عبد القادر زمامة - نشأة الأدب العربي بالمغرب

هذا البحث صغير في موضوع كبير، يحاول كاتبه أن يستجيب فيه لمطامح النفس المغربية التي نشعر بها دائما تسائلنا... نحن جزء لا يتجرأ من العالم العربي.. وتراث العرب تراثنا، ولغتهم لغتنا، وأدبهم أدبنا.. فما بالنا نجد في كتب التاريخ والأدب عشرات بل مئات الشعراء والمؤلفين ينتسبون إلى البصرة والكوفة وبغداد ودمشق وقرطبة في عصور الحضارة الإسلامية الأولى... بينما لا نكاد نجد من ينتسب منهم إلى مدينة من مدن المغرب الموجودة إذ ذاك... فهل كان الناس هنا في المغرب يعيشون من غير أدب...؟ وهل كان الناس هنا في المغرب يسمعون ويقرؤون آثار العلماء والأدباء الشرقيين والأندلسيين فيكتفون بذلك ويعكفون على ترديده ونقده من دون أن يتعبوا أنفسهم بإنشاء أدب جديد ذي طابع جديد..؟ أجل، هذه معضلة نصادفها دائما عند محاولتنا دراسة الأدب العربي في المغرب، وتكون المعضلة شديدة الوقع في النفس عندما نريد أن نقدم للناس كتابا في الأدب العربي يضم آثار أدباء العرب في مختلف العصور والأقطار العربية، لأن حظ المغرب يكون هزيلا شاحبا لا يطفئ غلة ولا يروي ظمأ... مما أدى ببعض المؤلفين إلى إهماله بالمرة أو الاكتفاء بما بقي من أدب الأندلس..
وطبيعي أن يهتم الباحثون بهذا الموضوع، وطبيعي أن يحاولوا إرسال أضواء على ما غمض من آثار المغاربة الأولين.. وطبيعي أن يحبسوا أنفسهم على البحث والتنقيب علهم يظفرون بما يزيحون به الستار عن خفايا الماضي وغوامضه.. ولاشك أن الباحثين عن نشأة الأدب العربي في المغرب في العصور الأولى، أعني عصر الأدارسة ومغراوة وبني يفرن، يجدون أنفسهم أمام مادة تاريخية ضاعت جل مصادرها المعاصرة، ككتاب المؤرخ أبي عبد الله محمد بن يوسف التاريخي المعروف بالوراق المتوفى سنة 292، وقد كتب هذا المؤرخ عن(البصرة) و(سجلماسة) و(نكور) و(فاس) وغيرها من حواضر المغرب في تلك العصور، وكتاب تاريخ الأدارسة للمؤرخ البرنوسي الذي ينقل عنه صاحب القرطاس كثيرا، وكتاب تاريخ الأدارسة للمؤرخ ابن الودون الذي أشار إليه صاحب (بيوتات فاس) عند كلامه على عائلة ابن الودون.. الشهيرة، كما أنهم يجدون أنفسهم أمام عدة حواضر مغربية منها ما يؤسس ومنها ما يجدد بناؤه، وبنوع خاص في الناحية الشمالية من المغرب، لأن انعدام سلطة مركزية أدى إلى ظهور مطامح متعددة وإمارات وزعامات متعددة ولاسيما بعد انهيار دولة الأدارسة في فاس وتلاعب ساسة الفاطميين والمروانيين بزعماء القبائل التي كانت تطمح إذ ذاك إلى سد الفراغ الذي حدث بانحلال دولة الأدارسة...
وفي هذه الظروف نجد في كتب الطبقات وكتب المسالك والممالك أسماء عدة شخصيات مغربية لها قيمتها الثقافية في علوم الشريعة والأدب، ونقرأ بعض المقطعات الشعرية كتلك التي رواها لنا البكري في مسالكه عند كلامه على مدينة البصرة المغربية التي كانت تعرف إذذاك ببصرة الكتان، أو بصرة الذبان، والتي كانت مشهورة بجمال نسائها الفائق، وينسب البكري القطعة لأحمد بن فتح المعروف بابن الخراز التاهرتي يمدح أبا العيش بن إبراهيم بن قاسم:
قبـح الإلـه اللهـو إلا قينـة = في بصرة في حمـرة وبيـاض
الخمر في لحظاتها والورود في = وجناتها والكشح غير مفــاض
ولم يرو البكري أكثر من ستة أبيات، كما أن المؤرخين رووا للإمام إدريس رضي الله عنه مقطعات شعرية في الفخر والحماسة، وكذلك لابنه القاسم بن إدريس، وكذلك لحفيده إبراهيم الذي هاجر إلى الأندلس وسكن قرطبة إلى أن أخرجه الحاجب المنصور ابن أبي عامر من الأندلس فيمن أخرجه من أهل بيته بعد الحادث الشهير الذي قتل فيه الحسن بن جنون.
يقول إبراهيم يهجو المنصور بن أبي عامر ويخاطب الأمويين الذين استبد بهم هذا الحاجب:
فيما أرى عجبا لمن يتعجب = جلت مصيبتنا وضاق المذهب
إني لأكذب مقلتي فيمـا أرى = حتى أقول غلطت فيما أحسب
أيكون حيا من أمية واحــد = ويسوس هذا الملك هذا الأحدب
تمشي عساكرهم حوالي هودج = أعـواده فيـهن قـرد أشهـب
أبني أمية أين أقمـار الدجى = منكـم وما لوجوههـا تتغيـب
