ل
لا أحد
مقدمة: استطيقا الجماع
نحو قراءة شبقية للمسكوت عنه
من المؤكد أن كلمات هذا الكتاب مسلية إلى أبعد حد، خاصة عندما تسلل خلسة إلى المسكوت عنه في نصوص الفلاسفة العرب والمتصوفة والفقهاء والأدبيات الجنسية الشعبية، واختراق صمتها وجعلها تنطق باحتشام عن بهجة النكاح، باعتباره مشتركا بين الثقافة العالمة، أي ثقافة الخواص، والثقافة الشعبية; اي ثقافة العوام. ولعل غايتنا لن تتجاوز حدود الإصغاء لنداء الجسد والإنصات لمقولات فن النكاح من أجل تفجير هيرمونطيقا الذات، ذلك أن تقنية الذات عند الفيلسوف تقع على تخوم المطلق الذي تتقاسمه الرغبة بين فن التأويل وفن الجماع، أو بعبارة أعم، فن الحياة. في حين نجد أن ضرورة النكاح في الأدبيات الشعبية تقوم على إفراغ الذات من شحنة العنف في ذات أخرى محاطة بعناية برزخ الصخب والهذيان، ذلك أن هذه الأدبيات تصف قساوة الجماع كفرجة ممتعة بطلها الرجل المحمود عند النساء، باعتباره محاربا عنيفا يوحد بين اللذة والألم، بين إنزال المني ومصه من قبل المرأة، بل والانتشاء باختلاط المني بالدم في لحظة ابتهاج وابتهال، ينفتح فيها باب الفناء أمام جسد المرأة الملتهب بالشبق. ولذلك استطاعت هذه الأدبيات أن تصل إلى أكبر عدد من القراء، فقوتها تكمن في انتشارها، لأنها أصبحت تباع أمام أبواب المساجد، وفي الحمامات، وعند بائعي الأعشاب، أي الصيدليات الشعبية، وفي الأسواق. لانه بالإضافة إلى تقنياتها في وصف فرجة النكاح وصخبه وعنفه الناعم، فإنها تصف أدوية لتهييج الجماع، وتكبير الأير، وعذوبة الفرج، وتضييقه وإزالة الرائحة عنه، ذلك أن شعارها: مطبخي، طبي، وتقديم مواد للشهوة. هكذا قامت باقتحام لا وعي الإنسان العربي وأصبحت تشكل جزءا ثمينا من تراثه تقيم معه في بيته وتخلصه من الكآبة، من خلال تهييج شهوة النكاح. إنها بعبارة أدق أصبحت مرجعا أساسيا لمن أراد أن يجامع بعنف وصخب وهذيان لكي يكون محمودا عند النساء، نجد صاحب الروض العاطر ينصحه بتهيئ أكلة خميائية مقدسة عناصرها صفر البيض، والسمن، والبصل والعسل الممزوج بحليب النوق، ولن ينام إيره طوال الليل بلغة الشيخ النفزاوي([1]). ولعل ما يجعل النص الشعبي محبوبا عند القراء هو استناده على القرآن والحديث النبوي في مدح قدسية ومشروعية الكلام في فن النكاح، هكذا نجد صاحب رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه يفتتح كتابه بالحديث النبوي القائل: "تناكحوا تناسلوا فاني اباهي بكم الأمم يوم القيامة([2])"، كما أننا سنجد أن النفزاوي يعتبر ان قراءة القرآن مهيجة للجماع.
أما الفلاسفة، فقد كانت حياتهم الجنسية مختفية وراء حجاب اللاغوس وعنف الميتافيزيقا، حيث ظل الجماع سرا من أسرار الوجود ممتزجا بالنسيان والحضور في نفس الآن. هكذا نجد أن أب الفلاسفة سقراط يدعو إلى مشاعة النساء بين حراس الجمهورية من أجل تحقيق النظام والاستقرار لجمهوريته. إنه يضعنا أمام دهشة الحقيقة التي ترغمنا على تقبل الجماع المشترك مقابل فوائد لا نظير لها للدولة; الدفاع عنها في الحرب، وإنجاب أطفال أقوياء وعباقرة، بالإضافة إلى تمديد أيام الجماع للحراس الذين أظهروا شجاعة كبيرة في الحرب، إنه وسام الجماع، على عكس كل الجبناء الذين ينبغي حرمانهم. إنها لعبة ماكرة يمارسها اللغوس على شهوة النكاح المصابة بالجنون، إذ بواسطته يتم إخضاع الدولة للنظام والانسجام والعدالة. إنها دولة قوية تقوم على الجماع المشترك، أي ان يجامع الكل الكل ولو في زمان واحد. إننا أمام دعوة مربكة، ومزعجة للبسطاء من الناس، بيد أن سقراط يبرر ذلك من خلال إبعاد الدولة عن تمزق وحدتها، والمجتمع من الطلاق، والصراعات التافهة بين الرجل والمرأة، وتشريد الأطفال، والخلاف بين الأسر. ولعل كل هذه الأمور وغيرها سيقوم الجماع المشترك بالرمي بها في جحيم العدم.
وغير بعيد عن المكر السقراطي المغري، نجد قراءة أخرى لشبقية الجماع في كتاب سر الأسرار المنحول على أرسطو، والذي هيمن بظلاله المنتشرة على الأدبيات الجنسية، والكتابات الطبية الجسمانية والروحانية، وحفظ الصحة، وفن النكاح، لأنه نص شامل، وجامع لهذه المعارف وغيرها، لغته تمزج بين الإغراء والخرافة، ولعل هذا ما منحه القدرة على النفاذ إلى نصوص فلاسفة الإسلام، وامتلاك حق الإقامة فيها، إلى درجة أن ابن سينا وابن عربي وابن رشد، وابن خلدون كانوا ضحايا هذا الكتاب الشبقي. على الرغم من أنه كتاب اختصر بهجة الجماع في تعاقب فصول السنة وربطه بنوع الطعام والشراب، وكأنه دعوة للملك من أجل حفظ صحته. إلا أن الطعام الذي يصفه لتهييج الجماع باهض الثمن بالنسبة للبسطاء من الناس الذين توجهوا إلى نصائح رجوع الشيخ إلى صباه والروض العاطر، لأن ما يصفه من طعام هو في متناول الجميع: البيض، والبصل، والحموص، أما العسل، أو حليب النوق فمن استطاع إليهما سبيل، ولكنه يعدهم بعد تناولهم لهذه الوصفة الطبية بقهر المرأة التي تسمى بالمني، حيث لم يستطيع أحد إخماد شهوتها للجماع وقد قهرت كل رجال زمانها، أو المرأة الألفية التي نكحها ألف رجل، أو المتيممة بالنكاح والتي ادعت النبوة، وتنازلت عنها بقهر النكاح.
لم نجد لهذا الجماع الأسطوري حضورا عند الشيخ الرئيسي ابن سينا الطبيب والفيلسوف الذي اشتهر بمهارة معارفه وقوته على الجماع، لأنه كان قوي القوى كلها وقوة المجامعة تأتي في المرتبة الأولى. هكذا كان يكتب، ويشرب، ويجامع بعنف إلى حدود المرض، ويحقن نفسه بحقنة، ثم يتماثل إلى الشفاء، وسرعان ما يعود إلى الجماع، ويعاوده المرض، وظل على هذه الحال إلى أن أصيب بمرض القلنج، وحقن نفسه حقنة قوية، وتقرحت أمعاؤه، ومات شهيدا لشبقية الجماع. وقد تساءلنا عن صنف النساء اللواتي كان شيخنا يجامعهن ، هل ينتميان إلى تلك النساء المهمشات في محيط الملك، الذي كان الشيخ طبيبه، أم مجرد مومسات يؤثثن فضاءات أزقة مدينته بصخب أصواتهن وشبقية عطر أجسادهن وفروجهن التي لا خير فيها؟، وهل كان اللاغوس ضحية خيمياء الجسد؟، بل أكثر من ذلك هل الهروب من عنف الميتافيزيقا إلى نعومة الجسد كان سببا مباشرا في نهاية مسار الفيلسوف؟
