أمينة عباس - ناديا خوست تؤكد عروبة ألف ليلة وليلة ردّاً على الادعاءات بيهوديتها

ناديا خوست تؤكد عروبة ألف ليلة وليلةانتشرت "ألف ليلة وليلة" بعد ترجمة نسخة المكتبة الوطنية الفرنسية، وقد أثّرت في كبار كتّاب العالم، فبلزاك قال: إنه سيصف الإنسان والمجتمع والبشرية في عمل واحد يريده أن يكون "ألف ليلة وليلة" الغرب ليتجه بعده نحو العلم ليكتب محاولة في القوى التي تحرّك الإنسان، وعلى تلك الأسس سيكون قد رسم في عبث طفولي فكاهي الزخرفة العربية الهائلة "أرابيسك" المتمثّلة في الأقاصيص المضحكة.
أما تولستوي فقد كتب في العام 1891 أن ما أثّر فيه أكثر من أي شيء آخر حتى الرابعة عشرة من عمره حكاية النبي يوسف في الإنجيل وحكايات "ألف ليلة وليلة" وخاصة حكاية الأربعين حرامي وحكاية الأمير قمر الزمان.
وقد سجّل كتّاب ومثقفون عرب وعالميون آخرون تأثّرهم بـ "ألف ليلة وليلة" ومنهم الموسيقي شوستاكوفيتش مؤلف "شهرزاد".. كل ذلك أمر طبيعي وشبه معروف لدى الجميع، لكن ما هو غريب اليوم تلك الادعاءات بأن مؤلفي تلك الملحمة يهود وذلك في سياق تهويد التراث العربي والإنساني.. من هنا جاءت أمسية د.ناديا خوست التي أقيمت مؤخراً في صالة الشعب بالتعاون مع اتحاد الفنانين التشكيليين في أولى نشاطاته الثقافية للعام 2011، التي أشارت فيها إلى أن البحث العلمي كالمؤلَّفات الأدبية دائماً ذو هدف، والكلمة المنشورة قوة مادية مؤثرة في الوعي، وكل عمل ينتزع ملحمة من التراث العربي الإسلامي ليهبها لليهود يذكِّر بما يوازيه من محو الذاكرة : "حرق المخطوطات وتدمير المتاحف العراقية ونهب المافيات العالمية للمواقع الأثرية العراقية" وبالرغم من الخفة والسطحية في تلك الادعاءات، إلا أنها تؤكد على ضرورة أن تواجَه بالبحوث النقدية وبالموقف معاً.. ومن هنا كانت الأمسية فرصة لتتحدث فيها عن "ألف ليلة وليلة" والرواية التاريخية، موضحة أنها من كتب الحضارة العربية الإسلامية، وهي كالأعمال الأدبية الأخرى سجّلت زمناً ومجتمعاً وأخلاقاً وعمارة وشعراً وذوقاً، رسمت نساء وسلطة سياسية وشخصيات تاريخية وملابس ومجوهرات، وقد اختارت لأمسيتها أن تتناول منها مكان الليالي بشخصياتها ومأساة السلطة والحرية والفقراء في مجتمع غني، وتقدّم لذلك عن علاقة الفن بالواقع، أي بالتساؤل عن علاقة "ألف ليلة وليلة" بالزمان والمكان اللذين أزهرت فيهما.. وهنا تبيّن أن الكاتب ابن زمان ومكان ومن يتخطاهما إلى رحابة الزمن الإنساني، موضحة أن الواقع ليس الحاضر المرئي فقط بل أثر الحياة السابقة التي لم نعرفها والتراث القومي والإنساني ومستوى تربيتنا الروحية والفكرية، وهو رؤانا ومشروعنا لإيمانها أن الفن ليس مرآة بسيطة تعكس الواقع، فهو في أحد تجلياته نتاج زمان ومكان كما هو نداء إلى الأزمنة.. فوسط هذه العلاقة المعقّدة بالواقع ترى خوست أصول الشخصيات والأحداث التي شيّدتها "ألف ليلة وليلة" كما يبدو لها أن كاتبها أو كاتبتها أو كتّابها كانوا قريبين من مركز المعلومات وبعثات الرحّالة والموفدين وقصور الخلفاء والسلاطين، ومن تلك المعلومات