مقامات سليمان العثماني - قضية السجع في المقامة الحريرية انطلاقا من أراء الناقد ابن الخشاب

المقامات فن أدبي قديم وعريق عند العرب ظهر في القرن 4 ه في العصر العباسي علي يد بديع الزمان الهمداني ، و كذا أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري ، والمقامة حكاية تقال في مقال معين وتحتوي على حكم وأمثال واشعار وتدل على سعة إطلاع وعلو مقام على طريقة السجع ، ويعرفها ابن منظور في معجمه لسان العرب " المقامة الموضع الذي نقيم فيه المقامة الإقامة و المقام وبمعنى الإقامة أو موضع القيام أما المقامة ) بفتح الميم الأولى فهي المجلس وهي بذلك تعني المكان أو من يقيمون في المكان ويجتمعون فيه " 1 يتضح من خلال هذا التعريف أن المقامة تقترن بالمقام أو المجلس الذي تقام فيه ، لهذا نجد أن المقامة تسمى بالمكان الذي تقام فيه . (كمقامة الرملية ، وهي منطقة بفلسطين )
تجدر الإشارة في هذا السياق أن للمقامة خصائص تميزها عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى ،خصوصا في مسألة الأسلوب المعتمد في صياغة مضامين المقامة ، وهو أسلوب السجع الذي نجده حاضر بقوة في مقامات الحريري ، وكذالك في مقامات الهمداني ، لكن ما مقصود بالسجع ؟ وكيف وظف الحريري السجع في مقاماته ؟ وما هي أوجه النقد التي وجهها ابن خشاب* للحريري بخصوص قضية السجع ؟
تعريف السجع
يعتبر السجع من المقومات الأساسية للنثر العربي القديم ،اد نجده حاضرا بقوة في فن المقامة ، ويعرف في القاموس المحيط بكونه " الكلام المقفي أو مولاة الكلام على روى واحد والجمع أسجاع كالأسجوعة بالضم و الجمع أساجع كمنع نطق بكلام له فوصل فهو سجاعة وساجع و الحمامة رددت صوتها فهي ساجعة وسجوع ، والجمع سُجع كركع وسواجع ، وسجع ذلك المسجع قصد ذلك المقصد والساجع القاصد في الكلام وغيره والناقة الطويلة أو المظربة في حنينها و الوجه المعتدل الحسن الخلقة " 2
يلاحظ في عبارة القاموس السابقة أن السجع هو مولاة الكلام على وزن واحد أي مقفى على روى واحد مع المزاوجة بين القرائن مصحوبا بالإتقان في الوزن ، مثال على ذلك : ما أبعد ما فات وما أقرب ماهو آت . وكل جملة لا تتوفر على القرائن لا يمكن اعتبارها جملة سجعية ، أي أن السجع كأسلوب له خصائص داخل العمل النثري ، وهذا ما سنحاول تبيانه من خلال الاشتعال على مقامات الحريري من وجهة نظرا نقديا ، معتمدين في ذلك على آراء النقدية الى ابن الخشاب بخصوص استعمال الحريري للسجع ومدى توظيفه المنطقي والسليم لهذا الأسلوب داخل المقامة .
انتقادات ابن الخشاب لمقامات الحريري
تعتبر الدراسات النقدية القديمة حول الشعر ، مجالا لملامسة حدود الاختلاف أو الائتلاف بين الشعر و النثر من جهة وبين الأنواع الشعرية القديمة من جهة ثانية إن هذه الملامسة من شأنها أن تساعد الباحث على معاينة انتقال مفترض للبنية الشعرية من حقلها الأصلي إلى حقول أدبية مجاورة ذات طابع نثري .
لقد عرف العرب أشكالا نثرية عديدة قبل ظهور الكتابة وانتشارها لكنها أشكال لم تحط باهتمام كبير و ذلك لأسباب متعددة منها ما هو ديني ، حيث ثم تهميش ما عرف في مرحلة ما قبل الإسلام بسجع الكهان بموجب أحاديث النبوية ." الذي جعل بعض الدارسين القدامى يميزون بين السجع في النثر والسجع في القرآن ، حيث يكون فيه اللفظ تابعا للمعنى "3
