ل
لا أحد
الفصل الثالث: الجسد كهدية للجماع
في ضيافة حميمية الشيخ الرئيس ابن سينا
للانتقال من حميمية سر الأسرار وعذوبة الإمتاع والمؤانسة ببراهينه الغرائبية، وأحيانا الخرافية التي تجعلك تكتب خارج طقوس الكتابة، أو بالأحرى تكتب في غياب الكتابة، التي تحولت إلى كوجيطو ديكارتي منحرف: أنا موجود إذن أنا أكتب ما لا ينبغي كتابته، أكتب لا من أجل التصديق، ولكن بغية السير في طريق الإمتاع والمؤانسة، على الرغم من أنه طريق بدون اتجاه لا يؤدي إلى أي مكان، أو ربما يقود إلى اللامتناهي الذي يشكل ماهية اللذة ومصدر قواها، ورغبتها في تجريب قدرتها في الإنسان المتناهي. هكذا يجتمع المتناهي واللامتناهي في صميم الإنسان بما هو إنسان. الأمر الذي يجعله يهرب من الفضيلة باعتبارها توسطا بين الأقل والأكثر، أي بين التفريط والإفراط، كما جاء في كتاب نيقوماخيا لأرسطو، والذي تداوله فلاسفة الإسلام بكثرة، ومن بينهم الشيخ الرئيس ابن سينا، أمير الفلاسفة، وأكثرهم محبة لمتعة الحياة وعنف اللاغوس. وقد اختصر عمره القصير في ثلاثية عميقة الوجود، ومعبرة عن بهائه وإشراقه لذة الكتابة ومتعة الشراب، وبهجة النكاح. مسار ممتزج بميتافيزيقا الروح وكمياء الجسد، فكيف يجامع الفيلسوف برضى الميتافيزيقا وتلبية لنداء الجسد؟، وهل كان الشيخ ابن سينا مختلفا عن فلاسفة المشرق والأندلس؟ كيف استطاع أن يجمع بين عشق اللاغوس وحب الحياة إلى حدود الامتلاء
تخبرنا سيرة الشيخ الرئيس ابن سينا، والتي أملاها على تلميذه ورفيقه المخلص أبو عبيد الجوجزاني، أنه فتح عيناه في بيت ممتلئ بالضجيج القادم من أصوات شغوفة بالحكمة والمعرفة، لأن أباه كان ينتمي إلى الإسماعيلية وهي مذهب عرف بنزعته للعلم والمعرفة، ولذلك فإنه كان يستضيف أتباع هذا المذهب في بيته من أجل تناول الطعام، وإتمام الحوار الذي لا ينتهي أبدا، كالحوار السقراطي الذي عودنا على الاتفاق مع محاوريه باستمرار أن يلتقي بهم في الغد، هكذا تختتم المحاورات دائما بأمل اللقاء في الغد. ولعل الطفل ابن سينا كان يلتقط المعارف من خلال ما يستقر في ذهنه، ويقتحم لا وعيه: "وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ويعد من الإسماعيلية. وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم وكذلك أخي. وكانوا ربما تذاكروا ذلك بينهم وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه ولا تقبله نفسي وابتدأوا يدعونني إليه. يجرون على ألسنتهم أيضا ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند([1])."هكذا بدأ يكبر الطفل ابن سينا، وتكبر الرغبة معه في المعرفة، لا بواسطة السمع، ولكن بواسطة القراءة والفهم، وخاصة أن روح العباقرة أصبحت بارزة في شخصيته إلى درجة أنه كان يصحح أخطاء أستاذه في المنطق. حيث يقول في هذا الصدد: "ثم ابتدأت بقراءة كتاب إيساغوجي على الناتلي فلما ذكر لي حد الجنس أنه المقول على كثير مختلف بالنوع في جواب ما هو؟ فأخذته في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله. وتعجب مني كل العجب وكان أي مسألة قالها تصورتها خيرا منه وحذر والدي من شغلي بغير العلم"([2]) واستحكم العلوم وأصبح طبيبا مشهورا في العشرين من عمره، بيد أن شيخنا يعترف بصعوبة كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو مما دفعه إلى قراءته أربعين مرة، ومع ذلك لم يفهمه. وكانت الصدفة سببا في انفتاح أبواب هذا الكتاب أمامه، ذلك أنه اشترى كتابا لم يكن في حاجة إليه، بل أراد أن يرضي صاحبه، وبمجرد ما عاد إلى البيت، وفتح هذا الكتاب، الذي كان لأبي ناصر