلى حركة المارين الذين يتحدث البعض منهم بصوت عال أسفل النافذة. وكما جرت العادة تعالى صوت لبدتسكي، قائد وحدة المدفعية التي التحق بها ريابوڤيچ منذ حين، وهو يتحدث إلى عريف الوحدة وقال:" ماذا حصل؟".

"أعرض لفخامتكم أنه في يوم أمس وأثناء دق المسامير في نعل الجياد، دخل أحد المسامير في ظفر الطير. وقام الطبيب البيطري برش الخل ومسح الظفر بالطين وعزله عن البقية. وعلاوة على ذلك يا صاحب الفخامة فقد كان آرتميف البارحة في حالة سكر وأمر الملازم بحبسه في عربة خالية من المدفع".

وقدّم العريف تقريره وقال أن كارپوف نسي أن يشد الشرائط الجديدة على الأبواق، وأن يستخدم الحلقات الجديدة في الخيام، كما كان الضباط ضيوفاً عند أحد الجنرالات في الليلة الماضية. وفي أثناء عرض التقرير لاح وجه لبدتسكي بلحيته القرمزية من وراء النافذة. وقام بسحب عينيه بالقرب من منخريه، ونظر إلى الضباط بعينين ناعستين وقال لهم:"صباح الخير"، ثم سألهم:"هل أن كل شئ على ما يرام؟".

وأجاب لوبيتكو وهو يتثاءب :" لقد جرح عنق أحد الجياد أثر استخدام اللجام الجديد". تأوه القائد، وسرح في تفكيره للحظات ثم صاح بصوت عال قائلاً:"كنت أفكر أن أزور آلكسندرا بوگرافوڤنا، يجب أن ألتقي بها. حسناً..مع السلامة، وسأرجع أليكم مع حلول الغروب".