وسيرا وراء شاعرية شبقية الأجساد، وجدنا أنفسنا في ضيافة نساء الأندلس والافتتان بجمالهن، وحلاوتهن، وظرافتهن، بلغة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي، الذي اتخذناه كحجة على شبقية الجماع عند الاندلسيات، خاصة إشبيلية، وقرطبة، وفاس، مدن تفوح منها رائحة عطر الأجساد; لأن المرأة، عند شيخنا هي زهرة الحياة التي تحرك: ˝ الأنفاس، والشهود والأدلة ˝ . ذلك أنها: معطية الرائحة ومنتزها للبصر، ودليلة على الثمرة. هكذا سيصف لنا الشيخ محي الدين أحد شيوخه الذين عاشرهم بإعجاب كبير، بانه: ˝كان مولعا بالنكاح جدا لا يستغني عنه˝. ولكنه عندما بشر بان هناك عروسا غاية في الجمال سيقوم بهتك فرجها والاستمتاع بامتزاج المني بالدم ورائحة صخب النكاح، تنتظره في سوق الجنة بعد انتهاء خمسة أيام، رفض هدية ثمينة من شيخ آخر أراد ان يزوجه ابنة أخيه التي تتمتع بالجمال والشباب. كما أن ابن عربي الذي بشر بالجنة في حياته يوحي إلينا بان سوق الجنة هو مصدر جمال المرأة لانها: "فتنة يستخرج الحق بهن ما خفى عنا فينا".
ولذلك نجده مولعا بوصف جمال نساء الشيوخ الذين عاشرهم بطريقة مثيرة للدهشة، وكأن الأمر يتعلق بمراودتهن عن نفوسهن. والشاهد على ذلك أنه هرب من فاس بعد ارتكابه معصية الجماع مع نساء غيره. حيث نجده يقول بلغة شبقية : "وله امرأة في غاية الجمال صغيرة السن أحسن منه وأقوى([3])". إنها شهادة على أن المتكلم هنا مصاب بالهذيان وشبقية النكاح لهذه المرأة الجميلة والصغيرة السن والأقوى على النكاح من زوجها الشيخ العجوز. ولن نتساءل عن ما يخفيه الحجاب الذي وضعه ابن عربي أمامنا من أجل حجب الرؤية والإقامة في الخيال الذي يفسر الخيال. والحقيقة اننا نوجد أمام نص شغوف بالجمال كتب في الجنة وأراد صاحبه أن يقتسم معنا متعة ما شاهده، وما أدهشه.
غير أن هذه القراءة الصوفية الباذخة بتقديس المرأة الفتنة والاستمتاع بها روحيا وجسديا في نكاح صاخب يقرب الذات من اللامتناهي، قد غابت في كتابات الفقيه ابن حزم ومؤلفات الفيلسوف ابن رشد. لأنه إذا كان الفقيه في كتابه طوق الحمامة يعترف بأنه تربى في حجر النساء ولم يعاشر غيرهن إلى أن أصبح رجلا، وهن اللواتي تحكمن في قدره وافاقه، من خلال تعليمه القراءة والكتابة وحفظ القرآن. فإنه ظل محتشما ولم يتجرأ بذكر مشهد واحد للنكاح، وخيب آملنا، مما جعلنا نتوسل بالفيلسوف ابن رشد، بيد انه كان مأخوذا بعنف الميتافيزيقا وإرهاب اللاغوس الذي يعتبر المرأة مجرد مادة يهبها الرجل الصورة من خلال المني، ولذلك فإن المواطئ يلد المواطئ، ولعل هذا التفسير البارد لصخب النكاح، سيكسره ابن الآبار بقوله "أن ابن رشد لم يدع القراءة والكتابة إلا ليلة موت أبيه، وليلة بنائه على أهله"، أي ليلة دخوله على زوجته. هكذا يكون الموت وهذيان الجماع مناسبة للتفوق عن الخوض في نهر الميتافيزيقا الأبدي. ولذلك اعتبرنا أن شغف الفيلسوف بهتك الفرج والانتشاء إلى حدود الثمالة بامتزاج المني بالدم، كان أقوى إغراء لخيمياء الجسد من أجل التمرد على سلطة اللاغوس. ولكن من كان يجامع في تلك الليلة الاستثنائية، الفيلسوف أم الإنسان؟، الروح أم الجسد؟. اللذة العقلية، أم الحيوانية؟.
