نقوس المهدي
كاتب
هذه الروح تأتي غريبة إلى الأرض وترهق نفسها بالبحث عن الحب، إنها نشوة الروح التي تشتاق إلى التوحد في التضاد، إذ يجب أن نكون من حين لآخر سعداء بجنوننا لكي نظل سعداء بحبنا، لأن الحب في ماهيته جنون حكيم، هذيان متأمل، لكن ما الذي يجعل هذه الرحلة نحو الحب يهددها الضياع في كينونة الزمان؟ ألا يكون الزمان هو نفسه الحب متجليا في الجمال؟ تجربة الحب لا تضاهيها سوى تجربة الوجود، باعتبارها إقامة خارج الذات، توحدا مع الآخر ميلادا جديدا للروح في أعماق الجمال الذي ترعاه الأشباح بعنايتها، فما هو السر؟
مهما كان الحب رائعا وناعما، فإنه يخفي شراسته، ولا تظهر إلى الوجود إلا بعد فوات الأوان، لتحول الانسجام إلى صراع، والتناغم إلى تنافر، والإحساس النبيل إلى كراهية، هكذا ينفجر الضدان، بلغة أفروديت، ليعود كل واحد إلى أصله. ووحده العاشق يستطيع أن يميز بين التراجيديا والكوميديا، ويستخلص من فشل عشقه لذة خالدة، تسمو بالروح إلى ما بعد الطبيعة: «فكل معرفتنا بالحب ليست في العمق إلا وهما لا يسمح لا بالتمييز بين النجاح والفشل»، والشاهد على ذلك أن المنهزم في معركة الحب لا يتوقف، بل يجدد عاطفته مع كائن آخر، قد يكون هو أيضا هاربا من ألم عميق. فجمالية الخلاص تفقد ماهيتها في سفينة الحمقى، التي تبحر بعيدة عن الحقيقة، فالذي يحب لا يبرهن على حبه، لأنه أعمى ينظر بقلبه، يتحدث بلغته، يكشف عن نفسه في الآخر، مخدر الإدراك، وقد يصبح متهور الإرادة، يثبت وجوده وهو يفكر في حبيبه، هكذا يفضح الحب جنون الإنسان، أو ربما يعيده إلى طفولته، إنه مخترع الإنسان الرومانسي العائد إلى موطنه الأصلي.
وستكون فلسفة الحب، هي المنقب الجيد في أعماق الإنسان عن معنى جديد لحقيقة الحب، فهل يستطيع الإنسان أن يعيش في هذه الحياة بدون حب؟ وما الذي يدفعه إلى المغامرة بنفسه في هذا البحر المضطرب؟ ألا يكون قدره في خطر، وبذلك يريد أن يخاطر؟ وإلى أي حب مازلنا ننتمي نحن اليوم؟
الحب العَرَضي وأوهامه
ثمة جراح نرجسية يسببها الحب العرضي، وليس الحب الجوهري، لأن هذه الجراح تكون نتيجة إشباع اللذة الجنسية، ثم مغادرة أحدهما للآخر، وبلغة آلان باديو: «الكثير من الناس الآن لا يعرفون متعة الحب، بل يعرفون اللذة الجنسية»، والحال أن الحب ليس عقدا بين نرجسيين، إنه بناء للذات، انطولوجيا، ولكي يستمر الحب على الإنسان أن يعيد إبداع ذاته في الجمال، ذلك أن اثيقا الجمال تقوم برعاية تلك الشعلة الصادرة عن سراج الحب، فبانطفائها ينطفي. ومن سيئات هذا العصر المضطرب، الذي ماتت روحه الرومانسية، نجد: «الجميع يقول إن الحب يدور حول إيجاد الشخص المناسب لي، وسيكون كل شيء على ما يرام». ولكن الأمر ليس كذلك، لأن الحب هو إبداع أكثر منه صفقة تجارية، قد تنجح، وقد تفشل، وربما يكون هذا هو السبب البعيد الذي جعل الكل يهجر الحب، ويكتفي بإشباع مرضه النرجسي، فهل بإمكاننا أن نعتبر الحب صفاء للروح يشبه صفاء الفردوس؟ أم مجرد تراجيديا، وشكوك، وألم دائم؟ وبعبارة أنبل، هل الحب يبدأ باللقاء والبناء، ليقتحم الأبدية؟ أم أن فوضى اللقاء ومحدودية الصدفة يهزمها التصريح بالحب كقدر؟
الحب الأول
في كتابه «مديح الحب»، يعترف بارديو بأن فشل الحب الأول، ينبغي ألا يؤثر في حياة الإنسان، والشاهد على ذلك أنه هو نفسه مرّ بهذه التجربة، حيث يقول: «لقد يئست من الحب مرة واحدة في حياتي، كان حبي الأول؛ قلت فيها أحبك، كانت خطأ، فحاولت تجديد ذلك الحب الأول.. وأعترف جازما بأن المرأة التي أحببتها، بقيت مخلصا لحبها دائما». على الرغم من تقلبات الزمان، وتعاقب لحظات الفرح والسعادة، مع لحظات الأحزان والشقاء، فإن الحب يظل هو القدرة على المقاومة وعدم الاستسلام للانهيار والشعور بالهزيمة.
المختارون
ولذلك فإن المصاب بفوبيا الالتزام يعيش الحب بدون أن يقع في الحب، يتوهم بأنه حصل على حب مطلق بلا معاناة، بمجرد ما اشترى لذاته، وكأنها سلعة، بيد أن هذه اللذة يعقبها الحزن الحاد والاكتئاب الدائم، فبهجة أحلى من لحظة عابرة على هوامش البركان. نعم إن شعرية الحب تقع في قلب شعرية الوجود، ولذلك فإن الإحساس بهذه الشعرية لا يكون في متناول الجميع، بل في متناول الأصفياء الذين يحتمون باليقظة والاستيقاظ في مأوى الكوجيطو الديكارتي. فالجهل يدمر شعرية الحب والوجود معا، ويرمي بنفسه في الضياع، الزواج والطلاق، اللذة والأطفال، الرتابة والبؤس، لأنه لا يمكنك شراء حبيب ويمكنك شراء الجنس، ولكن ليس حبيبا. أنت تشتري جسدا بلا روح، والنتيجة المنطقية، هي ضياع متعة الحب. والحرمان من صفاء الفردوس.
الكلاسيكي والاستهلاكي
هكذا يتعين علينا أن نعيد إحياء فلسفة الحب ضمن إشكالية الوجود الراهن وبألوان النزعة الرومانسية، التي ستحررنا من النزعة الكلاسكية التي ترتب الحب مسبقا في الزواج، أو النزعة الاستهلاكية التي أفرغت الحب من محتواه وحولته إلى سلعة للاستهلاك، وتحول المجتمع إلى سوق كبرى لبيع اللذة بالمال. أما الحب فأصبح ذكرى تغنى في المهرجانات. الحب ليس سلعة إنه تجربة وجودية تقرب الإنسان من ماهيته، إنه لقاء وبناء، في الوقت ذاته، إذ ينطلق من الصدفة واللقاء الأول، ليصبح قدرا يحمي الإنسان من شراسة الضياع في العزلة. ولذلك فإن نشر الوعي ببهجة الحب وقدرته على السمو بالروح، لأنه ليس فقط مجرد خوف مسرحي مرعب يهزم الروح ويحكم عليها بالشقاء، بل إنه انتصار على تراجيديا الوجود، وتفتيت تدريجي للخوف من القدر، وابتكار لما سيدوم، لأن ما يدوم يؤسسه العشاق.
