أسامة غانم - الشِعْريَةُ التأويلية في اللحظة الشعّرية

الشعر هو لحظة وجودية – ذاتية خالصة ، يجب أن يعطي في قصيدة ، رؤية صورية تعتمد على المتخيل والواقعي للعالم وللإنسان ، من خلال البحث عن اللحظة ، ليس في حاجة الا للحَظة ذاتية ملتهبة ، متوهجة ، اللحظة التي تصنع الفارق . لذا فهو يخلق اللحظة السحرية الايحائية ، ليكوّن المعنى ، فالواقع الحقيقي للزمن يكمن في زمنية اللحظة ولا يوجد خارج اللحظة الا العدم ، عليه فاللحظة الشعرية هي إذن " بالضرورة مُركّبة : انها تُحِرّك الشعور ، تبرهن ، تدعو ، تؤاسي ، إنها مذهلة واعتيادية ، وللإمساك بهذه اللحظة المُرسَخة، بزمن ارتجاعي يأتي ليُنجز لحظاتٍ تامة . اننا ، والحالة هذه ، نحيا متأخرين ، اللحظات التي كان سيتحتم علينا أن نحياها " 1 ، ولأنها لحظة وعي يعتمد على رؤية باطنية متتابعة ، تتوقف حين تتكامل القصيدة ، ولان كل ما ينفي التاريخ الخاص ، كل ما ينقض قيمة الماضي والمستقبل في آن واحد ، يوحد في اللحظة الشعرية ، لأن ذاتنا " لا تعي نفسها الا في اللحظة الحاضرة فكيف لا نلاحظ ان اللحظة الحاضرة هي المجال الوحيد الذي يُدرك فيه الواقع ، ذلك انه ينبغي لنا أن ننطلق من انفسنا لا ثبات الوجود حتى ولو أدى بنا ذلك فيما بعد إلى التخلص من ذاتنا " 2 . ويرى ادونيس أن الشعر رؤيا تحاول التشكل ولن تتشكل ، تحاول الاكتمال ولن تكتمل ، لأنها تظل مشروعاً مستقبلياً غير منجز ، وإن وعي " الشاعر لذاته لا يبدأ من التاريخ ، أو من الماضي ، بل يبدأ من ذاته نفسها – وذاته في يقظة دائمة ، ففي كل لحظة . يعيش ويفكر ويخلق كأنما للمرة الأولى . فهو لا يؤرخ بل يستبق " 3 .
أن الشِعْريَة هي نظرية لدراسة الأنساق الحاكمة في بناء النص الأدبي ، وانماط الخطاب الأدبي الفاعلة فيه . لهذا نجد تودوروف يحدد في اطار الِشعْريَة ، مجموعة مظاهر ومستويات لدراسة النصوص ، حيث يعتقد بثباتها واستقرارها في الخطاب الأدبي ، ويقسمها الى ثلاثة محاور : اللفظي – التركيبي – الدلالي ، ولو علمنا أن الشِعْريَةُ تشدد على وظيفة الأدب التي تتأسس على الوظيفة الجمالية ، أي بمعنى أن الأدب يتميز بالوظيفة الجمالية او الشعرية ، التي تقوم على اسقاط المحور الدلالي على المحور التركيبي ، على اعتبار العمل الفني " شيئاً اصطناعياً ، أو إبداعاً إنسانياً له وظيفة جمالية " 4، وليس هذا فحسب بل يعتبر رومان ياكوبسون ( 1896- 1982 ) الوظيفة الِشعْريّة " عنصر فريد . عنصر لا يمكن اختزاله بشكل ميكانيكياً الى عناصر أخرى . هذه العنصر ينبغي تعريته والكشف عن استقلاله " 5 ، وبالذات استقلالية العنصر الجمالي ووظيفته . وهي تبحث في العناصر المحققة للجمالية لا في الشعر فحسب بل بالأجناس الأدبية كلها مع احتفاظ كل نوع بقوانينه الخاصة التي تحقق له هذا التمايز الجمالي . هنا الطرح يفرض علينا أن نتسأل : كيف تتجلى الشِعْريَة ؟ انها تتجلى في " كون الكلمة تدرك بوصفها كلمة وليست مجّرد بديل عن الشيء المسمّى ولا كانبثاق للانفعال . وتتجلى في كون الكلمات وتركيبها ودلالتها وشكلها الخارجي والداخلي مجرد أمارات مختلفة عن الواقع . بل لها وزنها الخاص وقيمتها الخاصة "6، ويرى ياكوبسون أن الشِعْريّة فرع من اللسانيات ولا مفتاح لقراءة الاثر الفني الا باللسانيات ، رغم أن هدف الدراسة المنهجية للأدب لديه ليس الأدب بل الشِعْريّة .