الفارابي، انفتحت أمامه كل صعوبات علم ما بعد الطبيعة: "وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة فلم أفهم ما فيه والتبس علي غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به وأيست من نفسي وقلت: "هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه". فحضرت يوما وقت العصر في الوراقين فتقدم دلال بيده مجلد ينادي عليه. فعرضه علي فرددته رد متبرم معتقد أن لا فائدة في هذا العلم. فقال لي: "اشتره فصاحبه محتاج إلى ثمنه وهو رخيص. وأبيعكه بثلاثة دراهم". فاشتريه فإذا هو كتاب أبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. ورجعت إلى داري وأسرعت قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب لأنه كان قد صار لي محفوظا على ظهر القلب. وفرحت بذلك وتصدقت في اليوم الثاني بشيء كثير على الفقراء شكرا لله تعالى". ([3])
لا نريد أن نستعرض سيرة الشيخ لنعرف القارئ بغرابة حياة الفيلسوف، وكيف ينبت في مناخ مشجع للمعرفة ومحبة الحكمة، بل ان مقاصدنا هي الوقوف على بعض الأسرار التي جعلت ابن سينا يستهلك حياته بسرعة كبيرة، وعنف ماكر، وكيف استطاع أن يجبرها على أن تكون جميلة و معبرة عن إشراق روحه، إذ كيف يمكن لهذا الرجل الذي يحلم في الليل كل ما يكتبه في الصباح، أو الذي لا ينام بتاتا إلا بعد أن يستهلك كل الورق والمداد والشراب، وأن يهب نفسه هدية لجنون شهوة النكاح؟ وما الذي دفعه إلى ركوب أجنحة اللامتناهي من أجل تدمير المتناهي؟. وهل كان يعلم أن تناول جرعات الدواء باستمرار، وحقن جسده بكميات كبيرة من الدواء الذي يصنعه بنفسه، من أجل البرء ثم العودة إلى بهجة الجماع ليعاوده المرض؟ أم أنه كان يتنبأ بأن مصيره سيكون هو الموت؟. ومن هن النساء اللواتي كان الفيلسوف يجامعهن، هل ينتميان إلى جواري البلاط الذي كان ابن سينا طبيبه، أم أنه كان مسكونا بهذيان المومسات اللواتي يمنحن للجماع عنفه وصخبه، أو ربما جنونه التائه في كينونته؟. وما هي النصوص المتعلقة بأسرار الجماع التي قرأها شيخنا في شبابه وأثرت في مزاجه، وجعلته يتمرد على تعاليم المعلم الأول، ويخضع اللاغوس إلى خيمياء الجسد؟، هل اطلع على نص سر الأسرار، على الرغم من أنه كان يعرف بأنه ليس لأرسطو؟ أم قرأ نصوصا أخرى أكثر إثارة من سر الأسرار، ولم يذكرها، بل احتفظ بها في لاوعيه، وقد تحكمت في قدره الذي خضع للذوبان في لهيب النكاح؟.
حين يغيب النص، وتحتجب الاستشهادات، نجد أنفسنا أمام عظمة الخيال الذي يستنجد بالافتراضات والتخمينات التي تعتمد العلل كمنطلقات بغية البحث عن الأسباب، فإذا كنا لا نعرف شيئا عن نساء ابن سينا وعاشقاته، ولا انتماءهن الطبقي، أي هل ينتميان إلى الطبقات الراقية التي تحيط بالملك ويتم الاستغناء عنهن باعتبارهن فروج لا خير فيها، ملتهبة بالأمراض نتنة الرائحة ذوات قذارة وعفونة وماء، وكان شيخنا طبيبها يحركها نحو البرء متلهفا لنكاحها، أم أنه كان مثل نيتشه يبحث عن مومسات الليل في أزقة مدينته، بعد أن ينتهي من الكتابة والشراب؟.
لم يذكر لنا كاتب سيرته أوصاف نساء ابن سينا، هل كن من المحمود من النساء، ولا طريقته المفضلة في الجماع، ولا حتى نوع الطعام المهيج للشهوة الذي كان شيخنا يتناوله، بل اقتصر على وصفه بقوة الجماع، والإكثار منه إلى حدود المبالغة،" وكان الشيخ قوي القوى كلها وقوة المجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب ويشتغل به كثيرا"[4]نعم إن جنون شهوة الجماع قام باغتيال كمياء الجسد وأرغم ميتافيزيقا الروح على العودة إلى موطنها الأصلي، إلى جزر السعداء.
