قصة قصيرة دينو بوتزاتي - الطوابق السبعة.. ت: علي عبد الأمير

دينو بوزاتي


في صباح يومٍ من أيام آذار ( مارس )، بعد رحلةٍ ليلية بالقطار، وصل جيوفاني كورتي إلى المدينة التي تقع فيها دار التمريض الشهيرة. كان يعاني من حمى خفيفة، إلا أنه ظل مصمماً على المسير من المحطة إلى المستشفى، حاملاً حقيبته الصغيرة.
مع أن حالته كانت طفيفة بصورةٍ مفرطة، وفي أبكر مراحلها، إلا أن جيوفاني كورتي كان قد نُصح بالذهاب إلى مصح ذائع الصيت، كان موجوداً خصيصاً للعناية بالمرض الخاص الذي عانى منه. إن المعنى الكامن وراء ذلك هو أن الأطباء كانوا كفئين بصورةٍ استثنائية والأجهزة والمعدات الطبية فعالة بنحو خاص.
وهو يلمح المصح من مسافة ما – فقد ميزه من خلال مشاهدته لصور فوتوغرافية في كرّاسٍ ما ـ كان ذلك قد ترك في جيوفاني انطباعاً إيجابياً جداً. كانت البناية بيضاء، ترتفع بسبعة طوابق، تقطعت كتلتها بواسطة سلسلة من الفجوات في الجدران مما جعلها تشبه بصورةٍ مبهمة فندقاً. كانت البناية محاطة بأشجار عالية.
بعد زيارةٍ قصيرة من لدن الطبيب، قبل زيارةٍ أخرى أكثر شموليةً فيما بعد، أّخذ جيوفاني إلى حجرةٍ مبهجة في الطابق السابع والأخير. كان الأثاث خفيفاً وأنيقاً، شأنه شأن ورق الجدران، كانت هنالك كراسي من خشب ووسائد زاهية الألوان. كان المنظر واحداً من أكثر مناظر المدينة المحببة إلى القلب. كل شيء هادئ، سار ومعيد للطمأنة.
مضى جيوفاني إلى السرير حالاً، وأضاء مصباح القراءة بجنب سريره وشرع يقرأ كتاباً جلبه معه. بعد مرور دقائق قليلة أقبلت ممرضة كي ترى ما إذا كان بحاجة إلى شيء ما.
لم يكن يحتاج شيئاً، إلا أنه ابتهج بالدردشة مع الشابة وبتوجيه الأسئلة إليها عن دار التمريض. هكذا تعرف على واحدةٍ من ميزاتها الأكثر غرابةً : كان يتم إيواء المرضى في كل طابق من الطوابق بحسب خطورة حالتهم المرضية. الطابق السابع، أو الأعلى، كان مخصصاً للحالات البسيطة جداً. السادس هو الآخر للحالات الطفيفة، لكنها تحتاج إلى قدرٍ من الاهتمام. وفي الطابق الخامس هنالك حالات مرضية خطيرة تماماً وهلمجرا، طابقاً إثر طابق. كان الطابق الثاني للمرضى العليلين بصورةٍ خطيرة. وفي الطابق الأول هنالك الحالات الميؤوس منها.
هذا النظام الاستثنائي، بصرف النظر عن كونه يسهل تقديم الخدمات العامة إلى حد بعيد، كان يعني أن المريض المصاب بوعكة خفيفة فقط لن يكون منزعجاً بشريكٍ في المعاناة يحتضر في الحجرة المتاخمة، كما يضمن تنظيم الجو في كل طابق من الطوابق السبعة. المعالجة، بطبيعة الحال، تختلف من طابق إلى آخر.
هذا يعني أن المرضى كانوا مقسمين إلى سبع حالات متلاحقة. كل طابق هو عالم منفصل، بكل قواعده وتقاليده الخاصة. وطالما أن كل طابق كان من مسؤولية طبيب مختلف، فقد نجمت اختلافات بسيطة في طرائق المعالجة، مع أنه في البدء كان المدير قد منح المؤسسة نزعةً رئيسية واحدة.
حالما غادرت الممرضة الحجرة، مضى جيوفاني كورتي، وقد فارقه الإحساس بالحمى، إلى النافذة، وتطلع إلى الخارج، لا لأنه يريد مشاهدة منظر المدينة (مع أنه لم يتعرف عليها بعد) بل على أمل أن يلمح، عبر النوافذ، المرضى في الطوابق الواقعة إلى الأسفل منه. كان هيكل المبنى بفجواته الكبيرة في الجدران، يجعل عملية الرؤية هذه ممكنة. ركز جيوفاني كورتي بصورةٍ خاصة على نوافذ الطابق الأول التي بدت بعيدةً جداً عنه، والتي كان بوسعه أن يراها بصورة مائلة فقط. لكنه لم يستطع أن يرى شيئاً مثيراً للاهتمام. كانت معظم النوافذ محجوبة تماماً بستائر فينيسية رمادية اللون.
لكن جيوفاني كورتي رأى شخصاً ما، رجلاً، يقف عند النافذة الملاصقة لنافذته تماماً. نظر الاثنان كل واحد إلى الآخر بإحساسٍ متنامٍ من التعاطف، إلا أن أياً منهما لم يكنْ يعرف كيف يكسر الصمت. في الختام استجمع جيوفاني كورتي شجاعته وانبرى قائلاً : « هل وصلت تواً، أنت أيضاً ؟».
«أوه، كلا» ، قال الجار. «أنا هنا منذ شهرين». لزم الصمت لحظات قلائل، ومن ثم، في الظاهر أنه لم يكنْ متأكداً من كيفية مواصلة الحوار، أضاف قائلاً : « كنت أشاهد شقيقي هناك في الأسفل.»
«شقيقك ؟»
«أجل. كلانا أتينا إلى هنا في الوقت نفسه، إنما يا للغرابة، تردت حالته الصحية ـ إنه الآن في الرابع.
