حيدر المحسن - «الثورة الجنسية» في عالم الأدب: تفكيك الماضي

سُئِل الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا عن الجنس المبذول في رواياته، وأجاب بأنه علينا أن لا ننسى أجسادنا، فهي تحاول أن تثبت قدرتنا في أن نكون، وبدأ مورافيا يشرح للصحافي كيف أن التطور السريع الذي شهدته أوروبا في العقود الأخيرة يعود بالدرجة الأساس إلى الثورة الجنسية، التي جاء بها فرويد، العالم النمساوي الذي أثبت أن الجنس هو أحد حاجات الجسد الغريزية، مثل الجوع والعطش والحاجة إلى الراحة والنوم، إشباع الغريزة لدينا يؤدي بالنتيجة إلى عافية البدن. يبدأ فرويد مبحثه الأول في نظرية الجنس بهذا الكشف:
«تلجأ البيولوجيا، لغرض تفسير الحاجات الجنسية لدى الإنسان والحيوان، إلى فرضية وجود غريزة تغذية لتفسير الجوع. غير أن اللغة الشعبية لا تحتوي، في مضمار الحاجة الجنسية، على لفظة مقابلة لكلمة الجوع؛ وعلى هذا فإن اللغة العلمية تستخدم لفظة الليبيدو».

الجنس والمجتمع

عُدت هذه الأفكار في زمنها انعطافا خطيرا في نظرة العلماء والمفكرين إلى الوجود. أعطى العالم النمساوي اسما لِلَذة الجسد، كأنه كان يكتشفها لأول مرة، أزال ورقة التوت التي كان يتستر بها الجميع، وأدخلهم إلى الجنة. إنه فعل ثوري حقيقي يؤكده الواقع في كل مكان، لكن غريزة تغذية الجوع الجنسي مشروحة بصورة مفصلة في قصيدة «أيام عام 1896» لكافافيس، وتحتاج منا فقط إضافة المعنى (الثوري) إليها:
«انحدر به الحال تماما، وكان السبب في ذلك ميوله الشبقية… كان المجتمع محافظا إلى أقصى حد، ومتزمتا».
كان الشاب يعيش الثورة الجنسية التي عناها فرويد في أبحاثه، فهو يعلن ما يريد المجتمع إضماره، هنالك تحرك من الحذر الشديد إلى الصراحة في الانغماس الذاتي في الفعل الجنسي، والشاعر يدافع عن الشاب، بطل القصيدة، رغم انحدار حاله في نظر الجميع:
«وراح يخسر ماله، وكان قليلا على أي حال. ثم راح يخسر بالتدريج مكانته الاجتماعية، ومن بعدها سمعته».
لا توجد غنائية ضافرة في القصيدة، ولا شعرية فريدة، بل إن موضوعها المهيمن هو معالجة الجنسية المثلية بصورة طليعية وصريحة، شكّلت في وقتها صدمة للجميع، ولم يستسغها أحد من الشعراء أو النقاد أولَ الأمر، ويمضي الشاعر في دفاعه عن الشاب، بطل القصيدة:
«هناك زاوية أخرى، لو نُظِر إلى الأمر منها، فسوف تنجذب نحو هذا الشاب القلوب، إذ سيبدو ابنا للحب غير مزيف. لم يتردد في أن يضع الحس الخالص بالجسد المصفى في مقام أعلى من السمعة والشرف. أي سمعة، وأي شرف، وذلك المجتمع المتزمت ضيق الأفق، كانت قيمه خاطئةً كل الخطأ».
يقوم الشاعر، بتعريفه المعاصر والجديد للخطيئة، بكشف الطريقة التي علينا أن نفهم بها موضوع الشرف، وهذا يتم بصورة غير مباشرة، وليس بطريقة خطابية أو وعظية، مما عهدناه في الشعر التعليمي، أو في خطاب الكنيسة.
كان الموضوع الأهم لدى كافافيس هو الفهم العميق لسيكولوجية اللذة، وكيفية النزول إلى أعماق النفس ببطء، واكتشافها على مهل. هل يمكننا عد قصائد كافافيس الإيروسية مباحثَ في علم النفس الفرويدي، وكان الاثنان يتوصلان إلى نتائجَ مبهرةٍ في الحقبة الزمنية نفسها، رغم آلاف الأميال التي تبعد بينهما، وعدم معرفة الأول بما يقوم به رفيقه، مع الاختلاف الشاسع بين الأدوات المستعملة؟ لكن المدهش في الأمر أنهما توصلا إلى نتيجة واحدة هي ما يمكن أن ندعوه بتشريح اللذة، حيث قام بها فرويد عن طريق استبصار تلافيف النفس، وعدته دراسة الطب والفيزيولوجيا والأدب، بينما اكتفى كافافيس ببصيرته النفسية وحدها، وتوصل إلى النتائج ذاتها.
في ما عدا قصيدة واحدة يعلن كافافيس فيها عن ندمه على حبه «العاقر والمرفوض» وهي قصيدة تحمل عنوانا يتناقض مع فحواها، هو (قسم):
«من آن إلى آخر يقسم بأن يبدأ حياة أفضل
لكن عندما يأتي الليل بنصائحه ومصالحته ووعوده –
عندما يأتي الليل بعنفوانه»
ما بين العنوان والخذلان الذي يصيب صاحب القسَم، سخرية متعمدة ومقصودة من قبل الشاعر، والنتيجة التي خَلُصَت إليها القصيدة هي أن الخطيئة أمر مفروغ منه في حياة البشر، فلا فرق إذن بين وجود القسَم الديني وعدم وجوده، وكأنه بات أُلهِيَةً نتسلى بها من وقت إلى آخر. كيف تكون ردة فعل الجمهور الذي يقرأ لأول مرة هذا الكلام:
ارتويا حبا. نهضا من البساط،
ارتديا ملابسهما، مسرعين، صامتين.
وخرجا منفصلين، متسللين من المنزل
وحينما كانا يسيران، مرتبكين، في الشارع
كانا يحسبان أن شيئا فيهما
يفضح نوع الفراش الذي تمددا عليه منذ لحظات»
لا يوجد معنى داخلي في الحدث الذي تصفه القصيدة، وهذه إحدى صفات الشعر الذي تغلب عليه طبيعة السرد، لكن القارئ يكتشف بسهولة أن كل ما تعود عليه الشابان في السابق تغير بعد هذا اللقاء العابر، فهما يستشرفان أرضا غير مأهولة تمدهما بقوة جديدة مصدرها تلك اللذات الجنسية العميقة التي يطلبها الشاعر. المعنى الظاهر والخفي محبوكان بمهارة فائقة، وهناك ميل إلى الاعتناء بالجانب الملغز من الحياة أكثر منه إلى الناحية الواقعية، فعن طريقه تحدث انبثاقات البطولة في حياتنا، وهي ليست البطولة الصاخبة، بالطبع، إنما الهادئة والساكنة، التي تجعل الواحد منا يتقبل الحياة دون إفراط في الأوهام:
«لكن كيف اغتنت حياة الفنان!
غدا، أو بعد غد، أو بعد سنين، ستُكتب
ستُكتب سطور الشعر العارمة التي كانت بدايتها هنا».

العادي صار فريدا ومُكرسا، والخاص بات عاما ودائما، وبالإضافة إلى قابلية الشاعر لاستخلاص المغزى الشمولي للعمل الجنسي، هناك ثروة من المعاني في هذه الملذات يمنحها الشاعر تكوينا ثقافيا أولا، وتكوينا فلسفيا ثانيا، ويجعل لها رداء دينيا جديدا يتحدى به رجال الكنيسة، لأن هؤلاء لن يقبلوا بهذا الكلام، وليس بمقدورهم أبدا التسليم بالتشابه في الماهية بين الإنسان والحيوان، أو يستطيعوا -والكلام للطبيب النفساني- أن يتنازلوا عن فكرة الروح وخلودها، التي هم في أمس الحاجة إليها من أجل إقامة المطلب الأخلاقي الذي ينشدونه على أساس مكين. عمل كافافيس هذا يشابه ما كان يفعله الطبيب النمساوي عند تشريحه جسدَ الإنسان لا بالطريقة القديمة، لكن بعدة جديدة هذه المرة، ولأول مرة يرى العلم والأدب، وكذلك الدين، موضوع الروح وقد أزيل من على طاولة النقاش، وصارت النفس تحتل مكانه.
«لن أخاف من شهواتي كالجبان
سأكرس جسدي للمتع الحسية
وفي اللحظات الحرجة، لسوف أعيد اكتشاف
نفسي، مثلما كانت، زاهدة»
هي الثورة الجنسية التي يتحدث عنها مورافيا، ويعتبرها السبب الرئيسي للنهضة التي شهدها الغرب، بعد كشوفات فرويد في تشريح اللذة، وتغليبه النفس على الروح. إن أفدح التضحيات هي تلك التي يضحي فيها الإنسان بالروابط التي تحتل مركز القداسة في قلبه، ولا توجد أفكار – عدا ما كان يدور من أعراف لدى الناس طوال العصور الوثنية القديمة – سبقت ما توصل إليه فرويد في تشخيص الليبيدو، وتعيين مكانه في جسد الإنسان، وهذا مشابه تماما لما كان يترنم به كافافيس بالخطيئة وباللذة، وإن كانت صادمة للمجتمع، لا بوصفها منعطفًا أخلاقيا يمس أول الأمر شرفَ المرء، لكننا نجد بدلا من ذلك تثمينا واضحا لقوة الإنسان، رغم نقائصه. وكأن الشاعر يعرض على الملأ نظرية في علم الاجتماع لا شعرا يسمَعُه الجمهور ويطرب. في قصيدة «أيام ديسمبر» 1903 يدافع كافافيس عن رنين صوت حبيبه الذي «يحفظه في عقله» وعن لذة جسده العارمة، وقد صارت لهما وظيفة غير المهمة الوجْدية، فهي:
«تمنح كلماتي وعباراتي الشكل واللون،
أيا ما كان الموضوع الذي أتناوله،
أيا ما كانت الفكرة التي أنطقها».
العار الذي كان يلاحق مرتكبَ الخطيئة ينقلب فجأة إلى انتصار أكيد، وهكذا تنتهي المعركة التي دامت قرونا، والتي كانت تمثل الصراع بين الخير والشر، أو بين الخطيئة والفضيلة… انتهت الحرب السجال إلى أن الفرد الواحد منا يستطيع أن يهزم الملايينَ من الأعداء الأحياء والأموات، وسلاحه الوحيد – بالنسبة إلى كافافيس – هو «حب عاقر ومرفوض» وكل حب في الماضي كان يعد عاقرا وملعونا. لا توجد علاقة حقيقية بين حاجات الجسد، وما يُعرف بالخير والشر والخطيئة والفضيلة، هنالك أمور حياتية شتى يثبت الخير فيها نفسه، وكذلك الفضيلة، وهما قطبا العالم الأخلاقي اللذان تدور حولهما أقانيم الدين، وقد جاء اليوم من يثبت بواسطة العلم بأن كل هذا وهْم وزيف، وليس له وجود حقيقي سوى في ذهن من يعتنق هذا الرأي، فالحياة في الأخير يجب أن تبرر ذاتها بذاتها. يقول كافكا: إذا أردت أن تبلغ مكانا، سر في الاتجاه المعاكس له، تصله لا محالة. ويقول فرويد: الفرضية القائلة بأن كل ما يتعلق بالجنس هو دنيء وشنيع، والجمع بين هذا الموضوع والخطيئة والفضيلة، كل هذا ما هو إلا تعلات سخيفة في نظري، ويصعب عليّ أن أفندها تفنيدا جادا. كما أن الاستقامة التي يعلي الجميع من كعبها لا علاقة لها بالخلل – الجوع – الذي يصيب الغريزة، ولسوف يجد هذا مكانه حتما في مرض عضوي يصيب أحد أعضاء البدن؛ المعدة أو القلب أو.. حتى العقل». ويذكر كافافيس في معنى مشابه فقرات من خطاب شاب اسمه إيميوس اشتهر بانحلاله الأخلاقي:
«بل إن الذي يجب أن يبتغي فضلا عن ذلك، فهو المتعة التي تستبد بالجسد حتى لتنحرف به إلى حد المرض، حيث لا يجد ذلك الجسد إلا نادرا، الجسد الذي يتلاقى معه في المرتجى». الشاب إيميوس من اختراع الشاعر، ولا وجود له في الحقيقة. وفي المقابل نرى الطبيب النمساوي يتوصل إلى كلام قريب جدا مما قاله الشاب. يقول فرويد: «إن الأذى الذي تتعرض له حياتنا الجنسية هو أهم مصدر للأمراض العصابية واسعة الانتشار. كما أن جميع العوامل المضرة بالحياة الجنسية هي عوامل مسببة للمرض. الكبت الجنسي يؤدي إلى الهستيريا والعصاب الوسواسي، وغير ذلك من أمراض عضوية ونفسية». يواصل الشاب إيميوس خطابه، وكان يدافع فيه عن نفسه: «لكن تلك المتعة المسببة للمرض توفر على أي حال من ممارسات الحب ما ليس بإمكان الأسوياء أن يعرفوه». بنوع من الهزل الجاد يستبدل كافافيس الأسوياء في القصيدة بالمرضى، وهذه كانت أطروحة فرويد التي فاجأ بها الجميع؛ الأصحاء في نظر المجتمع يحملون كل أمراض النفس والجسد، وأما (المرضى) في رأي الكنيسة فهم الأسوياء حقا بيننا.
هنالك قولٌ شهير – لإليوت – هو أن الشعر العظيم يبدل من فهمنا للشعر القديم، لكن ما جاء به كافافيس أدى بالعلم القديم إلى أن يتغير، والدين القديم، والحياة كلها استبدلت بغيرها، وكأنه قام بنقل الأرضين والسماوات إلى كوكب آخر، وقصائده كانت نبوءة تبشر بما سوف يجري على تربته وتحت سمائه من حياة مختلفة.

كاتب عراقي




 
أعلى