بعد ربع ساعة شرعت الكتيبة العسكرية بسيرتها. وعندما اقتربت من مخازن الأعيان ألقى ريابوڤيچ نظرة إلى يمينه وحدق في البيت الواقع هناك. كانت جميع النوافذ مغلقة، ويبدو أن أصحاب البيت ما زالوا يغطون في نوم عميق، بمن فيهم الشخص الذي قبّله ريابوڤيچ ليلة أمس. سعى ريابوڤيچ إلى أن يتخيله وهو في حالة نومه. تخيّل وبالتفاصيل الدقيقة أن نوافذ غرفة النوم كانت مفتوحة على مصراعيها، وتمتد أغصان الأشجار الجديدة إلى داخل الغرفة في لحظات طلوع الفجر، وفاحت رائحة الصفصاف وأزهار الياس والورد. وفي زاوية من الغرفة يتمدد سرير، وهناك كرسي ينبعث منه خشخشة الفستان مع نعل ظريف وساعة صغيرة على المنضدة. كل ذلك ارتسم في ذهنه. أما حدود الوجه والابتسامة الحلوة والناعسة، أي كل الأمور التي تعتبر حاسمة ومهمة، فقد فارقته كما يفارق الزئبق مكانه، وتلاشت من مخيلته. وبعد أن ابتعد الجنود لمسافة نصف ميل إلى الأمام، رجع ريابوڤيچ وأدار وجهه ونظر من جديد إلى الوراء. كانت الكنيسة الذهبية وبيت النبلاء والنهر يشع بفعل نور الشمس الساطعة. وانعكست السماء الزرقاء على سطح النهر لتلتحم بالشاطئ ذي اللون الأخضر النظِر، وتشكلت مع انعكاس شعاع الشمس على الأمواج جزر فضية متلألأة. كل ذلك بدا لريابوڤيچ آية من آيات الجمال. ألقى نظرة أخيرة على قرية ميستيچكي، وراودته مشاعر حزينة متضاربة في نفسه، إذ لا يستطيع أن ينفصل عن شئ عزيز وقريب له جداً. بانت أمامه على جانبي الطريق مزارع الشعير والحنطة السوداء حيث تنط فيها الحمير بين الحين والآخر. ومتى ما ينظر المرء إلى الأمام فسيرى الغبار ونفس الوجوه المعتادة ورؤوس العساكر. اما إذا التفت إلى الوراء فسيجد نفس الغبار ونفس الوجوه....وفي المقدمة من كل هذا وذاك أربعة رجال من حملة السيوف. هؤلاء الأربعة كانوا الطليعة، ويلحقهم فريق الغناء ثم يليهم عازفوا الأبواق الذين أمتطوا جيادهم. كانت الطليعة وكورس الغناء أشبه بأولئك المشاركين في تشييع الجنائز، فهم كانوا يحملون المشاعل وينسون على الدوام الفواصل التي ينبغي الالتزام بها مع بقية المجاميع، وكانوا يتقدمون على الجميع بأكثر مما ينبغي. رافق ريابوڤيچ المدفع الخامس، وكان باستطاعته رؤية المدافع الأربعة الأخرى التي تتحرك أمامه. لا يمكن لفرد غير عسكري أن يدرك مغزى هذا الصف الطويل والرتيب للواء عسكري، ولربما يمكن أن يؤدي ذلك إلى تداعيات واستغراب حول سبب تجمع هذا العدد الكبير من أفراد القوة حول المدفع. ولماذا ينضم إليهم هذا العدد الكبير من الجياد في شبكة عجيبة من الأسرجة والأسلحة، وهي في الحقيقة ثقيلة ومخيفة للغاية. أما بالنسبة لريابوڤيچ فكان هذا الأمر مفهوماً إلى درجة بعيدة ولا يستحق مثل هذه الحيرة. كان يدرك منذ أمد بعيد سبب وضع فصيل من المدفعيين الشجعان المعتمدين إلى جانب كل مدفع والضابط المسؤول، ولماذا يطلق عليه لقب المدفعي. كان من الممكن تشخيص فرسان أول وحدة تلي المدفع ثم الوحدة الوسطية. كان ريابوڤيچ على علم بأن الجياد التي تسير على الجانب الأيسر والتي يمتطونها هي جياد الفروسية ، في حين يصطلح على الجياد التي تسير على الجانب الأيمن اسم الجياد المساعدة، وهو أمر كان يبعث الملل فيه. كان يجلس على أحد الجياد فارس مازال الغبار والأتربة تلطخ ظهره جراء فعاليات اليوم السابق، وتلتصق برجله اليمنى قطعة مركبة بشكل يثير الضحك. كان ريابوڤيچ يعرف الهدف من هذه القطعة الخشبية، ولا يرى في ذلك ما يدعو إلى السخرية. كان الفرسان يلوحون بسياطهم في الهواء بشكل لا إرادي، وبين الحين والآخر يصرخون قرب رؤوس الجياد. لم يكن المدفع شيئاً جميلاً. ففي مقدمته توجد أكياس محشية بالقش وملفوفة بالجنفاص. وعُلقت الأباريق والشنط وأكياس الجنود على طرفي المدفع مما حوله في الظاهر إلى حيوان صغير ومسكين محاط بالبشر والجياد لأسباب غير معروفة. وإلى جانب المدفع وفي خلفيته المعاكسة للريح سار ستة رجال من المشاة يخطون بخطواتهم إلى الأمام. وهؤلاء كانوا نفس جنود المدفعية الذين يحركون أياديهم إلى الأمام وإلى الوراء بانتظام. ولوحظ من جديد وجود عدد أكبر من المدفعيين والفرسان وجياد العربات بعد المدفع، ويليهم مدفع قبيح وقديم على غرار ما لوحظ في السابق. وبعد المدفع الأول أستقر على التوالي المدفع الثاني والثالث والرابع وهكذا دواليك، ووقف إلى جانب المدفع الرابع أحد الضباط. يوجد في كل لواء ستة فصائل للمدفعية ، ولكل منها أربعة مدافع. ويمتد اللواء إلى مسافة نصف ميل، وفي النهاية اصطفت عربات الحمل والتي اصطف إلى جانبها موجود مثير غارق في بحر من التفكير، مع إذنيه الطويلتين ورأسه المهدل. إنه الحمار ماگار الذي جلبه أحد الضباط معه من تركية.

نظر ريابوڤيچ بدون مبالاة إلى الأمام وإلى الوراء، وحدق في الوجوه وفي الظهور. ولو لم تكن تلك اللحظات لكان ريابوڤيچ مشغولاً في الثرثرة. أما الآن فهو غارق في أفكاره الجذابة. فعندما كان اللواء يحث الخطى، سعى ريابوڤيچ إلى أن يقنع نفسه إن حاثة القبلة هذه يمكن أن تتحول إلى حادثة مثيرة وذات أسرار دفينة تافهة، وموضوع غير ذي أهمية، وإن التفكير بها بشكل جدي هو ضرب من الحماقة. ولكم ما أن مرت لحظات حتى وضع جانباً الأفكار المنطقية وعاود التفكير برؤياه...وانغمر في أحلامه وتصور من جديد أنه في غرفة ضيوف فون رابك، وإلى جانبه فتاة شابة ترتدي فستان بلون زهر الياس وذات شعر مجعد. وبعد لحظات أغمض عينيه وتخيل فتاة غريبة أخرى ذات ملامح غير محددة. وتراءى له أنه يتحدث مع هذه الفتاة، وقام بمغازلتها، واتكأ على كتفيها. وقادته أحلامه بعيداً وتذكر الحرب وعودته إلى البيت ولقاءه من جديد بزوجته وأولاده وتناول العشاء معهم...وكلما كان اللواء يتقدم إلى الأمام يتعالى الأمر التالي"الحذر! الحذر!.