«الرابع ماذا ؟»
«الطابق الرابع»، شرح الرجل، متلفظاً كلتا الكلمتين بذلك المزيج من المرح والفزع بحيث ارتعب جيوفاني كورتي بصورةٍ غامضة.
«لكن في تلك الحالة»، واصل كورتي استفهامه بذلك الجذل الذي من المحتمل أن يتبناه المرء حين يتكلم عن أشياء مأساوية لا تخص فرداً معيناً – «إذا كانت الأشياء خطيرة جداً أصلاً في الطابق الرابع فمن أولئك الذين يضعونهم في الأول ؟»
«أوه، المحتضرون. هناك لا يستطيع الأطباء أن يفعلوا شيئاً البتة. فقط القساوسة. وبطبيعة الحال…»
«لكن ليس ثمة أشخاص كثيرون هناك في الأسفل»، قاطعه جيوفاني كورتي كما لو أنه يبحث عن توكيد، «تقريباً كل الستائر مسدلة».
«ليس ثمة عدد كبير منهم الآن، إنما كانت هنالك هذا الصباح»، أجاب الآخر بابتسامة خفيفة. « الحجرات ذوات الستائر المسدلة هي تلك التي توفي فيها شخص ما منذ وقت قريب. كما ترى، في الطوابق الأخرى مصاريع النوافذ كلها مفتوحة. هل تعذرني»، استطرد في حديثه، متحركاً ببطء إلى الداخل، «يبدو أن الطقس أصبح بارداً نوعاً. إنني أعود إلى سريري. اسمح لي أن أتمنى لك كل الخير…»
ابتعد الرجل عن حافة النافذة وأغلق الشباك بحزم ؛ كان ثمة ضوء يأتلق في داخل الحجرة. بقي جيوفاني واقفاً عند الشباك، وعيناه مثبتتان على الستائر السفلية في الطابق الأول. تطلع إليها بتركيز قاتل، ساعياً إلى تخيل الأسرار المروِّعة لذلك الطابق الرهيب حيث يغدو المرضى في عداد الأموات ؛ أحس بالارتياح كونه بعيداً جداً عنه. في هذه الأثناء، زحفت ظلال المساء على المدينة. واحدةً بعد الأخرى أُضيئت نوافذ المصح الألف، حيث بدا من بعيد أشبه بقصر واسع أُضيء من أجل حفلة راقصة. في الطابق الأول فقط، عند أسفل الصرح، بقيت دزينات من النوافذ خاوية وخالية.
كانت زيارة الطبيب قد طمأنت جيوفاني كورتي إلى حدٍ بعيد. ولأنه متفائل بطبعه، كان مهيئاً سراً للرأي السلبي ولن يندهش إذا ما أرسله الطبيب تحت إلى الطابق التالي.
حرارته، على أية حال، لم تُظهر أي علامة من علامات الانخفاض، مع أن حالته كانت بخلاف ذلك مقنعة. غير أن الطبيب كان لطيفاً ومشجعاً. مؤكد أنه كان مصاباً ـ قال الطبيب ـ إنما بدرجة بسيطة جداً لا غير، وفي بحر أسبوعين أو ثلاثة سوف يتماثل للشفاء في الأرجح. «هل يمكنني، إذاً، أن أبقى في الطابق السابع؟» سأل جيوفاني كورتي بقلق عما يتعلق بهذه المسألة.
«طيب، بطبيعة الحال !» أجاب الطبيب وهو يربت على كتفه بود. «إلى أين تعتقد أنك ذاهب ؟ تنزل إلى الرابع في الأرجح؟» تكلم بصورةٍ مازحة، كما لو أن هذه الفكرة هي الأكثر سخفاً في العالم كله.
« أنا مسرور بذلك»، قال جيوفاني كورتي. «أنت تعرف كيف هي الحال، حين يكون المرء عليلاً يتخيل دوماً ما هو أسوأ». الواقع، بقي هو في حجرته التي أُعطيت له أصلاً. في أوقات العصر النادرة حين يتم السماح له يتعرف على عددٍ من زملائه المرضى. كان يتبع العلاج بحذافيره، مركزاً كل انتباهه على تحقيق شفاء سريع، على الرغم من أن حالته بدتْ وكأنها ظلت كما هي، ولم يطرأ عليها أي تغيير.
بعد تصرم عشرة أيام، أقبل رئيس الكادر التمريضي في الطابق السابع إلى جيوفاني كورتي. كان يريد أن يطلب منه معروفاً خاصاً جداً : في اليوم التالي جاءت امرأة مع طفلين إلى المستشفى ؛ كانت هنالك حجرتان خاليتان ملاصقتان لغرفته تماماً، لكنهم يحتاجون إلى حجرة ثالثة ؛ هل يكترث السينيور كورتي كثيراً إذا ما انتقل إلى حجرةٍ أخرى، مريحة بالقدر نفسه ؟
بالطبع، لم يبدِ جيوفاني كورتي أي اعتراض : لم يبالِ بالحجرة التي يسكنها ؛ الواقع ربما ستكون له ممرضة جديدة وأكثر جمالاً.
«شكراً جزيلاً لك»، قال رئيس الكادر التمريضي بانحناءة طفيفة. «مع أن، أصغ إليّ، فعلاً كيس كهذا لا يدهشني طالما أنه يصدر من شخص مثلك. سوف نبدأ بنقل حاجياتك في غضون ساعة إن لم يكن عندك مانع. بالمناسبة، حجرتك الجديدة، في طابق واحد إلى الأسفل»، أضاف بنبرةٍ أوطأ، كما لو أنه تفصيل غير ذي قيمة. «لسوء الحظ ليس ثمة حجرات خالية في هذا الطابق. بالطبع إنه مجرد إجراء مؤقت»، أسرع ليضيف، وهو يرى كورتي وقد جلس باستقامة فجأةً وكان يهم بالاحتجاج، «مجرد إجراء مؤقت. سوف تصعد ثانيةً حالما تتوفر حجرة خالية، وهذا الأمر سيتم في غضون يومين أو ثلاثة».
