سيد الوكيل - عن النساء وأجسادهن المتعبة

هل من الناس من يصدق أن الطرواديين يحاربون عشر سنوات من أجل امرأة واحدة؟! "
هيردوت

لما لا .. والحرب العالمية الأولى قامت بسبب مقتل رجل، وهو ولى عهد النمسا . أم أن النساء أقل شأنا من الرجال؟ عقلية هيردوت هذا مثل عقلية كل رجال العالم ، ينظرون إلى المرأة وكأنها عضو زائد نبت فيهم فجأة .
معذرة .. نسيت أقول إن ولى عهد النمسا كانت معه زوجته. يبدو أن المرأة ستكون موجودة دائما فى كل الحروب!
وبغض النظر عن صحة منطق هيردوت، إذا كانت هيلين هى سبب حرب طروادة أم لا، فهوميروس يخبرنا أن الحكاية كلها سببها امرأة وقع باريس فى غرامها واستحوذ عليها من زوجها مينلاوس. لكن هوميروس هذا، رجل الأساطير، والأساطير ـ كما تعلمون ـ خرافات، أو هكذا ينظر إليها الآن. ولذلك، فالرجال ذوالعقول النيرة امثال هيردوت، الذين يقدسون العقل ويحترمون المنطق لايحترمون الأساطير كثيرا. أماالنساء، وهن أصحاب قضية كما تعلمون ـ فلهم رأى آخر. إن الأساطير كانت طريقة القدماء فى فهم العالم، وإنها مثلت طفولة الفكر الإنسانى. وهى مازالت تحتفظ بطرائق التفكير الأولى التى رسمت مأساة البشرية، ومن المنطقى جدا، أن تكون الأساطيرـ بوصفها سرديات كبرى ـ قد حملت البذور الأولى لمأساتهن الخاصة التى تمثلت فى قهر الرجال لهن، بل وحملت أيضا تاريخ نضالهن فى سبيل تحرير أنفسهن من سلطة الرجل، لهذا. فالمتحمسات للحركة النسوية. يتعبرن الأساطير بمثابة صندوق الشوار المغلق والمفعم بالأسرار، الذى تركته لهن جداتهن القديمات . وأنه آن الأوان لفتحة. ليعرف الرجل أنه ـ طول عمره ـ مفتري، ومستقو بعضلاته على النساء.
المسألة ببساطة تتلخص فى أن النساء. يطالبن بقراءة مغايرة للتاريخ . والنظر إليه من وجهة النظر الأخرى المسكوت عنها دائما. تلك التى كتبها الرجال أمثال هيرودت، واعتبروا أنفسهم عظاما مالكوا الحقيقة، واحتكموا فى ذلك إلى العقل والمنطق والموضوعية. ولكنهم باسم العقل والمنطق والموضوعية زيفوا التاريخ. وهاهو هيردوت يستكثر أن تستنفر أثينا لقتال اسبرطة من أجل امرأة. رغم أن هوميروس حكى الحكاية كلها من طقطق إلى سلامه عليكم.
والخلاف الوحيد فى حكاية باريس وهيلين، يتلخص فيما إذا كانت هيلين أحبت باريس فعلا وهربت معه بمزاجها، أم أنه أخذها عنوة واغتصابا. حتى أهل أثينا أنفسهم اختلفوا فى ذلك، لكنهم اتفقوا على اعتبار الأمر إهانة لشرف بلادهم. وأقسموا على استرداد هيلين وتأديب أسبرطة مهما كلفهم ذلك. وهكذا تكون حرب طروادة هى أشهر عملية ثأر فى التاريخ لشرف امرأة.
ودفعا لشبهة الخيانة عن هليين، وتأكيدا على أن باريس هذا مثله مثل كل الرجال مغتصب للنساء وبلطجى. سنحكى الحكاية من البداية.
يبدو أن باريس هذا كان زير نساء. فحكايته مع ربات الأولمب الثلاثة تشير لذلك. كانت هيرا وأثينا وأفروديت ربات لهن مكانتهن بين آلهة الأولمب. وشأنهن شأن نساء البشر كن يتنافسن ويتباهين بجمالهن. كل واحدة منهن تزعم أنها الأجمل، والأقدر على سلب عقول الرجال. ويبدو أن كل آلهة الأغريق كانوا من عينة الربات الثلاثة. لهم مغامرات ونزوات وحيل لايقدر عليها غير آلهة طبعا. وضحيتهم دائما من البشر المساكين. خفة دم آلهة الأعريق لامثيل لهاعند كل آلهة الأساطير الأخرى فى العالم القديم.