إما مفهوم الشِعْريَة عند جيرار جينيت فيختلف تعريفه عن كل الدارسين له ، حيث يقول " ليس النص هو موضوع الشِعْريّة ، بل جامعُ النص ، أي مجموع الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي اليها كلُ نصٍ على حدةٍ . ونذكر من بين هذه الأنواع : أصناف الخطابات ، وصيغ التعبير ، والأجناس الأدبية " 7.
تعتبر اللغة الشعرية ركناً أساسياً مهماً من الشِعْريَة ، لذا تكون اللغة الشعرية محوراً سائداً في الشِعْريَة على اعتبار ان الشعر أعلى النصوص الأدبية شاعرية لأنه : " الفضاء الذي تختمر فيه عوالم الجمال والاثارة والمجاز والتخيل وما يكتنفها من أجواء ضبابية تأسر وجدان المتلقي " 8، أن اللغة الشعّرية في اثناء اشتغالها على اللغة وبناء الصورة الشعرية تعمل على هدم المنطق وتفكيك بنية الكلام وبنية النص الشعري ، لتؤسس منطقها الخاص بها ، واليات وتقنيات اشتغالها ايضاً ، وبذلك تنقل اللغة من الوظيفة التفاعلية القائمة على الوضوح الى الوظيفة الشعرية القائمة على الابهام والتضليل الدلالي ، أي أن اللغة الشعّرية تعمل على نسف وهدم الوظيفة التفاعلية للغة كوسيلة نقل معرفية ، وليس هذا فحسب ، بل إنّ من انجازات الشِعْريَة المهمة جداً ، هي انفتاح النصوص الأدبية على التأويل مع المحافظة على خصوصية كل منهم والتمتع بجماليته والتركيز على اوجه الاختلاف فيهم ، وبما أن اللغة بنظر التأويل هي دائماً موضع تساؤل ، وخاصة اللغة الشعّرية التي لا تفصح عن نفسها الا من خلال الرموز والمجازات والاستعارة ، مما يفتح المجال للتساؤل والتواصل ، وهذه مهمة عملية التأويل ، غم انها " تهتم الشِعْريَة بالمعنى الواسع للكلمة بالوظيفة الشعرية لا في الشعر فحسب ، حيث تهيمن هذه الوظيفة على الوظائف الاخرى للغة . وانما تهتم بها أيضاً خارج الشعر " 9 ، فموضوع الشعرية ليس الشعر وانما الوظيفة الشعرية وخصائصها ، ولذا تبقى الشعرية نتاج التأويل ، والتأويل يؤدي الى الشعرية ، رغم أن النص الشعري ينهض على التأويل ، بالتوازي مع شعريته ، مع استثماره لهذه الطاقات الشعرية كلما اراد أن يتعمق في النص . بالرغم من أن المدلول الشعري يتميز بأنه " يحيل ولا يحيل ، معاً ، إلى مرجع مَعّين ، إنه موجود وغيرُ موجود . فهو في الآن نفسه كائن ولا كائن . يبدو أن اللغة الشعرية في لحظة اولى تَعيّنُ ما هو كائن ، أي ما يعيّنه الكلام ( المنطق ) كموجود ، إلا أن هذه المدلولات التي ‘ تدّعي ‘ الإحالة إلى مراجع محدّدة ، تُدمج في داخلها فجأة أطرافاً يعّينها الكلام (المنطق ) كأطراف غير موجودة " 10 .