«يلزمني أن أعترف»، قال جيوفاني كورتي باسماً، كي يُظهر أنه ليس لديه مخاوف صبيانية، « يلزمني أن أعترف أن هذا النوع من تغيير الحجرة لا يروقني البتة».
«لكنه لا يستند إلى أساس طبي، إنني أفهم تماماً ما تعنيه، إنما في هذه الحالة، من البساطة أن نقدم معروفاً لهذه المرأة التي لا تريد أن تكون منفصلةً عن ولديها.. الآن من فضلك»، أضاف رئيس الممرضين، ضاحكاً ضحكاً صريحاً، «من فضلك لا تضع في بالك أن ثمة أسباب أخرى !»
«حسن جداً»، قال جيوفاني كورتي، «يبدو أنه يجب عليّ أن أتحمل المرض».
وهكذا نزل جيوفاني كورتي إلى الطابق السادس، ومع أنه كان مقتنعاً أن هذه النقلة لا تنسجم مع أي تدهور في حالته الصحية الخاصة، شعر بأنه حزين ومغتم بإزاء الفكرة القائلة أن ثمة الآن حاجز واضح بينه وبين العالم اليومي للناس الأصحاء. «الطابق السابع هو نقطة انطلاق، مع درجة معينة من الاتصال بالمجتمع، من الممكن أن نعده ضرباً من الملحق بالعالم الاعتيادي. لكن الطابق السادس هو أصلاً جزء من المستشفى الحقيقي، مواقف الأطباء، الكادر التمريضي، المرضى أنفسهم تختلف اختلافاً بسيطاً. كان قد تم الاعتراف صراحةً بأن المرضى في ذلك الطابق هم عليلون فعلاً ؛ حتى إذا لم يكونوا عليلين بصورةٍ خطيرة. من خلال محاوراته الأولية مع جيرانه، الكادر التمريضي والأطباء، استنتج جيوفاني كورتي أن الطابق السابع يُعد نكتةً، وهو مخصص للهواة، كله تكلف ونزوة ؛ في الطابق السادس تحديداً تبدأ الأشياء الجدية.
شيئاً واحداً فقط أدركه جيوفاني كورتي، على أية حال، ألا وهو أنه بالتأكيد سيواجه بعض الصعوبات في العودة ثانيةً إلى الطابق السابع الذي، إذا ما تحدثنا من الناحية الطبية، ينتمي إليه ؛ كي يرجع إلى الطابق السابع يجدر به أن يحرك النظام المعقد للمكان، حتى بالنسبة إلى نقلة صغيرة كهذه ؛ إنه شيء جلي تماماً، حيث ليس ثمة مبرر لأن يؤكد، أن ما من أحدٍ فكر في إعادته إلى الطابق الأعلى، مع «الناس الأصحاء تقريباً».
وهكذا قرر جيوفاني كورتي ألا يُصادر أيَّ استحقاقٍ من استحقاقاته وألا يستسلم لغواية العادة. كان مهتماً جداً بأن يترك انطباعاً جيداً في رفاقه المرضى كونه باقٍ معهم مجرد أيام قلائل، وأنه هو الذي وافق على النزول طابقاً واحداً ببساطة كي يتفضل على سيدةٍ بخدمةٍ، وأنه سوف يصعد من جديد إلى الأعلى حالما تتوفر حجرة خالية. أصغى الآخرون إليه من دون اهتمام وهزوا رؤوسهم، غير مقتنعين.
كانت قناعات جيوفاني كورتي، على أية حال، قد تأكدت من خلال حكم الطبيب الجديد. أيد الأخير أن بوسع جيوفاني كورتي حتماً أن يكون في الطابق السابع، وأن المرض الذي أُصيب به كان تافهاً بكل – معنى – الكلمة – شدد الطبيب على هذه الكلمات كي يؤكد على أهمية تشخيصه – لكن على الرغم من ذلك ربما من المستحسن أن يبقى جيوفاني كورتي في الطابق السادس كي تتم العناية به بشكل أفضل.
« لا أحبذ سماع كل ذلك الهراء ثانيةً»، قاطع جيوفاني كورتي الطبيب بصرامة في هذه النقطة، «أنت تقول بأنه يجدر بي أن أكون في الطابق السابع، وهذا هو الموقع الذي أريد أن أكون فيه».
«لا أحد ينكر بأنني»، رد الطبيب، « أحذرك ليس بصفتي ط ـ بيباً بل بصفتي صديقاً حقيقياً. كما قلت، أنت مصاب بوعكة طفيفة جداً ولن تكون حتى مبالغة إذا ما قلنا إنك لست عليلاً على الإطلاق، إنما في اعتقادي إن ما يجعل حالتك مختلفة عن الحالات المعتدلة بصورة مشابهة هو امتدادها الأوسع، إن قوة المرض في أدنى درجاتها لكنه (أي المرض) منتشر إلى حدٍ ما، إن العملية التدميرية للخلايا» – كانت تلك هي أول مرة يسمع فيها جيوفاني كورتي هذا التعبير المنحوس – «العملية التدميرية للخلايا هي في مراحلها الابتدائية بكل معنى الكلمة، وربما لا تكون قد بدأت بعد، لكنها تميل، أقول تميل، إلى أن تؤثر في مديات كبرى من العضو. هذا هو السبب الوحيد، في رأيي، الذي ربما يجعل من الأفضل أن نبقيك هنا في هذا الطابق، حيث طرائق العلاج أكثر فعاليةً بدرجة كبيرة وأكثر قوةً».