الابتهاج المأساوي
«أودعك وأطلب منك أن تحبني، وأن تزيد آلامي يوما بعد يوم، أعني أنني أحبك في أعماق اليأس». هكذا تقول امرأة عاشقة، هذا الحب الذي امتزج باليأس، بل تحول إلى تجربة وجودية في أعماق اليأس، باعتباره مرحلة أساسية في يقظة الروح من سباتها، وضياعها في العدم، لأن الحب وحده يمنحها شهادة الميلاد في الوجود، ويجعلها تتحرر من إرهاب الخوف، ومواجهة قدرها ببهجة، وكأن الذي يحب تطل النجوم من روحه، ويستطيع أن يحول التراجيديا إلى كوميديا، والشقاء إلى سعادة، والحزن إلى ابتهاج، والموت إلى حياة؛ لعبة مقدسة، اختراق عميق لكينونة الزمان. فكل شيء في الإنسان يخضع لسلطة الزمان إلا الحب، إنه دائرة مستقلة داخل الوجود، ولذلك يتم الرمز إليه بواسطة خاتم الزواج، والاحتفال به، وإشعال نار البهجة، إنه يضاد الموت الذي يستدعي البكاء والحداد، فالحب يكشف عن الحقيقة، إنه البناء الجمالي للحقيقة. فقدان المحبوب هو في حقيقته موت ينشر ظل الأحزان، التي تخفي أنوار الروح، وترمي بها في عنف المأساة، إنه الفرح المأساوي، بلغة نيتشه ففي كتاب «ميلاد المأساة»، يتحدث عن استطيقا الذات، التي تحتفظ بالعمق المأساوي للمرح، حيث إن الإنسان الفنان يشعر في غمرة الابتهاج بهدير الأحزان، وباقترابه من الاغتراب، إنها فرحة استطيقية يحملها الحب في عنفوانه، لكن مهما كان قدر العشاق حزينا، فإنهم يحتفلون بتلك اللحظات الجميلة. وقد كانت المأساة عند الإغريق هي نفسها إرادة القوة التي تدمر ذلك الوجه البشع للوجود، فحقيقة الحب تشبه إلى حد ما حقيقة العمل الفني، باعتبارها مزيجا من الفرح والحزن، أو بالأحرى إنها الابتهاج المأساوي، الذي يتطلب التضحية بالعواطف مقابل نشوة عابرة، نشوة افروديت وديونيزوس.
المقدسون والمدنسون
الحب الحقيقي يحاكي منطق الطبيعة، لأنها تهرب من الحزن وتشتهي اللذيذ، ويجمع بين الأخيار: «لأن الأخيار لذيذ بعضهم عند بعض»، وكل واحد منهما جدير بالمحبة والثقة. أما الأشرار فإنهم لا يفرحون بالحب، بل باللذة والمنفعة، ولذلك فإن حبهم يطول طوال المنفعة، وينحل بانتهائها، وقد تجد الأخيار يسقطون في هذا الحب الذي تحركه اللذة والمنفعة، ولكن الأشياء التي تكون بنوع العرض لا تجمع كثيرا، لأن الزمان يتعقبها: «فإذا كانت أنواع المحبة تنقسم في هذه، فإن أهل الرداءة سيكونون أحباء لمكان اللذة والمنفعة». والحال أن العشق العميق يتأسس على لذة النظر والمشافهة، إذ هم أحبوا بطول المشافهة صاروا متشابهين بالمشافهة». ولذلك فإن ميتافيزيقا العشق مركبة من ضدين، من المستحيل الحفاظ على حميميتهما النظر والخدمة: «العاشق والمعشوق لا يلذان بشيء واحد، بل أحدهما يلذ بأنه يرى الآخر، والأخر بأن العاشق يخدمه، وإذا نقصت الساعة، يعني الحال، ربما نقصت المحبة أيضا، من أجل أنه لا يكون النظر لأحدهما لذيذا، ولا تكون الخدمة للآخر». هكذا يكون للحب الرديء، الذي يجمع بين ذوي الرداءة، لأنه تجربة خارج الوجود، مجرد عرض، يتحرك على هوامش الزمان، مادام أنه ينطلق من ثنائية النظر العابر، والخدمة المؤقتة، ذلك أنه عبارة عن مرض نرجسي، فالعاشق للذة لابد أن يقدم الهدايا ويشتري القدر المحتاج إليه من اللذة، والذي يكون محتاجا لهذه الهدايا يقدم نفسه كسلعة يتم استهلاكها، إنها مفارقة غريبة، تسيطر على هذا العصر، الذي فقد كل القيم، وأضحى الحب فيه يشعر بالاغتراب، ولذلك فإنه عاد إلى أصله، وترك هذا الجيل يلتهم العواطف بشراهة.
٭ كاتب مغربي
مهما كان الحب رائعا وناعما، فإنه يخفي شراسته، ولا تظهر إلى الوجود إلا بعد فوات الأوان، لتحول الانسجام إلى صراع، والتناغم إلى تنافر، والإحساس النبيل إلى كراهية، هكذا ينفجر الضدان، بلغة أفروديت، ليعود كل واحد إلى أصله. ووحده العاشق يستطيع أن يميز بين التراجيديا والكوميديا، ويستخلص من فشل عشقه لذة خالدة، تسمو بالروح إلى ما بعد الطبيعة: «فكل معرفتنا بالحب ليست في العمق إلا وهما لا يسمح لا بالتمييز بين النجاح والفشل»، والشاهد على ذلك أن المنهزم في معركة الحب لا يتوقف، بل يجدد عاطفته مع كائن آخر، قد يكون هو أيضا هاربا من ألم عميق. فجمالية الخلاص تفقد ماهيتها في سفينة الحمقى، التي تبحر بعيدة عن الحقيقة، فالذي يحب لا يبرهن على حبه، لأنه أعمى ينظر بقلبه، يتحدث بلغته، يكشف عن نفسه في الآخر، مخدر الإدراك، وقد يصبح متهور الإرادة، يثبت وجوده وهو يفكر في حبيبه، هكذا يفضح الحب جنون الإنسان، أو ربما يعيده إلى طفولته، إنه مخترع الإنسان الرومانسي العائد إلى موطنه الأصلي.
وستكون فلسفة الحب، هي المنقب الجيد في أعماق الإنسان عن معنى جديد لحقيقة الحب، فهل يستطيع الإنسان أن يعيش في هذه الحياة بدون حب؟ وما الذي يدفعه إلى المغامرة بنفسه في هذا البحر المضطرب؟ ألا يكون قدره في خطر، وبذلك يريد أن يخاطر؟ وإلى أي حب مازلنا ننتمي نحن اليوم؟
الحب العَرَضي وأوهامه
ثمة جراح نرجسية يسببها الحب العرضي، وليس الحب الجوهري، لأن هذه الجراح تكون نتيجة إشباع اللذة الجنسية، ثم مغادرة أحدهما للآخر، وبلغة آلان باديو: «الكثير من الناس الآن لا يعرفون متعة الحب، بل يعرفون اللذة الجنسية»، والحال أن الحب ليس عقدا بين نرجسيين، إنه بناء للذات، انطولوجيا، ولكي يستمر الحب على الإنسان أن يعيد إبداع ذاته في الجمال، ذلك أن اثيقا الجمال تقوم برعاية تلك الشعلة الصادرة عن سراج الحب، فبانطفائها ينطفي. ومن سيئات هذا العصر المضطرب، الذي ماتت روحه الرومانسية، نجد: «الجميع يقول إن الحب يدور حول إيجاد الشخص المناسب لي، وسيكون كل شيء على ما يرام». ولكن الأمر ليس كذلك، لأن الحب هو إبداع أكثر منه صفقة تجارية، قد تنجح، وقد تفشل، وربما يكون هذا هو السبب البعيد الذي جعل الكل يهجر الحب، ويكتفي بإشباع مرضه النرجسي، فهل بإمكاننا أن نعتبر الحب صفاء للروح يشبه صفاء الفردوس؟ أم مجرد تراجيديا، وشكوك، وألم دائم؟ وبعبارة أنبل، هل الحب يبدأ باللقاء والبناء، ليقتحم الأبدية؟ أم أن فوضى اللقاء ومحدودية الصدفة يهزمها التصريح بالحب كقدر؟
الحب الأول
في كتابه «مديح الحب»، يعترف بارديو بأن فشل الحب الأول، ينبغي ألا يؤثر في حياة الإنسان، والشاهد على ذلك أنه هو نفسه مرّ بهذه التجربة، حيث يقول: «لقد يئست من الحب مرة واحدة في حياتي، كان حبي الأول؛ قلت فيها أحبك، كانت خطأ، فحاولت تجديد ذلك الحب الأول.. وأعترف جازما بأن المرأة التي أحببتها، بقيت مخلصا لحبها دائما». على الرغم من تقلبات الزمان، وتعاقب لحظات الفرح والسعادة، مع لحظات الأحزان والشقاء، فإن الحب يظل هو القدرة على المقاومة وعدم الاستسلام للانهيار والشعور بالهزيمة.