نعم إنها رحلة شبقية في تخوم برزخ النصوص، التي تحرض النفس على جنون الشهوة، وعنف النكاح، باعتباره محركا لاستمرار الوجود، لأن المرأة زهرة الحياة ووعاء للطبيعة يتم إنزال المني فيه، ويقوم بابتلاعه ومصه كما يمص الطفل نهد أمه، من أجل ولادة لحياة أخرى، ممتلئة بضجيج وصخب النكاح.
النكاح إذن، تجربة وجودية تنقل الذات إلى ما بعد الذات لتتجاوز كل الحدود وتنصهر في لهيب اللامتناهي حين يتحد بالمطلق الذي يريد استمالة الأبدية من خلال الحفاظ على الوجود الإنساني من الاندثار. إنها تجربة تفوق في عمقها تجربة الحكمة والفقه والطب والتصوف، ذلك أن سحرها يكمن في غموضها، وعدم كشف سر أسرارها، بل وقدرتها على التعجيل بموت الإنسان من شدة ولعه وشغفه بالنكاح.
لأن المرأة التي تستمد فتنتها وجمالها من سوق الجنة وتمنح لذة النكاح وتفجر عنف الشهوة، وتهدئ اضطراب الشبق. هي برزخ يقع بين الجنة والأرض، بين المتعة والألم، بين الحيرة والاطمئنان، بين الحياة والموت، ويصبح المشتاق إلى هذه الفاكهة "في صورة المفلس الذي يرى أطايب الملذوذات ويدخل سوق النعيم والشهوات وماله درهم يصل به إلى نيل شهوة من شهواته" كما يقول الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- الشيخ النفزاوي، الروض العاطر في نزهة الخاطر، الطبيعة الشعبية
[2]- ابن كمال باشا، رجوع الشيخ إلى صباه ص 3
[3]- الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي، رسالة روح القدس ضمن مجموع رسائل ابن عربي بيروت دار الحجة الإسلامية
نحو قراءة شبقية للمسكوت عنه
من المؤكد أن كلمات هذا الكتاب مسلية إلى أبعد حد، خاصة عندما تسلل خلسة إلى المسكوت عنه في نصوص الفلاسفة العرب والمتصوفة والفقهاء والأدبيات الجنسية الشعبية، واختراق صمتها وجعلها تنطق باحتشام عن بهجة النكاح، باعتباره مشتركا بين الثقافة العالمة، أي ثقافة الخواص، والثقافة الشعبية; اي ثقافة العوام. ولعل غايتنا لن تتجاوز حدود الإصغاء لنداء الجسد والإنصات لمقولات فن النكاح من أجل تفجير هيرمونطيقا الذات، ذلك أن تقنية الذات عند الفيلسوف تقع على تخوم المطلق الذي تتقاسمه الرغبة بين فن التأويل وفن الجماع، أو بعبارة أعم، فن الحياة. في حين نجد أن ضرورة النكاح في الأدبيات الشعبية تقوم على إفراغ الذات من شحنة العنف في ذات أخرى محاطة بعناية برزخ الصخب والهذيان، ذلك أن هذه الأدبيات تصف قساوة الجماع كفرجة ممتعة بطلها الرجل المحمود عند النساء، باعتباره محاربا عنيفا يوحد بين اللذة والألم، بين إنزال المني ومصه من قبل المرأة، بل والانتشاء باختلاط المني بالدم في لحظة ابتهاج وابتهال، ينفتح فيها باب الفناء أمام جسد المرأة الملتهب بالشبق. ولذلك استطاعت هذه الأدبيات أن تصل إلى أكبر عدد من القراء، فقوتها تكمن في انتشارها، لأنها أصبحت تباع أمام أبواب المساجد، وفي الحمامات، وعند بائعي الأعشاب، أي الصيدليات الشعبية، وفي الأسواق. لانه بالإضافة إلى تقنياتها في وصف فرجة النكاح وصخبه وعنفه الناعم، فإنها تصف أدوية لتهييج الجماع، وتكبير الأير، وعذوبة الفرج، وتضييقه وإزالة الرائحة عنه، ذلك أن شعارها: مطبخي، طبي، وتقديم مواد للشهوة. هكذا قامت باقتحام لا وعي الإنسان العربي وأصبحت تشكل جزءا ثمينا من تراثه تقيم معه في بيته وتخلصه من الكآبة، من