ذات يوم قيل له إن مدير دار التمريض بعد مشاورة زملائه، قرر إجراء تغيير في تقسيم المرضى إلى أجزاء أصغر. مرتبة كل مريض – إذا جاز التعبير – ينبغي تقليلها نصف درجة. من الآن فصاعداً يجب تقسيم المرضى في كل طابق إلى فئتين بحسب خطورة حالاتهم المرضية (الواقع كان الأطباء المتتالون قد أجروا هذا التقسيم من قبل، مع أنهم فعلوا ذلك من أجل منفعتهم الشخصية) وأن الجزء الأدنى من هذين النصفين ينبغي أن ينزلوا رسمياً طابقاً واحداً إلى الأسفل. على سبيل المثال، نصف المرضى في الطابق السادس، أولئك المصابون بدرجة أكثر خطورةً بعض الشيء، يجب أن ينزلوا إلى الخامس، المصابون الأكثر خطورة من الطابق السابع يجب أن ينزلوا إلى السادس. سُر جيوفاني كورتي بسماع هذا، لأن هذه العودة إلى الطابق السابع ستكون بالتأكيد أسهل وسط هذه السلاسل بالغة التعقيد من الانتقالات.
على كل حال، حين ذكر هذه الأمنية للممرض شعر بخيبة أمل مريرة. عرف أنه كان من اللازم أن يتم نقله، ليس إلى الأعلى، أي الطابق السابع، إنما إلى الطابق الأسفل. لأسباب لم يستطعْ الممرض أن يفسرها، صُنف هو ضمن المرضى [الأكثر خطورةً ] في الطابق السادس ولذا يجب نقله إلى الخامس.
ما أن استفاق من دهشته الأولية، حتى خرج جيوفاني كورتي عن طوره ؛ صاح بأعلى صوته أنهم خدعوه وغرروا به، وأنه يرفض الاستماع إلى أوامر الانتقالات إلى الأسفل، وأنه يفضل الرجوع إلى مدينته، ولا يصح إلا الصحيح وأن إدارة المستشفى ليس بميسورها أن تتجاهل تشخيص الأطباء بمثل هذه الوقاحة الشديدة.
كان ما يزال يطلق صيحاته حين وصل الطبيب كي يشرح له المسائل بصورةٍ أكثر شمولية. نصح الأخير كورتي أن يتحلى بالهدوء إلا إذا أراد أن ترتفع درجة حرارته وشرح قائلاً إنه كان ثمة سوء فهم، في الأقل بمعنى من المعاني. ووافق مرةً أخرى أنه من المناسب بالقدر نفسه أن يوضع في الطابق السابع، لكنه أضاف قائلاً إنه يملك وجهة نظر مختلفة بعض الشيء، مع إنها وجهة نظر شخصية تماماً، عن حالته المرضية. جوهرياً، بمعنى من المعاني، حالته المرضية يُمكن أن نقول عنها إنها تحتاج إلى المعالجة في الطابق السادس، لأن الأعراض شديدة الانتشار. إلا أنه شخصياً لم يستطعْ أن يفهم لماذا وُضع كورتي ضمن قائمة الحالات الأكثر خطورة في الطابق السادس. في الأرجح، السكرتير الذي كان قد اتصل به هاتفياً في صباح ذلك اليوم تحديداً كي يستفسر عن وضع جيوفاني كورتي الطبي على وجه الدقة، كان قد ارتكب خطأً في استنساخ تقريره. أو ربما في الأغلب الكادر الإداري كان قد قلل عن قصد من قيمة رأيه الشخصي، طالما أنه يُعد طبيباً حاذقاً لكنه متفائل أكثر من اللازم. في النهاية، نصح الطبيب جيوفاني كورتي بألا يقلق، وأن يتقبل النقلة من دون احتجاج، لكن ما يجب أخذه بالحسبان هو المرض، وليس الطابق الذي يُوضع فيه المريض.
بقدر تعلق الأمر بالعلاج – أضاف الطبيب قائلاً – مؤكد لا يملك جيوفاني كورتي أي مبرر للشكوى : الطبيب في الطابق الذي في الأسفل بلا شك يتمتع بخبرة أكثر ؛ كان جزء من نظام المستشفى أن الأطباء يصبحون أكثر خبرةً، في الأقل بنظر الإدارة، كلما نزلتَ إلى الأسفل أكثر. الحجرات مريحة وأنيقة بالمستوى نفسه. المنظر جيد بالقدر نفسه ؛ في الطابق الثالث فقط تحجب الأشجار المحيطة بالمصح المنظر الجميل الذي يسر العين.
كان الوقت مساءً، وقد ارتفعت حرارة جيوفاني كورتي، على وفق ذلك ؛ أرهف السمع لهذا الاستدلال المنطقي الموسوَس بشعور متفاقم من الإنهاك. في الختام أدرك أنه لا يملك الطاقة ولا الرغبة في مقاومة هذه النقلة غير العادلة أكثر مما فعل. من دون احتجاج، سمح لهم أن يأخذوه طابقاً واحداً إلى الأسفل.
كان العزاء الضئيل لـ جيوفاني كورتي في الطابق الخامس هو معرفته بأن حالته المرضية في رأي الأطباء، والممرضين، والمرضى الذين على شاكلته، هي الأقل خطورةً من بين الحالات الأخرى في الطابق كله. باختصار، بوسعه أن يعد نفسه الشخص الأوفر حظاً في ذلك القسم من المصح. من الناحية الأخرى كانت تلازمه الفكرة القائلة بأن ثمة الآن حاجزان جديان بينه وبين عالم الناس الأسوياء.
فيما كان الربيع يتقدم أمسى الجو أكثر اعتدالاً، إلا أن جيوفاني كورتي لم يعدْ يرغب بالوقوف عند النافذة، كما دأب أن يفعل ؛ مع أنه من الحماقة أن يشعر بالخوف، أحس بحركة غريبة من الهلع بمجرد الإطلاع على نوافذ الطابق الأول، التي كان معظمها مغلقاً وقد غدت الآن أقرب بكثير.
بدت حالته المرضية مستقرة من دون تغيير، مع أنه بعد مرور ثلاثة أيام في الطابق الخامس ظهرت بقعة أكزيما على ساقه اليسرى ولم تُبدِ أي علامة من علامات الزوال خلال الأيام التالية. طمأنه الطبيب قائلاً إن هذه البقعة مستقلة تماماً عن المرض الرئيس الذي يعاني منه، ويمكن أن تحدث لأي شخص في العالم. إن علاجاً مكثفاً بأشعة غاما المضاعفة سوف يبددها خلال أيام معدودات.