وهذا ما نجده في لغة الصور الشعرية الواقعية المخيفة لـ موفق محمد ، عندما قام باسطرة هذا الواقع بإضافة فانتازيا سينمائية محالة الى ما وراء الواقع في تشكيلها له ، ليعطي معنى خاصّ به يتشكل في ذهن المتلقي من خلال التأويل :
في براد الموتى
وبعيون مرعوبة
ميز وجه اخيه في جبهته المثقوبة
فرأى اما معطوبة
وغرابا ينقر في عين ابيه .
إن العملية التأويلية تعيد بناء النص وفق رؤية المؤوّل ، وهذا معناه أن هنالك رؤيتين ، رؤية المؤلف – الشاعر / النص . و رؤية المؤوّل – الناقد /النص ، فتكون نقطة التقاهما اذا في النص ، وفي هذه الحالة يكون المؤلف قد غادر النص بينما المؤول / الناقد قد بدأ يتعامل مع النص ، ولتحقيق رؤية المؤول تكون من خلال قراءة على قراءة وهذا ما يسعى الى تحقيقه النقد الثقافي إذ يبحث عن كل ما هو مستتر ومخفي ، لذا تعد شِعْريَة التأويل من الموجهات الابستمولوجية في الحفر والتنقيب للنص الذي يعتمد في تحقيق نجاح تأويله على عملية قرائية تمتلك اليات ثقافية فاعلة ورصينة تسعى الى فك شفرات النص وسبر اغواره وكشف الغموض الذي يكتنف مضامين النص ، من هنا يفرض التأويل نفسه اداة لقراءة الشعر المعاصر بالانفتاح على الآخر .
وبالاستناد الى النقد الثقافي نستطيع دمج الشِعْريَة التي تشتغل بفاعلية على دراسة الانساق والخطابات المتواجدة في النص ، بالعملية التأويلية التي تعمل على اعادة بناء النص ، عندئذ من خلال هذا الدمج تتحقق لنا امكانية العبور الى اللحظة الشعرية ، ومعرفة المنابع التي تستند عليها اللحظة التي هي : المعرفية و الجمالية ، والعمل على تحرير الطاقة الشعرية المختبئة لتفتح لنا آفاقها نحو التعدد الدلالي وتعدد المعاني واختلاف التأويلات وتباين الرؤى ، من هذا المنظور ، يُعَدّ التأويل كما يقول ريكور " عمل الفكر الذي يقوم على تفكيك المعنى الكامن في المعنى الظاهر ، على نشر مُستويات الدلالة الكامنة في الدلالة الأدبية "11 . وذلك بالاعتماد على عملية الفهم التي تناولها غادامير بشكل مُوسع باعتبارها ركنا اساسيا ، فالفهم عنده يبدو حَدَث يرتبط بفعل التاريخ كما يقول في كتابه الحقيقة والمنهج : " علينا أن نفكّر في الفهم بحدّ ذاته لا بوصفه فعل الذاتية ، بقدْر ما هو إدراج في حَدَث تراث ، حيث يُصار الى توسيط الماضي والحاضر بشكل مُستمرّ هذا ما يجب أن نعترف به في النظرية التأويلية التي تُسيطر عليها افكار الإجراء والمنهج " 12 ، فالفهم يعني استيعاب المعنى . يعني رؤية الصورة بشكلها الحقيقي ، يعني الالمام الشامل بكل الجزئيات للخروج برؤية مكثفة عميقة ذات فهماً افضل واعمق .