خلال تهييج شهوة النكاح. إنها بعبارة أدق أصبحت مرجعا أساسيا لمن أراد أن يجامع بعنف وصخب وهذيان لكي يكون محمودا عند النساء، نجد صاحب الروض العاطر ينصحه بتهيئ أكلة خميائية مقدسة عناصرها صفر البيض، والسمن، والبصل والعسل الممزوج بحليب النوق، ولن ينام إيره طوال الليل بلغة الشيخ النفزاوي([1]). ولعل ما يجعل النص الشعبي محبوبا عند القراء هو استناده على القرآن والحديث النبوي في مدح قدسية ومشروعية الكلام في فن النكاح، هكذا نجد صاحب رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه يفتتح كتابه بالحديث النبوي القائل: "تناكحوا تناسلوا فاني اباهي بكم الأمم يوم القيامة([2])"، كما أننا سنجد أن النفزاوي يعتبر ان قراءة القرآن مهيجة للجماع.
أما الفلاسفة، فقد كانت حياتهم الجنسية مختفية وراء حجاب اللاغوس وعنف الميتافيزيقا، حيث ظل الجماع سرا من أسرار الوجود ممتزجا بالنسيان والحضور في نفس الآن. هكذا نجد أن أب الفلاسفة سقراط يدعو إلى مشاعة النساء بين حراس الجمهورية من أجل تحقيق النظام والاستقرار لجمهوريته. إنه يضعنا أمام دهشة الحقيقة التي ترغمنا على تقبل الجماع المشترك مقابل فوائد لا نظير لها للدولة; الدفاع عنها في الحرب، وإنجاب أطفال أقوياء وعباقرة، بالإضافة إلى تمديد أيام الجماع للحراس الذين أظهروا شجاعة كبيرة في الحرب، إنه وسام الجماع، على عكس كل الجبناء الذين ينبغي حرمانهم. إنها لعبة ماكرة يمارسها اللغوس على شهوة النكاح المصابة بالجنون، إذ بواسطته يتم إخضاع الدولة للنظام والانسجام والعدالة. إنها دولة قوية تقوم على الجماع المشترك، أي ان يجامع الكل الكل ولو في زمان واحد. إننا أمام دعوة مربكة، ومزعجة للبسطاء من الناس، بيد أن سقراط يبرر ذلك من خلال إبعاد الدولة عن تمزق وحدتها، والمجتمع من الطلاق، والصراعات التافهة بين الرجل والمرأة، وتشريد الأطفال، والخلاف بين الأسر. ولعل كل هذه الأمور وغيرها سيقوم الجماع المشترك بالرمي بها في جحيم العدم.
وغير بعيد عن المكر السقراطي المغري، نجد قراءة أخرى لشبقية الجماع في كتاب سر الأسرار المنحول على أرسطو، والذي هيمن بظلاله المنتشرة على الأدبيات الجنسية، والكتابات الطبية الجسمانية والروحانية، وحفظ الصحة، وفن النكاح، لأنه نص شامل، وجامع لهذه المعارف وغيرها، لغته تمزج بين الإغراء والخرافة، ولعل هذا ما منحه القدرة على النفاذ إلى نصوص فلاسفة الإسلام، وامتلاك حق الإقامة فيها، إلى درجة أن ابن سينا وابن عربي وابن رشد، وابن خلدون كانوا ضحايا هذا الكتاب الشبقي. على الرغم من أنه كتاب اختصر بهجة الجماع في تعاقب فصول السنة وربطه بنوع الطعام والشراب، وكأنه دعوة للملك من أجل حفظ صحته. إلا أن الطعام الذي يصفه لتهييج الجماع باهض الثمن بالنسبة للبسطاء من الناس الذين توجهوا إلى نصائح رجوع الشيخ إلى صباه والروض العاطر، لأن ما يصفه من طعام هو في متناول الجميع: البيض، والبصل، والحموص، أما العسل، أو حليب النوق فمن استطاع إليهما سبيل، ولكنه يعدهم بعد تناولهم لهذه الوصفة الطبية بقهر المرأة التي تسمى بالمني، حيث لم يستطيع أحد إخماد شهوتها للجماع وقد قهرت كل رجال زمانها، أو المرأة الألفية التي نكحها ألف رجل، أو المتيممة بالنكاح والتي ادعت النبوة، وتنازلت عنها بقهر النكاح.