صاح ريابوڤيچ هو الآخر "الحذر! الحذر!"، وكان يخشى أن يبدد هذا الصياح أحلامه الجميلة ويعود به من جديد إلى الواقع. عندما مروا بعدد من أملاك الملاكين ووصلوا إلى حديقة غنّاء، ألقى ريابوڤيچ نظرة فاحصة عليها. الشارع طويل ومستقيم ومغطى بالرمل الأصفر، وتنتصب على طرفيه أشجار الصفصاف الفتية.....عاد ريابوڤيچ واستسلم لأحلامه وراح يتذكر السيقان الأنثوية الصغيرة وهي تسير على الرمل الأصفر ..وأصبح الآن وبشكل غبر متوقع غارقاً في أحلامه التي رسمت له صورة متكاملة عن الفتاة التي قبّلها والتي أستطاع أن يجسمها في ذهنه ليلة كان جالساً حول مائدة العشاء. بقيت هذه الصورة في ذهنه ولم تغادره. وعند حوالي الظهر سمع صوت صراخ صادر من آخر العربات:"انتباه! أيها الضباط انظروا إلى يساركم". مر جنرال اللواء وهو ير كب عربة يجرها جوادان أبيضان. توقف عند وحدة المدفعية الثانية، وصاح بكلمات لم يفهمها أحد. وقام عدد من الضباط وبضمنهم ريابوڤيچ بركوب الجياد وتوجهوا إلى ذلك المكان. واستفسر الجنرال وهو يفتح ويغمض جفناه الحمراوان:"كيف الأحوال؟ هل يوجد مرضى؟". وبعد أن تلقى الجواب، توجه هذا الجنرال القصير والضعيف وهو يمضغ شيئاً ما في فمه، وبعد تردد ملحوظ توجّه إلى أحد الضباط قائلاً:"إن أحد عرابي المدفع الثالث قام بنزع حفاظة المدفع وعلّقها في مقدمته، ينبغي توبيخ هذا الدنىء". كانت نظراته متوجهة إلى ريابوڤيچ، ثم استمر في حديثه:"يبدو إن أحزمتك الأمامية أطول من وضعها العادي". وبعد أن قام الجنرال ببعض الحركات المثيرة للملل، نظر إلى الملازم لوبيتكو وخاطبه بتهكّم:"أيها الملازم لوبيتكو... يبدو عليك مظاهر الإحباط اليوم. هل أنت مشتاق للسيدة لوپوچوڤا؟ أيها السادة إن قلبه ينبض بالاشتياق لرؤية السيدة لوپوچوڤا". إن السيدة التي يجري الحديث عنها تتمتع بهيكل ضخم وطويلة القامة ويتعدى سنها الخمسة عقود. كان الجنرال مغرم بالسيدات ذات الهياكل الضخمة ولا يهمه السن أو العمر، ولهذا كان الشك يراوده أزاء تصرفات الضباط. ضحك الضباط كدليل على الاحترام. أما الجنرال فقد أطلق ضحكة عالية كدليل على فرحه بسرد نادرة مضحكة وقارصة، وضرب بهدوء سائق عربته بالسوط على قفاه وأدى علامات الاحترام. نظر ريابوڤيچ إلى الغبار والتراب المنبعث من عقب عربة الجنرال وقال:"إن كل ما أحلم به الآن، وأظنها أحلاماً غير قابلة التحقيق، هي في العادة ليست أمور عجيبة ومن باب الإعجاز. كل هذه الأمور هي عادية ويمكن أن يمر بتجربتها كل إنسان...على سبيل المثال حتى هذا الجنرال لا بد وأن كان لديه قصة حب. الآن هو متزوج وله عدة أولاد. كما إن الكابتن واتر صاحب عائلة وله عشيقاته، بالرغم من أن قفا رقبته أحمر وقبيح، وملابسه مثيرة للفضائح...وسولاينانوف هو الآخر له مظهر قبيح وغير عادي، ومع ذلك كانت له قصة حب انتهت بالزواج. ولابد إن مصيري لا يختلف عن مصائر الآخرين ..حيث سأمّر بنفس التجربة إن عاجلاً أم آجلاً. إن الفكرة التي راودته بكونه إنسان عادي وحياته اعتيادية أيضاً قد جعلته يشعر بالسرور وزادته جرأة. وغرق في حلم حول قرينته المقبلة وسعادته التي يتمناها بحيث لم يجد أية موانع تحد من هذه الأحلام.

