إبراهيم الخطيب - الباحث المغربي عبد الفتاح كيليطو يقرأ المؤلفات القديمة ومقامة الحريري بشكل خاص

يتميز كتاب «الغائب» بخاصية مهمة وهي وحدته المطلقة * المقامة نسيج محكم يتعين علينا أن نفتق خيوطه ونفكها خيطا خيطا * تنفرد «المقامة الكوفية» بخاصية مضاعفة هي تقليديتها وجدتها

هل سبق لنا ان قرأنا المقامات حقا؟

ذلك هو السؤال الذي يطرحه القارئ على نفسه عندما ينتهي من قراءة كتاب «الغائب» لعبد الفتاح كيليطو. هو سؤال محرج، لانه موضوع على صيغة الاستفهام الانكاري. والحقيقة ان قراءتنا السابقة للمقامات كانت تعتمد على اختزال اساسي وهو ان « المقامة» لعب سردي غايته الاساسية والوحيدة ابراز براعة الكاتب اللغوية. ويبدو لي ان هذه القراءة لم تتولد من مباشرة نصوص المقامات ذاتها وانما من التعامل مع هذه النصوص انطلاقا من خطابات نقدية، عربية او استشراقية، لم تستطع الامساك بسر هذا الشكل النثري الهام. بعبارة اخرى: لقد حل محل القراءة الداخلية للنصوص قراءة خارجية، مبسطة، تقوم اضمارا على المقارنة بين « المقامة» و« القصة القصيرة» الحديثة. وبما ان هذا الشكل الاخير يقع على الطرف النقيض من المقامة (فهو سرد « للمبتذل» المعاصر ولا أثر فيه لاية حيلة، كما ان لغته تدعم ذلك المبتذل الذي يشكل مادتها) فان الحكم ضد المقامة لم يكن ليقبل الاستئناف. والخطأ في هذه المقارنة، حسب الظن، هو المصادرة على « الثقافة السردية» الخاصة بالمقامة، ونحن نقصد بهذه الثقافة السردية مجموع المكونات البنائية التي يجوز للنص التحاور معها.

شكل «الغائب» رابع كتاب يصدر لعبد الفتاح كيليطو في ظرف خمس سنوات، بعد « الادب والغرابة» (1982) و« المقامات» (1983) و«الكتابة والتناسخ» (1985). ولو أتيح للقارئ مراجعة هذه الكتب جميعا او بعضها للاحظ انها تعمل على محاورة التراث النثري العربي، وبالاخص محاورة كتابته، انطلاقا من ادوات نقدية معاصرة تمتد من انشائية الخطاب الى التحليل البنيوي للسرد، مرورا بجماليات التلقي. بيد ان هذه المحاورة تتميز بخاصية اساسية، وهي «ازعاج» ذلك التراث واختيارها سبيلا يتميز بلطف المقاربة، فعبد الفتاح كيليطو لا يعتبر تلك الادوات النقدية وسائل مراقبة وتعذيب، وانما هي جزء لايتجزأ من المقروء ذاته. ويبدو لي ان الامساك بطرفي هذه المعادلة لايتأتى الا لباحث صبور يقيم مع مادة بحثه علاقة تتميز، في آن واحد، بالصرامة والشفقة. بعبارة اخرى: ان الناقد لايتخلى عن وضعيته المسبقة كقارئ بريء ومكتشف، مثلما لا يتخلى القارئ عن «معرفته» البعدية كناقد.

نص متكامل يتميز كتاب «الغائب» بخاصية مهمة، هي وحدته المطلقة، بمعنى ان الكتاب، بدءا من صورة الغلاف الاول الى الكتابة الموضوعة في الغلاف الاخير، يشكل « شيئا» بل نصا متكاملا لا يشذ فيه الجزء عن الكل الواحد. هكذا اخذ رسم الغلاف الاول من منمنمة عربية تزين «المقامة الكوفية» في مخطوط قديم لمقامات الحريري، لكن هذه المنمنمة ستغدو موضوع الخاتمة التأملية الى ثقافات سردية مغايرة. اما النص القصير الذي اثبت في الغلاف الاخير فلا يشكل « فقرة» من الكتاب تقدم نموذجا عن محتواه او اسلوبه، وانما هو نص كتب خصيصا لهذا الغلاف، ويدور حول نوع المقاربة التي اختارها الكاتب لقراءة المؤلفات القديمة بصفة عامة، ومقامة الحريري بصفة خاصة، بغية اخراجها من «غيبوبة دامت عدة قرون».