لم نجد لهذا الجماع الأسطوري حضورا عند الشيخ الرئيسي ابن سينا الطبيب والفيلسوف الذي اشتهر بمهارة معارفه وقوته على الجماع، لأنه كان قوي القوى كلها وقوة المجامعة تأتي في المرتبة الأولى. هكذا كان يكتب، ويشرب، ويجامع بعنف إلى حدود المرض، ويحقن نفسه بحقنة، ثم يتماثل إلى الشفاء، وسرعان ما يعود إلى الجماع، ويعاوده المرض، وظل على هذه الحال إلى أن أصيب بمرض القلنج، وحقن نفسه حقنة قوية، وتقرحت أمعاؤه، ومات شهيدا لشبقية الجماع. وقد تساءلنا عن صنف النساء اللواتي كان شيخنا يجامعهن ، هل ينتميان إلى تلك النساء المهمشات في محيط الملك، الذي كان الشيخ طبيبه، أم مجرد مومسات يؤثثن فضاءات أزقة مدينته بصخب أصواتهن وشبقية عطر أجسادهن وفروجهن التي لا خير فيها؟، وهل كان اللاغوس ضحية خيمياء الجسد؟، بل أكثر من ذلك هل الهروب من عنف الميتافيزيقا إلى نعومة الجسد كان سببا مباشرا في نهاية مسار الفيلسوف؟
وسيرا وراء شاعرية شبقية الأجساد، وجدنا أنفسنا في ضيافة نساء الأندلس والافتتان بجمالهن، وحلاوتهن، وظرافتهن، بلغة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي، الذي اتخذناه كحجة على شبقية الجماع عند الاندلسيات، خاصة إشبيلية، وقرطبة، وفاس، مدن تفوح منها رائحة عطر الأجساد; لأن المرأة، عند شيخنا هي زهرة الحياة التي تحرك: ˝ الأنفاس، والشهود والأدلة ˝ . ذلك أنها: معطية الرائحة ومنتزها للبصر، ودليلة على الثمرة. هكذا سيصف لنا الشيخ محي الدين أحد شيوخه الذين عاشرهم بإعجاب كبير، بانه: ˝كان مولعا بالنكاح جدا لا يستغني عنه˝. ولكنه عندما بشر بان هناك عروسا غاية في الجمال سيقوم بهتك فرجها والاستمتاع بامتزاج المني بالدم ورائحة صخب النكاح، تنتظره في سوق الجنة بعد انتهاء خمسة أيام، رفض هدية ثمينة من شيخ آخر أراد ان يزوجه ابنة أخيه التي تتمتع بالجمال والشباب. كما أن ابن عربي الذي بشر بالجنة في حياته يوحي إلينا بان سوق الجنة هو مصدر جمال المرأة لانها: "فتنة يستخرج الحق بهن ما خفى عنا فينا".
ولذلك نجده مولعا بوصف جمال نساء الشيوخ الذين عاشرهم بطريقة مثيرة للدهشة، وكأن الأمر يتعلق بمراودتهن عن نفوسهن. والشاهد على ذلك أنه هرب من فاس بعد ارتكابه معصية الجماع مع نساء غيره. حيث نجده يقول بلغة شبقية : "وله امرأة في غاية الجمال صغيرة السن أحسن منه وأقوى([3])". إنها شهادة على أن المتكلم هنا مصاب بالهذيان وشبقية النكاح لهذه المرأة الجميلة والصغيرة السن والأقوى على النكاح من زوجها الشيخ العجوز. ولن نتساءل عن ما يخفيه الحجاب الذي وضعه ابن عربي أمامنا من أجل حجب الرؤية والإقامة في الخيال الذي يفسر الخيال. والحقيقة اننا نوجد أمام نص شغوف بالجمال كتب في الجنة وأراد صاحبه أن يقتسم معنا متعة ما شاهده، وما أدهشه.
غير أن هذه القراءة الصوفية الباذخة بتقديس المرأة الفتنة والاستمتاع بها روحيا وجسديا في نكاح صاخب يقرب الذات من اللامتناهي، قد غابت في كتابات الفقيه ابن حزم ومؤلفات الفيلسوف ابن رشد. لأنه إذا كان الفقيه في كتابه طوق الحمامة يعترف بأنه تربى في حجر النساء ولم يعاشر غيرهن إلى أن أصبح رجلا، وهن اللواتي تحكمن في قدره وافاقه، من خلال تعليمه القراءة والكتابة وحفظ القرآن. فإنه ظل محتشما ولم يتجرأ بذكر مشهد واحد للنكاح، وخيب آملنا، مما جعلنا نتوسل بالفيلسوف ابن رشد، بيد انه كان مأخوذا بعنف الميتافيزيقا وإرهاب اللاغوس الذي يعتبر المرأة مجرد مادة يهبها الرجل الصورة من خلال المني، ولذلك فإن المواطئ يلد المواطئ، ولعل هذا التفسير البارد لصخب النكاح، سيكسره ابن الآبار بقوله "أن ابن رشد لم يدع القراءة والكتابة إلا ليلة موت أبيه، وليلة بنائه على أهله"، أي ليلة دخوله على زوجته. هكذا يكون الموت وهذيان الجماع مناسبة للتفوق عن الخوض في نهر الميتافيزيقا الأبدي. ولذلك اعتبرنا أن شغف الفيلسوف بهتك الفرج والانتشاء إلى حدود الثمالة بامتزاج المني بالدم، كان أقوى إغراء لخيمياء الجسد من أجل التمرد على سلطة اللاغوس. ولكن من كان يجامع في تلك الليلة الاستثنائية، الفيلسوف أم الإنسان؟، الروح أم الجسد؟. اللذة العقلية، أم الحيوانية؟.
نعم إنها رحلة شبقية في تخوم برزخ النصوص، التي تحرض النفس على جنون الشهوة، وعنف النكاح، باعتباره محركا لاستمرار الوجود، لأن المرأة زهرة الحياة ووعاء للطبيعة يتم إنزال المني فيه، ويقوم بابتلاعه ومصه كما يمص الطفل نهد أمه، من أجل ولادة لحياة أخرى، ممتلئة بضجيج وصخب النكاح.
النكاح إذن، تجربة وجودية تنقل الذات إلى ما بعد الذات لتتجاوز كل الحدود وتنصهر في لهيب اللامتناهي حين يتحد بالمطلق الذي يريد استمالة الأبدية من خلال الحفاظ على الوجود الإنساني من الاندثار. إنها تجربة تفوق في عمقها تجربة الحكمة والفقه والطب والتصوف، ذلك أن سحرها يكمن في غموضها، وعدم كشف سر أسرارها، بل وقدرتها على التعجيل بموت الإنسان من شدة ولعه وشغفه بالنكاح.
لأن المرأة التي تستمد فتنتها وجمالها من سوق الجنة وتمنح لذة النكاح وتفجر عنف الشهوة، وتهدئ اضطراب الشبق. هي برزخ يقع بين الجنة والأرض، بين المتعة والألم، بين الحيرة والاطمئنان، بين الحياة والموت، ويصبح المشتاق إلى هذه الفاكهة "في صورة المفلس الذي يرى أطايب الملذوذات ويدخل سوق النعيم والشهوات وماله درهم يصل به إلى نيل شهوة من شهواته" كما يقول الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- الشيخ النفزاوي، الروض العاطر في نزهة الخاطر، الطبيعة الشعبية
[2]- ابن كمال باشا، رجوع الشيخ إلى صباه ص 3
[3]- الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي، رسالة روح القدس ضمن مجموع رسائل ابن عربي بيروت دار الحجة الإسلامية