وفي الوقت الذي وصلت أحدى الوحدات إلى المكان كي تقضي الليل فيه، وتوجه الضباط إلى الخيام من أجل تلقي الراحة، جلس ريابوفيڇ ومرزلياكوف ولوبيتكو حول صندوق خشبي وشرعوا بتناول طعام العشاء. ولم يسرع مرزلياكوف في تناول طعامه، بحيث أنه كان يتفحص لقمته ويمضغها جيداً ويلهو بقراءة "رسالة أوربا" التي وضعها على ركبتيه. لم يكف لوبيتكو عن الكلام بحيث أنه لم يسمح لقدح البيرة بأن يفرغ. أما ريابوفيڇ فقد كان يشعر بالغثيان جراء الأحلام التي راودته خلال اليوم، والتزم الصمت واكتفى برشف قدح البيرة. وبعد أن شرب ثلاثة أقداح من البيرة، أحس ريابوفيڇ بالضعف وانتابه إحساس لا يمكن مقاومته بأن يعبر عن مشاعره ومكنوناته التي استيقظت أخيراً.

وشرع ريابوفيڇ بالحديث بلا مبالاة وبسخرية وقال:"عندما كنا في ضيافة آل رابك وقع لي حادث عجيب. أنت تعرفون أنني ذهبت إلى غرفة البليارد". وراح ريابوفيڇ يصف بدقة حادثة القبلة ثم عاد والتزم الصمت...وفي خلال فترة قصيرة قدم تقريراً دقيقاً لما جرى، وأصابه العجب أن هذا الوصف لم يحتاج إلاّ إلى وقت قصير. في السابق كان يتصور أن حادثة القبلة قد تحتاج إلى ليلة بكاملها لشرحها. إن لوبيتكو المعروف بكذبه وهو لا يصدق كلام الآخرين، فقد تملكه الضحك بعد سماع حادثة القبلة التي رددها ريابوفيڇ. أما مرزلياكوف فقد قطب حاجبيه وعبر عن عجبه دون أن يرفع رأسه عن "رسالة أوربا" وقال:"حادثة عجيبة!! إن احتضان رقبة رجل دون أن تعرفه هو أمر محيّر..لابد أن هذه المرأة مصابة بالهيستريا". وقال ريابوفيڇ وهو يعبر عن موافقته :"نعم هو كذلك". أما لوبيتكو الذي أصابته الدهشة فقد قال:"لقد جرى لي حادث شبيه بذلك. ففي السنة الماضية ذهبت إلى كونوڦو...واشتريت بطاقة في الدرجة الأولى. كان القطار مزدحماً بالمسافرين وكان من غير الممكن أخذ قسط من النوم. دفعت إلى حارس العربة نصف روبل، وأخذ أمتعتي وقادني إلى عربة أخرى...وتمددت هناك وتغطيت بالبطانية. كان الجو مظلماً. لا تتصوروا...فعلى حين غرة لمس أحدهم كتفي وشعرت أنه ينفث نَفََسَه في وجهي...حرّكت يدي واصطدمت بساعد شخص آخر... وفي تلك اللحظة فتحت عيناي ..ولا تتصورا..فعلى حين غرة رأيت امرأة أمامي. عيناها سوداوان، وذات شفتان قرمزيتان كسمكة حرة طازجة، وتتنفس عبر منخريها بحماس وحرارة..ونهديها يرتفعان كالوسادة..". تزحزح لوبيتكو في مكانه وأخذ يسخر من مرزلياكون بدون أي ذوق. أما ريابوڤيچ فقد عبس وحهه، وابتعد عن الصندوق الخشبي الذي استخدم بدلاً من الطاولة، وأقسم بأنه سوف لا يتحدث مع أحد حول أسراره.