«ألا يستطيع المرء الحصول على ذلك العلاج هنا ؟» سأل جيوفاني كورتي.
«بالتأكيد»، أجاب الطبيب مبتهجاً، «نملك كل شيء هنا. لدينا فقط عقبة طفيفة واحدة..».
«ماذا ؟» سأل جيوفاني كورتي بتنبؤ غامض.
«عقبة في طريقة الكلام»، صحح الطبيب قوله. « الطابق الرابع هو الوحيد الذي يحتوى على جهاز الأشعة ولا أستطيع أن أنصحك بالصعود إلى الأعلى والنزول إلى الأسفل ثلاث مرات يومياً».
«الموضوع، إذاً، مستحيل».
«الحقيقة من الأفضل أن تكون في حالٍ جيدة بصورة كافية كي لا تهبط إلى الطابق الرابع قبل زوال بقعة الأكزيما».
«هذا يكفي»، صرخ جيوفاني ساخطاً. لقد نلتُ كفايتي من النزول ! أفضّلُ الموت على النزول إلى الطابق الرابع!
«كما تشاء»، قال الطبيب مهدئاً، كي لا يزعجه، «لكن بما أن الطبيب مسؤول، يلزمني أن أشير إلى أنني أمنعك من الصعود والنزول ثلاث مرات يوميا»ً.
لسوء الحظ إن الأكزيما، بدلاً من الزوال، بدأت تنتشر شيئاً فشيئاً. لم يكنْ بمستطاع جيوفاني كورتي أن ينعم بالراحة، وكان يتقلب في فراشه ذات اليمين وذات الشمال. استمر غضبه وكدره ثلاثة أيام، لكنه استسلم في المطاف الأخير. بموافقته الشخصية، طلب من الطبيب أن يرتب له الأمور كي يباشروا بعلاج الأكزيما خاصته، وانتقاله إلى الطابق التحتي.
هنا لاحظ كورتي، ببهجة خاصة، أنه كان حقيقةً استثناءً. المرضى الآخرون في الطابق الرابع كانوا مصابين بصورة أخطر وهم غير قادرين على مغادرة أسرتهم على الإطلاق. أما هو، من الناحية الأخرى، فبوسعه أن يتحمل ترف المسير من حجرة نومه إلى الغرفة التي يوجد فيها جهاز الأشعة، وسط تحايا الممرضين أنفسهم ودهشتهم.
أكد للطبيب الطبيعة الخاصة جداً لوضعه. هو، جوهرياً، مريض ينبغي أن يكون في الطابق السابع إلا أنه حالياً وواقعاً في الرابع. حالما تحسنت الأكزيما خاصته، كان من الطبيعي أن يصعد إلى طابق أعلى. هذه المرة لن يكون ثمة عذر على الإطلاق. إن وجوده في الطابق السابع ما يزال أمراً قانونياً !
«في السابع؟» هتف الطبيب الذي انتهى حالاً من معاينته، باسماً. «أنتم العليلون تبالغون دوماً هكذا! في البدء لابد من الاتفاق إنك يجب أن تُسر بحالتك، من خلال ما شاهدته في جدولك الطبي، لقد تبدلتْ كثيراً نحو الأسوأ. إنما – اعذرني على نزاهتي القاسية نوعاً – ثمة اختلاف بين ذلك وبين الطابق السابع. حالتك من الحالات التي تستدعي أقل ما يمكن من القلق، أؤيدك على هذا الرأي، لكنك مريض بصورة مؤكدة».
«حسن إذاً»، قال جيوفاني، وقد أضحى وجهه قرمزياً، «في أي طابق تضعني أنت شخصياً ؟»
«طيب الحقيقة، ليس من اليسير الإجابة عن هذا السؤال، لقد عاينتك معاينة موجزة، وكي أتوصل إلى حكم نهائي يلزمني أن أراقبك على مدى أسبوع في الأقل».
«حسن»، أكد كورتي، «إنما حتماً لديك فكرة ما».
كي يهدئه ويطمئنه، تظاهر الطبيب بأنه يركز في المسألة لحظةً ومن ثم، هز رأسه، قائلاً بتؤدة : «أوه عزيزي ! اسمع، كي أدخل السرور إلى قلبك، في اعتقادي وعلى الرغم من كل شيء يمكنني أن أقول الطابق السادس. أجل»، أضاف قائلاً كما لو أنه يقنعه بصواب ما كان يقوله، «السادس ربما هو الطابق الصحيح».
ظن الطبيب أن ذلك ربما يدخل البهجة إلى فؤاد مريضه. إلا أن شعوراً بالفزع انتشر على محيا جيوفاني كورتي. أدرك الأخير أن أطباء الطوابق العليا قد ضللوه ؛ هنا ثمة طبيب جديد، من الجلي هو أكثر خبرةً ودرايةً ونزاهةً، بحيث أنه في سويداء قلبه ـ كان جلياً تماماً – يضعه ليس في الطابق السابع إنما في السادس، وحتى بالمستطاع أن يضعه في الخامس تحت ! إن خيبة الأمل غير المتوقعة قد أنهكت كورتي وقهرته. وفي مساء ذلك اليوم شهدت حرارته ارتفاعاً ملحوظاً.
إن مكوثه في الطابق الرابع هي الحقبة الأكثر هدوءاً واستقراراً بالنسبة له منذ مجيئه إلى المستشفى. كان الطبيب شخصاً مبهجاً، لطيفاً ودمث الأخلاق، وكان في كثير من الأحيان يقضي ساعات كاملة يتحدث عن شتى ضروب الأشياء. جيوفاني كورتي هو الآخر كانت له فرصة مناسبة للتحدث، وصار باستطاعته أن يدير دفة الحديث كي يتكلم عن حياته الماضية بوصفه محامياً وعاشقاً للدنيا وللحياة الاجتماعية. حاول أن يقنع الطبيب إنه لا يزال ينتمي إلى مجتمع الناس الأصحاء، وأنه لا يزال مرتبطاً بعالم العمل، وأنه ما برح حقيقةً مولعاً بالقضايا التي تستأثر باهتمام سواد الناس. حاول، إنما من دون نجاح. وبصورةٍ ثابتة دار الحوار، في النهاية، إلى موضوع علته.