الربات الثلاثة اتفقن. لنحتكم إلى أول من يمر من هنا. ولسوء حظ باريس أنه كان أول من يمر بهن من البشر. بالتأكيد باريس لم يخطر بباله أن مقالب الآلهة يمكن أن تنال منه وهو فى حاله، لايتحداهم ولا ينافسهم كما يفعل غريمه هرقل مثلا. لكنهن فعلوها. قلن له: لتعط الأجمل منا تفاحة مما تحمل.
لكن باريس كان بخيلا قليل الأصل. ولم يفهم أن الكلمة الطيبة صدقة. وكان يستطيع أن يعطى لكل واحدة تفاحة ويقول لهن: أنتن أجمل من بعضكن البعض ويخلص، ولكنه بدلا من ذلك سألهن:
ـ وما استفيد أنا إذا اخبرتكن بالأجمل بينكن.
قالت هيرا: أنا السيدة الأولى وزوجى أكبرإله فى البلد، لهذاسأعطيك السلطة. تأمر وتنهى فيما بدا لك.
وقالت أثينا: وأنا ربة الحكمة. سأعطيك حكمة وعلما وعقلا راجحا به تصير أستاذا جامعيا.
أما أفروديت فتقصعت وهمست بشفتيها القرمزيتين :
ـ أنا أفروديت يامنيل .. وسأعطيك أجمل نساء الأرض.
وهكذا أعطى باريس التفاحة لأفروديت. وهى وفت بوعدها ومكنته من خطف هيلين زوجة مينلاوس الذى فتح له بيته وأكل معه عيشا وملحا.
الحكاية هكذا منتهى العدل. ففيما النساء مهما كن ربات من نسل آلهة، ففيهن المكر والحيلة ومهارات التلاعب بالعقول والقلوب التى نسميها ألان كيد النسا. هكذا يتحايل المقهورون دائما على قاهريهم.
أما الرجال، فيظهرون ـ فى الحكاية ـ قليلوا الأصل. يعضون اليد التى امتدت لهم واطعمتهم. وهم فوق ذلك طفسين. لايفكرون سوى فى أعضائهم التناسلية.
لكن أساطير أخرى، فى حضارات أقدم. انحازت لواحد من الطرفين . مرة تنحاز للمرأة، ومرة تنحاز للرجل. على أية حال، كل الأساطير القديمة سجلت صراعا وسجالا أساسه هذه الثنائية: المراة والرجل. وكان جسد المرأة الجميل الفاتن قاسما مشتركا فى كل مرة، وفى كل مرة، كان يجر على المرأة البلاء من الرجال وحروبهم التى لاتنتهى. هكذا، ظلت المرأة تشعر دائما أنها ضحية جسدها الجميل. وأنهن متهمات بلا ذنب ولا جريرة بأنهن سبب البلاوى منذ قتل قابيل أخاه هابيل طمعا فى زوجته الجميلة رغم أن قابيل كان حديث عهد بالسماء، إذ نزل منها لتوه، ويعرف أن حظ ابن آدم فى النساء كالأرزاق. كله بيد الله.
حكاية هابيل وقابيل تتكرر بصور مختلفة كما لاحظت الباحثة رندا رزق فى كتابها ( فيدرا .. امرأة فى ملتقى الحضارات) بوصفها أمثولة فى الطمع وزنى المحارم، وهى حكاية تتقلب تروى مرة عن الأخ وزوجة أخيه، ومرة عن الابن وزوجه أبيه، لكنها فى كل مرة تشير إلى أن المرأة هى أس البلاء ومبعث الغواية. وما تحاول أن تفعله رندا رزق هو اختبار هذه الحكايات وتحليلها، ورصد تجلياتها فى الدراما منذ الإغريق وحتى الآن. بما يشير إلى أن المرأة ظلت متهمة عبر العصور وفى كل الحضارات.
