ل
لا أحد
الفصل الأول: كيف يمكن أن نجامع برضى سقراط؟
من اجل أن يصبح اللغوس كاملا ومحققا لغايته، لا بد أن ينفصل عن الجسد، باعتباره مصدرا للقلق، للذة، للنشوة الحارقة لكمياء الروح، عندما تصاب بمس جنون النكاح، ويجعلها تتكلم بشهوة الآخر الذي تعشقه، خاصة وأن الحلم حين يرتبط بالجماع، يجعل الفيلسوف يحلم داخل جسده، متعاليا عن اللغوس وسلطته المرتبطة بيقظة الروح، لأنها تسعى إلى القطيعة مع الجسد، هذا الشيطان الماكر الذي يراودها عن حقيقتها ويجعلها مجرد لعبة للخيمياء داخل سجن الشبق، وضوضاء جنون الشهوة، عندما تلبسها لذة متدفقة تنقلها إلى بلاغة الاستيهام بالجماع، إنها بلاغة تتجاوز العقل واللغة.
هكذا يصبح كوجيطو الحكماء عبارة عن امتثال لأوامر اللذة التي تسعى إلى التوحد بالأبدية والتطابق مع الوجود، بغية الانزياح عن الشيخوخة والموت. ذلك أن الأنا التي تفكر، وتحلم بهذا الانشطار، الذي يجعل من الفرح عبادة وتقديس لشبقية الجسد، خلال بهجة الشهوة والذوبان فيه، هي نفسها التي تخضع لأوامر اللاغوس، ولذلك فإن سقراط في لحظة من لحظاته المرحة، أراد أن يتهكم من عجوز كان مشهورا بولعه بالنكاح، قائلا: "هل لا زالت تقوم بالنساء؟"، فأجابه كيفالوس العجوز: "..غير أني قابلت كهولا تمتلك نفوسهم مشاعر مختلفة تماما منهم سوفوكليس الشاعر. فقد كنت ذات يوم معه، وسئل: كيف أحوالك مع الجماع الآن يا سوفوكليس؟ أو لا تزال فحولتك على ما هي عليه؟ فأجاب : لا تتحدث هكذا يا صديقي، فأنا احمد الله على أنني تخلصت مما تتكلم عنه كما لو كنت قد تحررت من سيد مخبول متوحش. ولكم أعجبتني كلماته هذه.. إذ لا شك أن الكهولة تتصف بميزة عظيمة من الهدوء والحرية، فعندما ترخي العواطف قبضتها، عندئذ نتحرر لا من قبضة سيد مخبول واحد فحسب، كما قال سوفوكليس، بل من قبضة أسياد عديدين(1)"
نعم إن سقراط، الذي كان يدعو إلى تحرير النفس من سجن الجسد، كما يحتقر لذة الجماع، ويعتبرها مجرد شهوة حيوانية لا ترقى إلى مرتبة لذة الحكمة، والفضيلة التي تحقق سمو النفس، وارتفاعها إلى عالم المثل، إلى درجة أنه كان يدافع عن مشاعة النساء بين حراس الجمهورية، لكي يتمكن من إفراغ الجماع من رمزيته الوجودية الساحرة، لأن الدعوة إلى حرية النكاح ستحرر الفيلسوف، وحراس الجمهورية من قلق الجسد، ومن عنفه الشبقي الذي يستعبد النفس ويجعلها معتقلة في دهاليزه الممتلئة بالرغبة، والهذيان، بل واللذة اللامتناهية. لأنه بمجرد ما يتحرر الفيلسوف من شهوة الجماع، يسمو إلى اللاغوس، الذي يجعل النفس تتذكر أصلها، ومن أين أتت؟، ولماذا أصبحت تنسى ما كانت تعرفه في ذلك العالم الذي جاءت منه؟، ذلك أن المعرفة بالنسبة لسقراط هي تذكر، والجهل نسيان. لكن من الذي يجامع في الحقيقة; الجسد أم النفس؟، وهل الجماع فضيلة، وفن، وحكمة تسعى النفس من خلالها إلى الحفاظ عن الوجود، واستمرار الحياة بواسطة امتزاج المني بدم الطمث، أم رذيلة وحمقا يجعلان النفس تعيش في صخب العنف باحثة عن إشباع الرغبة؟، وهل تصبح بعد هدوء هذيانها سعيدة، أم شقية؟
