عبده يحيى الدباني - السرقات والتناص في كتاب «العمدة» لابن رشيق القيرواني

أفرد ابن رشيق القيرواني في كتابه النقدي الشهير « العمدة في محاسن الشعر وأدبه ونقده » باباً للسرقات الشعرية سماه: « باب السرقات وما شاكلها »، ومن خلال العنوان نفسه نلاحظ بعض تحفظه عن مصطلح ( السرقات)، لأنه في الأصل مصطلح أخلاقي وليس نقدياً، إذ قـــــــــــال: « السرقات وما شاكلها » فعطف ما يشاكل السرقات على السرقات نفسها، أي أنها ليست منها، ولعل ما يشاكل السرقات هو ما نسميه اليوم في النقد الأدبي المعاصر بـ «التناص»، هذا المفهوم الحديث القادم من الغرب لم يكن بمنأى عن اهتمام النقد العربي القديم، ولكن تناوله تحت مسمى (السرقات) بما انطوى عليه من تقسيمات وأنواع ذات طبيعة أدبية نقدية مثل الاستلحاق والموازنة والمواردة والتركيب وغيرها.


ذكر ابن رشيق في مستهل حديثه في هذا الباب أن السرقات «باب متسع جداً لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه، وفيه أشياء غامضة إلا على البصير الحاذق بالصناعة، وأُخَر فاضحة لا تخفى على الجاهل المغفل».

إن هذا القول المجمل ينطوي على أفكار عديدة، منها ما يخص الشاعر ومنها ما يخص الناقد ومنها ما يشير إلى ما قد يكون سرقة واضحة، ومنها ما يشير إلى التناص المشروع، فالباب واسع في نظر ابن رشيق وهو متنوع ومتعدد، كما لا يستطيع أي شاعر أن يسلم منه، وهذا الكلام ينطبق كثيراً على ما يسمى اليوم في عالم النقد بـ «التناص» الذي يشير النقاد إلى أنه ظاهرة بارزة في النصوص الأدبية، وأن كل نص هو ناتج تفاعل صاحبه مع نصوص سابقة وأن ليس هناك نص بريء أي غير متأثر بالنصوص السابقة، كما أن إشارة ابن رشيق إلى أن في هذا الباب أشياء غامضة إلا على الحاذق البصير تدل على سعة هذا الميدان وعلى عمقه وعلى ارتباطه بالأدب عبر التاريخ، فليست المسألة سرقات غير مشروعة أو أمراً طارئاً ودخيلاً على الأدب بصرف النظر عن وجود بعض الحالات المعيبة التي تستحق أن يطلق عليها مصطلح «السرقات» حتى بمعناه الأخلاقي.

وحتى تلك الأشياء التي رأى ابن رشيق أنها فاضحة وأنها لا تخفى حتى على الجاهل المغفل فإننا لا نستطيع أن نعدها سرقة واضحة أو فاضحة، فلربما هي نوع من الاقتباس والتضمين والتوظيف الفني المشروع الذي لا يريد الشاعر من خلاله السطو على نصوص غيره بقدر ما يستدعيها ويوظفها في نصه فنياً.

لقد كان ابن رشيق في هذا الباب يسجل ملاحظات سابقيه ومعاصريه، ولعل أكثر الذين اعتمد عليهم هو (الحاتمي) من خلال كتابه الطريف «حلية المحاضرة» الذي أفرد باباً واسعاً لهذا الموضوع بوصفه من أبرز قضايا النقد العربي القديم.

ويثني ابن رشيق على الجرجاني لما قاله في هذا الموضوع، ولعله يقصد عبدالعزيز الجرجاني صاحب «الوساطة بين المتنبي وخصومه» ولا يقصد عبدالقاهر الجرجاني صاحب كتابي:«دلائل الإعجاز»، و«أسرار البلاغة»، وقول الجرجاني يتلخص في أن أحداً لا يعد من نقاد الشعر حتى يفصل بين ماهو سرقة، وماهو غصب، وبين الإغارة والاختلاس، ويعرف الإلمام من الملاحظة، ويفرق بين ماهو مشترك لدى الجميع ولا يجوز فيه ادعاء السرقة، وبين ماهو خاص ونادر يكون مظنة للسرقة.