فمثلاً ، شعر سليم بركات يحتاج الى مُتَلَقٍ مُضَعَف ، عميق الثقافة ، متأني في قراءته ، يبحث عن المعنى الخاتل / المختفي في ما وراء المعنى الظاهر ، لأن الشاعر سليم بركات ، يستخدم لغة خاصة به ، تمتلك صفات لا يشاركه بها أحد : التميز ، التفرد ، الاختلاف ، الخصوصية ، الدهشة ، نستطيع العثور فيها ( أي الصورة الشعرية ) من خلال المخيلة المكثفة على الكثير من الدلالات – الرمزية ، المتجاوزة للعادي الى الايحاء والاشارة ، تكون اللغة فيها هي الوسيلة والغاية ، لأن اللغة عنده تتجاوز ذاتها ، وذلك عندما تؤسس وطن في اللغة ، فمن خلال الواقعية تنبثق الفانتازيا السحرية :
آغفري يا صباحاتٌ ، فقد رأينا النساءَ يدلفْنَ من
الليل إلى الليل ، والنهارُ ملقىً بين خلاخيلهُنَ على
المُنْعَطف . رأينا النساء هادئاتٍ يجمعنَ أرحامهنَ
-كما يَجْمَعْنَ الكَمَا – في السِلال ، وسمعنا رنينَ الدم
في الفِلْز ، وصعودَ الأرض دونما صخبٍ الى حيث
ينسى الهواءُ الهواءَ ، ويكسرُ الموجُ دوارقهُ تحت جُزَةِ
الذبيحةِ . آغفري يا صباحاتُ ، واخْتصرْ أيها
الترجمانُ :
كلُ آتٍ دمُ ،
كلُ آتٍ دمُ .13 .
هذا ما عبر عنه غاستون باشلار في ادراك دَلالة الكلمة الشعرية ، أي فينومينولوجيا الخيال ، لأن القصيدة عنده هي التي تَلد الصُورة الشعرية ، عندما " تتحول إلى وُجُود جديد لِلُغَتِنَا ، وتعبّرُ عنَا وهي تُحوَلُنا إلى ما تُعبر عنه ، وبكلمات أخرى ، إنها في الآن نفسه عمل التعبير وعمل وُجودنا , العبارة تخلق وُجوداً . . إننا عاجزون عن التفكير في فضاءٍ ما قد يكون سابقاً عن لُغتنا الخاصة " 14 . وبذلك يتحقق عمل المؤوَل المُضَعف كما اسلفنا في اكتشاف المعنى المضمر لأنه المعنى الحقيقي . وبهذا يكون المتلقي مطالباً برفع مستوى قدرته على اكتشاف فضاءات اللغة وتأويلها ، وذلك لأنه لم يعد خارج العمل الشعري بل يصبح محوراً مهماً في تشكيل الرؤية الشاملة للعمل .
يعدُ ادونيس من أهم الشعراء العرب في العصر الحديث وأكثرهم اثارةً للجدل ، كونه شاعراً حداثياً متمرداً على المنظومة الشعرية العربية ، حيث يعدُ التأويل والرمز من صميم تجربة ادونيس كونه شاعراً تأويلياً بلا جدل ، وتعد الصور التأويلية – الرمزية في شعره من أهم العناصر في القصيدة لديه ، فهو يتخذ في معظم اعماله الشعرية التأويلية – الرمزية ابعاداً متعددة تؤدي الى تعدد المعاني ، لأن الكلمة عنده مصاغة أساساً لتكون متعددة المعاني ،وهذا ما يجعل القصيدة مملوءة بالرؤية التأويلية التي تتشظى عند القراءة ، كما يقوم التأويل عند ادونيس على الرمزية والغموض ، فالمفردات الشعرية الغامضة المبطنة بالتأويل تحتاج الى ناقد يعمل فيها على قراءة تأويلية مُعْمقة تبحث عن المضمر والخاتل والمستور ايضاً ، بهدف الوصول إلى دلالات عميقة ، للالتقاء عند المعنى الحقيقي فهو يعمل من خلال هذه الصور أن يجسّد الفكرة التي يطرحها ويبثها في القصيدة ، فهو ينطلق من الواقع الى الحلم ، حلم القصيدة ذاتها ، كما قال : " أنا من الحلم ، أريدُ أن تكون القصيدة حلماً " ، ليس ذلك فحسب ، فهو يقوم بتحميل القصيدة وظيفة اضافية ثقيلة عندما يدفعها للمحاولة على تغيير الواقع وليس تفسيره فقط ، كما اشتغال على ذلك في قصيدة " فصل الصعود إلى ابراج الموت " ، صورة شعرية مثقلة بالدلالات – الرمزية ، فكل كلمة فيها قصيدة ، وكل بيت يحتاج الى مرجعيات : تاريخية – سياسية – ثقافية - سوسيولوجية ، ففيها يتجسد الواقع العربي المظلم، منذ الردة الاولى ، ووأد الحلم في العقيدة ، وضياع الأمل في النبوة :
أسمعُ صوتاً يجرٌ على الرّمل ايامه الثقيلةْ
أسمع أحلامه القتيلة
كل حْلمٍ قبيلة
والخيامٌ حناجرُ مشدودةُ الحبالٌ صلاةُ :
-" عَلّقينا هنالك ، بالنخل بالعشُب
حيث الحياة
واربطينا الى الماءِ ...
-" لا ماءَ ، لا عاصمُ ، والنبيون ماتوا " 15 .
لنعد الآن إلى العلاقة بين الشِعْريَة والتأويل واللحظة .
إن العلاقة بين الشَعْريَة والتأويل هي بامتياز علاقة تكامل . إن التأويل يسبق الشعرية ويليها في الآن نفسه ، فمفاهيم تم نحُتها حسب متطلبات التحليل الملموس ، ولا يستطيع التحليل بدوره أن يتقدم خطوة واحدة إلا باستعمال الأدوات التي يصُطنعُهَا المذهب " 16. وهذا لا يمنع من إن نقوم بالتمييز بين اهداف الشعرية واهداف التأويل تمييزاً دقيقاً .
وكذلك علاقة الشِعْريَة باللحظة هي بامتياز علاقة تداخل وتفاعل . لأن اللحظة الشعرية تُحْسب على اللحظة التاريخية الكتابية بينما الشِعْريَة تُحْسب على اللحظة التاريخية القرائية ، ولا تتم عملية التفاعل الا من خلال جدلية قرائية – متحركة / كتابية – ساكنة ، فلحظة الكتابة تسبق دائما لحظة القراءة ، لذا إن الناقد " يقول شيئاً آخر لا يقوله العمل المدروس عندما تنضاف الكتابة إلى القراءة المجرّدة ، حتى وأن ادّعى قول الشيء نفسه " 17. وهذا من نتائج جماليات لحظة القراءة المؤدية الى الكتابة النقدية ( أي الكتابة الشِعْريَة ) .
إذاً ، العلاقة بين الصورة الشعرية واللحظة ، علاقة قائمة على كثافة الرموز والدلالات والايحاءات ، المتعددة ، المفتوحة على كافة الخطابات ، والتي يعتمد عليها الشاعر ، ويعبر ادونيس عن ذلك حينما يقول " إن مسألة التعبير الشعري مسألة انفعال وحساسية وتوتر ورؤيا ، لا مسألة نحو وقواعد ، ويعود جمال اللغة في الشعر الى نظام المفردات وعلاقاتها ، وهو نظام لا يتحكم فيه النحو ، بل الانفعال أو التجربة " 18 . وعلى هذا الأساس تصبح التجربة الشعرية قائمة على اختزال الزمن وتكثيفه ، فالأساليب الشعرية تقوم بتقديم المراحل الزمنية الثلاث برؤية واحدة ، مع الاعتماد على الذاكرة ايضاً ، فالشعر يرتبط بالزمن ارتباطاً عميقاً ، يصل الى حد التماهي بين الشاعر والعالم والآخر .