كان ابن سينا إذن ضحية ذلك الوحش المخبول الذي يلهب جسده العليل، ولذلك فبمجرد ما يتماثل للشفاء يعود إلى صخب النكاح والاستمتاع برائحة العطر التي تفوح من امتزاج المني ببرهان العسل، وكأنه واهب للصور يحركها في رحم المرأة بواسطة إنزال المني بعنف، لكي يختلط بالدم ويمنح الحياة للموجود بالقوة ليخرج إلى الفعل، ثم يعاوده المرض مرة أخرى. إنها حلقة مغلقة أبطالها: الصحة، والنكاح، والمرض، يتناوبون على جسم الحكيم الذي أفرط في عشقه للوجود وتيممه بالحسنوات وبأصواتهن المتسللة إلى ذاكرته، لتوقظ فيها نار الطفولة ومحبة الحكمة. إن ابن سينا كان ثملا بعطر النساء، كما أن بهجة الجماع لا تنام عنده، بالرغم من مرضه أو انشغالاته بالتأليف والقراءة، لأن الشيخ كان قوي القوى كلها، وقوة الجماع أعظمها، وقد منحته القدرة على تأليف كتاب بكامله في ثلاثة أيام أو أسبوع كما وقع مع كتاب القانون في الطب: "وأرجع بالليل إلى داري وأحضر السراج بين يدي وأشتغل بالقراءة والكتابة. فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب لكيما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة. ومهما أخذني نوم كنت أرى تلك المسائل بأعيانها في منامي، واتضح لي كثير من المسائل في النوم. ولم أزل كذلك حتى استحكم معي جميع العلوم ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنساني. وكل ما علمته في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن، لم أزدد إلى اليوم فيه شيئا."[5]
والواقع ان الفيلسوف ابن سينا كان يمتلك نفسا مرحة تستمد عمقها من أفراح و أعياد ديونيزوس، مؤمنة بتعاليم أفروديت التي تعتبران لذة الجماع مصدر الوجود، كما أنها مصدر انهياره أي بانتهائها تنتهي وحدة الوجود التي تعكس وحدة الموجودات، فالجماع يوحد، وبانتهائه يتم التصدع بين الأجساد. إنه يوحد بين الأضداد، ويضفي عليها انسجاما وتناغما: المرأة والرجل، الذكر والأنثى. عالمان متغايران ومتناقضان يوحد بينهما الجماع، وبواسطته يتم حفظ الوجود من الانهيار. وقد كان شيخنا يؤمن بقوة هذا المذهب الفرح، على عكس سقراط الذي كان يحتقر افروديت، ويعتبران ما تقوله مجرد لعب بالكلمات.
مهما كان الزمان شرسا مع جسد ابن سينا العليل، الذي لم يستطيع أن يعود إلى صباه في القوة على المباضعة، رغم تسخيره عبقريته كطبيب اشتهر بمداوة علل الملوك والأمراء الذين كانوا يضطهدونه بمجرد شفائهم فإنه تمكن من تجرع لحظات فرحه وبهجته وسروره دفعة واحدة لم تتجاوز الثمانية وخمسين سنة: "وكانت ولادته في سنة سبعين وثلاثمائة وجميع عمره ثمان وخمسون سنة. لقاء الله صالح أعماله"([6]).
لأنه بقدر ما كان فيلسوفا عظيما أبهر الدنيا بعبقريته، بقدر ما كان جسمه عليلا هشا لا يساير قوة نفسه. فداخل هذه المفارقة الرهيبة التي تجمع بين القوة والضعف، بين الرغبة العنيفة، وعدم القدرة، عاش شيخنا آخر أيامه. ومع ذلك ظل يكتب مجموعة الشفاء الذي اشتهر بها منتقلا من العلم الطبيعي مرورا بالبرهان إلى ما بعد الطبيعة كما أنه استمر في مسايرة عنف النكاح، يتوقف في لحظات المرض، وحين يصح، أو على الأقل حين يتماثل إلى الشفاء، يلتهم قوة جسده بعنف غاية في النعومة، فليبدو الرغبة مرتبط بليبيدو الكتابة، إلى حدود أن الكتابة لا تأتي إلى الفيلسوف إلا عندما يغريها بالشراب وبهجة الجماع، إنه شباك يرميه من أجل اصطيادها. إنها امرأة مدهشة بجمالها ومفاتن محاسنها، ولكنها صعبة المنال بدون إغراء، فإذا كانت المرأة مثل الثروة، عند ميكيافيلي لا تخضع إلا بالعنف، فإن الكتابة عند شيخنا تأتي دائما متأخرة في المساء كمنيرفا الحكمة التي كانت تطير كلما أرخى الليل سدوله، شريطة أن يتم اجتذابها بعطر النكاح ورائحة الشراب، ذلك أن الفيلسوف يكتب داخل اللاغوس الذي يسعى إلى تفجير خيمياء الجسد المحكوم بالكون والفساد، والذي يحن إلى أصله ومصدر وجوده; إنه عنف الجماع، لأن جسد الفيلسوف انبثق صدفة من صخب النكاح ومن هذيان النفس حين لا تعرف الاستقرار في موطن غير موطنها، تتحرك وكأنها عرافة دلف التي تحب الانشطار والاستيهام، وهي لا تتنبأ بما يأتي إلا بالعودة إلى الأصل الذي ينبثق عنه.