عادت الحياة من جديد في المعسكر....وعادت الأيام ومرت كما مرت سابقاتها. وفي خلال كل تلك الأيام تصرف ريابوڤيچ بشكل ينم عن أنه يشعر وكأنه عاشق. ففي كل صباح كان الحارس يجلب له الماء البارد كي يغتسل ويسكب الماء البارد على رأسه مما يولد لديه شعوراً بأن هناك في حياته شىء دافئ وملائم ويثير لديه الحبور. وعند بداية الليل حيث يبدأ أقرانه بالحديث عن الحب والنساء، كان ريابوڤيچ يسترق السمع فقط ويتخذ حالة الاستعداد العسكري في حرب يشعر أنه أحد المشاركين فيها. وفي آخر الليل وعندما يتوجه الضباط وفي مقدمتهم لوبيتكو لقضاء الوقت في نزهة "دونجوانية" في "الأطراف"، يشارك ريابوڤيچ معهم في هذا اللهو، ولكنه كان يشعر على الدوام بمشاعر الحزن والإثم، ويحس بحالة من طلب الغفران من رفيقه...وفي ساعات الفراغ أو في الليالي التي لا يراوده النوم، وعندما يعود إلى فترة الطفولة ويستعيد ذكرى أبيه وأمه ورائحة كل ما هو قريب له، فإنه يتذكر قرية ميستيچكي وذلك الحصان العجيب وفون رابك وقرينته والملكة يڤگيني والغرفة المظلمة. في 31 آب رجع ريابوڤيچ من معسكر بيڤاك، ولم يعد كل أفراد اللواء، بل عاد فصيلي مدفعية فقط. وفي طريق العودة بقي غارقاً في أحلامه وهيجانه وكأنه يعود إلى موطنه الأصلي. غلب عليه الشوق برؤية ذلك الحصان العجيب والكنيسة والعوائل التي تحيط برابك وتلك الغرفة المظلمة. وعلا ذلك "الصوت الداخلي" الذي غالباً ما يخدع العشاق ويدعوه ويقول له أنه سيرى معشوقته في نهاية الأمر...وإن ما كان يعذبه هي الكيفية التي سيتم فيها هذا اللقاء، وماذا يجب أن يقول لها؟ وهل نسيت هذه السيدة تلك القبلة؟ وكان يفكر مع نفسه ويقول أنه حتى في أسوء الحالات ولم يوفق برؤية هذه السيدة، فيكفيه عزاء المرور بتلك الغرفة المظلمة ويتذكر تلك الحادثة مما يدخل الفرح إلى قلبه.

وفي الليل لاح في الأفق سقف الكنيسة المعهود والمخازن العائدة لأرباب الضيعة. وبدأ قلب ريابوڤيچ ينبض بقوة... ولم يلق بالاً إلى نداء الضابط الذي كان يمتطي حصاناً ويسير إلى جانبه. فقد نسي كل شىء حيث كان يركز على النهر الذي يتلألأ من بعيد وعلى سقف ذلك البيت وعلى العش الكبير الذي تدور حوله الطيور تحت شمس الغروب. وعندما وصلوا في النهاية إلى الكنيسة واستمعوا إلى أوامر القادة، كان ريابوڤيچ ينتظر في كل لحظة أن يظهر الفارس من باحة الكنيسة ويدعو الضباط إلى تناول الشاي. ولكن انتهى إصدار الأوامر وترجل كل ضابط عن حصانه وتوجهوا إلى القرية دون أن يظهر ذلك الفارس.

وعندما عرج ريابوڤيچ على الكوخ الريفي انتابته الفكرة التالية:"لابد أن فون رابك سيسمع من فلاحيه عن عودتنا وسيرسل أحدهم لدعوتنا".ولم يستطع أن يفهم سبب قيام أقرانه بإنارة الشموع وعجلوا بإشعال السماور...وطغى القلق والشك المؤلم على جسمه وروحه. استلقى على السرير ثم نهض وألقى نظرة إلى الخارج علّه يرى أي رسول من فون رابك. ولكن لم ير أي أثر له.