يهتم كتاب «الغائب» اذن بتحليل «المقامة الكوفية» للحريري. وبما ان هذه المقامة تنفرد بخاصية مضاعفة هي تقليديتها وجدتها، فقد ارتأى الكاتب تقسيم كتابه الى قسمين (فضلا عن المقدمة والخاتمة ومتن المقامة موضوع التحليل): يتضمن القسم الاول سبعة فصول قصيرة (كما هي بقية فصول الكتاب) تهتم بتحليل الجزء « التقليدي» من المقامة، اي الجزء الذي يقلد فيه الحريري شكل مقامات بديع الزمان الهمذاني، والذي ينتهي عادة بتعرف الحارث بن همام على ابي زيد السروجي. اما القسم الثاني فيتألف من تسعة فصول تنكب على فحص الجزء الذي يمكن اعتباره ابداعا متميزا للحريري وبالتالي خروجا على تقاليد الهمذاني.

يحدد عبد الفتاح كيليطو عمله على الشكل التالي: «انها (اي المقامة) نسيج محكم يتعين علينا ان نفتق خيوطه ونفكها خيطا خيطا، ثم يتعين ان نعيد تركيبه من جديد» (ص28). على هذا النحو يقوم بتقطيع متن المقامة المثبت في الكتاب الى 13 وحدة سردية صغرى. ومع انه من الصعب الجزم بالمعايير التي استند اليها الكاتب للقيام بهذا التقطيع، الا انه من الممكن ان نلاحظ ان الوحدة السردية الصغرى هي تمفصل يقوم، في نفس الوقت، على تقدم حكائي جزئي مغلق على نفسه مفتوح على ما بعده، وعلى قيم دلالية ذات صلة باستراتيجية المقامة ككل، وبالخاصية التناصية التي تدعمها. بيد ان المقامة ليست مجرد سرد وانما هي نسيج لغوي، وهذا النسيج ينتج تعدد الدلالات. «تعدد الدلالة لاينبع من الكلمة في حد ذاتها... وانما من ارتباط الكلمة بكلمات قريبة او بعيدة، كلمات تكون في النص المدروس او في نصوص اخرى» (ص57). من هذين المنطلقين يعمد عبد الفتاح الى قراءة «المقامة الكوفية» في تقلباتها السردية، وكذا من خلال دوائر المعنى التي تترتب عن ظهور كلمة مركزية تحدث في سلسلة المعاني السابقة واللاحقة بعدا لم يكن لها. هكذا يلعب التحليل على سجلين: سجل المحكي بمكوناته، والسجل اللغوي الدلالي. وانه من النافل ان نؤكد ان السجلين معا يتداخلان في يد المحلل ليغدوا مادة نقدية هدفها مقاربة المقامة مقاربة متعددة الابعاد.

السرد والمعنى هناك ملاحظة منهجية لا بد من الاشارة اليها هنا، وهي ان تحليل كيليطو لا يفرق بين السرد والمعنى. بعبارة اخرى، ان المحور السياقي في تحليله يعبر عن محتويات المحور الجدولي، مثلما يعكس هذا اشكال ذاك. هكذا استطاع الباحث ان ينجو من وهم الثنائية، ذلك الوهم الذي انتقده ليفي ستروس في تحليله للخرافات الشعبية الروسية. هناك امثلة كثيرة في كتاب «الغائب» على هذه الوضعية ويكفي ان نشير الى مثال واحد، وذلك عندما يحلل كيليطو زمن حدوث المقامة الكوفية، فهذا الزمن هو جوهر شخصية ابي زيد السروجي، كما انه يشكل عمق الفعل مدار المقامة برمتها.

خلافا لما يبدو في الظاهر، فان المقامة نسيج معقد باحكام. نسيج مؤلف من قصص، وإحالات، وصور دلالية، ويتميز، في مجموعه، بخاصية تركيبية هائلة. من هنا فإن عمل المحلل يقتضي سل عناصر هذا النسيج بغية اعادة الحامها مجددا حسب انساق كتابية مرسومة.