تناولوا الوقائع التي أسسوا عليها البناء الفني، وكانوا مطّلعين على ثقافة عصرهم، فاعتمدوا تسلسل الليالي كالمؤرخين العرب الذين اعتمدوا تسلسل السنوات ونقل أحاديث الرواة عن الأحداث، واعتمدوا مثلهم رواية الشعر كعنصر مركزي يصوغ ثقافة الخاصة والعامة، فشخصيات الليالي والأحداث –برأيها- مستوحاة من المحيط العربي ومشيّدة على الإحاطة بالشعر العربي والثقافة العربية، بل إن بعض حكاياتها أُسِّس على قصيدة، تؤكد أصالتها صلتها بالرواية التاريخية المعروفة في المصنَّفات العربية، يسند ذلك أن بعض الباحثين ذكروا أن ابن النديم أكد أنه رأى النسخة الكاملة من "ألف ليلة وليلة" بتمامها مرات، أي في القرن العاشر، أما لماذا نراها حكايات لا علاقة لها بالواقع فتشير خوست إلى أنها تبدو كذلك لأننا نسلخها عما قدمته الحضارة العربية الإسلامية للفكر الإنساني من الشعر والفنون والعمارة والعلوم، ونراها من زمن فقدنا فيه الطبيعة الغنية والأشجار والمياه والطيور والأنهار المتدفقة، وأصبحت مجالات الخيال فيها جرداء، إلا أن الأكيد منها –كما تجزم خوست- أن مكانها ديار الحضارة الإسلامية، ومركزها السحري دمشق ومصر وبغداد والبصرة، يمتد في العالم القديم إلى الصين وأفريقيا وبلاد الفرس والروم وأفغانستان وأذربيجان والهند، كما تشير إلى أن البصرة كانت ميناء تجارياً عالمياً، تُنقل منه البضائع إلى بغداد والشام والبحر الأحمر ومصر والهند، وغيرها، كما كانت في ميناء كانتون في الصين جالية إسلامية، فعن هؤلاء التجار وقصورهم ومغامراتهم في الطريق، وعن دهشة الاكتشاف حكت "ألف ليلة وليلة" لذلك يبدو –كما ترى خوست- من اليسر أن نلمس صلتها بما سجله الرحالة والمؤرخون العرب، ولأن مكان الليالي ليس فقط عالماً جغرافياً تجارياً بل عالم بيئي، أرض وافرة المياه، كثيفة الأشجار، غنية بالطيور المغردة، فيها طبيعة تحطّم المراكب كانت "ألف ليلة وليلة" ملفاً ضخماً من رسوم المدن والقصور وثروة من رسوم الخيال الفني وديواناً كبيراً من الشعر.
كما تتقدم "ألف ليلة وليلة" –كما تبيّن خوست- كملحمة بتنوع الشخصيات ودنيويتها، ففيها إنس وجن وصيادون وفقراء وخلفاء ووزراء وولاة، يتصدرهم التاجر المكتشف، وتقدم الحكايات أشخاصاً من دمشق الشام وبغداد وملكاً من ساسان، وأكبر تجار بغداد في أيام هارون الرشيد، وتقدم نصوصاً وحكاماً ورجال شرطة وأميرات.. إذاً فشخصيات "ألف ليلة وليلة" مجتمع المدينة الذي يقوم على الصناعات الحرفية والعلاقات التجارية وتبادل السلع الحر.. ومن شخصيات الليالي المركزية أمير المؤمنين وهو حاضر بظلاله ولو لم يكن محور الحكاية، مشاركاً في تفاصيل الحياة الدنيوية، يدخل في جولاته السرية إلى بيوت الناس مكتشفاً أخبارهم ليحقق العدالة للمظلومين، كما تقدم الليالي الرشيد حكماً بين المتخاصمين، يتنكر ليسأل الناس عن أحوال الحكام المتولّين، وهو الذواق للموسيقا والشعر، صاحب القصر الذي يتوهج بالقناديل والشموع ويحفظ مكاناً لعود إسحق الموصلي، وفي كل ذلك ترى خوست أن هذه الحكايات لا تبتعد عن الرواية التاريخية .