كانت رغبته في تحقيق أي علامة من علامات التحسن هاجساً. لسوء الحظ أفلحت أشعة جاما المضاعفة في منع انتشار الأكزيما إلا أنها لم تعالجها بكل ما في الكلمة من معنى. أخيراً صار جيوفاني كورتي يتحدث عن هذا الأمر كل يوم وسعى إلى أن يظهر متفلسفاً، وحتى ساخراً، من دون أن يحقق النجاح أبداً.
« قل لي، دكتور»، قال ذات يوم، « كيف هو حال العملية التدميرية للخلايا الظاهرة ؟»
«ياله من تعبير مخيف» ، قال الطبيب مستنكراً. « أين صادفتَ ذلك التعبير المهوِّل ؟ ذلك ليس بالشيء الحسن على الإطلاق، بخاصة بالنسبة لمريضٍ مثلك. لا أريد سماع شيء من هذا القبيل ثانيةً».
«حسن»، اعترض كورتي، «لكنك حتى الآن لم تجب على سؤالي ؟»
«سوف أجيبك حالاً»، رد الطبيب بلطف. «إن العملية التدميرية لخلاياك، إذا ما استخدمنا تعبيرك المروِّع، هي في حالتك الطفيفة جداً، تافهة كلياً. لكنها عصية، هكذا يلزمني القول».
« عصية، تعني مزمنة ؟»
« الآن لا تنسب إليّ أشياءً لم أقلها أبداً. قلتُ فقط عصية. على أي حال هكذا يكون الأمر في الحالات التافهة. حتى أتفه أنواع العدوى يحتاج إلى علاج قوي وطويل الأمد».
« إنما قل لي، دكتور، متى يمكنني أن أتوقع رؤية بعض التحسن ؟»
«متى ؟ من العسير الإجابة في مثل هذه الحالات.. إنما أصغ»، أضاف بعد توقف قصير من أجل التفكير، «بوسعي أن أرى أنكَ مهووس إيجابياً بفكرة الشفاء.. لو لم أخف من إغاظتكَ، أتعرف ماذا سأقترح عليك ؟»
«يسرني أن أقول…»
«طيب، سأبين الموقف بجلاء تام. إذا كان لديّ هذا المرض حتى ولو بصورةٍ تافهة وقد أتيتُ إلى هذا المصح، وهو في الأرجح أفضل المصحات، سوف أرتب الأمور من تلقاء نفسي، ومنذ اليوم الأول ـ أكرر منذ اليوم الأول – كي أنزل إلى واحدٍ من الطوابق الدنيا. الواقع ربما حتى سأذهب إلى..».
«الطابق الأول ؟» اقترح كورتي ببسمة متكلفة.
«أوه ياعزيزي لا !» رد الطبيب ببسمة متناقصة. «أوه يا عزيزي لا ! إنما إلى الطابق الثالث أو حتى إلى الثاني. في الطوابق الدنيا العلاج أحسن بكثير، كما تعرف، الأجهزة والمعدات أكثر اكتمالاً، وأكثر فاعلية، الكادر الطبي أكثر خبرة ودراية. وأنتَ بعد ذلك تعرف من هو الروح الحقيقي لهذا المستشفى ؟»
«أليس هو البروفيسور داتي ؟»
«بالضبط. إنه هو الذي اخترع العلاج الذي يتم انجازه هنا، حقيقةً هو الذي خطط المكان كله. حسن، داتي، العقل المدبر، يعمل، إذا صح التعبير، بين الطابقين الأول والثاني. إن قوته الجارفة تشع من هناك.. لكنني أطمئنك أن ذلك لا يتجاوز أعلى من الطابق الثالث حيث أن تفاصيل الأنظمة يتم تفسيرها تفسيراً خاطئاً وغير دقيق ؛ إن قلب المستشفى في الطوابق الدنيا، وهناك ينبغي أن تكون كي تحظى بعلاج أفضل».
«بإيجاز إذاً»، قال جيوفاني كورتي بصوتٍ راعش، «أنتَ إذاً تنصحني…»
«ثمة شيء آخر»، واصل الطبيب كلامه من دون تشويش، «وفي حالتك هنالك أيضاً الأكزيما إذ ينبغي أن نأخذها بالحسبان. إنني أؤيدك على أنها غير مهمة على الإطلاق، لكنها مخدشة نوعاً ما، وعلى المدى الطويل يمكنها أن تضعف معنوياتك، وأنت تعرف مقدار أهمية هدوء البال من أجل تماثلك للشفاء. كانت الأشعة نصف ناجحة لا غير. الآن لماذا ؟ لعلها كانت فرصة خالصة، إلا أنها ربما لم تكنْ فعالةً بصورةٍ كافية. طيب، في الطابق الثالث الجهاز أكثر فاعلية. إن فرص شفاء الأكزيما خاصتك ستكون أكبر. والمسألة هي ما ان يبدأ الشفاء حتى يكون الجزء الأصعب قد انتهى. ما أن تشعر بالتحسن حقيقةً، لن يكون هنالك على الإطلاق أي سبب يمنع من صعودك إلى هنا من جديد، أو حتى أعلى من هنا، بحسب [استحقاقاتك]، إلى الخامس، أو السادس، وحتى إلى السابع ربما..».
« لكن أتحسب أن هذا سوف يسرّع شفائي ؟»
«ليس لديّ أدنى شك في ذلك. قلت من قبل إنني سأفعل ذلك لو كنتُ في مكانك».
كان الطبيب يتحدث بكلامٍ شبيه بهذا إلى جيوفاني كورتي كل يوم. وفي النهاية وقد أعيته عقبات الأكزيما، وعلى الرغم من نفوره الغريزي من النزول طابقاً أدنى، قرر جيوفاني أن يأخذ بنصيحة الطبيب وينزل إلى الطابق تحت.
لاحظ حالاً أن الطابق الثالث امتلك فرحاً خاصاً أثّر في الأطباء والممرضين على السواء، على الرغم من أن الحالات المرضية التي تتم معالجتها في ذلك الطابق كانت أشد خطورةً. كما لاحظ أيضاً أن هذا الفرح جعل يتزايد يوماً إثر آخر، ويغدو مفعماً بحب الاستطلاع، وحالما تعرّف على الممرضة، سألها لماذا حقاً، كانوا هم جميعاً فرحين جداً ؟
«أوه، ألا تعرف ؟» ردت عليه، «في غضون ثلاثة أيام سوف نذهب كلنا في إجازة».
«في إجازة ؟»
«صحيح. الطابق كله يُغلق على مدى أسبوعين وجميع أعضاء الكادر الطبي والتمريضي يذهبون ويمتعون أنفسهم. كل طابق من الطوابق واحداً إثر الآخر يأخذإجازة».
«وماذا بشأن المرضى ؟»
«إنهم قليلو العدد نسبياً، لذا يتم دمج طابقين في واحد».
«أنتِ تعنين أنكم تضعون مرضى الثالث والرابع معاً ؟»
«كلا كلا»، صححت الممرضة كلامه، « مرضى الثالث والثاني. المرضى في هذا الطابق سوف ينزلون تحت. «
«تحت إلى الثاني؟» سأل جيوفاني كورتي، وقد غدا بغتةً شاحباً شحوب الموتى. «أنتِ تعنين أنني يجب أن أهبط إلى الطابق الثاني ؟»
«حسن، أجل. ما هو وجه الغرابة في ذلك ؟ حين نرجع، خلال أسبوعين، سوف ترجع إلى هنا، إلى هذه الحجرة ذاتها. لا أرى أيَّ شيء مرعب في هذا الأمر».
إلا أن جيوفاني كورتي – كما لو أن غريزةً غريبةً قد أنذرته مسبقاً – كان خائفاً بصورة مرعبة ولأنه مقتنع بأن العلاج الجديد بالأشعة الأقوى سوف يشفيه – الأكزيما زالت تقريباً – لم يجرؤ على إبداء أي معارضة شكلية على هذه النقلة الجديدة. لكنه لم يصر على الرغم من مزاح الممرضين بأن الرقعة المثبتة على باب غرفته الجديدة يجب أن يُكتب عليها: «جيوفاني كورتي، الطابق الثالث، مؤقت». إن شيئاً كهذا لم يتم فعله قبلاً في كل تاريخ المصح. لكن الأطباء لم يمانعوا، خشية أن يسبب منع حتى مسألة صغيرة كهذه صدمةً خطيرةً لمريض متوتر جداً على غرار جيوفاني كورتي.
على كل حال، كانت تلك ببساطة مسألة انتظار أمدها أسبوعان، لا أكثر ولا أقل. بدأ جيوفاني كورتي يعدها بلهفةٍ عنيدة، راقداً بلا حراك في سريره ساعات طويلة من دون انقطاع، متطلعاً إلى قطع الأثاث، التي لم تكن لطيفة وحديثة كما هي عليه في الطوابق العليا ؛ على العكس، فهي هنا أثقل، وكئيبة ومتجهمة. بين الحين والآخر كان يصيخ السمع عن قصد، ظاناً بأنه يسمع أصواتاً آتيةً من الطابق تحت، طابق المحتضرين، [الملعونين] – أصوات الموت الغامضة في حركة دائبة.
بطبيعة الحال، ألفى هذا كله مثبطاً جداً للهمة. بدا أن اهتياجه راح يغذي المرض، بدأت حرارته ترتفع، حالة ضعفه المتواصل شرعت تؤثر فيه بشكلٍ قاتل. من النافذة – كانت مفتوحة دوماً – طالما أن الوقت الآن هو منتصف الصيف – لم يعد بوسعه أن يرى السقوف ولا حتى المنازل، إنما فقط الجدار الأخضر للأشجار التي تطوق المصح.
بعد انقضاء أسبوع، في الساعة الثانية بعد ظهر أحد الأيام، اقتحم غرفته رئيس الممرضين وثلاثة ممرضين مع عربة (ترولي). «الجميع إذاً مستعدون للنقلة؟» سأل رئيس الممرضين بفرح غامر.
«أي نقلة؟» سأل جيوفاني كورتي بوهن. «ما هذا كله؟ كادر الطابق الثالث لم يرجع حتى الآن بعد أسبوع من إجازاتهم؟»
«الطابق الثالث؟» كرر رئيس الممرضين من دون أن يفهم، «الأوامر بحوزتي تفيد بأن يأخذوك تحت إلى الطابق الأول»، وأخرج نموذجاً مطبوعاً للانتقال إلى الطابق الأول موقعاً من شخصٍ لم يكنْ سوى البروفيسور داتي نفسه.
نفّس جيوفاني كورتي عن صوته الصادح ( التينوري )، عن غيظه الوحشي بصرخات طويلة غاضبة ، ترددت أصداؤها عبر الطابق برمته. «دعك من الضوضاء، من فضلك»، توسل إليه الممرضون، «ثمة مرضى آخرون هنا وهم ليسوا على ما يرام على الإطلاق». إنما تطلب الأمر أكثر من ذلك كي يهدئوه.
في خاتمة المطاف ظهر طبيب الطابق الثاني – وهو شخص لطيف جداً. بعد أن قدم الأخير المعلومة ذات الصلة نظر إلى النموذج وأصغى إلى جانب جيوفاني كورتي من القصة. ومن ثم التفت بغضب إلى رئيس الممرضين وأخبره بأن ثمة خطأً في الموضوع، فهو نفسه لم يتلقَ أوامر كهذه، ومنذ بعض الوقت أمسى المكان فوضى لا تطاق، هو نفسه لا يعرف شيئاً البتة عما يجري في هذا المستشفى… في النهاية، حين فرغ من كلامه مع رئيس الممرضين، التفت بأدب إلى مريضه، معتذراً منه اعتذاراً شديداً.