هناك من يرى أن الخلود في تلك النشوة هو أعلى مراقى الفضيلة، ولكنه ينسى ان الطريق إليها سهل ممهد ومقرها قريب: هو جسد المرأة الملتهب:" أما الفضيلة فقد بثت الآلهة في طريقها العقبات"(2)، لأن النفس قد تنحرف بدورها عن هدفها، ذلك أن توسلات الجسد وابتهالاته الصاخبة عندما يريد أن يخفف من عنفه واضطراباته، يجعل النفس تنصاع إليه، وتختار الإقامة الأبدية في جحيمه: "لأن الجماع هو غزو يقعده العناق، والعض، والمص، فشبقيته تخضع لجغرافية مقدسة، فلا بد من التقبيل يمينا وشمالا، إمساك الذكر باليد اليمنى، والنزول عن المرأة من اليمين. فالحركات اليمينية رمز اليمن. ويغير الجماع الإنزال الطبيعي للمني. إنه الكمياء التي توحد الرجل في الجسم المقدس. هذه الكمياء التي يحيل وصفها على كل بلاغة مائية:" القبلة المبللة أفضل من جماع سريع، وأيضا اللعب ألذ من العسل الممزوج بالماء الصافي"(3).
هكذا يصبح الماء هو أصل الوجود، إنه يوحد الموجودات في المطلق، ولذلك فإن الرجل والمرأة حينما يجمعهما النكاح، فإن الماء يوحدهما في المطلق، وتمتزج الأنا بالانت في طهارة وحدة الوجود، والفناء في كمياء الجسد والاقتراب من لمس روح الآخر: "فالرجل هو الذي ينزل المني والمرأة هي التي تمتصه"، كأن فرجها يبتلع الذكر ويجعلك تظن أنه يمصه كما يرضع الطفل من نهد أمه".(4) لأن التقبيل والمص والعض والغزو، والإنزال هي جميعها طقوس تقود نحو التوحد في الوجود، من خلال حفظ استمراره، ذلك أن المرأة وعاء يقذف فيه المني من أجل ولادة جديدة للوجود. لعل الغاية من وراء هذا الجمع الملتبس بين الفيلسوف الذي يمتلك اللاغوس ويجامع برضاه، وبين الأديب الذي يستغل التراث الشعبي ليكتب بحرية عن الجماع، ويحرف القوانين الطبية، من أجل أن تصبح في متناول العامة من الناس، سيكون الغرض منه هو الوقوف على تلك التحولات التي يعرفها خطاب الحكماء والأطباء حينما يتداول شعبيا، أي حين ينتقل من المكتوب إلى الشفهي، هكذا نجد أن كتاب سر الأسرار الشهير والمنحول على أرسطو حاضرا بقوة في تلك الكتابات التي تناولت بلاغة الجماع كالروض العاطر للشيخ النفزاوي أو كتاب رجوع الشيخ إلى صباه، وغيرهما من كتابات السيوطي، وكأنها تمثل ذلك الوجه الآخر لكتاب سر الأسرار المنحول على أرسطو، مع إضافة الوصفات الطبية من جالينوس، او ارجوزة ابن سينا في الطب. هكذا ستكون فصول هذا الكتاب عبارة عن سفر ممتع في بهاء لذة الجماع على مستوى اللاغوس والميتوس، أو في ثنائية الروح والجسد; الذكر والانثى، ولنا أن نتساءل عما إذا كان أبو الفلاسفة يمزح حين قال أن الفلسفة هي التفكير في الموت، يعني موت الشهوات؟ بعبارة أخرى كيف يمكن للغوس أن يؤدي وظيفته في غياب وثنية الفرح; أي لذة الجماع؟