المختارون
ولذلك فإن المصاب بفوبيا الالتزام يعيش الحب بدون أن يقع في الحب، يتوهم بأنه حصل على حب مطلق بلا معاناة، بمجرد ما اشترى لذاته، وكأنها سلعة، بيد أن هذه اللذة يعقبها الحزن الحاد والاكتئاب الدائم، فبهجة أحلى من لحظة عابرة على هوامش البركان. نعم إن شعرية الحب تقع في قلب شعرية الوجود، ولذلك فإن الإحساس بهذه الشعرية لا يكون في متناول الجميع، بل في متناول الأصفياء الذين يحتمون باليقظة والاستيقاظ في مأوى الكوجيطو الديكارتي. فالجهل يدمر شعرية الحب والوجود معا، ويرمي بنفسه في الضياع، الزواج والطلاق، اللذة والأطفال، الرتابة والبؤس، لأنه لا يمكنك شراء حبيب ويمكنك شراء الجنس، ولكن ليس حبيبا. أنت تشتري جسدا بلا روح، والنتيجة المنطقية، هي ضياع متعة الحب. والحرمان من صفاء الفردوس.
الكلاسيكي والاستهلاكي
هكذا يتعين علينا أن نعيد إحياء فلسفة الحب ضمن إشكالية الوجود الراهن وبألوان النزعة الرومانسية، التي ستحررنا من النزعة الكلاسكية التي ترتب الحب مسبقا في الزواج، أو النزعة الاستهلاكية التي أفرغت الحب من محتواه وحولته إلى سلعة للاستهلاك، وتحول المجتمع إلى سوق كبرى لبيع اللذة بالمال. أما الحب فأصبح ذكرى تغنى في المهرجانات. الحب ليس سلعة إنه تجربة وجودية تقرب الإنسان من ماهيته، إنه لقاء وبناء، في الوقت ذاته، إذ ينطلق من الصدفة واللقاء الأول، ليصبح قدرا يحمي الإنسان من شراسة الضياع في العزلة. ولذلك فإن نشر الوعي ببهجة الحب وقدرته على السمو بالروح، لأنه ليس فقط مجرد خوف مسرحي مرعب يهزم الروح ويحكم عليها بالشقاء، بل إنه انتصار على تراجيديا الوجود، وتفتيت تدريجي للخوف من القدر، وابتكار لما سيدوم، لأن ما يدوم يؤسسه العشاق.