لكن يبدو لي انه من غير المجدي ان نحاول تلخيص قراءة عبد الفتاح كيليطو «للمقامة الكوفية» لان النتيجة ستكون هي الفشل لا محالة. بيد أن السبب في ذلك لا يعود الى خاصية اسلوبية، وانما الى رؤية منهجية: ان المعنى مبثوث على امتداد التحليل، وليس في نهايته. وبما ان التحليل سلسلة موصولة الحلقات، فان التوصل الى «اطروحته» (إن كانت هنالك اطروحة) يقتضي تلخيص فصول الكتاب فصلا فصلا، وهو عمل لا أهمية له اطلاقا. ويكفي ان نقول بان هذا التحليل يقوم على مجموعة من الثنائيات وانه يسعى الى فحص البنيات التخييلية التي توجد في اساس سرد «المقامة الكوفية» كما يهتم بدراسة الذاكرة النصية التي تشكل خلفية تلك المقامة. معنى ذلك ان الامر لا يتعلق بتحليل السرد فقط، وانما يتعلق ايضا، وفوق كل شيء، بإبراز التركيبات الدلالية الجزئية الكامنة في ظاهره لربطها بدلالات اعم تشكل «الخلفية الثقافية» للمقامة. في هذا الاطار، يهتم عبد الفتاح كيليطو بتقصي العلامات اللغوية وتقليبها بحثا عن البنيات تكون، في غالب الاحيان، عوالم من المرجعيات الثقافية التي لا يمكن التوصل اليها الا مرورا بنصوص عصر المقامة (او المقامات): مدونة السلوك، والخطابات، والمعارف اللغوية، و«الادبية» والاخبار. هذه الضرورة تؤكد ان النص لا يكون عبر التاريخ transhistorique الا اذا اخضع للتأويل، اما في ما عدا ذلك فهو منغرس في تاريخه النصي، اي في بنية تتألف من كافة النصوص والمعارف المعاصرة له. انه بالامكان ان نطلق على تحليل كيليطو هذا «التحليل السياقي» contextuelle، بمعنى ان المحلل ينظر الى النص كمجموعة خيوط في نسيج أعم هو «الثقافة». ان النص متبيئ في الثقافة، اي في انماط الكتابة المختلفة (اخبار، لغة، حديث، شعر، تاريخ، بلاغة، الخ...) التي توازيه، وتحيط به، وتتداخل واياه، ولا يمكن عزله عنها. غير ان قراءته تقتضي النظر اليه كميكروكوزم داخل ماكروكوزم. كل نص تناص، بيد ان لكل نص تناصه الخاص لانه تركيب. ومهمة المحلل، والناقد عموما، تتركز في ادراك هذه العلاقة التركيبية الخاصة، وفهمها. إن «الثقافة» جسد نصي، مؤلف من خطابات متعددة، و«النص ـ العضو» لا يعمل الا داخل ذلك الجسد أي داخل علاقاته المنتظمة بالخطابات الاخرى. ولو اننا تأملنا كتاب «الغائب» للاحظنا ان عبد الفتاح كيليطو يحاول تدعيم تمفصلات معاني المقامة من خلال قراءة انعكاساتها في نصوص اخرى تنتمي الى مجالات كتابية مختلفة، مثل نصوص ابن المعتز والجرجاني، والجاحظ، و«لسان العرب» والهمذاني، والشريشي، وابن خلدون الخ... ويجب ان نقول بان هذه العملية هي احدى الفرضيات التي انطلق منها الباحث في كتابه «المقامات» وتشكل الميزة الاساسية لتحليله اذا ما قورن بشوقي ضيف او بلاشير ومازنو.

مع عبد الفتاح كيليطو، لا يسع القارئ الا ان يتحول الى تلميذ مصغ: تلميذ يشرع نوافذ ادراكه، فيتسرب التحليل تلو التحليل، ببساطة متناهية، وعمق نادر المثال. لقد لاحظ عبد الكبير الخطيبي من قبل خاصية هذا الخطاب «الاستاذي» (مقدمة «الادب والغرابة» ص 6)، بيد ان الامر لا يتعلق باستاذية قاهرة وانما تفرض سلطتها بيسر بالغ ومن خلال حوار يهون من مشقة تلقي المعرفة. من هنا الخاصية السمحة لاسلوب عبد الفتاح كيليطو: فثقل المعرفة عنده لا يتحول مطلقا الى سباحة في الغموض او صيد في المعميات. ولو تأمل القارئ كتاب «الغائب» عن قرب للاحظ ان الكاتب لا يستعمل مصطلحات معقدة، ولايوظف تحاليل مفرطة التجريد، انما يكتفي بتحويل مصادر المعرفة الى معان دقيقة لكنها مصوغة على طريقة السهل الممتنع.

ان عبد الفتاح كيليطو وأبي زيد السروجي يشتركان في خاصية لا بد من الاشارة اليها: وهي ان كليهما يجيد الحديث، ويأسر مستمعيه (او قراءه). فكما انه يتعذر على السمار الانقطاع عن الاصغاء لـ«غريبة» السروجي بسبب جاذبيتها، كذلك لن يستطيع قارئ «الغائب» الانصراف عن هذا الكتاب الا وقد انتهى من قراءته (او بالاحرى اعادة قراءته).

يتعلق الامر برحلة وسط الدلالات في النص الثقافي العربي: رحلة يقطعها القارئ صحبة دليل يعرف المسالك، والمنعرجات، ويعرف فوق كل ذلك، وهذا هو الاهم، كيف يصل في ما بينها بمهارة بغية الافضاء الى مستقر المعنى الشامل: هكذا يعود النظام النهاري الى المقامة، مطلق المقامة، بعد ان ظلت امدا طويلا تحت رحمة نظام قمري، خادع، يوهم بالمعرفة، لكنها المعرفة الخلب المتلاشية بمجرد سطوع الشمس.

إبراهيم الخطيب
 
أعلى