تقول أفروديت لأرتميس: سأوقع الحب فى قلب فيدرا ولنرى ما ستفعلين، ولاحظوا أن أفروديت دائما مسؤلة عن الغواية، باعتبارها ربة جميلة فاتنة. أما أرتميس فترد عليها: سأوقع العفاف فى نفس هيبوليت كيداً لك، هكذا تقع فيدرا فى غرام هيبوليت ابن زوجها، وعندما يرفض هيبوليت إغواء فيدراً تشنق نفسها، وتترك رسالة إلى زوجها تدعى فيها أنها تعرضت للاغتصاب من هيبوليت، وأنها قتلت نفسها محواً للعار، يغضب الأب ويدعو أبسيدون إله البحر أن ينتقم له من ابنه، هكذا يدبر أبسيدون حادثاً فيقتل هيبوليت، عندئذ فقط تظهر أرتميس ـ بعد فوات الأوان مثل رجال البوليس ـ لتخبر الأب أن ابنه كان عفيفاً بريئاً، فالأمر كلة مجرد مكيدة من أفروديت.
لكن هزل الآلهة الإغريق يصبح جداً عند العلماء والباحثين عن تفسيرات للأشياء الغامضة فى سلوك الإنسان، فحكاية هيبوليت وفيدرا تفسر فى مستويات رمزية مختلفة، على أنها صراع بين المقدس والمدنس عند علماء الأنثربولجى، أو بين العاطفة والواجب عند علماء الاجتماع، أو بين الأنا والأنا الأعلى عند علماء النفس .
الباحثة رندا رزق، راحت تبحث فى كتابها عن تأثيرات أسطورة فيدرا ـ وحدها ـ فى بعض الأعمال الدرامية فوجدتها أكبر مما نظن ، ولكنها توقفت عند سبع نماذج صريحة، أربعة منها عند يوربيدس وراسين وبنيانتى ويوجين أونل، وثلاثة عند كتّاب عرب هم: على أحمد باكثير وتوفيق الحكيم وعزيز أباظة.
اتفق الجميع على أن فيدرا تمثل صورة الحب المحرم، ولكنهم اختلفوا فى تفسيراتهم للدوافع وراء سلوك فيدرا، يوربيدس الأغريقى أخذ بفكرة مكيدة الربات. فالدافع إذن نوع من القدر الذى لاحيلة لفيدرا إلى دفعه ومن ثم أظهر كل من فيدرا وهيبوليت كضحايا، أما راسين المسيحى الذى يمثل الكلاسيكية الجديدة، فقد رأى أنها مكيدة الشيطان تلك التى أوقعت بفيدرا فى الخطيئة، ومن ثم ظهرت نموذجاً للشر الخالص وكأنها سالومى ، فيما ظهر هيبوليت ورعاً متدينا وكأنه يوحنا المعمدان،
لنلاحظ أن راسين استبدل أفروديت بالشيطان. وهذا معناه أن فيدرا أصبحت مسؤلة عن نفسها وأعمالها. فانتفى معنى القدرية الذى أخذ به يوربيدس فى الحكاية الأصل. على الرغم من أن الشيطان فى المعتقد الدينى لاتختلف قدراته، ومن ثم وظيفته عن وظيفة آلهة الإغريق. كلاهما قادر على الإغواء والوسوسة واللعب بالعقول والقلوب.
عموما، مايهمنا الآن، أن فيدرا راسين، تعيد إنتاج الأسطورة فى سياق دينى له بعده التوراتى الذى يفسر لناخروج أدم من الجنة بفضل غواية شيطانية لحواء، فالله فى الأديان السماوية، لايضم فى ملكوته أرباب صغيرة كما عند الإغريق، فقط ملائكة وشياطين. ويظل السؤال الذى لايجيب عليه التفسير الدينى، لماذا تظل حواء وحدها نهبا للشيطان؟ وما مدى مسؤلية أدم نفسه في الحكاية، هل أكل التفاحة بدافع من غواية حواء أم بدافع من طفاسته؟
أما بنيانتى فالتقط فكرة كيد النساء وحولها إلى سياق شعبى وكأن ماحدث ليس سوى غيرة نسوية حمقاء يدفع ثمنها الرجال، وهو فى هذا أقرب إلى تصور يوربيدس لولا أن النساء عند يوربيدس كن ربات.