أما شهريار بطل الليالي فتشير خوست إلى أنه شخص من ديار الإسلام، رغم أن شهريار الحقيقي يذكره المسعودي بين ملوك الفرس، ومن القتل بدأت فكرة "ألف ليلة وليلة" كذروة فنية، لكنها كملحمة كبرى واجهته بنقيضه الموجود في تلك المجتمعات الغنية بتنوع الشعوب والحركات الفكرية والثورات وتمرد الخصوم، وأحاطت كعمل أدبي كبير بتناقضات تجمع النساء المسترقّات والحاكمات.
وتحت عنوان "نساء ألف ليلة وليلة" تذكر خوست أن الليالي قدمت بمهارة شهرزاد المثقفة المولعة بالقراءة، ونساء من مراتب اجتماعية شعبية وملَكية، فهذه ابنة ملك تساوي مئة رجل، وتلك امرأة عراقية عزباء تاجرة تحمل بضائعها على المراكب، وهؤلاء نساء مثقفات شاعرات، بعضهن ملكات حكيمات وأميرات عزيزات، ومنهن أخت الرشيد القادرة على حماية رجل تسلل إلى حرم السلطان، أما إبريزة فأميرة رومية شجاعة ذات شهامة وكرامة، قرأت الكتب وتعلمت الأدب من كلام العرب، هي إحدى نساء "ألف ليلة وليلة" اللواتي يمتحنَّ المحبّ في الفروسية قبل أن يقررن الزواج منه، كما في الليالي امرأة أخرى محاربة شجاعة هي الملكة مرجانة، تنزل إلى المرفأ وتفحص المراكب.. وباتجاه آخر توضح خوست أن المؤرخين العرب قدموا لكتّاب الليالي معلومات دقيقة عن الخلفاء والحكّام وقادة الجيوش، فأمير المؤمنين يتجول في "ألف ليلة وليلة" متنكراً ليعرف هموم الناس، ويسمع رأيهم في الولاة، لذلك يلجأ إليه المظلومون، لكن قارئ الحكايات يتبيّن خلف الحاكم طبقة من المستشارين يفيدون من وظائفهم، وترى أن المكان الواسع الذي تخص به الليالي ممثلي الطبقة السياسية يقترح علينا أن نتصفحهم في الرواية التاريخية لنتأمل علاقة الأطياف بأصولها، فتقابلنا في ذلك الواقع ممالك ذات قواعد وطقوس والنصائح الدقيقة التي تبيّن للحاكم أصول الأداء السياسي : "إياك أن تقول أنا مسلَّط، أفعل ما أشاء ودع عنك شره نفسك وأعطِ الرعية حقوقها.. إذا كنتَ كثير الأخذ، قليل العطية لم يستقم أمرك فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عليهم".. وتشير إلى ما قاله عمر بن عبد العزيز في خطبة : "إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بعاصٍ ولكن الإمام الظالم هو العاصي".. وفي "ألف ليلة وليلة" تقول نزهة الزمان وهي تعرض للملك معارفها : "لا يتوصل أحد إلى الدين إلا بالدنيا، ومهمة الملك أن ينصف المظلوم" .
وبما أن "ألف ليلة وليلة" رسمت أبطالاً متنوعين يتقدمهم التجار فقد أشارت خوست إلى أن الليالي تحدثت أيضاً عن الفقراء كالصياد الذي يعيش على ما يصطاده في يومه، وبكثير من أحوالهم تتذكر رسالة التوحيدي الموجعة إلى أبي الوفاء المهندس في كتابه "الإمتاع والمؤانسة" : "أنقذني أيها الرجل من التكفف، أنقذني من لبس الفقر... إلى متى التأدّم بالخبز والزيتون فقد أذلّني السفر من بلد إلى بلد، وخذلني على باب باب، ونكرني العارف بي وتباعد عني القريب".. وتختم خوست لتؤكد أن تلك بعض عناصر تبيّن صلة "ألف ليلة وليلة" كعمل أدبي عربي أصيل بواقع اجتماعي وأخلاقي واقتصادي بين القرن العاشر والرابع عشر، وتبيح لأن نراها من كنوز التراث التي تستحق الدراسة من زمننا .


متابعة : أمينة عباس
 
أعلى