ثم استلقى من جديد، ولكنه عاد ونهض من مكانه بعد نصف ساعة ولم يستطع أن يسيطر على قلقه واضطرابه، وسارع بالخروج إلى الشارع وتوجه نحو الكنيسة. كان الظلام مخيماً ولا يوجد أثر لأي شخص أمام الكنيسة.... اصطف ثلاثة جنود في نقطة على الطريق المنحدر دون أن يحركوا شفاههم. وعندما لاحظوا ريابوڤيچ أخوا حالة الاستعداد وأدوا الاحترام له. وأشار بالإيجاب على تحيتهم وراح يتقدم بخطوات على الطريق المعروف لديه. في الشاطئ الآخر من النهر اصطبغت السماء بلون أحمر ناري. وكان القمر في طريقه إلى الصعود، وسمع أصوات سيدتين ريفيتين يتبادلن الحديث بصوت عال ويجمعن محصول الملفوف من الجنينة. وبدت في خلف الجنينة في الظلام بضعة أكواخ ريفية.... وفي الشاطئ الآخر بدا كل شىء مماثل لما كان عليه في شهر آيار: ممر ريفي ضيق، والأدغال وأغصان الصفصاف التي تتدلى فوق النهر...ولكن لم يوجد أي أثر لذلك البلبل الشجاع ولا رائحة أوراق السبندار ولا الأعلاف الطرية.

عندما اقترب ريابوڤيچ من تلك الحديقة حدّق في البوابة. كانت الحديقة مظلمة ويلفها السكون...ولم يستطع أن يلمح شيئاً باسثناء هياكل بيضاء قرب الأشجار وهياكل أخرى على الممر الضيق الذي ينتهي ببيت الأرباب. كان كل شىء مركب في ظلام مبهم. حدّق ريابوڤيچ بشوق وفضول في المكان. ولكن بعد انتظار دام ربع ساعة لم يسمع أي صوت ورجع بهدوء...واتجه إلى الأسفل نحو النهر. انتصبت أمامه زاوية كابينة استحمام الجنرال وقد عُلقت على جوانبها المناشف وهي تشع من جراء سقوط أشعة شمس الغروب الضعيفة عليها.. توجه نحو الجسر، وتوقف هنيئة ولمس منشفة بدون سبب يذكر. كانت المنشفة خشنة الملمس وباردة. ثم نظر إلى الأسفل وألقى نظرة إلى الماء.. كانت المياه تجري بسرعة في النهر وتصطدم بقاعدة حمام الجنرال وتصدر قرقرة يمكن سماعها. وكانت المياه في الجانب الغربي من النهر تسطع بلون أحمر، وترتسم على السطح تصاوير مرتجفة، حيث تتجزأ إلى أجزاء أصغر وأصغر ثم تتباعد وتمر بسرعة.

نظر ريابوڤيچ إلى ماء النهر وأخذ يفكر مع نفسه:"أية حماقة، إلى هذا الحد أصبح كل شىء أحمق ولا ينطوي على الحكمة!!". لم يعد في انتظار أي شىء، فحادثة القبلة وعدم صبره وأمله الغامض وفقدان الأمل كلها قد تراءت أمامه كنور مشع. وهذا لم يعد ينتابه العجب من عدم رؤيته لمبعوث الجنرال، وأنه سوف لا يرى تلك الفتاة التي قبلته عن طريق الخطأ بدلاً عن شخص آخر.

لم يتوقف جريان النهر، ولكن ليس هناك من أهمية أن يعرف أين يكمن منبع النهر وأين مصبّه. ففي شهر آيار يصب ذلك النهر الصغير في النهر الأكبر ثم يصب في البحر. وبعد ذلك يتحول إلى قطرات من البخار ليصعد إلى السماء ثم يتحول إلى مطر، ولابد أنه الآن يجري أمام عين ريابوڤيچ بدون حكمة وهدف...ولكن من أجل ماذا؟ ولماذا؟ وبدا لريابوڤيچ أن كل العالم وكل الدنيا تسير بدون حكمة وبدون هدف...وعندما رفع عينيه من الماء إلى السماء استذكر من جديد كيف إن امرأة مجهولة وبمحض الصدفة قد أثرت في نفسه كل هذه السعادة. استعاد حلمه ورؤياه الصيفي ، وتولد لديه شعور بأن حياته أصبحت تافهة وفقيرة وبدون مضمون وبشكل عجيب.

وعندما عاد إلى كوخه، لم يعثر على أي من أقرانه. وقدم الحارس له التقرير، وقال إن الجميع قد توجه إلى بيت الجنرال فون رابك. فقد أرسل الجنرال مبعوثه ودعا الجميع إلى بيته...وخلال لحظة نوّر قلب ريابوڤيچ من الفرح، ولكنه أخمد هذا النور مباشرة، وتوجه إلى سريره، وفي حالة من الغضب أخذ يندب حظه بسبب عدم ذهابه إلى بيت الجنرال
 
أعلى