أما يوجين أونيل فقد عزى سلوك فيدرا إلى نوع من الانحطاط الأخلاقى الذى أصاب أوربا بعد الحرب الأولى كنتيجة لتدنى مستوى المعيشة، وهكذا يجعل المرأة رمزا للانحطاط الأخلاقى.
فى 1945 كتب باكثير مسرحية الفرعون الموعود، ولفت الانتباه إلى الجذور الفرعونية فى أسطورة فيدرا، حيث وجدها فى قصة الأخوين ( أنوب وباتو ) وهى نفس القصة التى مازالت تغنى فى المواويل الشعبية فى مصر حتى الآن، عن أخ أكبر طيب يربى أخية الصغير، لكن زوجة الأخ الكبير تغويه فيعرض عنها، ومن ثم تكيد له عند زوجها فيقتل الأخ أخيه، ويلمح (باكثير ) إلى تشابه القصة الفرعونية مع قصة يوسف عليه السلام، ويتشابه ـ مع الفارق طبعاً ـ فى التفسير الدينى عند راسين، فينهى روايته بالآية الكريمة ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ).
أما عزيز أباظة فكتب مسرحيته ( زهرة) لتكون على وزن( فيدرة ) كما يخبرنا، ثم أنه كتبها شعراً مثل راسين، فقدم نوعاً من التمصير للشخصيات وغير فيها، فجعل العلاقة تقوم بين الأم وخطيب ابنتها، مبرراً ذلك بأن زهرة هى فيدرا القرن العشرين، مجرد امرأة تعيش أزمة منتصف العمر، وتحاول أن تستعيد شبابها فتقع فى غرام الشاب خطيب ابنتها، وهذا التفسير يوعز بأن دافع الغواية عند زهرة نوع من الاهتزاز النفسى والضعف الإنسانى، لهذا هو لايصل باالعلاقة إلى منحنى الخطيئة المباشرة.
إن هذا الترتيب التاريخى لتجليات ( فيدرا) فى الدراما. يبدو موازيا لتاريخ النظرة الذكورية للمرأة عبر الثقافات والحضارات، فهى طوال الوقت، وفى كل مرة تتحمل مسؤلية الخطيئة وحدها، فيما يكون الرجل بريئا كالحمل الوديع، وأن هذه النظرة صارت أكثر قسوة وفجاجة فى التصور الدينى. ومقرونة بمعنى الدنس، وبطبيعة الحال انتقلت إلى الموروث الشفهى والثقافة الشعبية لترسخ نفسها فى ممارسات الحياة اليومية وهذا هو الأخطر. بما يعنى أنها ستظل تعمل فى الوعى التحتى للشعوب بدون مراجعة أو مناقشة.
أما توفيق الحكيم، فكان الأكثر إنصافا ووعيا بأبعاد القضية. ففى مسرحيتة (اللص) التى كتبها من وحى فيدرا أيضاً( والعهدة على رندا رزق ) جعل الخطيئة متساوية بين الرجل والمرأة، فقد أراد من الحكاية كلها، أن يرمز إلى شيوع الفساد السياسى والاجتماعى فى مصر داخل طبقة الحكام والأمراء الأرستقراطية، فالقصة تدور داخل قصور الباشوات، ومن ثم فالفساد الأخلاقى ليس قدراً، ولا غواية شيطانية، ولا ضعف نفسى أو إنسانى، لكن له أسباب سياسية واجتماعية وثقافية.
تتوافق رؤية الحكيم مع المثقف الحداثى التنويرى. وحيث بدأت الحداثة فى الانتباه إلى اعطاء عناية خاصة لوضعية المرأة ورفع الظلم التاريخى عنها.
ولعل هذا الوعى الحداثى لوضعية المرأة فى الثقافة العالمية ظل، ومازال ينمو بفضل تكوينات ثقافية كرست جهودها فى هذا الاتجاه، وهذه التكوينات عرفت بالحركات النسوية. ويبدو أن تاريخ الحركات النسوية أقدم مما نظن، وأنه صار موازيا للتاريخ الذكورى الذى حرص على تهميش النساء.