«لسوء الحظ، على أية حال»، أضاف الطبيب قائلاً، «لسوء الحظ غادر البروفيسور داتي المستشفى قبل ساعة من الآن – سيغيب مدة يومين. إنني متأسف جداً، غير أن أوامره لا يمكن التغاضي عنها. إنه الوحيد الذي يستطيع التراجع عنها، إنني أطمئنك… إنه خطأ لا معقول ! لا أستطيع أن أفهم كيف حصل ذلك!»
بدأ جيوفاني كورتي يرتجف بصورةٍ جديرةٍ بالرثاء. أصبح الآن غير قادر تماماً على السيطرة على نفسه، وقد تملكه الخوف كطفل صغير. تردد صدى نشيجه البطيء اليائس في أرجاء الغرفة.
كان ذلك كله نتيجة غلطة مقيتة، وبعدها، حين تم نقله إلى مثواه الأخير : هو الذي كان جوهرياً، بحسب الرأي الطبي الصارم جداً ، مؤهل للطابق السادس، إن لم يكنْ السابع بقدر تعلق الأمر بالمرض ! كان الوضع في منتهى الغرابة والبشاعة بحيث أن جيوفاني كورتي بين الفينة والفينة، وببساطة، صار يشعر بميل فطري إلى القهقهة الصاخبة.
ممدداً على فراشه، فيما كان دفء ما بعد الظهيرة يغمر المدينة بهدوء، كان بميسوره أن يتطلع إلى خضرة الأشجار عبر النافذة وأن يحس بأنه جاء إلى عالمٍ غير واقعي بكل معنى الكلمة، عالم معزول بجدران ذوات قرميدات مجدبة، مليء بممرات قطبيشمالية مميتة وهيئات بيض عديمة الروح. وحتى خطر بباله أن الأشجار التي ظن أنه شاهدها عبر النافذة ليست حقيقية، وختاماً، حين لاحظ أن أوراق الشجر لا تهتز أبداً، أصبح متيقناً من صحة اعتقاده.
هذه الفكرة عكرت مزاج كورتي وأورثته هماً لا يطاق بحيث أنه استدعى الممرض وطلب منه أن يأتيه بعويناته الطبية التي لم يستخدمها في السرير، لأنه مصاب بقصر البصر، آنئذ فقط اطمأن قليلاً : برهنت العوينات على أنها أوراق شجر حقيقية وأنها كانت تهتز، وإن كان اهتزازها طفيفاً، بفعل الريح.
بعد انصراف الممرض، أمضى نصف ساعة في هدوء تام. ستة طوابق، ستة حواجز صلدة، بسب خطأ بيروقراطي لا غير، جثمت بكل ثقلها على روح جيوفاني كورتي. كم ستمر من السنوات (من الواضح إنها مسألة سنوات) قبل أن يكون بمستطاعه الصعود إلى قمة ذلك الصرح ؟
لكن لماذا أمست الحجرة، فجأةً، مظلمةً جداً ؟ ما يزال الوقت منتصف ما بعد الظهر. بمجهود فائق، لأنه شعر بان كسلاً غريباً يشل جسده، التفت جيوفاني كورتي إلى ساعته اليدوية الموضوعة على الدولاب بجانب سريره. كانت تشير إلى الثالثة والنصف. أدار رأسه إلى الناحية الأخرى ورأى الستائر الفينيسية، منصاعةً إلى أمر مبهم، تنسدل ببطء، حاجبةً عنه الضوء.
دينو بوتزاتي (16 نوفمبر/ تشرين الأول 1906 – 28 يناير كانون الثاني 1972) روائي وكاتب قصة قصيرة، رسام وشاعر وصحفي إيطالي ذاع صيته عالمياً بعد صدور روايته (صحراء التتار). بعد أن أكمل دراسته الجامعية في القانون عمل وهو في سن الثانية والعشرين في جريدة Corrier della sera التي تصدر في ميلانو. حيث بقي يعمل فيها حتى وفاته بالسرطان سنة 1972 بعد معاناة طويلة مع المرض. بدأ عمله في الصحيفة في قسم التصحيح، ومن ثم ككاتب تقارير، مراسل، كاتب مقالات، محرر وناقد فني. كان بوتزاتي يقول في كثير من الأحيان إن خلفيته الصحفية تضفي جو الواقعية حتى على أكثر قصصه فانتازيةً. خلال الحرب الكونية الثانية خدم بوتزاتي في أفريقيا بوصفه مراسلاً حربياً لصحيفة Regia Marina. بعد نهاية الحرب صدرت روايته (صحراء التتار) فجلبت له على الفور مديحاً نقدياً وشهرةً واسعة. نُشرت هذه الرواية في مجلة (الأقلام) العراقية في ستينات القرن الماضي، وأشاد بها كتاب عراقيون كثيرون ، كما صدرت سنة 2002 عن دار (حوران) في دمشق ترجمة حديثة للرواية أنجزها الكاتب والمترجم السوري معن مصطفى الحسون. يقول بوتزاتي : ولدت فكرة الرواية من خلال عمله في الجريدة، وهناك تعلم معنى هروب الزمن، وما هو الانتظار، انتظار لا جدوى منه، انتظار معجزة تحل لغز الحياة. بطل روايته هذه مجهول الأصول، وهو لا يفعل شيئاً سوى انتظار الموت. وعن تأثره بـ كافكا يقول الكاتب الإيطالي : منذ بدأت أكتب، كان كافكا علامة مميزة لي. بعض النقاد كانوا يدينون هذا التشابه مع كافكا حتى عندما أكتب برقية أو أملأ نموذجاً حكومياً. كل هذا أدى إلى تكوين، لا أقول عقدة دونية تجاه فرانز كافكا، وإنما عقد ضيق نفسي. من كتبه : «خوف على السلّم»، و «الهجوم الشهير للدببة في صقلية»، و«سقوط الباليفرنا»، و«البايبات» وآخر أعماله هو «الليالي الصعبة» – المترجم.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى