ناجح المعموري - ليفيناس.. الأنـا والآخـر

يتفق كل من قرأ : ايمانويل ليفيناس "بالصعوبة والتعقد وإلتواء العديد من أفكاره وطروحاته الفلسفية. وتبدى لنا مثيراً في علاقة تلقٍ متأخرة، لأننا تعرفنا عليه خلال فترة قصيرة وهذا كاف لتأشير تخلف الثقافة العربية، التي انتظرت تاريخاً طويلاً كي يترجم هذا المفكر المثير بكيفية تكوناته المعرفية، ابتداءً بهوسرل ومن بعده هايدجر.

وأكثر ما يثير الاندهاش فيما قرأت له هو الكلانية واللامتناهي، وأيضا "الايروس" وهذا هو موضوع مقالتي لهذا الأسبوع، لأن الجسد أكثر موضوعات الفلسفة منذ افلاطون حتى هذه اللحظة. واهتم به كل الفلاسفة، لكن تباينت رؤية كل منهم. ولان ليفناس فيلسوف الأنا والغيرية، قدم لنا محاضرة قصيرة، مختصرة، لا بل مركزة تماماً. وتعامل مع الآيروس بوصف الجسد طرفاً فاعل الحضور في الزمان. ولم يستطع التعامل مع الأنثى إلا عبر الزمان وكأنها الفاعل اللمسي في الكينونة، والمانحة للآخر طاقة لمس يدنو بالذات نحو الآخر / الأنثى أكثر فأكثر، ويأخذهما معاً نحو الموت. وهذا أهم الاقانيم التي ركزت عليها فلسفة ليفيناس، حيث اختزل فلسفته بالمربع : الله / الموت / الأنثى / الحرب. وقراءة في هذا التوصيف تضعنا وجهاً لوجه أمام الأنا / الذات التي تعامل معها باعتبارها الموجود والذي عبره اختلف مع هايدجر الذي منح الوجود / الكينونة حضوراً متعاياً. اما ليفيناس فهو المفكر الأول الذي دعا بالموجود حضوراً ومن بعد الوجود. وهذا يعني القطب الصعب / العصي في ثنائية الفكر الفلسفي، والتي انشغل بها كل الفلاسفة، واتسعت كثيراً. بسبب الانشغال بها عبر الدراسات الثقافية والمجال الثقافي. وتحولت جوهراً مركزياً في العلوم الاجتماعية، واهتماماتها بالتحولات الثقافية ضمن مشروع الهوية. ذات العلاقة المباشرة مع الموجود، ودور الوجود في بعث كل العنايات وتكريسها حول الهوية. وقراءة ليفيناس المتوفر لنا الآن جيداً، يفضي بنا ـ نحو الآخر ـ على الرغم من محاولاته الدائمة اختراق الثابت / المعروف المعرفي، ضمن اشتغالات العديد من الفلاسفة. لكنه لم يعلن قطعية معهم، بل حافظ على المشتركات الجوهرية، ولعل الأبرز فيها الأنا والآخر، أو الغيرية أو الوجه والأخير هو المثير ليس للسؤال، بل للدهشة، لأن ليفيناس أول من أطلق الوجه مجازاً على الغير أو الآخر، وصاغ فلسفته بلغة شعرية متسامية، هي التي أكدت لي مقولة هارتمان حول استجابة التاريخ / الأدب / الفلسفة للتأويل، والموقف مع ما سنقوله عن الآخر. يختلف تماماً وكلياً، وكأنه ذهب من خلاله نحو الكلانية واللامتناهي، لأن الشعر لديه ـ كما اتضح لي ـ ليس مرناً، بل صعباً، وصلداً، ومعقداً، لكنه غير منغلق، يفيض بدلالة الإله نابو، أو يفتح منافذ نقص الصورة كما اقترح الأستاذ ناظم عودة.
قلنا بأن ليفيناس تعامل مع الوجه باعتباره آخراً وأيضاً اعتبر الأنثى آخرا / وجهاً ومن هنا يمكن الدخول لموقف هذا المفكر حول الآيروس الذي اشرنا له سابقاً. الأنثى هي الآخر بالعلاقة مع الذكر، وتحمس ليفيناس كثيراً لتمنح المرأة حقوقها كاملة، بالتماثل مع حقوق الرجل، بعدما كان وظل تاريخاً طويلاً يتمتع بحقوق كبرى ووفرت له سطوة ثقافية على المرأة. وظل محتكراً لها. قال ليفيناس : أن الأنوثة هي للرجل الغيرية الخاصة بالمرأة والتي لا يقدر. على معرفتها عن طريق الحب والزواج. هذا رأى ذهب باتجاه سرية الأنثى ومخفيات خصائصها الجسدية التي لا يمكن التعرف عليها بسهولة، على الرغم من إنه في كتابة"الزمان والآخر"منح اللمس طاقة الدنو للآخر / الأنثى وهو ـ اللمس ـ كاف لتحقيق ما مطلوب من الذكر وما تريده الأنثى، ويفضي هذا الموقف الى أن اللمس شكل من أشكال الاتصال الذي، غير الادخالي، لكنه يتوفر على إمكانيات الإثارة وتحفيز الرغبة، وإثارة الشهوة لدى الأنا والآخر واعتقد بأن ليفيناس ذهب الى مجاورة ليست مكانية بين الأنثى والمذكر، ولكن بين الكامن الذي في جسديهما.
أن الاقتراب أكثر فاكثر من الغيرية / الأنثى ليست كافية للتعرف على سرديات جسد الأنثى، لان الأنوثة هي الكامن / والمجهول، السري، العميق، الذي يمثل غيرية الأنثى، أي يمكن الذهاب باتجاه رأي مغاير عن آراء فلسفية أخرى حول الجسد، وهو الجوهر الخاص بالنوع والذي يعني السر الخاص بالأنثى، وهو أنوثتها التي لا تتعجل الإعلان عن تحققها، لأنها معقدة، صعبة، تظل مقاومة على الرغم من استجابتها، حتى اللحظة التي تحين فيها ليونة الجوهر، ومرونة الأسرار، وتدفق ماء العين وامتزاجه مع ماء نازل، يلتقيان معاً بلحظة لا يقوى على الكائن / الأنثى / والمذكر السيطرة عليها، وإدامتها طويلاً وقال ليفيناس (الأنوثة ليست جسداً يمكن أدراك حدوده تحت الضوء، بل هي خاصية مختفية على الدوام وانطواء على الذات. كما لا يمكن اختزال علاقة الحب في مقابلة بين شخصين مختلفين يطمحان الى الانصهار في ذات واحدة عبر تقاسم لذة أبدية. أن الأنثى هي مستقبل مفتوح للرجل في الزمن الممزق، أنها طريقة للانعطاء تطل على الوجود وعلى العدم كحرارة متدفقة، أنها هشاشة مطلقة ومعطوبة / زهير الخويلدي / معان فلسفية / دار الفرقد / ط1 / دمشق 2009 ص/ 33//
كنا قد ذكرنا بأن الوجه يمثل الآخر في فلسفة ليفيناس، وسنعاود لاحقاً في الاقتراب منه أكثر، لكن ارتباط الأنوثة مع الجسد الخاص بالأنثى والحضور اللامتناهي للذة لحظة الاتصال والذي ربما لا يوفر فرصة التعرّف على الأنوثة وأيضا الدنو المكتشف على الرجولة... لكني اعتقد بأن استعارات هذا المفكر، تضع المتلقي وسط ارتباكات، مثلما تمنحه فرصة الاستعانة بدلالة نابو أو نقص الصورة عندما قال بشكل دقيق وقد تكرر اكثر من مرة في ما كتبه ليفيناس / أن الوجه ليلمع داخل أثر الآخر / ن.م / ص 32//
حتماً الحضور الاستعاري للغة ليفيناس غير غائب، لكن يربك المتلقي، من خلال تكرار المفردة، وهذا أبرز ما يمثل لغته الفلسفية... في المقطع الذي سجلناه اعتراف صريح، مع ميوله المستمرة، لتكتم على المعنى، من اجل تفعيل دلالة نابو، وتأتت له هذه الخاصية من الغنوصية والبلاغة التوراتية... ونستطيع أعادة صياغة ما قاله بطريقة أخرى، لكنها أكثر يسراً. أن الأنثى تلمع مع اندماج الأنا معها"لكن هذا التلاعب يفسد لغة هذا المفكر الذي سنعاود الكتابة عنه مرة أخرى، حول"الزمان والأخر"وثنائية الأنا والوجه، وهما ثنائية التشارك. لكن الغيرية الخاصة به تثير عدداً من الأسئلة، لأنه جعلها غريبة تماماً ومدهشة لكن الاقتراب منه يوفر فرصة الإمساك ولو بدلالة نابو الواحدة : أن الله والموت والأنثى والحرب هم الغيرية، والفضاء الرحب الذي ينبغي أن تنمي فيه الذات ذاتها / ن.م ص32
 
أعلى