فالملاحظ في قول الجرجاني أنه يفرّق بين السرقة وبين المصطلحات الأخرى كالغصب والإغارة والاختلاس وغيرها، ولكنه مع هذا متأثر بالمعاني الأخلاقية واللغوية والاجتماعية لهذه المصطلحات؛ وهذا ما أدى بالنقاد إلى أن يقوموا بدور القضاة أحياناً في تناولهم لهذا الموضوع الأدبي النقدي أولاً وأخيراً.

وينقل رأي بعضهم في أن السرق يقع في البديع المخترع الذي يختص به هذا الشاعر أو ذاك، وليس في المعاني المشتركة كثيرة الدوران في الأدب، وهو رأي تردد كثيراً في كتب النقد العربي القديم. وينقل المؤلف رأياً حصيفاً في هذه المسألة، مفاده أن اتكال الشاعر على السرقة بلادة وعجز، وأن تركه كل معنى سبق إليه جهل، ولكن عليه أن يسلك أوسط الحالات، بيد أن معنى السرقة في هذا الرأي يقترب كثيراً من معنى التقليد الذي يعد مشروعاً والعبرة في مدى ممارسته بين التقليد المحض وبين التأثر الإيجابي غير المباشر، ثم أن دعوة الشاعر إلى عدم ترك كل معنى سبق إليه تعد وصية نقدية ذهبية، فقد قال الإمام علي «لولا أن الكلام يعاد لنفد»، فليس أمام الشاعر إلا أن يتأثر بسابقيه ومعاصريه، فالشعر يصنع الشعر، أما إذا خاف الشاعر من ذلك وسعى إلى الأصالة المطلقة فإنه لن يصنع شعراً، لأنه خضع كل الخضوع للإرهاب النقدي الذي يرفع تهمة السرقات، لا سيما عند بعض النقاد مثل ابن ركيع الذي تعسف وتكلف وأسرف في تتبع سرقات المتنبي وسمى كتابه «المنصف». على أن التأثر بالنصوص المختلفة السابقة ليست مسألة مدركة كل الإدراك بل تكون تلقائية منطلقة من الداخل الإبداعي الذي انقطعت صلته المباشرة بالخارج الثقافي أو النصي تحديداً.

وبعد كل هذا يخلص ابن رشيق إلى الحديث عن أقسام السرقات أو قلْ أنواعها على ما فيها من تداخل، وهو بهذا يعد تابعاً للحاتمي- كما ذكرنا- في هذا التقسيم، أما الأنواع فهي: الاصطراف والإغارة والغصب والمرافدة والاهتدام، والنظر والملاحظة والاختلاس، ونقل المعنى والموازنة والعكس والمواردة والتلفيق والتركيب، وقد عرف المؤلف كلا من هذه الأنواع وأورد أمثلة على كل منها. أما (الاصطراف) فهو أن يعجب الشاعر بأبيات ما فيصرفها إلى شعره، لكن من الاصطراف ماهو إيجابي فني مرغوب، ومنه ماهو غير لائق ويدخل في باب الانتحال والادّعاء عندما لا يعترف الشاعر بحق الآخرين، وعندما لا يكون الاصطراف اجتلاباً فنياً مرغوباً. أما (الإغارة) فهي كما ترى مصطلح أخلاقي اجتماعي، ولكن النقاد نقلوه إلى النقد الأدبي وأطلقوه على العملية التي يكون فيها الشاعر قد اخترع بيتاً جميلاً فيأتي من هو أعظم منه ذكراً وأبعد صوتاً فيسطو عليه وينسبه إلى نفسه فيروى له ولا يروى لقائله، وهذا هو طغيان الكبير على الصغير حتى في مجال الإبداع، ومن أبرز شواهده قول جميل بن معمر العذري:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا

فعندما سمعه الفرزدق ينشد هذا البيت قال: أنا أحق بهذا البيت منك ، منطلقاً من أن الملك في قبيلته هو وليس في (عذرة) قبيلة الشاعر المسطو عليه، ولكن جميلاً لم يترك البيت للفرزدق ولم يسقطه من شعره. أما (الغصب) فمثله مثل الإغارة، ويبدو أن الغصب يجري فيه تنازل الشاعر الأول للثاني تنازلاً تاماً، ويأتي الفرزدق غاصباً كما رأيناه مغيراً، فهل امتد النفوذ القبلي وروح الاستئثار حتى إلى الشعر؟!

ومن أنواع السرقات تأتي (المرافدة) ولا أراها من السرقات أو الادّعاء إذا كانت في حدود مقبولة ومعقولة، ويكون المرفود شاعراً قديراً، وهي تعني أن يعين الشاعر صاحبه بأبيات محدودة يدخلها الأخير في شعره، وقد كان جرير يعين بعض أصحابه من الشعراء بالبيت أو الأبيات.

أما (الاهتدام) فهو أن يأخذ الشاعر بعضاً من بيت بنصه أما البعض الآخر من البيت فيغير لفظه ويبقي على معناه، كقول النجاشي الحارثي:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رمت فيها يد الحدثان

إذ أخذه الشاعر كُثيِّر بن عبدالرحمن على النحو الآتي:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رمى فيها الزمان فشلّتِ

فقد أخذ الشطر الأول واهتدم الشطر الثاني، ولعل الذي اضطره إلى الاهتدام وليس الأخذ الكامل هو اختلاف القافية في البيتين.

وأما (الاختلاس) فيعرفه ابن رشيق بأنه أخذ المعنى وتحويله من غرض إلى غرض آخر، كالتحويل من النسيب أي الغزل إلى المديح، وشواهده كثيرة.

أما إذا كان الأخذ خفياً وتساوى فيه المعنيان فيسمى بالنظر والملاحظة، وهو أقرب إلى التناص لأنه قد يكون مقصوداً واعياً وقد يكون مجرد تأثر غير مدرك ،ومثل ذلك ما سمي بـ (الإلمام) فهو أخذ المعنى بطريقة خفية.

ومن أنواع السرقات عند ابن رشيق (الموازنة) كما هي عند غيره، وهي أن يأخذ الشاعر بنية الكلام وليس معناه أو لفظه، كمثل قول كُثيِّر عزة:
تقول مرضنا فما عدتنا
وكيف يعود مريض مريضا

فقد وازن في الشطر الثاني قول نابغة بني تغلب:

بخلنا لبخلك قد تعلمين
وكيف يُعيب بخيلٌ بخيلا

أما (العكس) فهو أن يأتي الشاعر إلى أبيات فيحور فيها بحيث تصبح ذات دلالة أخرى عكس ما كانت عليه عند الشاعر الأول، فقد قال حسان يمدح الغساسنة:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شم الأنوف من الطراز الأولِ

فجاء شاعر آخر فقال يهجو قوماً:
سود الوجوه لئيمة أحسابهم
فطس الأنوف من الطراز الآخرِ

وأما (المواردة) فقد عدت من السرقات وهي ليست منها لأنها توارد في الخواطر ووقع الحافر على الحافر كما قيل عن طريق الصدفة. هذه أهم أنواع السرقات كما أوردها صاحب العمدة متأثراً بالحاتمي من قبله، كما أشار في نهاية بابه عن السرقات إلى مسألة نظم المنثور ونثر المنظوم كلون من ألوان هذه الظاهرة الأدبية، وهو لون طريف، وقد روي أن بيت أبي العتاهية في الزهد:
وكانت في حياتك لي عظات
فأنت اليوم أوعظ منك حيا

هو في الأصل كلام منثور قاله أحد الفلاسفة يندب الاسكندر إذا قال: «لقد كان هذا الشخص واعظاً بليغاً، وما وعظ بكلامه عظة قط أبلغ من موعظته بسكوته».

كما يشير ابن رشيق أخيراً إلى أن الشاعر الآخذ يكون أولى بالمعنى من صاحبه الأول في حالة أن يكون قد اختصره بعد أن كان طويلاً أو بسطه بعد أن كان قلقاً كزاً، أو بينه بعد أن كان غامضاً أو اختار له حسن الألفاظ بعد أن كانت ألفاظه سفاسف، أو صاغه في وزن رشيق بعد أن كان وزنه جافياً، وكذلك أن هو قلب المعنى أو صرفه إلى وجه آخر.

د. عبده يحيى الدباني
 
أعلى