الابتهاج المأساوي
«أودعك وأطلب منك أن تحبني، وأن تزيد آلامي يوما بعد يوم، أعني أنني أحبك في أعماق اليأس». هكذا تقول امرأة عاشقة، هذا الحب الذي امتزج باليأس، بل تحول إلى تجربة وجودية في أعماق اليأس، باعتباره مرحلة أساسية في يقظة الروح من سباتها، وضياعها في العدم، لأن الحب وحده يمنحها شهادة الميلاد في الوجود، ويجعلها تتحرر من إرهاب الخوف، ومواجهة قدرها ببهجة، وكأن الذي يحب تطل النجوم من روحه، ويستطيع أن يحول التراجيديا إلى كوميديا، والشقاء إلى سعادة، والحزن إلى ابتهاج، والموت إلى حياة؛ لعبة مقدسة، اختراق عميق لكينونة الزمان. فكل شيء في الإنسان يخضع لسلطة الزمان إلا الحب، إنه دائرة مستقلة داخل الوجود، ولذلك يتم الرمز إليه بواسطة خاتم الزواج، والاحتفال به، وإشعال نار البهجة، إنه يضاد الموت الذي يستدعي البكاء والحداد، فالحب يكشف عن الحقيقة، إنه البناء الجمالي للحقيقة. فقدان المحبوب هو في حقيقته موت ينشر ظل الأحزان، التي تخفي أنوار الروح، وترمي بها في عنف المأساة، إنه الفرح المأساوي، بلغة نيتشه ففي كتاب «ميلاد المأساة»، يتحدث عن استطيقا الذات، التي تحتفظ بالعمق المأساوي للمرح، حيث إن الإنسان الفنان يشعر في غمرة الابتهاج بهدير الأحزان، وباقترابه من الاغتراب، إنها فرحة استطيقية يحملها الحب في عنفوانه، لكن مهما كان قدر العشاق حزينا، فإنهم يحتفلون بتلك اللحظات الجميلة. وقد كانت المأساة عند الإغريق هي نفسها إرادة القوة التي تدمر ذلك الوجه البشع للوجود، فحقيقة الحب تشبه إلى حد ما حقيقة العمل الفني، باعتبارها مزيجا من الفرح والحزن، أو بالأحرى إنها الابتهاج المأساوي، الذي يتطلب التضحية بالعواطف مقابل نشوة عابرة، نشوة افروديت وديونيزوس.
المقدسون والمدنسون
الحب الحقيقي يحاكي منطق الطبيعة، لأنها تهرب من الحزن وتشتهي اللذيذ، ويجمع بين الأخيار: «لأن الأخيار لذيذ بعضهم عند بعض»، وكل واحد منهما جدير بالمحبة والثقة. أما الأشرار فإنهم لا يفرحون بالحب، بل باللذة والمنفعة، ولذلك فإن حبهم يطول طوال المنفعة، وينحل بانتهائها، وقد تجد الأخيار يسقطون في هذا الحب الذي تحركه اللذة والمنفعة، ولكن الأشياء التي تكون بنوع العرض لا تجمع كثيرا، لأن الزمان يتعقبها: «فإذا كانت أنواع المحبة تنقسم في هذه، فإن أهل الرداءة سيكونون أحباء لمكان اللذة والمنفعة». والحال أن العشق العميق يتأسس على لذة النظر والمشافهة، إذ هم أحبوا بطول المشافهة صاروا متشابهين بالمشافهة». ولذلك فإن ميتافيزيقا العشق مركبة من ضدين، من المستحيل الحفاظ على حميميتهما النظر والخدمة: «العاشق والمعشوق لا يلذان بشيء واحد، بل أحدهما يلذ بأنه يرى الآخر، والأخر بأن العاشق يخدمه، وإذا نقصت الساعة، يعني الحال، ربما نقصت المحبة أيضا، من أجل أنه لا يكون النظر لأحدهما لذيذا، ولا تكون الخدمة للآخر». هكذا يكون للحب الرديء، الذي يجمع بين ذوي الرداءة، لأنه تجربة خارج الوجود، مجرد عرض، يتحرك على هوامش الزمان، مادام أنه ينطلق من ثنائية النظر العابر، والخدمة المؤقتة، ذلك أنه عبارة عن مرض نرجسي، فالعاشق للذة لابد أن يقدم الهدايا ويشتري القدر المحتاج إليه من اللذة، والذي يكون محتاجا لهذه الهدايا يقدم نفسه كسلعة يتم استهلاكها، إنها مفارقة غريبة، تسيطر على هذا العصر، الذي فقد كل القيم، وأضحى الحب فيه يشعر بالاغتراب، ولذلك فإنه عاد إلى أصله، وترك هذا الجيل يلتهم العواطف بشراهة.
٭ كاتب مغربي