فيحكى ـ فى الأساطير الإغريقية ـ أن بعض النساء ضجرن من الحكاية كلها وشعرن بالظلم الواقع عليهن، وقلن فى أنفسهن إن أس البلاء هو طفاسة الرجال. وعضلاتهم التى يستخدمونها عمال على بطال فيملؤن الدنيا شرا وقتالا. هكذا تجمعن معا، وقطعن أثدائهن ـ على سبيل الاحتجاج ـ حتى لايبقى بينهن وبين النساء شبها. ولبسن بدلات رجالى وكرافتات. وقررن اعتزال مجتمع الرجال وقلن: قطيعة تقطع الرجالة وقرفها .. الواحدة مننا بميت راجل .. فماذا ينوبنا منهم غير الحمل والولادة ووجع القلب.
. وهكذا تأسست أول دولة للنساء فى التاريخ. مجتمع كامل بلا رجال، اسمين أنفسهن الأمازونيات، وفى رواية أخرى( الأمازيغيات ). ويقال إن منهن ( تيهيا ) الكاهنة الجزائرية. وكانت بألف رجل مما تعدون. وإنها عاشت مائة وسبع وعشرين عاما حكمت فيها الأمازيغ وقادت صمودهم الشرس ضد الفتح العربى لبلاد المغرب. وغير ذلك لدينا أساطير تحكى فى كل الحضارات القديمة تنصف المرأة ـ فى المقابل ـ وتسير إلى نساء فاضلات يدحضن التصور الذكورى عن المرأة.
وهكذا، فالتاريخ منذ حواء وآدم لايخلو من دراما أبطالها النساء والرجال. وسببها أجساد النساء المثيرة، والرجال الذين لايقدرون على كبح شهواتهم. وكل طرف يحكى الدراما من وجهة نظره الخاصة. فمرة تتهم المرأة بالإغواء والشيطنة. ومرة يتهم الرجل بالطفاسة والبلطجة. وهكذا، فالتاريخ البشرى كله يروى من وجهتى نظر مختلفتين، واحدة نسوية وأخرى ذكورية.
ويقال إن الأديان السماوية تبنت وجهة نظر الرجال وانحازت لهم. واعتبرت النساء ناقصات عقل ودين وخائنات دمويات مثل سالومى وغانيات متهتكات مثل امرأة عزيز مصر. وقد سجلت المسيحية بنزعتها الإخصائية أو الطهرانية أعلى درجات التهميش للمراة ووضعت كل شىء فى يد الميتا فيزيقى فى مقابل تحقير ونفى الفيزيقى، فالمسيح يقول: " مملكتى التى فى السماء ". وهذا معناه أنه يحتقر الأرض وينظر إليها كمكان مدنس لايليق بابن الرب.
وإذا كان هذا حال الميتافيزيقيا وموقفها من النساء. فإن حال العلم والفلسفة ليس أفضل. وربما العكس. كان عداء سقراط للمراة معروفا. وكانت زوجته صغيرة وجميلة، ويقال إنه كان يخشى جسدها الجميل ويتجنبه، لكنها كانت حادة سليطة اللسان. ربما لأنها تشعر أن سقراط اهتم بالفلسفة أكثر منها.
ولاحظوا، أن كثيرا من الحكماء والأنبياء، ُاختبر إيمانهم، عن طريق نساء عشن فى كنفهم كزوجات، جميلات فاتنات، إما خاطئات وإما صالحات لاتخلون من شقاوة ودلع. فلقد عاتب الله محمدا وبرأ عائشة.
أما أفلاطون، فالكلام حوله متناقض. يقال أنه كان مثليا ويكره النساء بطبيعته. ولكنه لايرى فارقا بين المرأة والرجل سوى فى التكوين الجنسى فقط. فالفارق بينها مثل الفارق بين رجل أصلع وآخر مشعر. ومعنى ذلك أن سقراط رأى فى التكوين الجنسى للمرأة نقصا وتشوها. واعتبر أنوثتها وليونتها ضعفا. وطالب أن يعامل الناس النساء كما تعامل كلبات الحراسة، يقمن بنفس مهمات الكلاب الذكور من القنص والصيد، وذلك بعد تدريبهن وتخليصهن من ضعفهن.
. حتى فلاسفة العصر الحديث، لم يعطوا المرأة المكانة التى تستحقها، فكان نيتشة قاسيا حين قال فى كتابه العلم المرح: " الحقيقة امرأة ". أى أنها مراوغة مستحيلة خادعة، كامرأة تتظاهر برعشة الجماع. خلاصة القول أن لافائدة من الرجال، وانهم مهما كانوا فهم منحازين لجنسهم، ومستمرين فى ظلم المرأة. ولهذا فلامفر من أن تستعيد المرأة مكانتها معتمدة على نفسها. تنتزعها قصرا من الرجال الذين صنعوا تاريخ البشرية على قدهم وهمشوا كل حضور مضىء وساطع للمرأة.
ولكى تفعل المرأة هذا، فعلته عبر منهجين:
المنهج الأول: سياسى، عن طريق الاحتجاج والإضراب والمطالبة بالحقوق القانونية والاجتماعية كاملة مثل الرجل، فى العمل فى الميراث فى حقوق الزواج فى التمثيل النيابى والسياسى والقضائى .. إلى آخره. باختصار، رحن يبحثن عن مكانة متساوية مع الرجال فى حقوق المواطنة كافة.
المنهج الثانى: ثقافى، فرحن يبحثن فى تاريخ البشرية، ويعملن على إبراز دور المرأة فيه. وتنقيته من السلبيات التى لصقت بهن زورا وبهتانا. وفضح ممارسات القهر والتهميش التى مارسها الرجال عليهن طوال التاريخ.
ويسمى ـ كل هذا ـ بفضح المسكوت عنه. ويقصد بالمسكوت عنه، وجهة النظر الأخرى التى تجاهلها التاريخ وهو يرسم الخطوط العريضة لثقافة البشر. إذ أن التاريخ اعتمد التفسير الذكوري للعلاقة بين الرجل والمرأة. بينما للنساء تفسيرآخر لم تتمكنّ من عرضه وتوثيقه وتثبيته فى الوعى البشرى نتيجة لعمليات الإقصاء والتهميش اللاتى تعرضن لها فى تاريخ العمل الاجتماعى والثقافى. وهكذا تعهدت النسويات برواية التاريخ من وجهة النظر الأخرى، التى طالما تجنبها الذكوريون.
وإذا كان جسد الأنثى هو سلاحها الماضى، وهو بعبع الرجل أيضا، فإن معركة تحرير المرأة لن تكتمل سوى بتحرير جسدها من كل أشكال القمع الذكورى.
هكذا انطلق الجنى من القمقم، ولم يعد بمقدور أحد أن يعتقله ويعيده إلى سجنه القديم. لكن أخطروأهم ميادين هذا الحضور الفذ للنساء. هو الكتابة بوصفها إبداعا وخلقا، صحيح لم تعد الكتابة وحدها هى الوسيلة الوحيدة لتجلى الإبداع البشرى، فقد رأينا أن الحداثة والتكنولوجيا جاءت بفنون وإبداعات جديدة على البشرية، ولا أحد يستطيع أن ينكر حضور المرأة فيها، ولاسيما فى مجال الفنون البصرية كالسينما وفنون الإعلام والدعاية والفديو كليب والرياضة والرقص والغناء، حيث تحضر المرأة بقوة، مشهرة أسلحتها كافة، ليس الجسد فحسب، ولكن الذكاء وسرعة البديهة وتنوع المعرفة والخبرات الإنسانية الخاصة أيضا.
وهكذا تصبح المرأة هى قلب المفاعل النووى للثقافة الحديثة. وقبل أن نقف على بعض تفاصيل الحضور الثقافى للمرأة، يهمنا الإشارة إلى حكاية قديمة أيضا.
فى بلاد الرفدين. كانت ( تيامه) ربه الخلق والخصب وسيدة الحياة بلا منازع، لكن ( آنو ) أخذته الغيرة ونازعها سلطتها فى الخلق. هكذا توسط عند كبير الآلهة ( مردوخ) فأصدر فرمانا أن يكون ـ من الآن فصاعدا ـ الخلق من الفم بدلا من الفرج.
طبعاغضبت تيامة. واعتبرت هذا اغتصابا لحقها الطبيعى فى الخلق. وأدركت نية ( آنو ) لتهميشها وتحالف مردوخ معه لأنهما من جنس واحد لاأمان له. هكذا.. أعلنت حربا على أنو ومردوخ، لكن مردوخ ( المفترى ) ضربها بالسيف فشطرها إلى نصفين، وجعل من نصفها الأسفل الأرض، ومن الأعلى السماء.
وهكذا خلق مردوخ داخل الجسد الواحد ثنائيتين ضديتين ظنا أنهما لن تلتقيان أبدا. المقدس السماوى، والمدنس الأرضى. ألا يذكرنا هذا بالأنا الأعلى والأنا الأدنى ( العقلى والغريزى) عند فرويد ؟
هذه الثنائية المتناقضة هى محنة الإنسان، فهى تحكم كل سلوكة وتضعه فى صراع أبدى مع نفسه، بين رغبات ملحة يسعى لقمعها، وقيم ثقافية لاتغنيه عن رغباته. هذه هى محنة الإنسان منذ خلق حتى فى ظل آلهة الأولمب. وهذه المحنة صارت موضوعا لكثير من الكتاب والفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع عبرالتاريخ. حتى أن نجيب محفوظ نجح من خلالها وعبر روايته القصيرة ( قلب الليل ) فى قراءة تاريخ الإنسان.
وعموما : فالخلق من الفم يرمز إلى العقل والإدراك والوعى الذى يسمو بالغرائز الدنيا، فى مقابل الخلق من الفرج حيث المعنى الشهوى والحسى. ويبدو أن الأديان السماوية انحازت إلى فكرة الخلق من الفم . فليس من قبيل المصادفة، تنزيه الخلق الإلهى من المعنى الشهوى. وإسناده إلى معنى الإرادة وتجلياتها ( الكلمة ) ففى البدء كانت الكلمة، كما أنالله ، إذا أراد شيئا، أن يقول له كن فيكون.
وإذا كانت ثنائية الأرض والسماء تبناها الخطاب الدينى وأصبحت من اختصاصه. فإن ثنائية الفم والفرج مازالت ملكا للبشر رغم انحياز السماء للخلق من الفم . ومن ثم فهى المجال الذى تستطيع أن تمارس المرأة نضالها فيه. ستتمكن المرأة من الأمرين معا، الخلق من الفرج والخلق من الفم. وياحبذا لو تماهى الخلق بينهما. فلا غرو أن يكون للجسد، وحضوره الشهوى ( ألإيروتيكى ) نصيبا كبيرا فى كتابات النساء. وحيث الكتابة ـ ذاتها ـ ممارسة لفكرة الخلق من الفم. بوصفها أحد تجليات الكلمة.
لكن النسويات يقلن، إن الكلمة، أو اللغة، عندما اعتبرت حقا وحيدا للرجل ( آنو ) صبغت بطابع ذكورى عبر التاريخ، وإنه ـ قبل ذلك ـ كانت هناك لغة للنساء حكين بها حكاياتهن القديمة والقلية. وأن الأديان انحازت ـ كالعادة ـ للرجال. وإلا، فلماذا علم الله آدم الأسماء كلها؟
ولذلك، فإن جزءا مهمة من الكاتبات النسويات، هو استعادة لغتهن القديمة. ومن ثم ، فإن أحد أبرز ميادين النضال النسوى هو اللغة، حيث يعول عليها فى تأكيد قدرة المرأة على الخلق من الفم . فعندما تستعيد المرأة حقها فى الخلق من الفم ـ ايضا ـ إلى جانب قدرتها على الفم من الفرج. تكون بذلك قد استعادت نصفها العلوى المغتصب. أو بتعبير آخر ، قد استعادت اكتمال وتحقق ذاتها.
وبعد :
فربما يكون عرضنا للموضوع مختصرا، ومتجاوزا لكثير من المقولات والأراء الفلسفية والفكرية التى قيلت فى موضوعة النسوية ، وربما كان هزليا وساخرا بدرجة ما. لكننا أردنا أن نعرض الحكاية فى أبسط صورها. لنرد على الذين ينكرون أويقللون من شأن الكتابة النسوية. وظنى أنهم ضحايا سوء الفهم. إذ أن الكتابة النسوية ليست هى الكتابة التى تكتبها النساء. ولكنها الكتابة التى تضع فى اعتبارها كل هذا التاريخ وتلك الأفكارـ التى تناولناها هناـ وتمثل أيديولوجيا النساء وتظهر تجلياتها وأصداءها سواء فى اللغة أو الموضوع أو عمليات التناص مع تاريخ الحكاية النسوية.
 
أعلى