هذا ما يفسر قلة أو ندرة الدراسات النقدية التي اهتمت بالنثر بصفة عامة و فن المقامة بصفة خاصة ، باستثناء بعض الدراسات التي تناولت الجنس الأدبي النثري من زاوية النقد ، اذ نجد ابن الخشاب الذي قدم نظرة نقدية للمقامات الحريري بخصوص استعمال الغير منطقي للأسلوب السجع ، وذلك من خلال 59 موضعا نقدي في مقاماته ، و أشار ابن الخشاب إلى أن الحريري " أمضى وقتا طويلا في اختيار ألفاظه ، خطف أكثرها من جوامع بدل وصوله إليها على براعته ، لكنه لم يكن مدفوعا عن فظنة ثاقبة وغريزة في التلفيف ، كما أنه أخد مواضع من غيره واستعان بها و انحى عليها " 4 بمعنى أن الحريري لم يقف عند مصدر اللفظ قبل توظيفه ويقف عند الجوامع أي ما أجمعت العامة عليه و كان يبالغ أحيانا في استعمال الألفاظ الغامضة ، وهذا ما دفع ب ابن الخشاب الى تحرير رسالة يعلن فيها انتقاده لمقامات الحريري بخصوص قضية السجع اذ يقول " وله أشياء في أثناء مقاماته لو رجع فيها لأقر مع الإنصاف بالخطأ ساكنا فسلم ، أو لنازع مباهتا و أنا أسوقها على التوالي ، وضعا فموضعا مع تمهيد عذره ، لقلتها في جنب صوابه وما مر به من المحاسن في أثناء كتابه علما بان الكامل من عدن سقطاته ، والفاضل من أحصيت هفواته "5 وفي هذا السياق نورد أمثلة توضيحية للمواضع النقدية لمقامات الحريري التي قدمها ابن خشاب ، ففي المقامة السادسة يقول ابن خشاب "6 استعنت بقاطبة الكتاب فكل منهم قطب وتابا " انتقده ابن الخشاب في استعمال قاطبة مضافة إلى ما بعدها وتعريفها به وإدخال حرف الجر عليها أظهر جهله بعلم النحو انه كان مقصرا جدا لأن العلماء بالعربية لا يختلفون في أن قاطبة لا تستعمل إلا منصوبة على الحال غير مقتصرة على موضع واحد ، استخدم الحريري كلمة قاطبة مجرورة ومضافة في نفس الوقت ليس بصحيح لأن قاطبة لا تأتي إلا حالا ، وهي من نوع الحال المؤكدة لصاحبها ، فنقول جاء الناس قاطبة وكافة، من خلال هذا المثال يتضح أن الحريري لم يحسن استعمال قواعد النحو أثناء صياغته لمضامين المقامة ،أو انه لم ينتبه لهذا الخطأ النحوي ، وتتعدد الأخطاء من داخل المقامات الحريري كما يوضح ابن خشاب في جل المقامات تقريبا ، ففي المقامة السادسة و العشرون نجده لم يوظف أسلوب السجع بطريقة صائبة اذ يقول " فتعارفنا حينئد وحفت بي فرحتان ساعتئد " هنا يبين ابن الخشاب أن السجعتين واحدة لأن " إذ فيهما كلمة واحدة فلا فرق بين إضافة من أسماء الأزمة إليها فلا معنى يجعلها قرينة إلا على تأويل أنها صارت مع ما قبلها كالفظة الواحدة " 7 ومما يشترط في السجع أن تكون الألفاظ المسجوعة مختلفة المعنى وأما إذا كانت على معنى واحد فهي تكرار لا طائل من ورائه ، وقد استعمل الحريري كلمتي حينئد وساعتئد على أساس أنهما مختلفتان في المعنى و إذا رجعنا إلى كلام العرب نجد أن اللفظتين تستعملان للدلالة على معنى واحد .
يتضح من خلال ما سبق أن الحريري انشغل بالتزويقات اللفظية و الغريبة فجاءت أسجاعه ثقيلة وغريبة واضعف تعبيرا عن المعاني .
فعلا المقامة نوع أدبي قديم ، له أسس ومعايير تختلف عن الشعر شكلا ومضمونا ، ورغم هذا الاختلاف نجد ازدواجية بين ماهو نثري و شعري في المقامة ، وما يلاحظ على جنس النثر بصفة عامة هو غياب الدراسات النقدية للنصوص الابداعية سواء أكانت خطابة أو مقامة ، وهذا ما أشار إليه عبد الفتاح كليطو من خلال مؤلفه ا" المقامات : السرد والأنساق الثقافية " الذي ألح على ضرورة الإنكباب على المقامة التي ظلت أمدا طويلا معروضة في متحف يعلوها الغبار .
المراجع والمصادر
1. ابن منظور ، لسان العرب الافريقي دار صادر بيروت
2. عبد الجواد محمد طبق ، دراسة بلاغية في السجع و الفاصلة القرآنية ، دار الارقم للطباعة و النشر و التوزيع ، ط 1 ، سنة 1993 ، ص 23
3. بلاغ محمد عبد الجليل ، شعرية النص النثري ، مقاربة تحليلية لمقامات الحريري ، شركة النثر و التوزيع – المدارس – الدربيضاء ، ص 31
4. ابن الخشاب ، الإعتراض على الحريري مع الإنتصار ابن بري ، ط 1 مصر م الحسنية 1326 ، ص 2-3
5. ابي عباس أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي ، شرح مقامات الحريري ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، الجزء الأول ، المكتبة العصرية صيدا بيروت 1996 ،ص 10
6. نفس المصدر ، ص 20
7. ابن الخشاب ، مصدر سابق ، ص 23


المقامات.jpg
 
أعلى