إمّا ماهي العلاقة الجدلية بين الخيال والصورة الشعّرية ؟
لقد بدأ ظهور مصطلح الصورة الشعرية أواخر القرن التاسع عشر ، وانتشر بمسمّيات عدة : الصورة الفنيّة – التصوير في الشعر – الصورة الأدبيّة . والصورة الشعريّة هي " عملية تفاعل متبادل بين الشاعر والمٌتلقّي للأفكار والحواس ، من خلال قدرة الشاعر على التعبير عن هذا التفاعل بلغة شعريّة تستند مثلاً الى المجاز ، والاستعارة والتشبيه يهدف استثارة إحساس المُتلقّي واستجابته " 19 .
هنا يحتاج المُتلقّي الى اكثر من هذا الشرح للصورة الشعرية المقتضب ، للاطلاع و الالمام على كافة جوانب الصورة الشعرية وعلى أساليب بناءها ، فالصورة الشعريّة هي " تركيب لغوي يقوم الشاعر عن طريقها بتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لوجود علاقة بين شيئين . وتعتبر الصورة العنصر الجوهري في لغة الشعر ، فهي أداة الشاعر للتصوير والتخييل ، وتكون إما حسية مدركة بالحواس مباشرة وإما ذهنيّة من صنع الخيال وإما مجرد شكل من اشكال التزيين البياني .تبنى الصورة الشعرية بأساليب متعددة من أهمها : المشابهة والتجسيد والتشخيص والتجريد " 20 .
تبين لنا أن طبيعة العلاقة بين الخيال والصورة الشعريّة هي طبيعة الانتماء والتحقق والإنجاز رغم أن الصورة تنتمي بالضرورة الى ملكّة الخيال ، ونعني بذلك أن الخيال لا يمكن أن يشتغل ويتحقق الا بواسطة الصورة ، بل الاكثر من هذا " فالتخيل نوعان ، تخيل استرجاعي يقوم على استعادة صور ماضية تمثل مدركات سبقت معرفتها ، وتخيل ابداعي يقوم على أنشاء صور جديدة ، وتتجلى فاعلية الإنسان حين يتجاوز واقعه ، ويتطلع الى مستقبله . وهذا التخيل المبدع لا ينشأ من عدم وإنما يستمد عناصره من معطيات الواقع " 21.
إن الخيال يقوم من خلال الصورة الشعريّة بعملية الامحاء / المسح ، فعند أعادة التشكيل ، يكون قد قام بإلغاء السائد والمألوف وشكل المفترض والممكن والمختلف ، " واذا كان الخيال يبدع الصورة ويؤلفها عند انجاز هندسة خاصة للعوالم المتخيلة ، فأن الصورة الشعرية بالمقابل هي التي تخرج هذه العوالم من حالة الإمكان الى حالة التحقق والوجود . فالصورة الشعرية يمكننا أن نبني عالماً متخيلاً جديداً لا يخضع اطلاقاً لمنطق الكائن والمعيش وانما يرشحْ بكائنات الدهشة والغرابة وسحر الكهنة " 22 .
وفي الحداثة تلعب الصورة دوراً مركزياً أساسياً ، وخاصة في قصيدة النثر ، ففي ديوان ادونيس " هذا هو اسمي " يستند على الصور المتشظية التي تمنح المٌتلقّي تأويلات متعددة لفهمها من خلال جمعها بطرق مختلفة ، وكذلك في قصائد ديوان سليم بركات " طيش الياقوت " ، نرى التجاوز الذي يعتمد بشكل رئيس في بناء الافكار على الصورة ايضاً ، بلغة مكثفة متميزة ، وهو يذهب الى التعايش بين المتناقضات ، مما يتيح تأويلات متعددة لفهم الصورة عنده ، المشبعة " أي الصور" بالإيحاء الرمزي مع تماسكها في الباطن ولكنها مشتتة غير مترابطة في الظاهر :
تشيخُ طويلاً أيها الموت فتنسى أنك موتُ ينساه الموتى .
ومجازاتُك من صوفٍ أغبر أو من قطن مبلول ، أيها الموت .
مجرّاتُك منكوبةُ . اسُمك منكوبُ . وحِبرُك الليليّ ، الذي تدوَن به
فراديس الأكيدِ ، يفتحُ الممرّات – في السطور – لشموس الموتى .
يا للحروب تطرق عليك الباب في خجلٍ ، أيها الموت ،
لتشغِلَكَ كأنثى بحديثِ الذّكر ، يا لهباتِك التي لا تقدمها
مرتين ، يا لدوي السّطر المحمول على يديك وهو يمزقُ الكتابة !و . 23 .
إن اشكالية العلاقة القائمة بين الشاعر والنص في عرض المعنى وبين المؤول والنص في البحث عن هذا المعنى ، تكون من خلال الرؤية التأويلية المبنية عن طريق الاستيعاب والفهم ، أي فهم المعنى ، من خلال العلاقة الجدلية التي تنشأ حالما تبدأ القراءة من قبل المؤول للنص ، لأن المعنى ليس شيئاً معطى يستخرج من نص ، بل يتم تجميعه من الرموز والايحاءات ، فالمعنى يُبْنى بواسطة استراتيجيات القراءة التأويلية ، باعتبار ذلك ضرورة للكشف عن المعنى ، بقدر ما هو فعل لإنتاج الدلالات الممكنة من الصور الشعرية ، والتأويل هنا ، يعني متابعة طريق المعنى نحو المرجع ، بمعنى نحو الاشياء والعالم ، " تلك هي القوة المرجعية الأصيلة للنص " 24 ، وبحيث تكون ايضاً الوظيفة المرجعية في نظرية القراءة .
لذا يفرض على المتلقي أن يساهم كما الشاعر ، في صناعة المعنى ، وهذا يجعل من المتلقي أن يكون اكثر حضوراً في انتاج الدلالة وليس في الكشف عنها فحسب ، وكذلك يحول القراءة الى عملٍ يتقصد انتاج الدلالة الشعرية بإبعادها الايحائية الكثيفة ، ولما كانت اللغة التي في قصيدة الشعر خطاباً ادبياً ، بما يجعل النص ضاجاً بالمعاني والدلالات ، وخاصة عندما يكون النص يمتلك " مستويين ، الأول : هو النص كإمكانية لمعاني محتملة ، أي كبؤرة للدلالات ، والثاني : هو النص كمجموعة من المعاني التي كونتها القراءات المختلفة ، الناقد ، القارىء ، هو في هذا المستوى ، شريك في معنى النص " 25 . وخاصة إذا عرفنا بأن الناقد " قارىء يكتب ، فهذا يعني أن هذا القارىء سيلتقي بوسيط خطير : هو الكتابة . فإن الكتابة ، بشكل ما ، تهشيم للعالم ( الكتاب ) وإعادة لخلقه " 26 .
لذا فإن الكتابة تلعب دوراً خطيراً في ممارسة تطبيق المقولات وعملها وتقنيتها ، وخاصة اذا عرفنا أن خطاب المؤلف هو البنية الداخلية للنصّ ، وخطاب المتلقي يكون البنية التأويلية ، ولكي يتم مطابقة بنية الخطاب للمؤلف مع بنية القراءة التأويلية ، يحصل ذلك عن طريق العملية الجدلية التي تتم بينهما في تحقيق المطابقة ، وفي هذا تكون " من طبيعة معنى النص أن ينفتح على عدد لا حصر له من القراء ، وبالتالي من التأويلات . وإمكانية انفتاح النص على قراءات متعددة هو النظير الجدلي للاستقلال الدلالي للنص . ينتج عن ذلك أن مشكلة تملك معنى النص تصبح أمراً لا يقل مفارقة عن التأليف . فيتداخل حق القارىء بحق النص في نزاع يولد حركية التأويل برمتها . إذ تبدأ التأويلية حيث ينتهي الحوار " 27 .
الهوامش والاحالات
1-غاستون باشلار – اللَحظة الشِعْريةُ واللَحظة الميتافيزيائية ، ترجمة سلام ميخائيل عيد ، موقع معبر الالكتروني ، maaber @scs- net . org .
2-غاستون باشلار – حدس اللحظة ، ترجمة : رضا عزوز و عبد العزيز زمزم ، طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية ‘ افاق عربية ‘ ، بغداد / العراق ، 1986 ، ص 20 .
3- ادونيس – الأعمال الشعرية الكاملة . المجلد الاول ، دار العودة ، بيروت / لبنان ، ط4 ، 1985 ، ص 5 .
4- جيرار جينيت ، من النص الى العمل ، كتاب رولان بارت و جيرار جينيت – من البنيوية الى الشعرية ، ترجمة : د . غسان السيد ، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ، دمشق / سوريا ، 2001 ، ص 90 .
5-رومان ياكبسون – قضايا الشعرية ، ترجمة : محمد ولي و مبارك حنون ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء ، 1988 ، ص 19 .
6- م. ن ، ص 19 .
7- جيرار جينيت – مدخل لجامع النص ، ترجمة : عبد الرحمن ايوب ، دار الشؤون الثقافية العامة ، دار توبقال للنشر ، مشروع النشر المشترك ، بغداد / العراق ، بلا سنة طبع ،ص 5 .
8- د . يوسف وغليسي – اشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد ، منشورات الاختلاف ، الجزائر ، 2008 ، ص 329 .
9- قضايا الشعرية – ص 35 .
10- جوليا كريستيفا – علم النص ، ترجمة : فريد الزاهي ، مراجعة : عبد الجليل ناظم ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء / المغرب ، ط 3 ، 2014 ، ص 76 .
11- جان غروندان – التأويلية ، ترجمة : جورج كتوره ، دار الكتاب الجديد المتحدة ، بيروت / لبنان ، 2017 ، ص 84 .
12- م . ن . ص 65 .
13- سليم بركات – المجموعات الخمس ، منشورات فلسطين المحتلة ، بيروت / لبنان ، 1981 ، ص 193 .
14- بول ريكور – الاستعارة الحية ، ترجمة : د . محمد الولي ، مراجعة وتقديم : د . جورج زيناتي ، دار الكتاب الجديد المتحدة ، بيروت / لبنان ، 2016 ، ص 344 .
15- ادونيس – هذا هو أسمي وقصائد أخرى ، دار المدى للثقافة والنشر ، دمشق / سوريا ، 1996 ، ص 105 .
16- تزفيتان تودوروف – الشِعْريَةُ ، ترجمة : شكري المبخوت و رجاء بن سلامة ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء / المغرب ، ط2 ، 1990 ، ص 24 .
17- م . ن . ص 21 .
18- ادونيس – زمن الشعر ، دار الساقي ، بيروت / لبنان ، ط6 ، 2005 ، ص 176 .
19- أ . د علي الخرابشة – وظيفة الصورة الشعرية ودورها في العمل الأدبي ، مجلة الآداب العدد 110 ، 2014 ، ص97 .
20- Kezakoo. Com منصة إلكترونية مغربية ، الصورة الشعرية ومكوناتها .
21- محمد عزام – بنية الشعر الجديد ، دار الرشاد الحديثة ، الدار البيضاء / المغرب ، 1976 ، ص 51 .
22- محمد الديهاجي – التخييل والشعرية العربية ، مجلة الكلمة اللندنية ، العدد 73 / مايو ، 2013 .
23- سليم بركات – طيش الياقوت ، دار النهار للنشر ، بيروت / لبنان ، ص 32 .
24- بول ريكور – نظرية التأويل : الخطاب وفائض المعنى ، ترجمة : سعيد الغانمي ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء / المغرب ، 2003 ، ص 145 .
25- ادونيس- سياسة الشعر ، دار الأداب ، بيروت / لبنان ، 1985 ، ص 12 .
26- رولان بارت – نقد وحقيقة ، ترجمة : د منذر عياشي ، تقديم : د . عبدالله الغذامي، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ، دمشق / سوريا ، 2019 ، ص 93 .
27- بول ريكور – نظرية التأويل : الخطاب وفائض المعنى ، ص 64 .
 
أعلى