، وهل كان الشيخ الرئيس ابن سينا الثائر الوحيد على تعاليم سقراط وأفلاطون وأرسطو عندما اعترف في سيرته الذاتية بشغفه بالجماع إلى درجة أنه كان السبب الحقيقي في موته؟ وما السر في اعتراف الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي بأن الجماع فاكهة سوق الجنة وبرهان للعسل؟، بل أكثر من ذلك لماذا نجد أن ابن رشد كان مخلصا لمشائيته محتشما من الاعتراف بولعه ببهجة النكاح كما فعل ابن سينا؟
في رسالة بعث بها أفلاطون إلى فرفوريوس، تحمل عنوان: في حقيقة نفي الهم وإثبات الرؤيا، يقول في مطلع هذه الرسالة: "يجب أن تعلم أن كل ألم غير معروف الأسباب غير موجود الشفاء. فيجب أن نبين ما الهم، وما الغم، وما سببهما.. فالهم تقسم الأفكار، وحيرة النفس، وخمولها، وهو سريع الزوال والانتقال. والغم خطر كبير، وأمر عظيم، يذهب القوة ويفتر الحرارة، ويهدم الجسد، ويكدر الأوقات. وهو ألم نفساني، يعرض بفقد محبوب أو لفوت مطلوب"(5) هكذا يتبين إذن من خلال هذه الرسالة أن سبب الغم، أو ألم النفس هو فقدان المحبوب، وإذا اعتبرنا أن هذا المحبوب امرأة، عاشقة شبقية تقبل الغزو وتتجاوز حدود الذات إلى ما بعد الذات، خاصة وأن أفلاطون يتحدث عن الألم التي يحدثها النكاح للنفس، وكأنه يريد أن يقول بأن لذة الجماع مرتبطة بالجسد فقط، ومنفصلة عن النفس، ذلك أن أفلاطون على لسان سقراط يعترف بأن الجسد يعتقل النفس، إنه بمثابة سجن مخيف تلتهمه النار، باعتباره مقرا للشهوات الحسية، ولذلك ينبغي على العاقل أن يطلب ما يسعده دون ما يشقيه، ويحترز من سلوك طريق الشقاء والجهل، في هذا الأفق الأفلاطوني حيث يصبح الجماع بوابة مفتوحة يدخلها الجهال فقط. باعتبارهم قد انغمسوا في الشهوات الحسية، خاصة شهوة النكاح لأنها الحافز على جمع الثروة، والشراب، والزينة واقتراف الظلم: "ولن تجد مخلوقا تعف يده عما لا يملكه، إن كان في وسعه أن يستولى دون أن يخشى شيئا، على ما يشتهيه في السوق، أو يتسلل إلى البيوت ويضطجع مع من يشاء كما يهوى"(6). لعل أفلاطون يتخوف من أن تستولي اللذة على النفس وتسخرها لارتكاب الظلم حين تتسلل في الليل إلى بيوت الآخرين وتضاجع نساءهم من أجل إشباع رغباتها وإخماد حرقة الجماع التي تلتهم كالنار كل ما تجد في طريقها، لأن الذي يجامع، أو يرغب في الجماع يصبح كالمحارب الذي يعصى أوامر قائده.
وسيرا في طريقه نحو هذه الغاية، يخاطب أفلاطون فرفوريوس بحزن عميق: "وأقول إن من لم يعرف الزمان، واعتبر أصول الأحوال متى زالت عنه عادة وجود دنيا فارق معها الشهوات الحسية: من لذيذ الطعام، وطيب الشراب ومليح الملبوس والمنكوح.. وقد تقررت معرفته أنها أعراض"(7) والحقيقة أن أفلاطون يوجه نصيحته إلينا قائلا: "ولا تضيع عمرك، فلن تجد له عوضا، واقسمه على أربعة ساعات: ساعة لوظائف علمية وعملية، وساعة لتدبير معاشك وساعة للذتك ودعتك والزم فيه السنة، وان ابتليت بمعصية فاسترها. ولا تتجاوزن إلى ظلم غيرك"(8).
لم نستطع إلى حد الآن أن نجد منعرجا يوصلنا إلى معرفة برهان الجماع، أو على الأقل سر أسراره، ولذلك وجدنا أنفسنا نتيه في عوالم أفلاطون، سقراط باحثين عن تعريف للنفس الإنسانية خاصة وأننا افترضنا ان الجماع مشتركا بين النفس الروحانية والنفس الجسمانية، لأن شبقية الجماع تشبه إلى حد ما جاذبية الموسيقى، فيها تتعانق النفسان في المحبة الروحانية، وتصير لطيفة بسيطة مشبعة بالمحبة التي تفيض منها; من خلال الرغبة والوحشة والأنس، لأنها الحركة والحياة، وكل متحرك من ذاته دائم الحركة لا يموت، فالنفس لا تموت، ولذلك اتحدث بالجسد الذي يتمتع بعنفوانها، ورشاقتها، وإلا كان الجسد أثقل مما يكون إذا لم تكن فيه، وليس لها جوهر سوى جوهر الحياة، لأن: "فضائل النفس أربع، وفضائل الجسد أربع بإزائها، فالنفس لها الحكم، وللجسد التمام والكمال، وللنفس العدل، وللجسد الجمال، وللنفس الشجاعة، وللجسد القوة، وللنفس العفة، وللجسد الصحة"(9).
داخل هذه الثنائية التي تجمع بين النفس والجسد يتم تركيب كمياء الجماع، لأنه يتطلب تهيؤا طويلا من أجل أن يتم في منتهى الكمال، فبمجرد ما يكون الجسم معلولا، أو أن تكون النفس مريضة تسبح في الهم والغم والألم يستحيل الجماع، على الرغم من أن أحد الطرفين الذي يتمتع بصحة النفس والجسد يكون مجنونا بالشهوة، محترقا إلى حد الهذيان، ذلك أن النكاح بقساوته وطريقته الهاذية، لا يمكن أن يحقق كماله، إلا من خلال التوحد بين روحين وجسدين في غاية التناغم، بيد أن سقراط الذي كان له تأثير كبير على أرسطو ومسار فلاسفة الإسلام، يشترط في النفس أن تكون خيرة، لكي تصل في النهاية إلى حب الجمال، لأنه: "من الواجب أن يصان الحب من الجنون أو التهور المفرط.. الا ندعهما يفسدان لذة الحب، أو أن يكون لهما أي محل في علاقات المحب ومحبوبه(10).وبعبارة أخرى ان ما يرغب فيه حكيمنا هو ذلك الحب المعتدل والحكيم الذي يتفق مع النظام والجمال. ولا يمكن لهذا الحب المتعالي عن الجنون والتهور والهذيان أن يقوم إلا بين نفوس خيرة، وليس بين نفوس شريرة وأخرى خيرية، واستنادا إلى هذه الرؤية الفلسفية نجد أنه من المحال ان يحصل إشباع الرغبة الجنسية بين النفس الشريرة والنفس الخيرة، أو بالأحرى بين الأشرار: "ففي اعتقادي ان الجسم مهما قوى بنيانه، لا يستطيع أن يجعل النفس خيرة، أما النفس الخيرة فتستطيع بقواها الكامنة أن تضفي على الجسم كل ما فيها من كمال"(11)، لكن كيف يمكن أن نجامع برضى المعلم سقراط الذي تحكم بقبضته الحديدية على تاريخ الفلسفة؟
إن الفيلسوف وهو يشرع للجماع لا ينظر إليه كغاية في ذاته، كما هو عليه الحال عند كتاب أدبيات الجنس الشعبية حيث يصبح الاير والفرج بمثابة أسطورة يستحيل على الفيلسوف أن يصدقها، مثل المرأة التي نكحها ألف رجل وتسمى بالألفية عند السيوطي، والمتيممة بالنكاح والمرأة التي تسمى بالمني التي لا يشبع رغبتها كل رجال العالم فهي امرأة مثالية الشبق عند الشيخ النفزاوي، بل إن الجماع عند الفيلسوف موجود من أجل الاجتماع، أي تحقيق الدولة المثلى، هكذا نجده يدعو إلى مشاعة النساء بين حراس جمهوريته،حيث يقول: "أن نساء محاربينا يجب أن يكن مشاعا للجميع. فليس لواحدة منهن أن تقيم تحت سقف واحد مع رجل بعينه منهم وليكن الأطفال أيضا مشاعا، بحيث لا يعرف الأب ابنه ولا الابن أباه".