وقد روى المؤرخون لهذا الأمير غير هذه القطعة، ولاشك أنك تلاحظ في القطعة التي أمامك مدح أمير علوي لأبناء أمية.!!! وهو غريب..! في بابه.
وقد اجتذب الأندلس كثيرا من المغاربة الذين اندمجوا في الوسط الأندلسي وعرفوا بنسبتهم إلى المغرب كالأصيلي راوية النجاري، ويحيى بن يحيى.. راوية الموطأ، ونجد غيرهما ممن ينسب إلى نفزة وأوربة وزناتة ومصمودة ومغرواة وغيرها، كما نجد القيروان هي الأخرى اجتذبت آخرين كالشيخ ابن عمران الفاسي، وقل مثل ذلك عن بغداد ودمشق والمدينة والإسكندرية وأخيرا... القاهرة...
وليس لهذا من تفسير سوى أن الحياة ضاقت بهؤلاء في بلادهم بسبب الحروب والفتن الداخلية التي استمرت عدة أجيال لم يمكن معها أن يتذوق الناس حياة السلم والاستقرار التي هي الشرط الأساسي لازدهار الأدب والعلم.
والأدب والعلم إنما يزدهران عندما تسود اللغة ويعظم شأنها وتصبح أداة حية في المعاهد والمؤسسات الحكومية وعلى ألسنة الناس في حياتهم اليومية، وهذا ما حدث في مدن العراق وفارس ومدن الأندلس أيضا، فقد كانت موجات المهاجرين والعرب المسلمين دفاقة على هذه الأقطار منذ الفتح الإسلامي، ولم يلبث السكان الأصليون من فرس وأكراد وروم وأرمن وأنباط وغيرهم في الشرق أن أقبلوا على اللغة الجديدة يتسابقون إلى تعلمها واستعمالها كأداة للتخاطب أولا ثم كأداة للثقافة ثانيا. وفي الأندلس حدث ما يشبه هذا، وكان عدد العرب الذين استقروا بالأندلس بعد الفتح الإسلامي ونقلوا إليها لغتهم وعصبيتهم وأخلاقهم يفوق عدد إخوانهم الذين استوطنوا المغرب.. ويكفي أن نعلم أن عبد الرحمن الداخل الأموي دخل الأندلس سنة 138هـ فوجد النزاع على أشده بين العرب القيسية واليمينة وأنه استغل هذا النزاع لمصلحته الخاصة، حتى تم له الأمر وأسس الدولة الأموية التي كان لها الفضل الأكبر في حضارة الأندلس وازدهار العلم والأدب في ربوعها.
ونبوغ كتاب وشعراء ومفكرين كالجاحظ وأبي نواس والبحتري وأبي تمام هو تعبير صادق عما بلغته الثقافة من رقي وازدهار في الوسط الذي عاشوا فيه في ظلال هرون الرشيد وابنه المأمون وآل برمك وآل خاقان.
كما أن نبوغ ابن عبد ربه وابن زيدون وابن عمار في الأندلس كان تعبيرا عما بلغته الحياة الأدبية من رقي على عهد عبد الرحمن الناصر ثم على عهد ملوك الطوائف فيما بعد.
وإذا لاحظنا أن سكان المغرب قد اندمجوا في الحياة الإسلامية، وإذا لاحظنا أن شعورهم الديني بلغ أعلى درجة من الحيوية والحماس، وإذا لاحظنا أنهم أقبلوا على القرآن يحفظونه ويتدارسونه وعلى تعاليم الإسلام يتعلمونها ثم يؤدونها بإخلاص وحسن نية.. فإننا نلاحظ أن حياتهم الثقافية كانت لا تتجاوز المحيط الديني إلى الأدبي إلا قليلا وفي ظروف خاصة وتحت تأثير عامل التقليد الذي لا ينفك يدفع ببعض الناس إلى نظم بعض المقطعات في المدح أو الهجو أو الفخر.
وأظن أنني لست في حاجة إلى أن أثبت في هذا البحث كل ما دونته في مذكرتي من مقطعات وأبيات رواها المؤلفون -الذين وصلتنا وآثارهم- لبعض المغاربة الذين أظلتهم عصور الحضارة الإسلامية الأولى..
وأظن أنني لست في حاجة إلى أن أقول إن هذه المقطعات وهذه الأبيات سواء كانت متفرقة أو مجتمعة لا تمثل حياة أدبية يشترك فيها الأدباء مع رجال عصرهم... غير أن هذا الحكم لن يظل قائما إلى الأبد... فإذا ظهرت -خبايا الزوايا- وظهر ما تكنه من المخطوطات القديمة التي تتحدث عن تاريخ العصور الإسلامية الأولى بالمغرب فإننا ولا شك سنجد أنفسنا أمام مادة صالحة للدرس والتمحيص والاستنتاج، وفي انتظار ذلك سيظل الحكم الأول قائما لأنه مبني على الاستقرار والتتبع فيما هو موجود بين أيدينا من مصادر ووثائق.. إلى حد الآن...
هذه قصة نشأة الأدب العربي بالمغرب في العصور الأولى... وقد كان المغاربة، حتى في أيام ازدهار الأدب العربي على عهد الموحدين والمرينيين والسعديين، يتحاملون ذكر هذه القصة في مؤلفاتهم التي بين أيدينا لأنهم كانوا ولا شك يعتقدون أن المغرب كان في العصور الأولى التي أعقبت الفتح الإسلامي موطن بطولة... وأبطال ومغامرين لا موطن أدب وأدباء وشعر وشعراء...!!



دعوة الحق
18 العدد
 
أعلى