والواقع أن فيلسوفنا اضطر إلى الإقامة في هذا الليل الروحاني الممتلئ بالرموز، ولذلك ظل يبحث له عن سر أسراره، فلم يجد غير اقتسام عمره بنعومة فائقة بين ميتافيزيقا الروح وخيمياء الجسد الذي يقضي نصف عمره في النوم، والنصف الآخر في الطعام وصخب النكاح. إنه كان يكتب لكي يحافظ على الوحدة بين النفس والجسد، ولو لمدة قصيرة. وكل مرة شعر باقتراب افتراقهما، لجأ إلى النجاة بواسطة صناعة الطب، التي تسعى إلى إعادة للطبيعة ما تمتلكه، والخيمياء الذي يمتزج بين الأضداد من أجل إعادة إلى الجسم توازنه. هكذا كان الشيخ الرئيس يحقن نفسه مرات عديدة في اليوم: "ولحرصه على البرء إشفاقا من هزيمة يدفع إليها لا يتأتى له المسير فيها مع المرض، حقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات فتقرح بعض أمعائه وظهر به سحج. وأحوج إلى المسير مع علاء الدولة بسرعة نحو إيذج فظهر به هناك الصرع الذي قد يتبع القولنج. ومع ذلك فقد كان يدبر نفسه ويحتقن للسحج ولبقية القولنج."([7])
إنه جسد منهك من شدة الإفراط في الجماع والكتابة، يسعى الشراب إلى إيقاظه بين الحين والآخر والعطر إلى شفائه، لأنه لا غذاء للنفس الروحانية التي لا تقوم وتبتهج: "إلا باستنشاق الروائح العطرة والرياحين المستلذة، فإنه إذا تغذت النفس وقويت، يقوى الجسم ويفرح به القلب". ([8]) غير أن هموم مرض القولنج كدر سعادته، فهو ليس بمرض عرضي، ينفع معه تحضير حقنة من ماء الكرفس ولعاب السفرجل، والاهليج الهندي ويضاف إليهم من العسل المدبر رطلان أو ثلاثة إن أمكن، ثم يطبخ الدواء بنار لينة حتى يثخن، وحينئذ يكون جسد الفيلسوف والطبيب ابن سينا جاهزا للتجربة، بيد أنها تجربة اختارت مصير الفشل، وتقرحت أمعاء الشيخ، وأصبح المدبر الذي كان يدبر جسمه عاجزا عن التدبير: "فأهمل مداواة نفسه وكان يقول: 'المدبر الذي كان يدبر بدني قد عجز عن التدبير والآن فلا تنفع المعالجة'. وبقي على هذا أياما ثم انتقل إلى جوار ربه ودفن بهمذان في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة".([9])
هكذا اقتنع الحكيم بنهايته، وعاشها بدون تردد، ولا خوف، بروح عظيمة خرجت من جسد عليل، لكي تكتسب الخلود، وتحقق كمالها في جسم صناعة الطب، والعلم الإلهي، لأنه لا بقاء إلا للنفوس الفاضلة الكاملة، ذلك ان النفوس الشريرة منحلة حسب ابي نصر الفارابي." فهذا حال ما وصل إلينا من سيرة وحياة هذا الرجل ونحن لم نلق شخصه. وأما من كان معاصرا له ممن لم يوصف بأنه في مثل درجته فلم نجد له تأليفا "إنها عبارات مشرقة حملها إلينا حي بن يقضان([10]). الذي يعترف مثل أسطورة فيدرا التي تحكي بأن النفس الإنسانية تنطق بمحبة الحكمة قبل أن توسطن الجسد. ربما لأن إقامتها أحيانا في أجساد شريرة تكون سيئة وشقية لها، ولا ينفعها إلا التخلص من هذه الأرواح الشريرة التي يسميها سقراط ب"أعداء الفلسفة"وهم أخطر على حياة الفلسفة من العوام.
كان الشيخ الرئيس ابن سينا ممتلئا بالحياة، ويقتات من رحيقها ويتذوق إشراقاتها الجميلة، إنها الحبر الذي كتب به فلسفته، والعطر الذي اجتذبه إلى الذوبان والفناء في بهجة النكاح، حيث أصيبت ماهية شهوته بمس من الهذيان ونعمة الجنون، وأصبح متصلا بكينونة اللذة مشتاقا إلى فتنة أفروديت التي كانت تتمنى أن يجامعها الطبيب و الفيلسوف ابن سينا بعنف مشرقي، لأنه يمتلك خيمياء تهييج النكاح وطبخ الجماع. فقبل أن يقدم النصيحة للآخرين، ينصح نفسه ويربيها على الفوضى، وعدم الاستئمان للزمان; لانه ماكر لا يميز بين الحكماء والعوام، بين الأخيار والأشرار، بين من يحب الحياة ومن يكرهها .
لقد كان ابن سينا متميزا على كل فلاسفة الإسلام بعجرفته وطبيعة مزاجه الارستقراطية، وحبه الشغوف للذة، خاصة لذة الجماع والشراب. وكانت ثروته تصرف مقابل ليلة بادخة يحتفل فيها بزواج اللاغوس بالجماع عنف الميتافيزيقا بهذيان النكاح، الكتابة مقابل إنزال المني، لانه بقدر ما يسيل اللاغوس على بياض الأوراق، يسيل المني في رحم نساء ابن سينا. إنها لعبة مدبرة من الزمان ضد أزلية الفيلسوف. وكأنه يخاطبه قائلا: "الفلسفة إنما تنحو نحو سعادة الناس العقلية".([11]) أما النكاح فإنه ينحو نحو سعادة الناس الجسدية. لأنه لو كان يسعد لكانت الثيران سعيدة حين تجد ما تنكحه.
والواقع أن فلاسفة الإسلام قد استسلموا لوصايا المذهب المشائي الذي تركه أرسطو، هذا العبقري اليوناني الذي منح للإنسانية هديته الثمينة. في الفلسفة، والأخلاق، والسياسة، والبرهان والعلم الطبيعي. وقد كانت ظلاله تنتشر في عمق كينونة نصوص فلاسفة الإسلام، الذين أخلصوا لتعاليمه، باستثناء ابن سينا الذي كان متمردا داخل المشائيية الإسلامية، إلى درجة انه أبدع فلسفته المشرقية، مما أغضب ابن رشد، وانتقده بعنف في كتابه تفسير ما بعد الطبيعة ([12])، بل واتهمه بالانحراف على مذهب المعلم الأول. نعم إن مزاج الشيخ الرئيس ابن سينا، أمير فلاسفة الإسلام، كأن ثوريا عاشقا للإبداع في الفلسفة، وصناعة الطب، ومتعة الحياة، لأنه لم يكن يقدس النص الأرسطي كما يقدس الرهبان النص المقدس، لأنه ترك هذه المهمة للفارابي وبان رشد. كما انه لم يكن ينظر إلى متعة الحياة من منظور حفظ الصحة، كما فعل صاحب كتاب سر الأسرار الذي كان يعتبر النبيذ والجماع مجرد دواء، نافع مع الاعتدال، وضار مع الإكثار، ولذلك فإن لكل فصل من فصول السنة جرعته، فالربيع والشتاء يتطلبان الإكثار من الجماع والشراب، أما في الصيف فمن الأفضل الاعتدال ويستلزم التقليل منه في الخريف.
لعل كل هذه النصائح الخرافية لم تكن تعني شيئا بالنسبة لأمير الفلاسفة باعتباره عاش تداخل الفصول وامتزاجها في زمان قصير يهدده العدم باستمرار. لأنه إذا كانت الكتابة غير مرتبطة بمزاج الفصول، وليست بدواء، لأنها خطاب من اللاغوس إلى اللاغوس تقتضي ممارسة العنف مع ميتافيزيقا الحاضر باعتبارها نسيانا للماضي والآتي. فإن النكاح والشراب يمتلكان نفس الماهية يوجههما نفس القدر. لأنهما ليس مجرد دواء، بل وصفة روحية تمنح للنفس بهجة الإقامة في الوجود، وللقلب الفرح والسرور في التهام أيامه، مادام أنه ليس في طبع الليالي الأمان كما يقول شاعر الحياة. هكذا عاش حياته بدون اقتصاد،ولم يكن يؤمن بأسطورة رجوع الشيخ إلى صباه. لأن الجسد يفسد بكثرة الاستعمال، والحركة. فكلما تقدم في الزمان، كلما فقد حيويته، وقوته إلى أن يتوقف نهائيا عن القدرة على الجماع، وتبدأ مرحلة الكآبة في خريف العمر، إنها مرحلة مشتركة بين الرجل و المرأة عندما ينتظرهما مذاق القدر، وليست مقتصرة على المرأة فقط، حين تصل إلى فصل الخريف كما يقول مؤلف سر الأسرار حين تصير هذه المرأة كهلة مدبرة تولت عنها أيام الشباب.
ومما لا شك فيه أن شيخنا الذي عاش عمرا قصيرا، كان على وعي بعمق المأساة والشقاء اللذان ينتظرانه في شيخوخته، ولذلك قام بإلغاء الشيخوخة من تفكيره، وتعمد عدم الانصياع للنصائح الدوغمائية، من أجل إنهاء الحياة بالحياة، في عنف عنفوانها، وفي قمة نشوتها وسرورها. لأنه كان يعتقد في المبدأ القائل، ينبغي القضاء على مأساة الوجود بواسطة مذهب الفرح الذي كان سائدا عند اليونان قبل مجيء سقراط. والذي يختزل في أعياد الشراب والجماع. بدون توقف ولا انتظار، لأن الحاضر هو الملكية الوحيدة التي يتوفر عليها الإنسان. إذ ينبغي أن يغنم من لذاته ما أمكن. وسعيا وراء هذا النهم الأنيق الذي يصيب النفس حين تريد أن تلتهم ذاتها بغية الامتلاء بالحاضر، عمد ابن سينا إلى مقارعة الكتابة بالشراب والنكاح، فكلما ازداد نشوة ومتعة، ازداد قدرة على الكتابة، ولم نعرف واحدا من الفلاسفة استطاع أن يؤلف كتابا في ثلاثة أيام، إلا شيخنا: "وكتب الشيخ في قريب من عشرين جزءا مقدار الثمن رؤوس المسائل. وبقي فيه يومين حتى كتب رؤوس المسائل بلا كتاب يحضره ولا أصل يرجع إليه، بل من حفظه وعن ظهر قلبه... فكان يكتب كل يوم خمسين ورقة حتى أتى على جميع الطبيعيات و الالهيات ما خلا كتاب الحيوان"
لا أعتقد أن ابن سينا قد خبر كآبة الأيام، ولا حزن الزمان، كما خابرهما أبي نصر الفارابي قبله، فقد عاش حياته، معتزلا الناس: "ولم يكن معنيا بهيئة ولا منزل ولا مكسب"([13])، بل "كان ضعيف الحال، حتى أنه كان في الليل يسهر للمطالعة والتصنيف، ويستضئ بالقنديل الذي للحارس (الذي يحرس الحديقة العمومية). ويذكر أن سبب قراءته الحكمة أن رجلا أودع عنده جملة من كتب أرسطو طاليس، فاتفق أن نظر فيها، فوافقت منه قبولا وتحرك إلى قراءتها، ولم يزل إلى أن أتقن فهمها وصار فيلسوفا بالحقيقة"([14]).
هكذا يبدو أن صفة الفيلسوف البئيس، الذي لا يمتلك حتى الإنارة في بيته، ولا معنيا بهيئته فقيرا، بدون مسكن، ولا ثروة، يتسول من أجل أن يشتري قلوب الحملان ونبيذ العراق، وليس بإمكانه أن يجامع نساء بغداد كما وصفتهن شهرزاد في ألف ليلة وليلة، قد جعلت ابن سينا، الذي كان يقدر الفارابي تقديرا عظيما، خاصة وأنه كان معلمه لفلسفة أرسطو، إذ لولاه لما فيهم كتاب ما بعد الطبيعة الذي قرأه أكثر من أربعين مرة ولم يستوعب مقاصده، وقال عنه هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، يختار مسارا آخر، غير مسار الفارابي البئيس، ولذلك أصبح طبيبا مشهورا قبل أن يصبح فيلسوفا بالحقيقة، لأن الطب صناعة عملية تدر المال والثروة على صاحبها، والشاهد على ذلك أن الشيخ الرئيس قد اكتسب ثروة من خلال مداواته للملوك والأمراء والأغنياء، وأصبح يتمتع بحضوة خاصة باعتباره طبيبا مشهورا، على الرغم من أنه يحتقر صناعة الطب ويعتبرها صناعة عملية للأغبياء والبلداء. "و علم الطب ليس هو من العلوم الصعبة فلذلك برزت فيه أقل مدة حتى بدأ فضلاء الأطباء يقرؤون علي علم الطب و تعهدت المرضى فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف"([15]). ثم فيما بعد تفرغ لمحبة الحكمة ومحبة الحياة.
وفي الحقيقة أن العبرة الفارابية، التي تقدم إلينا الفيلسوف في قمة بؤسه وحرمانه، وعدم تمكنه من الاستمتاع بالحياة، قد جعلت الشيخ الرئيس يستفيد من الدروس الجيدة لهذا الفيلسوف العظيم، لأن الدروس الجيدة تأتي من الشرفاء الحكماء كما يقول أرسطو. هكذا وجد ابن سينا طريقه نحو اكتساب الثروة باعتبارها مصدرا للعيش في نعيم الحياة، لان العيش الأفضل أحسن بكثير من العيش الردئ، عيش الكادحين ، كما يقول المعلم الأول. ولعل هذا ما جعله يطبق المبدأ القائل بأن ما في الطبيعة يبقى للطبيعة، ولذلك أسرف في تبذير ثروته من أجل حياة باذخة تفوح منها رائحة النبيذ المعتق وعنف الجماع الممتزج بالعطر والشبق، ذلك لأن صخب الحياة يشبه صخب النكاح، وبعبارة أخرى ان النكاح حين يمتزج بنشوة الشراب يصبح هو سر أسرار الحياة التي تعودت على الهروب من كل الذين يحبونها، كامرأة جميلة. والحياة قصيرة مهما طالت. ولذلك فإن الشيخ كان يعد أيامه بنعومة منشطرة في العشق،عشق الرغبة في البقاء، أو إهداء ما تبقى من العمر إلى هذيان النكاح والاستيهام بعمقه الوجودي. إنه شعار النفس المتحررة من الندم على الماضي، ولا على الحنين إلى المستقبل. إذ أنها تطلب: الكل أو لا شيء، لأن الفيلسوف بالحقيقة لا يؤجل الحياة التي منحت إليه صدفة إلى الغد، كما يؤجل الكتابة، وإلا أنها ستطير إلى مكان آخر يكون أكثر عذوبة كما يفعل طائر الخطاف الذي يبشر بقدوم فصل الربيع، ويختفي عندما يشعر بكآبة الخريف ليتركنا نتذوق مرارة هذه الكآبة، وينعم هو بربيع جديد وفي أرض أخرى، ربما يكون أناسها أطيب أو أشر من الناس الذين تركهم في حميمية الكآبة. في فصل لا خير فيه، تصبح فيه الدنيا كأنها امرأة كهلة مدبرة قد تولت عنها أيام الشباب. إنه فصل مخيف ينذر بنهاية الحياة، ولذلك لم يكن الشيخ الرئيس ابن سينا يحب العيش فيه، بل انه عاش حياته في فصل واحد عامر بالآمال والابتهاج والفرح والسرور، إنه فصل ابن سينا.
لقد استطاع شيخنا أن يقتحم كل النصوص الطبية والجنسية والفلسفية للقرون الوسطى ويقيم فيها إقامة أبدية، إذ أنه أصبح طبيب الإنسانية بكاملها، كما أنه تحول إلى أسطورة في الأدبيات الجنسية الإسلامية من خلال أرجوزته في الطب، بيد أن نصائحه قد اتخذت مسارا شعبيا يمزج بين الطب الجسماني والطب الروحاني. هكذا اختفى جسد ابن سينا العليل في هذا الامتزاج الذي يمنح لوصفة تهييئ الجماع، أو البرء من أمراضه كميات تقل أو تنقص، كما وكيفا، عن تلك التي وصفها شيخنا، بيد أن الناس يثقون فيها ثقة عمياء. لان من حلم بموت ذكره، فإن أجله اقترب كما يقول صاحب الروض العاطر. وأحسن طريقة للعلاج والوقاية هي تطبيق نصائح طبيب الجماع. ولذلك فإن الإنسان منذ ولادته إلى مماته يخضع لتدبير صناعة الطب، أو للطب الشعبي، فالطبيب وحده، أو ما يشبهه يعرف أسرار الناس وطريقتهم في الجماع، وقدرتهم أو عدم قدرتهم على النكاح. وربما أصبح مثل ابن سينا ينكح أكثر منهم إلى درجة الاقتناع بان بهجة النكاح وعنف شهوته مآلها الموت. هذا الاقتناع الذي يجعلنا نؤمن بأن الحوار مع الشيخ الرئيس ابن سينا قد بدأ بمجرد الانتهاء من التعريف بسيرته الفرحة والتي تدعو الإنسانية إلى الامتلاء بالحياة قبل الاستسلام للموت. فمن أراد أن يعيش حياة سعيدة لا بد أن يكون سيناويا، معتقدا في مذهبه في الحياة، مذهب البهجة والفرح والسرور، ولكنه لا يدوم إلا فصلا واحدا ، يشبه فصل الربيع الذي يطهر النفس من الأحزان. ويحرك نشوة النكاح.
لو افترضنا أن شيخنا قد تسلل إلى فضاء الروض العاطر والتقى بالمرأة المسماة المني واستطاع أن يجامعها بكل قواه وعنفه، ولكن دون أن يشبع رغبتها، فمن كان سينهي الآخر؟ أو أنه جامع الألفية التي جامعها ألف رجل فبماذا سيفسر جنون شبقية هذه المرأة؟ والحقيقة أن صاحب رجوع الشيخ إلى صباه كان أقرب إلى مزاج الشيخ الرئيس حين قام بوصف نساء العالم وتحديد استيطيقا الجمال انطلاقا من الانتماء العرقي و الجغرافي للنساء حيث يقول:" واعلم أن النساء الروميات اطهر أرحاما من غيرهن.والأندلسيات أجمل صورة وأزكى روائح وأحمد عاقبة وأطيب أرحاما. ونساء الترك اجمالا من أقدر النساء أرحاما وأسرع أولادا وأسوأ أخلاقا. ونساء الهند والسند أذم أحوالا وأقبح وجوها وأشد حنقا وأسخف عقولا، وأسوأ تدبيرا وأعظم فتنا وأقدر أرحاما. والزنج أبلد وأغلظ وإذا وافقت منهن الحسناء فلا يوازيها شيء من الأجناس، وأبدانهن أنعم من أبدان غيرهن. والمكيات أتم حسنا وأطيب جماعا من هذه الأجناس، غير أنهن لسن بذوات ألوان كألوان غيرهن. والبصريت أشد غلمة وشبقا إلى الجماع. والحلبيات أشد ابدانا وأصلب أرحاما من البحريات، والشاميات أوسط لنساء وأعدلهن في الاستمتاع في سائر الاوصاف والبغداديات أجلب للشهوة من غيرهن وأحسن استمتاعا وجمالا. ومن أراد السكن وحسن العشرة وطيب المنطق فعليه بالفارسيات والعربيات أحسن أحوالا من جميع الأجناس التي تقدم ذكرها".([16])
لم يكن الشيخ الرئيس محظوظا لكي يتجول في هذا الفضاء الجغرافي لجسد المرأة كما وصفه كتاب رجوع الشيخ إلى صباه، من أجل ان يختار معاشرة النساء الأطهر أرحاما و أحمد عاقبة و أطيب جماعا و أتم حسنا، حتى لا يصاب بمرض القولنج الذي عجل بموته و إرجاعه إلى مجرد ذكرى تنام في قلوب الناس.
[1] - انظر أيضا 1974 wilaim E. gholaman, the life o f Ibn Sina, Albany, New,York
[2] - سيرة الشيخ الرئيس ابن سينا ضمن كتاب النجاة تحقيق ماجد فخري دار الآفاق الجديدة، بيروت ص 24
[3] - سيرة الشيخ الرئيس م م ص 25
- سيرة الشيخ الرئيس م م ص 33[4]
م م ص 25[5]
[6] - william E Gohlman, The Life of Ibn Sina Albany, New York, 1974. م م كتاب النجاة
[7] - william E Gohlman, The Life of Ibn Sina Albany, New York, 1974. م م كتاب النجاة
-[8 سر الأسرار م م ص89
[9] - الشيخ الرئيس الن سينا م م كتاب النجاة
[10] - م م ص 107
[11] - ابن رشد التهافت ص 582
[12] - ابن رشد تفسير ما بعد الطبيعة
[13] - ابن أبي أصبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء
[14] - ابن أبي أصعة ص 264-277
[15] - م م ص24
[16] - كتاب رجوع الشيخ إلى صباه م م ص 39 - 40
.
Christian Boutroux.
التعديل الأخير بواسطة المشرف: