دينو بوتزاتي - سر الكاتب!!.. ترجمة: أحمد عثمان

كنت خائر القوى وسعيدا .. مع ذلك لم ألمس قاع البئر بعد، يتبقى لي هامش صغير أخذت أبدده، على أمل أن أتمكن من التمتع به، فضلا عن ذلك، بلغت سنا متقدمة بحيث أنه من المرجح أنني لن أعيش طويلا .. منذ سنوات، كنت أتمتع بسمعة، سمعة مؤكدة أولا بأول، كاتب مرموق، إذ أن الانحدار كائن وحتمي .. مع كل نتاج أصدرته، قالوا أو على الأقل تخيلوا أنني هبطت درجة، وهكذا من سقطة إلى أخرى حتى الهاوية الحالية، هو ذا نتاجي، تلك هي المحصلة الكارثية، بحثتها بصبر وعناية، طوال ثلاثين عاما، حسبما خطة مقررة سلفا بعناية.
لكن هذا السقوط، كما تساءلوا، أليس ما رغبتموه؟ .. بالضبط، أيها السادة والسيدات، حزت، بما أنني كاتب، على نجاحات خيالية وتمتعت بشهرة عريضة، على وجه الإجمال، كنت محظوظا، لكنني أستطيع الوصول إلى البعيد، يكفي أن أريده حتى أتحصل بدون صعوبة على مجد عالمي .. وبعد، لا .. لم أرد .. على العكس، بقيت عند النقطة التي أدركتها – ساحل رائع، من الممكن القول مونتاروزا أو الهيمالايا – أن أهبط تدريجيا، أجوب ثانية الطريق العكسية بخطوات واسعة، أحيا أطوار الانحطاط المثير للشفقة، المثير للشفقة ظاهريا فقط، يا أصدقائي، لأنني جذبت كافة أشكال الرثاء، وهذا المساء، في هذه الصفحات -التي دسستها في مظروف مختوم لن يفض إلا بعد موتي- شرحت السبب كاشفا سري الطويل.
وقتذاك، كنت أبلغ أربعين عاما وأبحر ناشرا قلوعي على بحر النجاحات، حينما سطع الضوء في وجهي فجأة ذات يوم، المصير الذي أعددته والذي اتجهت صوبه، مصير المجد العالمي – أكرر – للإثباتات المثيرة، الشرف، الشعبية، الانتصارات المؤكدة في العالم بأسره، تبدى لي في خرابه البائس، لم يثر العنصر المادي اهتمامي إذ كنت أكثر ثراء مما تمنيت .. والباقي؟ ضجة التصفيق، نشوة الانتصار، الضوء الجذاب الذي باع الكثيرون أرواحهم بسببه إلى الشيطان؟ في كل مرة أتذوق فتات خبز، يلبث في فمي طعما مرا وشيئا من الجفاف.
بعد كل شئ – أقول في نفسي – ما هو الظهور الكبير للمجد؟ ببساطة: أحد ما يمشي في الشارع ويلتفت الناس ناحيته، ويهمهمون: هل رأيت ؟ أ هو؟ كل شئ هنا، ولا شئ أكثر، آه ! حقا أنه رضاء رائع ! وهذا، دونوه جيدا، لا يتأتى إلا في حالات استثنائية، حالة الشخصيات السياسية الهامة أو الفنانين المشهورين .. إذا كان الأمر يتعلق بكاتب بسيط، من النادر أن يعرفه أحد في الشارع في أيامنا الحالية .. لكن هناك الجانب السلبي، ليست صور الملل اليومي التي تقابلونها، الخطابات، مخابرات المعجبين الهاتفية، المقابلات الصحافية، الالتزامات، المؤتمرات الصحافية، الصور، الإذاعة، الخ، التي تثير الغضب، غير أن الفعل الذي سرني سبب كدر عميقا للبعض.
آآه ! رؤوس بعض الأصدقاء والزملاء، في أيامي المرحة! كم أصابني بالألم! كانوا أولادا طيبين، شرفاء ومجتهدين، ارتبطت معهم بروابط قديمة من المحبة، وبذا لن أجعلهم يقاسون! .. على حين غرة، سوف أحدد الآلام التي بعثرتها حولي بسبب جنوني المضحك عند القدوم .. أعترف أنني لم أفكر فيها ألبتة، وكابدت من تبكيت الضمير. فهمت أيضا أنه بمتابعة طريقي، سأجني أخبارا وانتصارات أكثر ثراء، لكن من ناحية مقابلة عذبت قلوبا عديدة لا تستحق ما فعلته بها .. العالم غني بالأحزان، إلا أن لدغات الحسد وسط الجراح الدامية والعميقة صعبة الشفاء وجديرة بإثارة الشفقة.
أتدارك، هو ذا ما يجب أن أفعله .. وهكذا أخذت قراري الكبير، على القمة التي بلغتها، امتلكت الإمكانية، شكرا للرب، لإنجاز الكثير من الأعمال الخيرة، أكثر من ذلك، سحقت نظرائي بنجاحاتي، وكانت المواساة عظيمة حتى أستطيع الآن، مع سقوطي، أن أقدمها لهم، في الواقع، ما هي اللذة وآلا تلاشى الألم؟ أليست متناسبة طرديا مع التوجع الذي سبقته؟ .. إذا، من الضروري أن أستمر في الكتابة، أن لا أخفف من إيقاع عملي، أن لا أعطي الإحساس باعتكاف إرادي، كي يكون حالي مواساة رهيفة لزملائي، لكن بالمخادعة العجيبة، أكتم موهبتي، أكتب أشياء، أقل روعة، أخفي ضعف ملكاتي الإبداعية وأزود من ينتظر مني ضربات عنيفة بالمفاجأة السارة لانهياري.
المشروع بسيط ظاهريا، لأن تحقيق الأشياء التافهة أو الشريرة لا يكلف أي تعب عادة، وفي الحقيقة صعب لسببين، بداية، يجب اقتلاع الأحكام السلبية من النقاد، الآن، أنتسب إلى فئة الكتاب المشهورين، الموسومين بالصلابة في السوق الجمالي، من الآن فصاعدا، يدخل الكلام الطيب عني إلى امتثالية الإرشاد الصارم .. والنقاد، كما نعرف، عندما يضعون فنانا على مقعد الاتهام، تلك مسألة لكي يغيروا رأيهم .. إجمالا، على افتراض أنهم لاحظوا أنني أنشأت أكتب تفاهات – هل لاحظوها؟ – يظل النقاد منغلقين في أماكنهم، وقد استمروا في تغطيتي بكافة أشكال المديح.
النقطة الثانية: الدم ليس ماء، وهذا يكلفني جهدا كبيرا حتى أكبح جماح اندفاع عبقريتي المضحك .. بين الأسطر، وان كنت مرغما على الخسة والوضاعة، هذا الثور ذو القوة الخارقة من الممكن أن يضعف، ارتداء شخصية أخرى، بالنسبة للفنان، بقعة كبيرة، وان كانت نيته التقليد ألردئ، مع ذلك، طوال سنوات عديدة، قمعت طبيعتي المتهورة: عرفت أن أكتم رغبتي، بدقة تكفي مستقبلا أن تشهد على عظمة موهبتي، كتبت كتبا لا تشبهني، ركيكة، فاقدة نفحة الإلهام، بلا ذيل ولا رأس، ذات حبكات رديئة، سمات مفككة وأسلوب صعب، انتحار أدبي بطئ.
ووجوه الأصدقاء والزملاء، مع كل كتاب جديد، صافية ومريحة نوعا ما .. تدريجيا، تخففت من الثقل المقلق للحسد، يا للبؤساء! .. استعادوا ثقتهم بأنفسهم، تلاقوا في سلام مع الحياة، أنشأوا يختارون التعلق الحقيقي لي، فرحوا من جديد، ظللت لفترة طويلة شوكة نامية في أعماق جسدهم، الآن، رحت أقتلع هذه الشوكة المسمومة، وهاهم جميعا مرتاحون .. ضعف التصفيق، والظل سقط علي، مع ذلك أعيش سعيدا، لا أحس بالنفس الخداعة للإعجاب، وانما بموجة الصلاح الدافئ والامتنان، وجدت في أصوات الزملاء هذه النبرة الواضحة، الغضة، السخية منذ القدم حينما كنا صغارا لا نعرف شيئا عن بؤس الحياة.
لكن – تتساءلون – أ تكتب لدزينة من الأصدقاء؟ أهذا مصيرك؟ والجمهور؟ الحشد العريض من المعاصرين والأجيال القادمة الذي ستخفف عنه؟ إذا هل كان فنك رديئا؟ .. أجيب: حقا، الالتزام الذي أعينه تجاه أصدقائي وزملائي لا يعد سوى حماقة مقارنة بالحماقة التي وجهتها إزاء الإنسانية .. بيد أنني لم أحقق شيئا لمستقبلي، لم أثر الجمهور المشتت على سطح الأرض، وكذا أجيال الألفية الثانية.
خفية، خلال سنوات، فعلت كل ما أملي علي، حررت كتبي الحقيقية ، التي رفعتني إلى سماء المجد .. حررتها وأودعتها صندوقا كبيرا قابعا في غرفة نومي .. هناك اثنى عشر جزءا ستقرأونها بعد موتي .. هكذا، لن يجد أصدقائي سببا للتذمر، نصفح بطيبة خاطر عن أي شئ للمتوفي، وان أبدع نتاجات رائعة باقية على مدى الزمن، سيضحكون، أصدقائي، وهم يهزون الرأس برفق .. “قدم لنا شيئا طيبا، هذا الجمل العجوز! ونحن من اعتقدنا أنه سقط في مرحلة الطفولة!”.
أيا كان الأمر، أنا… في هذا المكان انتهت المخطوطة .. لم يستطع الكاتب العجوز أن يذهب بعيدا لأن الموت باغته .. وجدناه جالسا على مقعده .. رأسه البيضاء ساكنة، في استسلام عال، إلى جانبه قلمه منكسر على الورقة .. أقرباؤه، بعد أن قرأوا، أخذوا يفتشون الصندوق. . أحصوا اثنى عشر قميصا .. في كل قميص مئات القصاصات. وعلى كل قصاصة، لا شئ.
 
أعلى