(12)هكذا تنصهر الآمال والأحلام في جسد مشترك، وموحد كميائيا يعبق بعطر ممتزج بالأحلام، ذلك أن المعلم يدعو إلى جماع مشترك، يتم بعنف بين اللاغوس والنكاح، تتوسل فيه روح الحكيم إلى الابتهاج من خلال إنزال المني في رحيم الوجود حفاظا عليه من الانهيار، لعل حركية هذه الخدعة الميتافيزيقية تتعالى عن ذلك الجماع المشترك الذي كان يتم أثناء أعياد ديونيزوس، لأن سقراط يكره اللذة من أجل اللذة، ولذلك نجده يتهكم من افروديت في"محاورة فيليبي"حين ربطت بين اللذة والجسد. وقد استطاع المكر السقراطي أن يرفع اللذة إلى مقام العقل الذي يشتهي الحكمة والأنغام..(13)ما دام أن غاية الكون هي الاستمرار، وليس الفساد والانهيار، فإن المعلم يلح على مشاعة النساء وان يجماع الكل الكل ولو في لحظة واحدة، تتعالى فيها الأصوات والهذيان والقساوة المعممة بعدالة، وتمتزج العطور، ويختلط المني بالدم من أجل ولادة فرحة للوجود بواسطة مبدأ أن العبقري يلد العبقري، ذلك أن الحذر السقراطي كان عنيفا فيما يتعلق بانتقاء النساء والرجال الذين لهم الحق في المشاعة والنكاح المشترك الذي يباركه الرهبان والكهنة، "فعليك أن تحتار للرجال الذين انتقيتهم أقرب النساء إلى طبيعتهم ثم تجمع بين هؤلاء وأولئك، فيكون للجنسين معا نفس المسكن ونفس الطعام، مادام من المحظور على أحد أن يملك شيئا لنفسه، ويعيشون سويا ويختلطون معا في الرياضة البدنية وفي بقية التدريبات، ويشعرون برابطة قوية تجمع بينهم بالطبيعة"14إننا نوجد أمام تبادل دائري، جماع مشترك مقابل فوائد لا نظير لها للدولةالدفاع عنها في الحرب، إنجاب أطفال أقوياء وعباقرة، تمديد عمر النكاح لأولئك الذين أظهروا شجاعة كبيرة في الحرب، مقابل حرمان كل من كان جبانا من النكاح، إنها لعبة ماكرة يمارسها اللغوس على النكاح، فبواسطته يتم ضبط الحراس وإخضاعهم للعدالة والنظام، إنها دولة قوية تقوم على الجماع المشترك كما أشرنا إلى ذلك، تكون خالية من الشرور لانعدام الملكية الفردية: " أليس أشر ما في الدولة هو ما يمزق وحدتها ويفرقها أشتاتا، وأفضل خير فيها هو ما يجمع شملها ويوحدها"15.
هكذا سيرتاح المعلم سقراط من تمزق وحدة الدولة، ومن الطلاق والصراعات التافهة بين الأسر أو بين الرجل والمرأة، ذلك أن: "أقوى الأسباب في محبة الرجل لامرأته أن يكون صوتها دون صوته بالطبع وتمييزها دون تمييزه، وقلبها أضعف من قلبه. وإذا زاد شيء من هذا على ما في الرجل تنافرا بمقداره" 16، لأن الطبيعة لا تصنع باطلا، لأنها تسعى إلى غاية واحدة وهي الكمال، ولذلك فإن: "الطبيعة للنفس شبيهة بالنزوجة للرجل: تدبر البدن، كما تدبر المرأة المنزل.. فان غلبت الطبيعة على النفس كان كتأمير المرأة على زوجها: فانتشر أمر النفس وقبح نظامها. وإن غلبت النفس عن الطبيعة كان كتأمير الرجل على المرأة ووضعه إياها في مرتبتها " 17
في هذا الأفق الممتلئ بالانسجام والتناغم، تتحرك النفس نحو الطبيعة كما تتحرك المرأة نحو الرجل، لأنها تمتلك الوجود في رحيمها، ولكننها في حاجة إلى محرك وهو المني الذي يخرج هذا الوجود من القوة إلى الفعل، مما يرغمها على أن تكون مغايرة، أو مضادة له في الطباع، ذلك أن الأضداد تعشق بعضها من أجل تحقيق شبقية اللذة، وبمجرد انتهاء اللذة تتصدع وتنفجر حسب قانون افروديت. واستنادا إلى وصية أفلاطون التي تقول: "من لم يهيجه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره، والجماع وشبقيته وسحره فهو فاسد المزاج لا علاج له" (18)هاهنا تصبح بلاغة الجماع مرتبطة بشبقية اللغة التي تضفي على الجسد قدسية التناغم والانسجام مع فصول السنة والأنغام الموسيقية، ونوعية الطعام، لأن المقبل على الجماع لا بد أن يتناول أطعمة مهيجة غالبا ما تكون ممزوجة من الأضداد: البيض والبصل، العسل وحليب النوق مع استحضار التوابل العنيفة، كما لا ينبغي نسيان الدور الميتافيزيقي للعطر الذي ينفذ مباشرة إلى ماهية الروح ويجعلها لينة، رطبة تنقاد نحو جاذبية الجسد وكأنه كوكب يتحرك في المجرة. ولا يجب أن ننسى أيضا مكانة الاستحمام، لأنه ضروري يعيد للجسد طهارته وقدسيته، ويمنح للروح فرحها، إنه سابق على كل قانون، أو كلام مهم بل إن صاحب كتاب سر الأسرار يعتبره: "من أعجب ما في العالم وأغرب ما وصفته حكماء الأرض ودبرته لراحة الجسم ونقاء البدن وتحليل الأعضاء وفتح مسام الجسم، وإظهار البخارات والفضلات ونقاء الجلد من بقايا الآلام والأمراض. وذلك أنه مبني على فصول السنة: فالحار للشتاء، والذي يليه للخريف، والذي يليه للربيع والذي يليه للصيف" (19)لكن كيف يمكن تحقيق هذا الجماع الميتافيزيقي الذي يجعل الجسد يتحد بالجسد، والروح بالروح في وحدة وجود صوفية يتحكم فيها اللعب بالكلمات وإبراز الوجه الابتهاجي للنكاح؟، بعبارة أخرى كيف يمكن أن نمتلك الوجود من خلال قدسية النكاح؟
من المفيد أن نبحث عن الإجابة في تلك الفضاءات المغربية لكتاب سر الأسرار المنحول على أرسطو والذي هيمن بظلاله على أغلب الكتابات السلطانية سواء في السياسة أو في الطب وحفظ الصحة، أو في فن النكاح، لأنه نص شامل لكل فنون القول حتى الخيمياء والسحر. وكأنه يسعى إلى الخلود، يسلك طريقا خاليا من المحالات، لغته تمزج بين الإغراء والخرافة، ولعل هذا ما منحه القدرة على اختراق نصوص فلاسفة الإسلام والإقامة في كينونتها، إلى درجة أن ابن سينا وابن عربي وابن خلدون كانوا ضحايا إغراء هذا النص الساحر. وقد حاول ابن رشد أن يحافظ على استقلاليته إخلاصا منه للمعلم الأول لكن بدون جدوى. سنحاول ان نقضي وقتا ممتعا داخل غرائبية هذا النص أو ربما سنجد أنفسنا نتحرك في هوامشه، خاصة وأنه يربط الجماع بفصول السنة، ويوجه الملك الاسكندر إلى حفظ صحته، انطلاقا من اختياره للأوقات المقدسة للجماع. فما هي الطقوس التي ينبغي توفيرها من أجل نكاح أفضل؟ وما هو الفصل الأمثل لممارسة هذا الطقس؟ ثم ما هي الأطعمة والأشربة التي يجب تناولها لتهييج شهوة الجماع؟
1 - أفلاطون: الجمهورية ص 5
2 - الجمهورية ص 49
3 - الخطيبي: الاسم العربي الجريح، دار العودة بيروت ص 119
4 - ن م ص 120
5 - أفلاطون في الإسلام، غ بدوي دار الأندلس
6 - الجمهورية ص 45
7 - م م ص 273
8 - م م وصية أفلاطون ص 244
9 - م م أفلاطون في الإسلام ص 253
10 - الجمهورية ص 99
11 - الجمهوري ص 99
12 - م م ج 169
13 - Platon, Philibe, Flammrion P373
14 - أفلاطون م م ج 170-171
15 - م م ج 175
16 - أفلاطون ص 275
17 - أفلاطون في الإسلام ب ص 274
18 - أفلاطون في الإسلام بدوي ص 246
19 - سر الأسرار ص 105
.
لوحة للرسام فريدريك آرثر بريجمان
التعديل الأخير بواسطة المشرف: