نقد عبداللّه العروي - العقول ملائكة

يفتح الغزالي عرضه قائلا: «وسائر العقول ذكرها الفلاسفة في كتاب النفس».

وهذه ملاحظة في غاية الاهمية، مع أنها لاتخفى على من يتمعن في فحوى النصوص. العقل مفهوم نفساني عند المفكرين المسلمين، فلاسفة كانوا أو لا، حتى في نطاق المنطق. وهذا يعني أن العقل دائماً موصوف لانه قسم من الكون، والكلام عليه كذلك، والكلام على الكلام وهلم جراً. فلا يكون أدنى تفاوت بين العقل الذي نبدأ منه والعقل الذي ننتهي اليه. الكل موجود موصوف. لايحصل أي تعمق في عملية عقل العقل، وأنما الحاصل دائماً بسط وتمكين فقط.

المعطي الاول، حسب تلخيص الغزالي لاقوال الفلاسفة، هو المعنى الجماهيري، المعنى المضمن في اللغة المتعارفة بين الناس والتي تعكس الحياة العملية والسلوكية والفكرية. هذا المعنى هو الذي يقف عنده المتكلمون حسب الفارابي: «والمتكلمون يعنون به المشهور في بادىء الرأي عند الجميع». وها تحديد الباقلاني المتكلم: «العقل هو علم ضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات». وها عبارة الغزالي ملخصاً رسم المتكلمين عامة: «العقل هو التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة» ويبقى بالطبع المحدثون في نفس الإطار: «العقل قوة أفرد اللّه بها النفس تميز بها جميع الموجودات على مراتبها وتشاهد بها ما هي عليه من صفاتها الحقيقية لها فقط، وتنفي بها عنها ما ليس فيها..، وهذا التمييز هو حدّ إدراك العقل الذي لا إدراك غيره» وكذلك «العقل انما هو عقل ما علمته بالإحساس الباطن أو الظاهر بكل المعاني العامة أو الخاصة» (ابن تيمية ص 203). يقول الفيلسوف أن المتكلم لايختلف في شيء عن المحدث الحشوي الذي لا ينفصل عن إدراك العوام، وإن تفنّن أحيانا في العبارة. يبدو بالفعل أن المتكلم، وأحرى المحدث، يتوقف عند القول أن العقل، أي عقل، هو هبة ربانية، قوة مبثوثة في النفس تجعل البشر يميزون تلقائيا وباطمئنان الحق من الباطل، الجائز من الممتنع، والحلال من الحرام والصدق من الكذب..

بعد هذا التمهيد يدخل الفيلسوف الى الحيز الخاص به، فيصنف العقول. أول ما يفعل هو فصل العقل العملي، الهادي الى الخير والى السلوك السوي، عن العقل النظري الذي يقود الى الحق والفكر المستقيم، كلاهما يكون أولاً بالقوة فقط (العقل بالملكة بالنسبة للأول، والعقل الهيولاني بالنسبة للثاني). ثم يتحقق في عقل مستفاد وفي عقل بالفعل. وآخراً يلتقي الاثنان في عقل أعلى واحد هو العقل الفعّال الذي يقول عنه الفيلسوف أنه: «المخرج لنفوس الادميين لنفوس الادميين في العلوم من القوة الى الفعل، نسبته الى المعقولات نسبة الشمس الى المبصرات».

يقول الفارابي: «عقل أرسطو في كتاب البرهان قوة النفس التي بها يحصل للإنسان اليقين بالمقدمات الكلية الصادق الضرورية ، لا عن قياس أصلاً ولا عن فكر، بل بالفطر والطبع أو من صباه أو من حيث لايشعر». أو لا يوافق هذا ما رسم به المتكلمون العقل؟ هناك فرق، وفرق مهم، لكنه خارج اللفظ، وهو أن نظرة الفلاسفة حركية تنطلق من عقل جامد (بالملكة والهيولاني) الى عقل قابل للتطور والنمو (المستفاد وبالفعل)، بواسطة عقل محرك هو الفعّال. يوجد بلا شك هنا عرق ينزع الى التثليث، إما عن طريق التراجمة الاول أو عن طريق الدعوة الباطنية، في حين أن عقل المتكلمين حيّ من الاصل بما أنه مخلوق موهوب. الفرق هنا راجع الى موقف ما ورائي وقد يغيب بالمرة عن المنطقي الصرف. فيرى في تعدد العقول تعدد الاوصاف فقط. لذا استطاع الغزالي أن ينهي عرضه بهذه الكلمة غير المنتظرة في كتاب منطق: « وقد يسمون هذه العقول ملائكة». ولربما في هذه الجملة ما يبرر تأويلنا لمقالة الفلاسفة. هذه العقول هي شخوص على مستوى واحد من الوجود في الكون، وليست درجات من وعي العقل بنفسه، رغم ما قد توحي به بعض العبارات. لايمكن القول مثلاً أن العقل المستفاد هو حالة أكثر وعياً وتجريداً من حالة سابقة لنفس العقل، إذ ما يجعله مستفاداً هو بالضبط الإفادة وحشد المعارف. إذا جاز أن يتسعمل الفلاسفة والتمكلمون والمحدثون كلمة ملائكة للتعبير عن العقول، فهذا يدّل على أن أقوال الفلاسفة المسلمين، في تأويلهم لكلام أرسطو، هي أوصاف ورسوم ولسيت حدوداً صور مجسدة لمعنى واحد، وهو أن العقل الذي يضمن صحة كل التصورات والتصديقات هو الوعاء الذي يحلّ فيه، أو المرآة التي ينعكس فيها، الحق المطلق.

لايمكن في إطار هذا التحليل أن نقول ان العقل واحد ولكنه على درجات من التعمق في ذاته، فيكون العقل النظري أساس العقل العملي، ويكون النظري بدوره على مستويات، كل واحد يؤصِّل الذي يليه. كما يمتنع القول إن العقل واحد وإن تنوع بتنوع المعقولات: الطبيعة، السلوك، المجتمع، الفن، التاريخ، الخ...

حتى لو صحّ لدينا أن بعض المفكرين المسلمين، عندما أعملوا الفكر في مادة ما (لغوية، فقهية، كلامية، طبّية، الخ...» قد فعلوا ذلك بعقل غير الذي رسم في المسند الارسطي والذي كانوا يعلّقون عليه إيجابيا وبإسهاب في شروحاتهم، وتجاوزوا بذلك حدود المنطق المعروف في عهدهم، فهذا الاكتشاف لايفيدنا في شيء لانه لم يؤثر في نظرية العقل التي بقيت دائماً وفيه للنص الارسطي. فيكون ذلك العقل المغاير، عقلاً خاصاً بصاحبه، غير واع بذاته، وكلامنا هنا هو في المنطق، ذلك العلم الذي يهدف إلى إدراك ماهية العقل _ إذ_ يعقل.

مهما يكن فضل ونبوغ هذا العالم الإسلامي أو ذاك، فالنظرة العامة الى العقل هي التي وصفناها. العقل مخلوق، قوة موهوبة، قدرة النفس على التمييز. هذا ما يتبادر لذهن العوّام وما يقرره أصحاب الحديث والمتكلمون. أما الفلاسفة فإنهم يستهدفون تجاوز هذا المنظور الاولي. يودون أن يدخلوا حركية ذاتية في المفهوم، إذ هذا هو ما تؤدي اليه الملاحظة، أكانت تخص الفرد في المطالب التربوية او تخص النوع في المطالب التاريخية. لكن بعد الوصف والتصنيف، ينتهي الفيلسوف الى عقل فعّال، فيرسمه، لسبب يتعلق بالانطولوجيا، برسم عقل المتكلمين. فيستطيع أن يؤوِّل كل العقول السابقة على أنها ملائكة.

واضح أن تلك العقول (الملائكة) هي أعيان قائمة بذواتها، وليست مراتب لعقل واحد، عقل بشري يتعمق في ذاته ويعقل في كل مرة عملية عقله. واضح أن العقل النظري والعقل العملي لايختلفان بالمضون (الفكرة، السلوك الفردي، السلوك الجماعي)، بل بالهدف (الحق، الخير...) النظرة تصنيفية باستمرار لإنها نظرة نفسانية، وليست نقدية تجريدية، أي منطقية بالمعنى المحدود. وهذه النظرة الجماعية هي التي تهمنا في هذه الدراسية لما لها من علاقات، حقيقية أو وهمية، بالعلم في معنييه التقليدي والمستحدث.

--------------------------------
المصدر : مفهوم العقل



عبد الله العروي
 
أعلى